رواية غناء الروح كاملة جميع الفصول

رواية غناء الروح للكاتبة زيزي محمد هي حكاية تنبض بالمشاعر وتفيض بالصراعات الداخلية والخارجية، حيث تتقاطع الأقدار وتتشابك المصائر في قصة حب مختلفة لا تخضع للمنطق أو الزمن.في رواية غناء الروح، يعيش القارئ حالة من الانجذاب العاطفي والتوتر النفسي، وسط أحداث متسارعة تكشف أسرارًا مدفونة وقرارات مصيرية تغير كل شيء. الرواية لا تقدم حبًا مثاليًا، بل واقعيًا، مليئًا بالتحديات والتضحيات.

رواية غناء الروح كاملة جميع الفصول

رواية غناء الروح من الفصل الاول للاخير بقلم زيزي محمد

داعب شعاع النور جفنيه وهو مستلقي بأريحية فوق فراشه ينعم بدفئه بعيدًا عن متاعب العمل وصراعات النسوة عليه، شعر بأصابع رقيقة ناعمة تحمل رائحة طيبة، بل كانت رائحة شهية تثير داخله مشاعر جمة، تتبع فضوله وفرق جفنيه ليطالع فتاة جميلة تقف بثياب أنثوية فاضحة، شهقة كادت تخترق جوفه، اتساع بؤبؤيه يشبه متفرج أبله يرتعد من أفلام الرعب، تلقائيًا قبض بكفيه فوق غطائه الازرق يجذبه على جسده كمن قُبض عليه بالجرم المشهود! وهتف بنبرة غليظة تنافي ردود أفعال جسده المرتعبة:




-أنتي مين؟!



تلون ثغرها المغطى بلون أحمر ناري بابتسامة ناعمة رقيقة وهي تهتف:



-أنا حبيبتك يا حبيبي!



إجابة لم يفهم منها شيء قط، فعاد يقول بنبرة قاربت على الجنون وهو ينظر لجدران غرفته يتأكد من وجوده بمنزله:



-مافهمتش أنتي مين بردو وازاي تدخلي اوضتي؟!



ضحكة رخيصة خرجت منها وهي تتخصر ثم قالت:



-قولتلك حبيبتك!



وقبل أن يجيبها بسبة نابية، التقطت أذنيه صوت أخرى تقف بإحدى زوايا الغرفة تدافع عن حقها به بصوت أنثوي شرس:



-لا يا حبيبتي أنا اللي حبيبته!



انفرج فمه بصدمة أخرى وهنا اتفق جسده معه وانتفض كمن لدغه عقرب:



-انتوا مين؟! وازاي دخلتوا هنا!



لم يجيباه بل الاجابة كانت من نصيب مَن خرجت مِن أسفل الفراش تبتسم ابتسامة خبيثة:



-أنت حبيبي أنا ولا يمكن أسيبك ليهم.



وقف فوق فراشه يمسك وسادته أمامه يدافع بها عن نفسه:



-انتي خرجتي منين انتي كمان؟!



-من تحت السرير يا حبيبي.



هز رأسه كالمجنون وانطلق يبتعد عنهن وتوجه لباب غرفته يفتحه في محاولة قوية منه للهروب بينما هن يمسكن بثيابه بجنون وهو يخطو للأمام حتى وصل للباب وفتحه ولكن أصابته الصاعقة حين وجد منزله يمتلئ عن أخره بالفتيات ولا يوجد أثر لعائلته وكل واحدة منهن تدافع عن أحقيتها فيه وبالزواج منه! 



ظل يهز رأسه كالمجنون ويصرخ فيهن لعلهن يبتعدن عنه ولكن لا فائدة فظل يطلب منهن الرحمة به والرأفة بحالته وهن يطبقن عليه كمن وجد كنز ثمين، فأصبح لا أثر له وهو بينهن وأنفاسه اختفت تدريجيًا حتى شعر بيد قوية تجذبه من قاع أحلامه الغريبة والمجنونة:



-قوم يا بيــــه، قوم يا دنجوان.



تمتم داخله بارتياح قبل أن يفتح عيناه:



-دا صوت سليم أخويا، يبقى ان شاء الله خير.



وبالفعل فتح عينيه هذه المرة على واقعه يتأكد من خلو غرفته من الفتيات، ثم اعتدل رغم امساك سليم بيه بقوة:



-اوعى كدا يا سليم، اشوف يمكن فيه حد تحت السرير.



تجاهل سليم كلامه غير المفهوم، ورد بنبرة ساخرة وهو يشير بيده الأخرى على هاتفه:



-عيد ميلادك دا ولا عيد ميلاد هارون الرشيد إلا لما لقيت راجل واحد بيوحد ربنا في الصور، فاضحني على طول ربنا يفضحك.



تصنع الدهشة سريعًا وقال بنبرة غلب عليها الحزن:



-أنا!، على طول ظالمني.



توسعت أعين سليم من وقاحة أخيه المتعمدة، فقال:



-أنت بتكذب عيني عينك كده، ده أنا شايف الصور بعيني.



اعتدل فوق فراشه يحاول التخلص من قبضة أخيه الأكبر، مفكرًا في فكرة للتخلص من تلك الورطة:



-دي كانت مفاجأة بريئة منهم.



رفع سليم أحد حاجباه متسائلاً بنبرة غلب عليها نفاذ صبره:



-مين دول بقى؟ حبايبك ولا معجباتك.



صاح بعلو صوته يبعد تلك التهمة عنه وهو يقول بصوت يغمره الإصرار الكاذب:



-لا أبدًا، دول أصحابي، هو أنا قلبي أيه عشان يبقى دول كلهم بحبهم، يا سليم افهم فيهم كذا واحدة صاحبتي والكام واحدة دول عزموا أصحابهم.



تلون ثغر سليم بسخرية، فهتف:



-اه يا حرام على طول كده مظلوم، طيب عيد ميلادك المفاجأة البريئة اللي عملوها الكام واحدة صاحبتك اللي بردوا هما اللي عزموا كم البنات دول، مفيش فيهم راجل يوحد ربنا.



-لا أزاي كان فيه طبعا هو اللي بيصور.



مد سليم أصابعه يرجع خصلات شعره المتناثرة فوق جبهته للخلف، بينما كان يردد بصوت عالٍ:



-ايوه بردوا مفيش صورة واحدة ليكم مع بعض.



ابتسم يزن ابتسامة سمجة وهو يجيب:



-مابيحبش يظهر في السوشيال ميديا بيتكسف.



ابتعد سليم عنه باشمئزاز وهو يقول:



-عنده دم يعني، مش زيك.



-اه أنا عندي فراولة.



قالها بصوت مكتوم، فانقض عليه سليم مرة يهدد بنبرته الغليظة الحادة:



-اقسم بالله يا يزن لو ما اتعدلت واتظبطت في حياتك وشغلك، وبعدت عن البنات والهلس والقرف ده، لأكون مجوزك بمعرفتي وغصب عنك.



ابعده يزن عنه بصعوبة وهو يقول بنبرة شبه جادة:



-على فكرة أنا كنت صاحي من النوم وواخد القرار ده أصلاً.



سأله سليم بشك:



-قرار أيه؟! الجواز!



هز رأسه نافيًا وفمه يؤكد صحة قراره الذي اتخذه عقب حلمه المريب:



-جواز أيه يا عم، أنا بطلع السلم واحدة واحدة، أنا قررت ابعد عن البنات، أنا حاسس بقرفة، أو محسود أو مخنوق، ماعرفش مالي!



-بعيدًا عن أحاسيسك اللي كلها هتدفنها أول ما تخرج من باب البيت وتلمح بنت حلوة، أنا كلمتي واحدة وأنت عارفني، أسمع بس عنك حاجة ماتعجبنيش، وأنت وقتها هتشوف اللي عمرك ما شوفته مني.



ثم اعتدل سليم مرة أخرى في وقفته وهندم ثيابه بعنجهيته المعهودة وخرج بخطواته الواثقة، فزفر يزن أنفاسه وظل يمسح فوق خصلات شعره في حركة لا إرادية تتملكه عندها يكون متوترًا أو غاضبًا.

                                  ***

في مكان آخر وفي إحدى مناطق متوسطي الدخل، جذبت " سيرا " سترتها البيضاء من فوق الحِبال المرصوصة خارج الشرفة، ثم دخلت لغرفتها ببسمتها الصباحية والتي زادتها إشراقًا ذلك الصباح خصيصًا، لأنه أول يوم عمل لها في " مركز تدريب نسائي" في منطقة راقية بمبلغ مالي عندما سمعته وصفته" محترم، مرتب محترم" رفعت يدها للأعلى وهتفت بهمس: 



-يارب الزق في الشغل، ويكون وشه خير عليا، يمكن يجيلي عريس ولا حاجة.



فُتح باب غرفتها ودخلت " أبلة حكمت" أختها الكبرى وهي تقول بصوت معترض:



-والعريس هيجي منين طول ما أنتي حالك كده.



اختفت بسمتها واتخذت وضع الهجوم:



-يا أبلة حكمت أنا بدعي بصوت واطي بيني وبين ربنا وباب اوضتي مقفول، داخله في حياتي ليه؟!



انفلت لسان " أبلة حكمت" بوابل من الشتائم:



-قليلة الادب ازاي تكلميني كده، وأنا أختك الكبيرة.



اصطنعت الندم فوق ملامحها وخفضت بصرها قليلاً وهي تقول:



-أسفة يا أبلة مش هتتكرر تاني، ممكن اكمل لبسي عشان الحق انزل شغلي.



سخرت " أبلة حكمت" منها بصوت عالٍ لم يعجب "سيرا " إطلاقًا ولكنها التزمت الهدوء:



-قال شغل قال، كنتي اتنيلتي على عينك وذاكرتي ودخلتي كلية كويسة تعرفي تشتغلي شغلانة حلوة، لكن نقول أيه كنتي لاسعة ودخلتي تربية رياضية، في بنت تبقى كابتن يا ناس.



شاركت " فريال" في الحديث وهي الأخت الأصغر من حكمت ببضع سنوات قائلة وهي تحمل طفلها الصغير ذي العامين:



-الدنية اتغيرت يا أبلة حكمت، وبعدين سيبي سيرا في حالها يمكن ربنا يوفقها في حياة أحسن مننا.



شهقت "أبلة حكمت" عاليًا وقررت إظهار إمارات التعالي والنفور:



-أحسن منك أنتي وشاهندا و كريمة، لكن أحسن مني في أيه ان شاء الله!



التوى فم "سيرا" بسخط، ولمحتها "أبلة حكمت" بطرف عينيها فانفجر فمها بكلمات يملأها الغيظ:



-طيب والله اتمنى سيرا تعيش نفس العيشة اللي أنا عايشها.



خرجت حروف سيرة ثقيلة للغاية وهي تنظر لأختها الاخرى " فريال" بنظرات ذات مغزى:



-يا ريت يا أبلة حكمت، بس إلا قوليلي هي الجلابية الزرقة دي جديدة ولا أيه؟!



نظرت " حكمت" لثيابها باستنكار ممزوج بعدم الفهم:



-لا قديمة، ما انتي شايفها مية مرة!



تصنعت " سيرا" الدهشة، قائلة:



-والله! ما شاء الله عليكي يا أبلة حكمت محافظة على هدومك، كل مرة كده بتلخبط وبفتكر هدومك جديدة.



انتفخ صدر حكمت بالفخر مما دفعها للتباهي بنفسها، قائلة:



-نفسي تتعلموا مني وتبقوا زيي تعرفوا توفروا والله حالكم هيبقى أحسن.



مالت " فريال " بنظراتها المعاتبة نحو سيرا التي انطلقت سهام الاعتذار من عينيها ردًا على تلك النظرات، انتظرا خروج " حكمت " من الغرفة وهي تستكمل حديثها المتفاخر عنها وعن زوجها العصامي وعن حالتهما المادية المتيسرة، فقالت " فريال" بغيظ فور خروجها:



-حال أيه اللي نبقى زيه، دي بتيجي تفطر هي وعيالها كل يوم عشان توفر ومش مراعية ظروف بابا ولا أنه متحملنا كلنا.



هزت "سيرا" رأسها بيأس، فتابعت الاخرى بنفس الغيظ:



-وانتي يا باردة بتفتحيها عشان نقعد احنا نسمع وصلة التمجيد في نفسها على حسابنا، وان هي عرفت تختار وقاعدة في شقة جوزها وليها حياتها، لكن أنا وشاهندا وكريمة اختيارتنا غلط ومحملين بابا فوق طاقته بوجودنا هنا احنا واجوزاتنا وعيالنا و....



اوقفتها سيرا متأسفة:



-خلاص حقك عليا يا فريال، معلش كنت عايزة اخلع منها وانتي عارفة مابتجيش غير بكده.



عاتبتها فريال بأسلوب هادئ نوعا ما:



-مش على حسابنا يا سيرا، أنا واخواتك تعبنا من كلامها.



خفضت سيرا رأسها بأسف فلم تجد ما تقوله، ولكن سرعان ما استدركت فريال نفسها وقالت بهدوء يتخلله بعض الاهتزاز النفسي البسيط:



-معلش يا حبيبتي وترناكي قبل شغلك الجديد، حقك عليا.



سرعان ما ابتسمت سيرا وهتفت بشقاوة مداعبة اختها بأصابعها في خديها:



-افراج ياعني، امشي؟!



ضحكت فريال ولكن ضحكتها لم تكن صافية بقدر جمال قلبها الابيض كما دومًا تصفه سيرا، شعرت سيرا بأن هناك خطب ما يحلق في سماء حدقتي فريال، فقالت بشيء من القلق:



-في أيه يا فريال؟!



حمحمت بحرج واندفعت تخبر اختها الصغرى بما تحاول إخراجه منذ بداية دخولها:



-كنت كلمت بابا على فلوس لكمال جوزي عشان مشروعه الجديد اللي انتي عرفتي بيه...



قاطعتها سيرا وهي تلملم باقي اغراضها قائلة:



-اه السوبر ماركت، ايه بابا مش معاه فلوس؟!



خفضت فريال رأسها بحرج شديد قائلة:



-لا معاه بس فلوس جهازك اللي هو وماما بيشلوها على جنب، فقالي استأذنك يعني اخد منها مبلغ اهو يساعد كمال في مشروعه يمكن ربنا يفرجها عليه وعلينا وحياتنا تتحسن شوية.



ظهرت علامات الاستفهام على وجه سيرا وهي تتساءل بحماقة:



-ما تاخدوا يا بنتي في أيه؟! انتي شايفة العرسان بتتحدف عليا.



تهللت أسارير فريال وقامت باحتضان سيرا بفرحة عارمة وهي تقول بامتنان:



-بجد ربنا يخليكي يا رب يا سيرا ويجبر بخاطرك يا حبيبتي.



قبلتها سيرا في وجنتيها بحب، مردفة بمزاح خالطه الرجاء:



-ويخليكي ليا يا حبيبتي، بس عشان خاطري نبهي على عيالك يسبوا الجبنة الرومي بتاعتي في حالي عشان أنا اعصابي تعبت بجد.



توسعت أعين فريال بصدمة وأسف معًا:



-يا خبر هما ولاد الجزمة دول كلوها بردو.



هزت سيرا رأسها بقلة حيلة وهي تضع حقيبتها خلف ظهرها تستعد للخروج من غرفتها بعد أن دق هاتفها عدة مرات معلنًا عن وصول صديقتها "حورية" أسفل المنزل، فودعت فريال سريعًا وفي طريقها للخروج من غرفتها حتى باب المنزل قامت بتوديع جميع افراد عائلتها المنتشرين في جميع أركان الشقة التي ورثها أبيها عن عائلته ولحسن حظه كانت مساحة الشقة واسعة وتتضمن غرف كثيرة فساعده الوضع على انجاب خمس فتيات هما ( حكمت، وكريمة، وفريال، وشاهندا، وسيرا)  وتوأمان بعمر المراهقة هما ( عبود وقاسم)، ولكن والد سيرا لم يكن بحسبانه أن الزمن سيجعل من شقته عبارة ملجأ لفتياته حتى بعد زواجهن، فظروفهن المادية لم تساعدهن هن وازواجهن على استئجار شقة، فعرض عليهن مساعدتهن بإقامتهن معه، وتدريجيًا بدأ في ضخهن بالأموال بعد أن زادت أعباء الحياة عليهن، ووسط كل ذلك استطاعت سيرا الحصول على غرفة صغيرة في أخر الشقة تفصلها قليلاً عن باقي الغرف المرصوصة بجانب بعضها، فشعرت ببعض الخصوصية أو أنها تتوهم ذلك حتى تستطيع مواكبة الحياة معهم بعد أن أصبح أمر اقامتهم دائم ولا خيار فيه.

                                  ***

سارت " سيرا" بجانب صديقتها حورية في طريق طويل بعد أن هبطا من وسيلة الموصلات العامة، وقررا استكمال باقي طريقهما سيرًا على الاقدام فتحظى كلاً منهما بقليل من الوقت تخبر الاخرى عما تكنه بصدرها من أمورٍ لا تستطيع إخراجها لأحد، فتنهدت " حورية" بانزعاج واضح قبل أن تسمح للسانها في ترويض عقل " سيرا" الجامح:



-يا سيرا يا حبيبتي طلعي كلام أبلة حكمت أختك من دماغك عشان تعرفي تعيشي.



زفرت " سيرا " بحنق قبل أن تقول:

-اعيش أيه يا حورية، أنا اقسم بالله خلاص بدأت اطق، ونفسي فعلا اهرب من البيت ومن الضغط النفسي اللي أنا فيه، أبلة حكمت محسساني إني خلاص بقيت بايرة، لا محسساني أيه دي بتقوليهالي في وشي، ومش عاجبها أي حاجة، حرفيًا ليل نهار بتتنمر عليا وعلى اختيارتي وعلى كل خطوة بعملها في حياتي.



-طيب وعمو حسني رأيه أيه في كلامها ده؟



ضحكت ساخرة بخفة وهي تجيب على صديقتها:



-بابا زهق منها وبقى يسكت، ولو فكر يكلمها ويرد عليها تتقمص وتنزل شقتها.



صاحت حورية بسعادة لإيجادها الحل المناسب في مأساة صديقتها:



-حلو خليها مقموصة بقى في شقتها.



توقفت سيرا عن السير وهي تردف بيأس:



-دي لو اتقمصت العصر بتطلعلنا العشا.



انفجرت حورية ضاحكة، فتابعت سيرا بصوتها المغمور في اليأس:



-المشكلة مش على قد أبلة حكمت، المشكلة إني مابقتش حاسة بخصوصية في أي حاجة، البيت زحمة باخواتي وعيالهم، حتى كريمة بقت تيجي تلات أيام في الاسبوع وتقضيهم عندنا هي وجوزها بعد ما بابا عرض عليها عشان يساعدهم من ضغط المصاريف.. الشقة مابقتش مستحملنا بفريال وجوزها وعيالها التلاتة وشاهندا وجوزها وعيالها الاتنين كملت بكريمة وعيالها الاربعة ده غير أبلة حكمت وعيالها اصلا مقمين عندنا.



اوقفتها حورية بعدم فهم:



-هي مش أبلة حكمت متجوزة تحتكم وليها شقتها.



-ما هي بتصحى الصبح تقعد معانا ومابتنزلش غير بليل.



شعرت حورية بالتيه فقالت بأسف:



-الله يكون في عون بابكي ومامتك بجد ده مورستال.



تنهيدة أخرى عميقة خرجت من صدر سيرا المكتظ ببعض الأمور النفسية المعقدة:



-بابا وماما على قلبهم زي العسل، المشكلة فيا أنا بقيت خايفة افكر اتجوز ابقى زيهم، نفسي ربنا يكرمني بعريس كويس ومقتدر ماديًا.

رمقتها حورية باشمئزاز وهي تقول:



-سطحية اوي، المفروض تقولي ربنا يكرمني بعريس ابن حلال.



-ما هو هيطلع ابن حلال أكيد طالما هيتجوزني.



ارتسمت علامات الامتعاض فوق وجه حورية:

-وده ليه ان شاء الله؟!



توقفا الاثنان أمام البرج الشاهق والذي يقبع به " المركز الرياضي" ، فبدأت سيرا في وصف نفسها بصوت شقي وابتسامة واسعة وأنثوية مفعمة بالحياة:



-عشان أنا بنت حلال، وطيبة وغلبانة وقلبي...

ضحكت حورية بمكر شقي وهي تسألها:



-ماله قلبك بقى يا اختي؟!



-أكيد ابيض وقمر زيها كده.



صوت رجولي اخترق دائرة حديثهما المغلقة، فأصابهما بالفزع وخاصةً "حورية" التي هتفت بصدمة لم تكن تتوقعها:



-يزن؟!



مرر بصره من فوق حورية بقصر قامتها إلى تلك طويلة القامة بجسدها المناسب لطولها، مرورًا بملامح وجهها الجميلة والبريئة والتي تنافي نبرة التعالي الملاحقة لصوتها وهي تستعرض مواصفاتها بكل جرأة سرقت عقله رغم أنه كان يضع لنفسه بعض الحدود حين خرج من منزله مقررًا الحد من التعامل مع النساء اليوم كتدريب حقيقي له على استكمال باقي حياته دونهن ولكن الوضع اختلف وشعر بتأجيل ذلك القرار قليلاً.



-مين ده يا حورية، قريبك؟!



انتبه على صوتها وهي تتساءل بنعومة استفزته، رغم أنه متعاد على تلك الصفة ولكن يبدو أنها أنثى تحظى بجاذبية مميزة لم تمر عليه أو ربما يتوهم ذلك كعادته مع كل فتاة جديدة يقابلها!



وقبل أن تجيب " حورية" كان هو يسبق بيده التي صافح بها " سيرا" بلباقته المعهودة، وصوته الرجولي الجذاب القادر على سلب لُب الفتيات في ثوان معدودة يصدح بنغمة مميزة وهو يقوم بتعريف نفسه:



-يزن الشعراوي صاحب معرض العربيات اللي وراكي ده.



قاطعته حورية وهى تهتف بغيظ منه ومن طريقته الملتوية في جذب انتباه صديقتها البلهاء:



-بتسأل انت قريبي ولا لا، مابتسألش بتشتغل أيه؟!



مازحها كعادته وهو يردف:



-ماتبقيش قاطعة ارزاق، وعلى العموم حورية تبقى قريبتي.



استنكرت حورية بصدمة:



-ايه ده ولا اعرفك!



-انتي تطولي تعرفي حد نضيف زيي!



انفجر فم حورية بصدمة بعد أن القى بقنبلة  وقاحته في وجهها دون سابق انذار، فسارع بقوله الممازح:



-خلاص ياستي ماتعيطيش قريبتي..



قطع كلامه لثوان ثم اشتبك بنظراته مع تلك الواقفة تتابع حديثهم بعدم فهم:



-كان ممكن يجيلها جلطة دلوقتي بسبب هزاري، احنا في معرفة كده ما بينا، المهم ماتعرفتش باسمك؟



جاذبيته جعلت من سيرا بلهاء كما سبتها حورية بسرها:



-أنا سيرا صاحبة حورية وابقى مدربة الزومبا في الجيم اللي فوق ده.



 رفع حاجبيه لحديثها الغريب بداية من اسمها العجيب والذي لم يسمعه من قبل حتى مهنتها الاغرب، ولكنه سعد بتجربة جديدة سيخوضها قريبًا وخاصةً بعدما لمح نظرات الاعجاب المختفية بأعين تلك الغزالة الرقيقة.



-فرصة سعيدة يا سيرا لو احتاجتي أي حاجة أنا موجود في المعرض على طول، واتمنى تيجي تشرفيني طبعًا فيه.



ثم نظر لحورية مستكملاً حديثه بتحدٍ:



- أيه القطة كلت لسانك؟



رمقته حورية بامتعاض، فهمس لها قبل أن يتركهما:



-قصيرة وحقودة، الاتنين كتير عليكي.



انفجر فمها بدهشة من مدى وقاحته، حتى استمعت لضحكات سيرا الخافتة، فقالت بغيظ:



-بتضحكي على أيه يا باردة؟!



وضعت سيرا يدها فوق فمها قائلة:



-أسفة بس هو ظريف اوي وضحكني.



-والله ما حد ظريف الا انتي اتنيلي اطلعي يلا، عارفة لو مش أول يوم وانتي متوترة والله ما كنت عبرتك وجيت معاكي.



دفعتها حورية لداخل المبنى وبداخلها بعض القلق من يزن ووجوده  الدائم أمام عمل سيرا، حيث شعرت بالخوف أن تقع صديقتها في فخ هذا الصياد الماهر، فلم تهرب سمكة من شباكه قط، وكأنه يملك طُعم ايقاعهن في حبه بكل سلاسة دون أن يبذل مجهود، ما العمل وخاصة بعدما علمت من اختها عن كل شيء يخص يزن وحبه للفتيات بحكم صداقتها مع مليكة زوجة زيدان.

                                  ***

بعد عدة ساعات..



تركت المبنى التي تعمل به صديقتها "سيرا" وتوجهت عازمة كل العزم نحو ذلك الصياد، راسمة علامات الجدية والصرامة علها تجدي نفعًا معه، ورغم أن دخولها يشبه هبوب عاصفة عاتيه إلا أنه استقبلها بابتسامة مشرقة مردفًا بصوته الهادئ:



-والله نورتي المكان.



رسمت ابتسامة مقتضبة:



-المكان منور بأصحابه.



أشار إليها بالجلوس متحدثًا بسلاسة كعادته:



-ده إيه اللطف ده! احنا لسه الصبح كنا هنموت بعض.



رفضت الجلوس واستمرت بمكانها متحدثة بجدية أكبر حاولت إظهارها فصاحبت معها نبرتها الحادة:



-لا ونموت بعض ليه يا أستاذ يزن، احنا كبار وعاقلين.



رسم فوق وجهه إمارات الملل، قائلاً:



-وبعدين؟



رفعت حاجبيها معًا، ونظرت له نظرة طويلة قطعها هو بسؤاله الصريح:



-يعني بعد المقدمة الرسمية دي عايزة أيه؟



أجابت سريعًا بصراحة ووضوح:



-تطلع سيرا من دماغك.



رغمًا عنه خرجت منه ضحكة ساخرة وهو يقول:



-أيه يا بنتي انتي محسساني اني قاتل متسلسل!



استمرت على نفس النهج ومالت نبرتها لشيء من الحدة الممزوجة بالتهديد المبطن:



-بلاش السخرية تكون محور كلامنا، أنا قولتلك احنا عاقلين.



اخشوشن صوته وهو يعقب على حديثها الذي استفزه كثيرًا رغم أنه لم يظهر لها ذلك:



-ما انتي اللي غريبة وبتقولي كلام أغرب الصراحة!



هزت كتفيها والإصرار يتعلق بحافة صوتها وهي تقول:



-أيه الغريب في كده، أظن إنك فاهم كويس اقصد أيه، هي مش زي البنات اللي تعرفها هي انضف من كده بكتير، بلاش تجرها لسكة مش بتاعتها. 



رغم أنها استفزته وانقشع عنه قناع البرود والهدوء، إلا أنه رد باستهزاء:



-لدرجادي سمعتي سبقاني.



ردت بنفس نبرة التهكم خاصته:



-ما شاء الله عندك تصالح مع الذات ماشوفتوش في حياتي.



رغم سخريتها الواضحة إلا أنه تحدث معها بصدق:



-يمكن عشان مابكونش قصدي أأذي حد.



لم تلاحظ صدقه وكأن الصورة المأخوذة عنه كانت كالغمامة أمام عينيها، فاستمرت على نفس النهج الهجومي:



-امال اللي بتعمله ده يبقى أيه؟



هنا استنفذت كل طاقته معها وأجاب بشراسة ضمنية:



-أنتي جاية تناقشيني بقى في حياتي الشخصية؟!



لم تجد رد مناسبًا بعد أن وضعت نفسها في موقف حرج معه، فاستكمل هو حديثه بنفس نبرته الخشنة:



-أصل أنا بصراحة مش فاهم أيه مدى الجرأة اللي عندك تخليكي أنك تيجي وتتكلمي في حاجة ماتخصكيش.



ضمت شفتيها بضيق واضح بعد احراجه لها، فاستكمل ولم يعطِ لها فرصة للرد:



-لا انتي لو عايزة كلام يوجع ويحرج أكتر ممكن اقوله، بس أنا هاحتفظ بمساحة القرابة ....



صمت لثوان معدودة  ثم قال بصوت مبطن بالسخرية:



-سوري اقصد بالمعرفة اللي ما بينا فعشان كده هسكت وهطلبلك حاجة تشربيها.



ردت بكبرياء:



-شكرًا لذوقك.



-لا وعلى أيه شرفتي الشوية الصغيرين دول.



غادرت وهي في أوج لحظات غضبها من ذلك المتعجرف الماكر وبالنهاية لم تأخذ منه عهد واضح حول عدم تعرضه لصديقتها، ولم تأخذ في الحسبان أنه سريعًا قام بربط حديثها معه وفكرتها المأخوذة عنه بصداقة زوجة أخيه معها هي واختها شهيرة، ومالت نفسه للغضب المتفاقم من "مليكة" التي من الواضح أنها السبب في تلك الصورة المأخوذة عنه رغم أنه لم يتجاوز حدوده معها قط هي أو شمس!

                                     **** 

في أحدى المنازل السكينة والتي يبدو على قاطنيها أنهم ميسوري الحال، اندفعت " يسر " للغرفة تبكي بحرقة شديدة بينما والدتها "أمل" تحاول جاهدة في تهدئتها:



-يا يسر اهدي ابوكي كده هيسمع.



أشارت نحو عنقها وبصوت مختنق قالت:



-مابقتش قادرة اسكت واعدي، أنا خلاص حاسة أني هموت بقهرتي يا ماما.



-يا بنتي قهرة أيه بس، الموضوع بسيط.



كانت مجرد كلمات تتلفظ بها والدتها على أمل امتصاص حزنها ولكنها كانت الشرارة التي أشعلت نيران حرقتها:



-عمره ما كان بسيط، ماتحاوليش تحسسيني إني تافهة، انتي نفسك يا ماما ماتقدريش تعيشي اللي أنا بعيشه مع نوح.



ضربت والدتها كف بأخر قائلة:



-يابنتي هو عشان بهديكي تقوليلي كده، وفعلا انتي مكبره الموضوع جوزك دكتور تغذية .....



قاطعتها "يسر" بغيظ من وسط بكائها:



-ولازم لسانه يكون زي العسل ولبق عشان يفضل مستمر في مجاله...فـ يكون كل اللي بيتابعوه معاه بنات وبس، واللي شغالين عنده بنات وبس، حتى المعمل يا شيخة اللي دخل شريك فيه مع حد كاستثمار بردو كانت دكتورة واللي شغالين في المعمل كلهم كلهم بنات مفيش ذكر واحد في حياته، أنا عمري ما سمعت راجل بيتصل عليه كلهم بنات وستات مفيش حد يستحمل اللي أنا بستحمله، وفي الاخر الدكتور المحترم بيكلمني على إن تجربة الجوازة التانية نفسه يجربها.



-ارفضي.



-ماقدرش انتي عارفة كويس، أني مقدرش ارفض.



قالتها بنبرة منفعلة، ولحظات الماضي تهاجم عقلها كالوحش الضاري حين يقرر الانتقام فجأة، لن تنسى قط ما وافقت عليه في لحظة غاب بها العقل وسيطر فيها القلب! 
هو أيه اللي ماتقدريش ترفضيه يا يسر؟!

انتقلت نظرات والد " يسر" السيد "فاضل" تاجر الاجهزة الكهربائية بينها وبين والدتها "أمل" فسارعت والدتها كعادتها بتهدئة الوضع بكلماتها الثابتة رغم أنها كانت تحمل قدرًا كبيرًا من التوتر:

-مفيش حاجة يا حاج فاضل دي يسر بس بقولها نروح نعمل مفاجأة لنوح في العيادة بمناسبة عيد ميلاده وهي بتقولي ماقدرش.

رفع والدها حاجبيه معًا بتعجب وركز بنظراته على ابنته الباكية:

-ايوه بردو، أيه الصعب في كده!

خفضت بصرها تخفي عيناها الحزينة وهي تقول بصوت مرتجف ممزوج بنغمة الأسى المصاحبة دومًا لصوتها:

-عشان اتخانقت أنا وهو....

صمتت تستطلع رد فعل والدتها التي هاجم التوتر قسماتها بوضوح، فأكملت بضيق:
-وكرامتي واجعني بس.

-يعني الخناقة دي هو قل أدبه عليكي فيها ولا خناقة بين اتنين متجوزين عادية؟!

أجابت بصدق على والدها:

-لا خناقة عادية يا بابا.

اكتفت بهذا القدر من الإجابة وأخفت سبب المشكلة المتفاقمة بينها وبين زوجها لعلمها بمدى صرامة والدها الشديدة وأن ذلك العيب الخطير المصاحب لشخصية زوجها لن يتقبله والدها أبدًا.

-ومن امتى يا حاج فاضل نوح بيقل أدبه على يسر.

-مايقدرش اصلاً.

رده الخشن والصارم جعلها تخطو نحوه تحتضنه تنهل من نهر حنانه ما يكيفها لاستكمال طريقها مع نوح مُحب النساء!

-بس ده مايمنعش بردو يا يسر انك تتنازلي وتروحي تفاجئ جوزك في شغله انك افتكرتيه الحاجات دي بصراحة بتفرح الراجل.

ضحكت "أمل" بخفة تمازح زوجها بطريقتها البسيطة:

-يعني طلعت بتتبسط مني يا حاج.

-اه طبعًا.

أجاب بصدق وهو يشملها بنظراته الحنونة المحبة لشخصيتها البسيطة، فقالت يسر بهمس متقطع يحمل قهر نابع من معاملة نوح لها:
-عشان بتحبها بجد من قلبك يا بابا.

-بتقولي حاجة يا يسر؟!

رفعت نظراتها وهي تحرك رأسها بالنفي:

-لا.

ابتسم لها ابتسامته الحنونة:

-طيب يلا روحي لجوزك وصالحيه، ماتبوظيش يوم زي ده بشوية عكننة مالهاش لزمة.

سارعت والدتها بالتأكيد الممزوج باللهفة:

-ايوه كلامك صح يا حاج فاضل، يلا هنزل معاكي بالمرة واوصلك لغاية العيادة.

لم تجد يسر مفر يسمح لها بالفرار من فكرة ذهابها لزوجها في عمله، فاستسلمت بحسرة والشجن ينسج خيوطه بعينيها الممتلئة عن أخرها بالدموع.
                                 ***
غادر "يزن" المصعد وهو ينظر للشقة القابعة أمامه، فقابلته فتاة بزي رسمي مكون من تنورة طالت ركبتيها وقميص زهري اللون ملتصق إلى حد ما بجسدها، رمقها بنظراته التي حاول بقدر الامكان أن يحجمها ولكنه فشل كعادته وغمرها بالإعجاب الشقي وهو يقول:

-أهلًا بمروة القمر.

مال وجهها للخجل وهي تبادله نفس نظرات الاعجاب:

-أهلاً بيك يا مستر يزن، نورت العيادة كلها.

-مستر أيه بقى، هو أنا مش قولتلك مابحبش الالقاب.

شهقت بنعومة مقصودة:

-يا خبر ماقدرش.

مالت شفتيه ببسمة ساخرة جذابة:

-ليه اسمي صعب كده، ده حتى تحسيه اسم سينمائي.

بادرت بتأييده بحرارة ناعمة:

-عندك حق بجد.

-أيه الرقة دي، ماعرفش نوح بيلاقي موظفينه البروفيشنال فين؟! ده أنا دايخ يا مروة على حد زيك يستقبل الكلاينتس في الأجانص مش لاقي كلهم غفر.

ضحكت برقة والسعادة تغمر صوتها عقب مديحه لها:

-ميرسي لزوقك أوي، وان شاء الله هتلاقي، أنت حد كويس اوي اوي يا...

-يا أيه؟! اوعي تقولي مستر دي بحس بكرشة نفس لما حد بيقولهالي.

مزاحه وخفة دمه كانت الضوء الأخضر لها كي تجرد الالقاب بارتياح:

- يا يزن.

-طلعت سهلة صح؟!

سألها بمزاح واتضح لها مدى إعجابه بها فشعرت بالفخر لجمالها وشخصيتها التي ظنت أنها فريدة لدرجة أنها استطاعت جذب أنظاره ولم تدرك أنه ماكر جدًا ويعلم متى يخفى إعجابه ومتى يظهره في الوقت المناسب!

-ها أيه يا قمر نوح موجود؟! 

-اه دكتور نوح موجود، هيفرح جدًا لما يعرف بوجودك.

ضحك بسخرية ملحوظة معقبًا على ترحيبها المبالع فيه:

-أنا أي حد بيفرح بوجودي.

دخل يزن العيادة وكما هو متوقع وجدها تزدحم بالنساء فقط! صداقته لنوح لم تكن من فراغ، فبينهما الكثير من سنوات العمر التي قضياها معًا كجيران يقطنان بنفس الشارع قبل أن ينتقل نوح مع عائلته منذ فترة كبيرة إلى تخطي تلك الاختلافات التي جعلت شخصياتهما منفردة بذاتها، فلم يقتصرا على تجاور المنازل فقط بل اعتبره والد يزن كأحد أبنائه الثلاثة، فكانت حالة أسرة نوح المادية ما دفعته لضمه لكنف أبنائه وشراء ملابس مماثله له حتى لا يشعر بالنقص أبدًا، ولأن يزن كان أقربهم إليه رغم أنه أكبر منه بعدة سنوات، إلا أنه قد نشأ وهو يلعب معه  في ظل ابتعاد زيدان قليلاً عنه، كان أحيانًا يصر يزن أن يذهبان معًا لاختيار ملابس مطابقة لهما حتى يظهرا كالأخوة، مما ترك هذا في قلب نوح أثرًا بليغًا ما زال يحمله حتى اليوم، ورغم تعارضه مع يزن في تصرفاته الطائشة وعدم تركيزه في دراسته إلا أنه لم يتجنبه أو يبتعد عنه رغم تباعد المسافات واختلاف الكليات كذلك، فقد اجتهد نوح ولاقى من المشقة حتى تخرج من كلية الطب بينما تخرج يزن من كلية التجارة، انتظر يزن وقت قليلاً كي يدخل لصديق عمره" نوح" والذي استقبله بحفاوة كبيرة:

-يزن باشا الشعراوي نورت العيادة يا عم اقسم بالله.

احتضنه يزن وهو يردف بضحك:

-أول مرة تلاقي راجل عبرك وجالك العيادة.

دفعه "نوح" للخلف بمزاح:

-يا عم الحال من بعضه، يعني أنا لما بجيلك بلاقي رجالة يعني.

جلس" يزن" فوق المقعد المقابل لمكتب "نوح" وهو يخرج تنهيدة قوية مردفًا بتهكم:

-على رأيك ده حتى يبقى خطر على صحتنا.

تابع خلفه بضحك:

-وعلى سمعتنا.

شاركه الضحك ثم قال يزن بضيق زائف:

-أنت يا اللي ماعندكش بربع جنية احترام للمواعيد، مكنتش متفق معايا على يوم الخميس تيجيلي ونسهر وفي الاخر تقلبني وتقفل تليفونك، أنا جاي اهزقك وامشي.

وضع نوح يده فوق وجهه وفركه بقوة وهو يقول بثقل ملحوظ بصوته:

-اتخانقت وقتها مع يسر خناقة كبيرة ومكنتش طايق حد.

رفع يزن أحد حاجبيه باعتراض معقبًا على حديثه:

-هو أنا حد بردو، كنت تعال وصدعني بمشاكلك مع مراتك اللي مابتخلصش، أنا من رأيي تطلقوا وترتاحوا.

-أنت صاحب جدع ومفيش اتنين منك في البلد، عشان لو كان فيه كانت خربت اقسم بالله.

رددها نوح بضحك وهو ينظر لصديقه الذي اتخذ وضعية التفاخر بالذات رغم معرفته بمقصده الساخر.

-ويا ترى اتخانقتوا ليه يا دكتور نوح المرادي، على مروة ولا سهى ولا منار ولا نهلة ولا.....

اوقفه نوح معترضًا بجدية:

-حيلك حيلك لا طبعًا الموضوع مكنش بسبب البنات.

توسعت أعين يزن بتعجب غير مصدقٍ ما يرويه صديقه فقال بفضول بان على وجهه:

-يا شيخ ماتقولش هو فيه موضوع تاني مختلف، أول مرة تحصل في التاريخ، بص فضولي هيقتلني لو ماعرفتوش حالاً.

هز نوح كتفيه متظاهرًا بالضيق وهو يفجر قنبلته التي كانت السبب في رسم علامات الدهشة على وجه صديقه:

-عشان بقولها نفسي اتجوز تاني وبحاول اقنعها هبت فيا وكأني أجرمت وبقولها عايز امشي مع واحدة ولعياذ بالله في الحرام، أنا بجد مش عارف دماغها دي فيها أيه!

صمت يزن لثوان معدودة قبل أن يسأله بحذر وهو ينظر إليه نظرات متصفحة:

-اوعى كده وريني يمكن عورتك كده وانت مداريها.

-ليه يا عم أخوك مسيطر؟!
صاح نوح باعتراض ممزوج بالفخر لرجولته، فهز يزن رأسه معقبًا باستهزاء:

-واضح واضح، ولما الخناقة حصلت نمت فين؟!

أجاب ببساطة وهو يحاول أن يكتم ضحكته:

-هنا في العيادة.

-صاحبي رجولة.

فُتح الباب بقوة أدهشت "نوح" واندفعت كلمات التوبيخ على طرف لسانه ولكنه حجمها في اللحظة الأخيرة، عندما وجد يسر تقف على أعتاب الباب ممسكة بيه وخلفها والدتها التي يبدو على وجهها عدم الرضا من أفعال ابنتها، فعقب ساخرًا:

-أيه لقيتي راجل معايا، مش واحدة وبخونك، انتي كده مديونالي باعتذار.

اندفعت الدماء لوجهها بحرج من موقفها المندفع، وراحت تتحدث بتلعثم طفيف:

-آآ..أنا كـ...كنت داخلة مستعجلة وعايزك..

قاطعها يزن بأسلوبه اللبق رافعًا عنها الحرج:

-أنا كنت ماشي يا يسر أصلاً، اخبارك أيه؟

والتفت كي يغادر الغرفة، فردت بصوت مُستعص:

-الحمد لله يا يزن، أنت عامل أيه؟

-زي الفل.

ثم التفت لوالدتها وقام بالترحيب بها ومن ثم قال لصديقه:

-عايز حاجة يا نوح، ماتنساش اللي اتفقنا عليه، وخف شوية على العربية عشان ماتهنجش معاك في الأخر، والله ما تعرف تعوضها.

أدرك "نوح" المغزى الذي يحاول يزن إيصاله له بطريقته المبطنة تلك، فأمأ برأسه ولم يعقب بأي كلمة حتى خرج، وعقب مغادرته انفجرت نظرات اللوم والعتاب من عينيه ومن فمه الذي أثقل "يسر" الواقفة بجانب والدتها تخفي عيناها عنه:

-يعني لما الناس تشوفك برة وانتي داخلة بالمنظر ده على جوزك في شغله تقول أيه؟!

استلمت" أمل" مهمة تهدئة الوضع كعادتها، وهي تقول:

-ولا أي حاجة يا حبيبي، أنا اللي كنت مستعجلة فيسر اتصرفت كده، دي حتى كانت جاية تقولك كل سنة وانت طيب عشان عيد ميلادك.

أنهت حديثها وهي تلكز ابنتها في الخفاء حيث لجم الصمت لسانها كعادتها، فانتهبت الأخرى قائلة بوجومٍ غير قادرة على نسيانه وهو يحدثها عن ضرورة زواجه مرة ثانية كي يحسن من نفسيته التي ساءت بسبب ضغط العمل:

-كل سنة وانت طيب.

تنهد "نوح" بقوة وهو يجلس فوق مقعده، مررًا بصره فوقها وهي تناظره بنظراتها الغاضبة والتي فشلت في اخفائها:

-ومالك بتقوليها وانتي مضايقة ليه؟

-ولا مضايقة ولا حاجة دي يسر غلبانة وطيبة وقلبها مفيش ارق منه وبتنسى بسرعة.

ربتت والدتها فوق كتفيها برقة وحنو وهي تثني عليها بطريقتها البسيطة، فقاطعها نوح بغل:

-اللي قلبها طيب دي خلت جوزها يمشي الساعة ١٢ بليل من بيته ولا همهما أنه تعبان وجاي من شغله هلكان وعايز يلاقي الراحة في بيته، لكن ازاي؟!  لازم يلاقي النكد والبوز اللي طول شبرين.

انفلت لسانها بحدة وغضب:

-الجزاء من جنس العمل، يعني جاي تحرق دمي وعايزني استقبلك بالأحضان، ده حتى الاحضان خسارة فيك.

أشار لوالدتها بصوتٍ مستشيط:

-شايفة يا حاجة بنتك بترد عليا ازاي؟! ابوكي لو عرف طريقتك دي والله ما هايرضيه.

لم تعطِ الفرصة لوالدتها واندفعت تردف بعنفوان ناري رغم استنكار والدتها:

-ولو عرف باللي انت بتحاول تقنعني بيه مش هيخليني على ذمتك لحظة واحدة.

التهمت نيران الغضب أخر ذرة تعقل لديه وأردف:

-أنتي فاكرة أني مستني منك الموافقة، يبقى بتحلمي، أنا لو عايز أعمل حاجة هعملها ومش هيهمني حد.

-عيب كده يا نوح يا ابني، المفروض أنا واقفة وليا احترامي بردو.

قالتها والدتها بعتاب واضح وصريح، فقال بحدة:

-يعني عاجبك أسلوبها، أصلاً هي عارفة كويس إن الحاجة اللي أنا عايزاها مفيهاش نقاش ما بينا، لإن النقاش انتهى من زمان من يوم ما هي وافقت ولا نسيتي.

ضغطت فوق حروفها النارية والظلام يكسو ما تبقى من تعقلها معه:

-مانستش وكانت غلطة عمري، انت ماتستاهلش واحدة زيي، تستاهل واحدة من اللي بتتمرقع معاهم يا دكتور يا محترم، يلا يا ماما.

جذبت يد والدتها بعنفوان كبير رغم اعتراضات والدتها ولكنها استسلمت بالنهاية لطوفان الغضب الذي التفت حول ابنتها علها تساعدها كعادتها وتنتشلها منه كي لا تُهدم حياتها بسهولة.

وفور مغادرتهما القى " نوح" مجموعة الاوراق التي أمامه باهتياج واضح جعل من موظفة الاستقبال التي كانت على أعتاب الباب أن تتراجع وتتركه يصارع انفعالاته وحده.
                                    ***
مساءًا.

عاد يزن للمنزل يحمل كعادته حقائب الحلوى لأولاد "سليم" منتظرًا فرحتهما والتي لم تتغير أبدًا رغم تكرار الحلوى وعدم تغييره بها! قابله "سليم" بتعجب ساخر:

-أيه ده؟! يزن باشا راجع بدري غريبة المفروض نسجلها في التاريخ، أيه الأدب ده كله!

انفلت لجام لسانه بمزاحٍ لم يتقبله "سليم" كعادته:

-امال انت فاكر بس أنت اللي مؤدب، لا في مؤدبين غيرك.

-قصدك أيه يا محترم؟!

كانت نبرته تحمل تهديد واضح ليزن الذي تراجع على الفور بقوله:

-ولا أي حاجة يا أخويا يا كبير، مالك مش طايقني ليه؟!، يعني كده مش عاجب وكده مش عاجب اموتلكوا نفسي.

ضحك سليم بتهكم وهو يوبخه:

-مالك قلبت على أمك ليه كده؟! ناقص تقف تعيط.

-وماله لو هكسب تعاطفك معايا هعملها.

حاول أن يستعطفه بأسلوب طفولي ممازح، فرد سليم باستنكار:

-تعاطفي؟! ليه بمسكك السلك عريان ولا بغرقك في برميل ميه.

رد بغل زائف:

-لا بتهزقني في الرايحة والجاية لغاية ما بوظت سمعتي في البيت.

عقب سليم عليه بفظاظة:

-انت سمعتك كده كده بايظة خلقة، يعني مش أنا السبب.

توسعت أعين يزن بصدمة مصطنعة: 

-طيب حاول مد ايدك وانتشلني من الضياع.

ظهر علامات الاستياء على وجه سليم وهو يقول:

-يابني أنا اخاف امد ايدي تسحبني معاك.

-لدرجادي أنت فاقد فيا الأمل، مع أني في حالي وملتزم بشغلي وشايف مصلحتي...

قاطعه سليم بوجوم بعد أن دخل الحديث بينهما في منعطف آخر:

-ملتزم بشغلك عشان عارف أنا مش هعديلك غلطة فيه، وشايف مصلحتك عشان مش بعد التعب ده كله وتيجي تهد اللي انت بانيته في لحظة تهور، لكن انت مش في حالك يا يزن، وعلى العموم ربنا يصلحلك حالك ويرزقك ببنت الحلال.

رفع يزن يده للسماء محاولاً تلطيف الأجواء:

-يسمع من بوقك ربنا.

استغل سليم الفرصة وعقب سريعًا بجدية:

-حلو يبقى انت فكرت اهو تصلح من نفسك، كده أنا امد ايدي واساعدك.

تظاهر يزن بالبراءة متسائلاً بحماس:

-أيه هتفتحلي معرض تاني؟

-لا اشوفلك بنت الحلال عشان تتجوز وتستقر.

حرك رأسه بنفي غير مقتنع بالمرة بتلك الفكرة:

-الاستقرار بيجي من حاجات تانية يا سليم مش شرط الجواز.

انتشرت إمارات الاحتجاج فوق وجه سليم وهو يقول:

-مش بقولك عمرك ما هتتغير وهتفضل طول عمرك كده، بس خلي بالك أنا...

قاطعه يزن مقلدًا إياه في بداية حديثه:

-خلقي ضيق وأخر لما افقد اعصابي هضطر ادّخل واعمل اللي أنا شايفه صح.

صمت ثوان قبل أن يقول بوعدٍ قد قطعه على نفسه من قبل: 

-وأنا اوعدك يا سليم يا اخويا عمري ما هاخليك تتدخل ولا تعمل اللي انت شايفه صح.

استشاطت نبرته في ثوانٍ معدودة وهو يتساءل بوجوم:

-قصدك أيه؟! انت واعي اللي انت بتقوله؟!

 تراجع يزن بابتسامته التي غيرت مجرى الحديث مرة أخرى معلنًا استسلامه دومًا مع سليم:

-قصدي إن أنا هفضل لغاية أخر لحظة بحاول احافظ على اعصابك، أنا مارضاش اضايقك أبداً مني يا اخويا يا حبيبي ياللي ماليش غيرك في الدنيا.

حاول أن يحتضنه ولكن سليم رفض بقسوة كعادته واشمئزاز:

-بس بس اوعى كده، انت هتشحت!

فتح يزن ذراعيه وهو يقول بتمثيل احتياجه للحنان:

-يا عالم يا ناس ماحدش بيحتويني.

دفعه سليم عن طريقه وهو يقول بسخرية:

-امك عملتلك بامية ورز ودول هيحتووك أكتر مني.

-أيه ده بجد يا حبيبتي يا ماما يا اللي ماليش غيرك في الدنيا.
                                   ***
بعد مرور وقت قصير..
دخل "يزن" للمطبخ حاملاً "قمر" ابنة سليم والتي كانت ممسكة بخده معتقدة أنه طعام ملتهمه إياه بشراسة، فقال بضحك وهو يحاول إبعادها عنه:

-شمس أنا بنتك دي مش هستحملها كتير.

استدارت له "شمس" والتهديد يسقط من نبرتها الممازحة:

-تقدر تقول كده وابوها موجود.

أردف بغرور وقوة لم يستطع إعلانها إلا في غياب أخيه الأكبر:

-طبعًا، ليه هي ابوها هيعمل فيا أيه يعني؟!

تدخلت "مليكة" في الحديث وهي تساعد "شمس" في إعداد العجين:

-ده احتمال يطردنا كلنا من البيت.

كانت تضحك بخفة وهي تردد تلك الكلمات وعيناها تنتقل تلقائيًا بينه وبين شمس، ولكنها لاحظت شيء غريب طرئ على معاملة يزن معها، فكانت نظراته غامضة تحمل شيء من العتاب والضيق لم تكن تلك نظرات الإخوة الصافية المعتادة عليها منه، فسألته باندفاع وهي تغير مجرى الحديث كليًا:

- في حاجة يا يزن؟!

صمت ولم يجب، فأكملت بانعقاد حاجبيها:

-انت مضايق مني في حاجة؟!

أجاب هذه المرة باقتضاب كبير وواضح:

-لا وهضايق ليه؟ انتي عملتي حاجة تتضايقيني؟!

رمشت بعدم فهم والقلق يصدر من نبرتها:

-أنا مش فاكرة أني عملت حاجة تضايقك بس لو فيه يا ريت تقولي اوضحلك وجهة نظري.

اخفض رأسه ثوان معدودة قبل أن يرفعها ويشملها بنظرات ذات مغزى:

-وانتي لو في حاجة معينة واخدها عن شخصيتي وعن حياتي غلط يا ريت تيجي بردو تقوليهالي وصدقيني هاوضحلك بصراحة.

تضاعف الارتباك لديها وعدم الفهم سيطر على عقلها فسقطت في حلقة مفرغة وهي تجاهد التفكير بمعنى حديثه، ولكن من الواضح أنه يرمي لشيء ما هي ارتكبته، ظلت على نفس صمتها الطويل بينما مقلتيها تستنجد بشمس تطلب منها المساعدة وبالفعل استجابت لها شمس وكسرت حاجز الصمت بسؤالها:

-ما توضح يا بني قصدك أيه؟

-قصدي مفهوم يا شمس.

هنا رد بخشونة وضيق أدهشهما معًا، حتى أنه كاد أن يغادر المطبخ إلا أن مليكة أوقفته بسؤالها:

-لا بجد استنى وفهمني، في أيه؟!

وقبل أن يتحدث أشارت له وهي تستكمل كلامها:

-أنا بسألك ومهتمة عشان انت مش مجرد اخو جوزي انت اخويا بجد، كلكم بقيتوا عيلتي مش عيلة زيدان، فـ يعز عليا إن حد يكون زعلان مني وأنا ماعرفش.

انفجرت حروفه المعتقلة من سجن الصمت موضحًا لها ما يقصده من خلال أفعاله تلك:

-وعشان أنا اخو جوزك هو أنا عمري صدر مني موقف حسسك مثلا أني شخص مستهتر وبتعدى حدودي معاكي أو مع شمس، فانتي واخدة عني فكرة مش تمام.
تلون وجهها بلون احمر قاني ولم تستطع إيجاد تفسير منطقي لِمَ يقوله سوى أن زيدان فعل شيء بتصرفاته الحمقاء:

-هو زيدان جه قالك أني اشتكتله منك؟! والله ما حصل.

-لا زيدان ماقاليش بس صحابك من كلامهم معايا وضحولي الصورة أو الفكرة اللي انتي واخدها عني.

استنكرت بحماقة:

-صحابي؟!

هز رأسه مؤكدًا:

-اممم صحابك.

وقبل أن تتفوه بحرف صدر صوت "سليم" من الصالة باحثًا عنه، فقال بنفس اقتضابه:

-هشوف سليم عن اذنكم.

غادر وتركها على وضعها لم تتوصل لشيء إطلاقًا، فقالت لشمس الصامتة والتي يبدو أن عقلها كان يعمل بِجد كي تتوصل لتفسير واضح:

-أنا مش فاهمة أي حاجة يا شمس بجد.

تركت "شمس"ما بيدها واقتربت منها تسألها بهدوء ورزينة:

-هو انتي حد من صحابك يعرف يزن؟!

أجابت بتسرع:

-لا خالص عشان كده مستغربة.

ولكن صاحت بتذكر:

- شهيرة صاحبتي هي الوحيدة اللي تعرف يزن.

-حلو، انتي بتتكلمي معاها عليه؟!

سكتت مليكة وتذكرت بعض المواقف وهي تثرثر مع صديقتها عن عائلة زوجها وعن طباعهم وشخصياتهم ولم يخلو الحديث من مغامرات "يزن" مع الفتيات.

صمتها أكد لشمس أنها اوقعت نفسها في مأزق:

-يبقى اللي فكرت فيه صح، ممكن يكون وصل كلام أو حصل موقف الله اعلم أيه هو ومن خلاله يزن اخد الفكرة دي.

ضربت كف بآخر بضيق وانفعال:

-يا نهار ابيض يعني هو أكيد مفكر أني سوئت سمعته دلوقتي والله انا ما كنت اقصد أي حاجة بس هو كلام عابر يعني...

الجمت لسانها على الصمت بإحراج، فراحت شمس تربت فوق كتفيها برفق وحنو:

-ما تتوتريش اوي كده، كلنا عادي بنغلط، وبعدين يزن ده مفيش اطيب من قلبه والله.

-ده مضايق مني اوي.

هونت عليها شمس كعادتها مع الكل وقالت برقة:

-لا مش لدرجادي هو بس بيعاتبك من تحت لتحت كده، انتي بس شوفي صاحبتك دي قابلته ولا أيه ولمي الدنيا.

تساءلت بحيرة:

-طيب اروح اكلمه ولا اعمل أيه ولا اخلي زيدان يكلمه ويفهمه؟!

نفت شمس بسرعة ترفض فكرة اخبار زيدان اطلاقًا:

-لا انتي عايزاها تتعك أكتر لو زيدان ادخل، فكك خالص واتعاملي عادي وأنا هتصرف واحل كل حاجة.

هزت مليكة رأسها واحتضنتها بحب:

-ربنا يخليكي يا شمس، أنتي بقيتي أكتر من اختي.
                                 ***
دخلت شهيرة باندفاع غرفة  حورية وهي منفعلة:

-حورية هو انتي شوفتي يزن قريب مليكة؟!

أجابت برعونة:

-اه ليه؟

تساءلت من جديد بغيظ:

-واتكلمتوا مع بعض؟!

-اه في ايه يا بنتي؟!

جزت فوق أسنانها بقوة وهي تقول:

-دلوقتي حالاً تحكيلي أيه اللي حصل؟

اعتدلت "حورية" فوق الفراش والفضول يأكل تقاسيم وجهها:

-حاضر بس في أيه؟

انفعلت شهيرة بغيظ:

-أنا طلبت منك تحكيلي ويا ريت تقوليلي من غير ما تقعدي تسأليني كتير.

زفرت "حورية" بضيق وسردت عليها ما حدث مع يزن بالتفصيل والأخرى كانت تتوسع عيناها تدريجيًا من حماقة اختها:

-يا بجاحتك يا شيخة ما تروحي تقوليله مرات اخوه كانت بتقول عنه أيه؟

تعجبت منها وهي تقول:

-هو أنا جبت سيرة مليكة يا شهيرة!

قضمت " شهيرة فوق أصابعها والغيظ يأكلها أكلاً:

-ما هو ده اللي ناقص، يا ابلة حضرتك ببساطة وضحتيله إن مرات اخوه هي اللي موضحلنا الصورة دي عنه، لإنك ماتقبلتيش معاه قبل كده إلا مرات بسيطة وماتكلمتوش في حاجة توضح إنه بتاع بنات صح ولا لأ؟

ردت بنصف شجاعتها رغم أنها كانت تظهرها كاملة قبل قليل:

-صح.

-يبقى الفكرة دي واخدها منين، بتنجمي مثلا!

راحت تبرر لأختها بتلعثم طفيف:

-آآ...أنا مـ...مـافكرتش في كده، كل اللي فكرت فيه سيرا بصراحة.

انقض الغضب على عقل شهيرة وهي تردف:

-ياختي سيرا دي انصح منك ومن عشرة زيك.

أظهرت "حورية" تبرمها وهي تقول:

-انتي مش فاهمة حاجة يا شهيرة، سيرا انبهرت بيه وهو مش سهل وممكن...

-مفيش ممكن يا حورية، سيرا مش هبلة ومش عيلة صغيرة يضحك عليها بشوية انبهارات، وحتى لو انبهرت واعجبت هي ذكية اوي ولا يمكن تغلط غلطة توديها في داهية مع إن مليكة عمرها ما قالتلي مثلاً أنه بيتجوز عُرفي اخره بيحب في البنات.

احتجت حورية بسخرية:

-ودي حاجة حلوة مثلا!

توسعت أعين شهيرة بقسوة، ثم قالت:

-ياستي واحنا مالنا ندخل في حياة الناس ليه، وبعدين تعالي هنا انتي شغلوكي واصي على ست سيرا وأنا مش عارفة!

حاولت "حورية" تهدئة الاوضاع المتفاقمة من قبل اختها فقالت بهدوء مصطنع:

-خلاص يا حورية اعتبريها غلطة وعدت على خير، وأنا هبقى افهم سيرا عن شخصيته.

ضربت "شهيرة" صدرها بغيظ وصاحت بنبرة عالية:

-يالهوي كمان، انتي مجنونة بقولك مليكة زعلانة مني وعاتبتني جامد يعني أنا لو كنت عايزة اروحلها الزيارة أنا وجوزي ماينفعش.

-دي ملهاش علاقة بدي.

لم تهدأ "شهيرة" بتاتًا وكأن اللامبالاة الظاهرة من قبل اختها الصغرى كانت هي الشرارة التي أشعلت فتيل غضبها من جديد: 

-لا ليها علاقة يا ست حورية، شوكت كان عايز يطلب من زيدان خدمة في شغله، بأنهي وش نروحلهم بيتهم وانتي عاكة الدنيا مع اخوه.

دخلت والدتهما الغرفة متسائلة بقلق عارم:

-في أيه بتزعقوا كده ليه؟ غيث برة يا حورية قاعد مع ابوكي.

تهللت أساريرها وهي تقول:

-أيه بجد؟!

دفعت "شهيرة" بطريقها وهي تستكمل باقي ثيابها، فقالت اختها باستشاطة:

-شوفتي مش همك إلا نفسك، يعني اطلع احكي لغيث اللي عملتيه ونشوف رأيه أيه؟

توترت وهي تنفي برأسها برجاء:

-أيه لا يا شهيرة، ده لو عرف إني كلمت يزن او كلمت راجل أصلاً من الأساس هتبقى خناقة كبيرة.

انتقلت والدتهما بينهما بحيرة وهي تتساءل:

-ممكن تفهموني في أيه؟

تولت "شهيرة" مهمة إخبار والدتها في ظل صمت الأخرى، فعاتبتها والدتها بأسلوب هادئ لم يعجب شهيرة:

-خلاص يا شهيرة اهدي وعدي الموقف وبعد ما نرجع من السفر كلنا ابقي خدي زيارة حلوة وزوري صاحبتك واهو يكون الموضوع هدي شوية.

ثم التفت لابنتها الصغرى قائلة بتحذير قاسي:

-وانتي يا هانم ما تتكلميش مع صاحبتك في حاجة واوعي تحكيلها كلمة اختك كانت حكتهالك كفاية عك، وخليكي في نفسك وماتتدخليش في أمور الناس ياختي اللي يشوفك كده مايشوفكيش وانتي فرخة مع غيث.

تبرمت "حورية" بضيق:

-أيه فرخة دي يا ماما، وبعدين هو عشان بحترمه ابقى فرخة.

لم تهدأ شرارات الاستياء من فوق وجه شهيرة:

-دي ماتقدرش تفتح بوقها معاه شوفتي اول ما سمعت اسمه قامت نطت جهزت الشنطة ونفسها ونسيت صاحبتها وخوفها عليها من يزن.

كانت تسخر منها في أواخر حديثها، فزفرت حورية وهي تقول:

-يا ستي خلاص اسكتي بقى وأنا غلطنالك ومش هفتح بوقي تاني، خلينا نقوم نمشي بقى، ولا ناوية تنكدي علينا طول الطريق واحنا على سفر ورايحين فرح.

استنجدت بوالدتها عقب حديثها برجاء، فقالت الأخرى:

-خلاص يا شهيرة، مانخليش الموضوع يوصل لأبوكي ومش وقته كلام من ده، خلينا نروح البلد ونحضر فرح بنت عمك وبعدها هيكون عدي فترة تقدري تكلمي صاحبتك في اللي انتي عايزاه.

لم يعجبها رد فعل والدتها الهادئ فقالت بشيء من الحزن الممزوج بالضيق:

-ازاي بس ده شوكت كان معتمد اننا نروحلهم الزيارة بكرة قبل ما اسافر أنا وهو البلد.

صدر صوت حورية المتهكم وهي تتمم على حقيبة السفر خاصتها:

-ياستي ياعني انتوا ساكتين ده كله، مش هتسكتوا الكام يوم دول لغاية ما ترجعوا.

-الكام يوم دول هيدخلوا في اسبوعين واكتر  يا هانم انتي عارفة لما بنروح البلد بنطول هناك. 

انزعجت حورية وهي تستعد للمغادرة الغرفة:

-يووووه انتي مش عاجبك أي حل، شوفي انتي عايزة تعملي أيه واعمليه.

تمتمت شهيرة بخنوع: 

-مش قدامي حل غير اني اسكت فعلاً، ربنا يسامحك يا حورية على اللي عملتيه فيا، بوظتي علاقتي بصحابتي الوحيدة.
                                    ***
في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل دخل  "نوح" يجر اقدامه بتعب محاولاً إفاقة نفسه، كي يرضي زوجته المتبرمة ويحصل على ليلة هادئة يريح بها جسده، قبل أن يفتح باب غرفته مد يده وجلب هاتفه من جيب سرواله وأغلقه حتى لا يصل إليه اتصالات في وقت متأخر وتستشيط الأخرى بهياج مفرط وينتهي بيه الحال على أريكته في عيادته، وضع هاتفه بجيب سرواله مرة أخرى وتمم بعدها على هديته البسيطة والتي اقتناها  لينال رضاها، فتح باب غرفته بهدوء فوجدها تجلس فوق الفراش تبكي بانهيار وظهرها موالي له تتحدث في الهاتف عدة كلمات وصلت لعقله كرصاصات استطاعت أن تصيبه في مقتل فهدر بانفعال وغضب عارم:
-نهارك أسود أنتي بتقولي أيه؟! 
انتفضت يسر بفزع واستدارت بكامل جسدها تواجه طوفان غضبه متسائلة بنبرة غاضبة ولكنها مهزوزة بعض الشيء:

-أيه في أيه؟، خضتني!

اختصر المسافات بينهما في لحظة كان بها قريب جدًا منها حتى أن أنفاسه الساخنة كانت تضرب صفحة وجهها الباهت:

-خضيتك وبالنسبة اللي انتي بتقوليه! ده شيء عادي.

أصاب لسانها الجامح بعض من التوتر وهي تجيبه، وإصرارها يواصل طريقه في معارضته كالعادة:

-آآ...أنا قولت أيه، وبعدين ازاي تتصنت عليا!

صاح بصوتٍ مرتفع ولم يهمه الوقت ولا المكان ولا أي شيء سوى إعادة ترويض تلك الجامحة بقليلٍ من التهديد الواضح والصريح:

-نعم! بقولك أيه ماتنرفزنيش وتعصبيني.

تظاهرت بالبرود والعصيان معًا بكلماتها المندفعة من فمها:

-اه...اه اقلب وطلع شخصيتك التانية.

اتكأ فوق حروفه بصوتٍ قاس لعلها تستفيق:

-شخصية أيه يا مجنونة! هو أنا بلياتشو...بس تصدقي أنا فعلاً ممكن اتنازل عن شهادتي العلمية وعن مكانتي كـدكتور محترم واقلب صايع وماترباش في سبيل اعدل دماغك المايلة دي.

مال وجهها للصدمة وهي تسأل غير مصدقة ما يتفوه به:

-أنا دماغي مايلة يا نوح؟!

فاض به الكيل وظهر الغضب جليًا بصوته وجسده المشدود:

-ايوه، لما تكوني عايزة تموتي ابني اللي في بطنك يبقى أيه يا جاحدة؟

انفجرت فيه بغضبٍ مماثل ولمحة من الحسرة بانت بنغمة صوتها الحزين:

-يبقى مش حاسة معاك بالأمان.

استنكر سريعًا بقوله:

-ليه يعني بنميك من غير عشا؟! ولا بمسيك وبصبحك بعلقة، اوعي كده وريني وشك ما شوف يمكن سايب علامة هنا ولا هنا!

انفلت لسانها بعدما استفزها بكلامه:

-بطل تريقة انت عديم المشاعر.

أمسك ذراعها بقسوة وشدد فوقه بتحذير ضارٍ:

-يســر ماتتعديش حدودك معايا أبدًا.

فاضت مشاعرها السلبية اتجاهه، وشعرت أن الأمل التي كانت تسعى خلفه بتغييره وتحويل حياتهما البائسة للأخرى سعيدة أصبح من المستحيلات، فقالت برعونة متعمدة:

-طيب ابعد عني وماتقربش حتى ريحتك مابقتش قادرة اشمها.

ضحك ساخرًا منها وتعمد الاقتراب أكثر، متجاهلاً كل محاولاتها في الابتعاد عنه:

-ليه مع اني متبرفن كويس قبل ما أجاي؟!

وضعت يدها فوق صدره العريض تدفعه للخلف وعيناها المستشاطة بغيرة وقهر توضح له مدى غضبها منه:

-وليه ماتقولش بتفكرني بنكستي معاك، باليوم الاسود اللي قررت اوافق فيه على جوازتي منك واتنازل عن حقي فيك!

ضغط فوق حروفه والعناد يعمي عيناه عن حقيقة القهر الذي تعيشه معه بسبب تصرفاته المستمرة في إذلال أنوثتها:

-اقسم بالله انتي غيرتك لحست دماغك لدرجة انك مابقتيش تفرقي في الكلام معايا، أنا لغاية دلوقتي مستحملك ومستحمل هرموناتك اللي ماكنتش عارف افسرها، بس كل واحد وله طاقة وأنا طاقتي خلصت.

انهى حديثه وتركها ببساطة وكأنه لم يضاعف وجعها منه وكأن سوط كلماته لم يجلد كرامتها من جديد، فراحت تقول بانهيار:

-أنا اللي طاقتي خلاص خلصت ومابقتش قادرة استحمل، ولازم نحط حد اللي احنا فيه لو عايزاني، أما بقى شغل انك عايز كل حاجة في حياتك دي لا وألف لا.

التفت قبل أن يدخل للمرحاض يسألها بسخرية:

-طيب لو عايز ادخل الحمام دي ظروفها أيه؟!

عقدت حاجبيها معًا بتعجب منه، فقال باستهزاء:

-ايه تدخلي معايا، أنا عن نفسي موافق جدًا.

استلمت منه وتيرة الاستهزاء وردت بحدة وكبرياء:

-مش بقولك من كتر تعاملك مع اللي يسوى ومايسواش مستواك نزل خالص.

رمقها بنظرة يغمرها التهكم وهو يقول:

-من تواضع لله رفعه يا بنت الحج فاضل، وبعدين بالله عليكي ماتحسسنيش انك من هوانم جاردن سيتي ابوكي تاجر اجهزة كهربائية فكك وحطي واطي شوية.

أنهى كلامه حين دخل للمرحاض ثم أغلق الباب بقوة في وجهها تاركًا إياها تستشيط أكثر والغيظ ينحر بها نحرًا.

بعد مرور وقت قليل...

خرج من المرحاض بعد أن قضى بعض الوقت تحت الماء الفاتر مقررًا إخراج جميع سلبياته والتفكير في اللا شيء ولكن كلماتها دومًا تطرق عقله تصيبه بالجنون والغيظ فيعود متهورًا بقرار عقابها أو إغاظتها بأي شيء حتى يشعر بأنه نال جزء من كرامته التي تحاول هدمها دومًا بنبرتها المنفعلة وهياجها المفرط في التعامل معه.

تعمد الغناء بصوت خفيض وهو يغلق باب المرحاض خلفه، ولكنه صُدم بها تضع ثيابها في حقيبتها بعصبية ودموعها المتساقطة تتسابق بلهفة لتملئ صفحات وجهها، فزفر بقوة وهو يتساءل:

-بتعملي أيه يا يسر؟

ردت بنبرة متقطعة يغمرها الحزن:

-بلم هدومي وماشية.

-ماشية الساعة ١ بليل!

عقب مستنكرًا فرفعت وجهها تسأله باستنكار يملأه الأسى:

-يعني هي فارقة بليل ولا الصبح، النتيجة أني ماشية.

ألقى المنشفة أرضًا وهو يتجه نحوها يحاول إيقافها بصوته المجهد:

-خلاص أنا اللي همشي.

أبعدت يده بهدوء، بينما تشابكت نظراتهما في لحظات شوق بترتها هي بإصرارها:

-أنا شايفة أن أنا اللي امشي افضل، أنا بقيت حاسة أني عبأ عليك فأريحك مني احسن.

أمسك ذراعيها يجذبها نحوه بلطف وهو يقول:

-والله عمرك ما كنتي عبأ ولا هتكوني، يا يسر أنا ببقى راجع تعبان وهلكان ومحتاجكك بس دايمًا بلاقيكي عكس ما كنت متخيلك، يا اما منكدة عليا يا مبوزة ومش عاجبك حاجة، يا يسر أنا بقيت مش فاكر أحنا امتى كنا متصالحين من كتر ما على طول متخانقين وزهقانين من بعض من كتر المشاكل يعني عاجبك اني على طول بعيد عنك.

انهارت باكية في أحضانه تخرج ما تكنه بصدرها:

-انت تعرف إنك تبقى بعيد عني أريح ليا.

ابتعد خطوة والصدمة تجوب وجهه:

-انتي بتقول أيه، في واحدة تقول كده لجوزها؟!

هزت رأسها مؤكدة وهي تقول بحرقة:

-عشان لما نبقى كويسين على طول بتفتح معايا انك عايز تجرب الجوازة التانية حتى لو كان بهزار يا نوح الكلام ده بيجرحني، يا أما تليفونات العيادة اللي كلها من بنات، عرفت أنا ليه كده بيبقى أريح ليا.

زفر بقوة ولم يجد رد مناسب، فجميع ردوده ستصيبها بجلطة إن أعلنها، سيحتفظ بصمته ويتظاهر بعكس ما يكنه فقال بلطف:

-حقك عليا، أنا مش هضايقك تاني، ده أنا حتى قفلت تليفوني قبل ما ادخل الشقة عشان مش عايز ازعلك.

عاد الأمل يطرق بابها من جديد فقالت بصوت مبحوح يصارع أمواجه الحزينة:

-بجد يا نوح؟

-اه والله حقك عليا أني اتعصبت، بس اعذريني يعني عايزة تحرميني من ابننا وتسقطيه، وبعدين انتي ماتعرفيش أنه حرام.

مسحت دموعها بأصابعها المرتجفة وهي تقول بصدق:

-غصب عني، بس مكنتش حابة انه يتعذب ما بينا زي لينا.

عقد حاجبيه متسائلاً بقلق:

-مالها لينا؟ انتي بتقوليلها حاجة عني؟!

ضحكت بتهكم وهي تجيب:

-لا طبعًا بس البنت مش صغيرة يا نوح، البنت عندها خمس سنين وفاهمة كويس اووي اننا مش مرتاحين مع بعض، وبعدين انت على طول بعيد عنها وماخدتش اجازة واحدة تقعد معاها او تفسحها البنت حاسة بنقص.

اعترض سريعًا:

-أيه نقص!، امال أنا طالع عين اهلي ليه وعشان خاطر مين؟!

-يا نوح الحياة مش فلوس، البنت محتاجة احتواء بردو ومحتاجة وجودك معاها، انت الحمد لله مش مخليها عايزة حاجة وكل طلباتها مجابة بس....

قاطعها مدركًا ما ستقوله:

-خلاص أنا هاخد اجازة بكرة من العيادة واخرجكم.

اتسعت عيناها بعدم تصديق تسأله بلهفة:

-بجد يا نوح، بجد هتقعد معانا بكرة وتفسحنا.

هز رأسه مؤكدًا وهو يربت فوق كتفها بحب:

-اه والله، أنا ماعنديش اغلى منكم عشان اسعدكم.

لم تجد رد يكفيه حجم عمق كلماته الصادقة، فاكتفت بإغراقه في بئر مشاعرها الدفينة، تشبعه بحنانها وغرامها بيه بالرغم ما يفعله أحيانًا معها، مجبرة عقلها على التوقف في التفكير وخاصةً في تلك اللحظة كي لا تتذكر تلك الندبة القوية والتي كانت وستظل العقبة بحياتهما، بينما هو اكتفى باستغلال صفاء لحظتهما الحالية والتي ربما لن تتكرر مرة أخرى فبات خائفًا يشعر بالقلق حيال الدقائق والساعات مفكرًا متى ستكون المشكلة القادمة!
                                  ***
صباحًا..

تململ زيدان وهو يجلس أمام سليم والكثير من الاوراق أمامهما، فكانت أحيانًا عيناه تدور في أرجاء "المحل" وأحيانًا أخرى يتظاهر بالجدية ومتابعة حديث سليم عن ميزانية "المحلات" وحجم الأموال في البنوك، وعما يفكر فيه مستقبلاً من أجلهما هو ويزن، لاحظ صمت سليم ونظراته الغامضة فاندفع يعقب بجدية:

-عندك حق في كل اللي قولته.

عاد سليم بجسده للخلف يستند على ظهر الكرسي، يسأل بلمحة من المكر:

-أيوه بقى أيه اللي قولته؟!

مط شفتيه بضيق وسرعان ما أظهر إمارات الملل على وجهه:

-الصراحة بقى أنا مش فاهم ولا فايق لكل اللي بتقوله ده.

ضيق سليم عينيه بتفكير قبل أن يقول:

-هو ده مش مالك ولازم تبقى متابع معايا لكل اللي بيحصل وهيحصل.

-وانت بردو عارف أني ماليش في أمور تجارة الدهب، وبعدين انت ادرى مني وأنا واثق فيك.

لمعت عيناه بنصف بسمة ساخرة:

-لا قول انك بتحب تريح دماغك، ومتعود على الراحة.

عض فوق شفتيه السفلية بغيظ واضح، مانعًا نفسه من التهور والتصرف برعونة مع أخيه الأكبر، فضحك سليم بقوة والاعجاب يطرق عقله من تصرف زيدان بحقه فقال بكلمات كان متأكدًا أنها ستكون الشرارة في إحراق حبال الرزانة والتعقل الملفوفة حول عقل أخيه:

-لا عاجبني إنك كمان مابقتش قادر ترد عليا، في تطور اهو وبدأت أشوف فيك أمل.

عقد ما بين حاجبيه باحتجاج وهو يقول:

-معلش أمل لأيه بالظبط؟ 

أجاب ببساطة قاصدًا إثارة حفيظته:

-إن علاقتي بيك تبقى أحسن وافضل.

رغم أن الاستهزاء كان على عتبة إظهاره إلا أنه أخفاه واكتفى بقليل من الاعتراض ليظهره:

-والله العظيم أنا مش لاقي كلام اقوله.

وضع سليم يده أسفل ذقنه يستند عليها، ينظر له بتسلية والمكر يغزو نظراته الغامضة:

-لا انت مش قادر تقول حاجة لأحسن ازعل منك ولا انا زعلي مايفرقش؟!

تنهد زيدان بقوة وهو يجيب بصدق لعل أخيه الأكبر يقتنع بما يفعله في تحسين علاقتهما:

-لا ازاي زعلك طبعا يفرق معايا، وبحاول ابينلك كده بس الظاهر أنك مش واخد بالك.

كتم ضحكة قوية داعبت حلقه وقال بصوت جاد متأكدًا أن ما سيقوله سيفجر غضب أخيه الأصغر:

-يمكن محتاج تبذل مجهود أكبر.

بان على وجه زيدان الضيق حتى أنه كاد يترك زمام أمور التعقل جانبًا وينفجر بحماقة في وجه سليم، إلا أنه تراجع سريعًا وقرر التشبث بحافة الصمت أفضل مئة مرة من السقوط في هاوية فراقه عن أخيه من جديد، وعندما أدرك سليم صراعه مع نفسه قرر الرأفة بيه عندما حول مجرى الحديث بينهما لِمَ هو أعمق وأهم:

-على العموم سيبك من ده كله أنا كنت جايبك عشان حاجة تانية.

لم يستطع الزام نفسه كثيرًا في طور العقل والأدب فقال بسخرية:

-أيه جايبني عشان واحشك تقعد معايا لوحدنا!

تنهد سليم وهو يقول باستفزاز بينما يداه كانت تغلق الملفات أمامه سريعًا:

-لا أنا ماكنتش بحب اقعد معاك لوحدنا، بس دلوقتي بقيت افكر إن القعدة لوحدنا بدأت تجيب نتايج حلوة، بس ده بردو مش اللي عايزك فيه؟

فقد زيدان أي ذرة أمل في تلك الجلسة المليئة بأجواء الحدة والتحدي من قبل أخيه، فقال باستسلام:

-امال؟!

أجاب سليم باقتضاب وتحولت جميع معالمه:

-يزن اخوك.

وكأنه كان ينتظر الإشارة كي ينفجر بغيظ ويصب جام غضبه فوق يزن الغائب رغم أنه لم يفعل به شيء: 

-ماله زفت الطين جلاب المشاكل.

-فكك منه، واوعى تحل له مشكلة، أنا عايزه يقع.

مالت ابتسامة زيدان للتسلية وهو يتساءل بحماس:

-هو انت حطيته في دماغك.

أجاب وهو يهز رأسه بتحدٍ:

-اه آن الاوان، أنا صبرت عليه كتير اوي على أمل أنه يتعدل لوحده بس باين مفيش أمل فيه.

وجد زيدان الفرصة للتعبير عن استياءه من طريقة تعامل سليم دومًا مع يزن:

-يزن  انت مدلعه اوي الصراحة.

-خلاص اعتبر ان الدلع ده هيجي فوق دماغه، بس اللي قولتلك عليه يتنفذ سيبه يقع ماتحلش له أي مشاكل أنا عايز اعرف كل بلاويه ومشاكله.

نهض زيدان كي يستعد للذهاب لعمله وهو يتساءل بمزاح طفيف: 

-تحب اشتغلك مخبر.

رد سليم بكبرياء وعنجهية كعادته:

-لا كفاية عليك شغل الداخلية، أنا عندي مخبريني.

ترك البساط لضحكاته وهو يقول:

-ياعيني عليك يا يزن حظك أسود وقعت تحت ايد اللي مابيرحمش.

أشار له سليم بضيق زائف:

-امشي يلا عشان بدأت تعك ومش هستحملك كتير.

                               ****
خطت "سيرا " خطواتها الواثقة في الطريق المؤدي للبرج الذي يقبع به "المركز الرياضي" ونظراتها تركض أحيانًا نحو الجانب الأخر من الطريق تنتظر خروج ذلك الـ "يزن" بعدما اندلعت شرارة فضول بسيطة داخلها لرؤيته من جديد، ورغم أن لقائهما كان بالأمس ولعدة دقائق بسيطة إلا أنه ترك بها أثر فريد وخاصةً بعد أن وجدته يقف في مساء البارحة أمام مكان عمله يتحدث بالهاتف وحين خرجت أمامه من باب "البرج" الحديدي لوح لها بابتسامة جذابة بسيطة فتجاهلته متظاهرة بعدم رؤيتها له، وأجبرت عقلها على عدم التفكير بيه، ولكن من حين لأخر يداهم عقلها وخاصةً بعدما أخبرها حدسها أنهما سيتقابلان.

وقبل أن تصل للبرج، لمحت متجر كبير لبيع الحلوى، فقررت أن تكافئ نفسها بشيء بسيط بعدما استمعت في الصباح لوصلة ندب وتهذيب من "أبلة حكمت" المعترضة دومًا عليها وعلى تصرفاتها، فهمست لنفسها:

"لازم اجيب لنفسي شوكولاتة اكافئ بيها نفسي الغلبانة أني مستحملها في حياتي".

تابعت أنواع الحلوى بأعينها واحتارت تقتني أي واحدة منهم، ولكن صوته الذي اخترق دائرة تفكيرها جعلها تنتفض انتفاضة بسيطة تستدير له منعقدة الحاجبين وهي تردد بصوت أنثوي ناعم:

-نعم؟!

شملته بنظراتها الخاطفة لهيئته الرجولية الوسيمة بثيابه الأنيقة والبسيطة تزامنًا مع تلك الابتسامة الحمقاء التي استطاعت احتلال عقلها دون مجهود:

-كنت بقولك ازيك يا كوتش؟

حمحمت بحرج وهي تسيطر على ملامحها براحة مجيبة عليه:

-الحمد لله.

ثم التفتت تتظاهر باستكمال ما كانت تفعله إلا أنه أوقفها بسؤاله وملامحه تتدعي البراءة:

-أنا كنت عايز اسأل مواعيد الزومبا أيه في الجيم؟!

صمتت برهة قبل أن تجيب بمكر دفين:

-مرات حضرتك تقدر تعرفها من الريسبشن، هما هيقدورا يحددوا ليها معاد مناسب.

-مراتي؟!

ردد باستنكار، ثم تابع حديثه بمزاح طفيف:

-ده شكل واحد متجوز بردو بذمتك!

رمشت عدة مرات وهي تستدعي جديتها التي تلوذ بالفرار منها:

-امال حضرتك بتسأل لمين؟ لاختك؟!

-لا معنديش اخوات، أنا بسأل ليا، هو مفيش مواعيد للشباب ولا إيه؟ 

ماكر جدًا في اجتذابها للحديث معه ببساطة وذلك حينما قالت باستنكار:

-على أساس إن حضرتك ماتعرفش إنها للبنات بس؟!

رسم خطوط الصدمة فوق ملامحه وهو يقول بقهر زائف:

-أيه؟ بنات بس، لا طبعا مكنتش اعرف، قد ايه انتوا مجتمع انثوي عنصري، هو مش من حق الرجالة تعمل رياضة وزومبا وتهتم برشاقتها ولا إيه؟

عقدت ذراعيها وهي تمرر بصرها فوق عضلاته العريضة تقول بنبرة يغمرها التهكم:

-على أساس إنك محتاج؟ 

لمعت الشقاوة في عينيه وهو يقول بمكر رجولي:

-اعتبر دا تصريح بالإعجاب منك؟ 

فصاحت فيه بذهول مغتاظ:

-نعم! أنت اتجننت اعجاب إيه؟

تشدق ببرود مدروس مُغلف بالعبث:

-اهدي بس، انتي مالك نرفوزة كدا خلي خلقك استرتش. 

-هو انت ليه بتتعامل معايا على إني بنت عمتك يا أستاذ...

كتم ضحكة قوية وهو ينفي على الفور بعفوية :

-الجوهرة دي استحالة تبقى بنت ميرڤت الحرباية. 

-نعم؟! 

حمحم بقوة وهو يتغنى بلباقته كعادته:

-بقول ماحصليش الشرف إنك تبقى قريبتي يا أنسة...

صمتت تنتظر تكهنه لأسمها، فضيق عيناه يتظاهر بالتفكير:

-يسرا...

ضغطت فوق حروف أسمها تتلفظها بنعومة مقصودة كي لا ينسى مجددًا اسمها، فيبدو أنه ماهر لدرجة أنها اقتنعت أنه قد نساه بالفعل:

-سيرا..

-ايوه فرصة سعيدة يا أنسة سيرا.

إن كان هو بارع جدًا في تسديد أهدافه، فهي لم تكن غبية بالمرة حينما امتهنت نفس طريقة اللعب بسهولة وهي تقول:

-أنا أسعد يا أستاذ اااا....

وقبل أن يقول اسمه، سارعت بقولها:

-أيمن أو وائل...

ابتسم ممازحًا إياها ببساطة: 

-أو محمود، أي اسم ماعدا يزن...

سجنت ضحكتها بين قبضان رصانتها، وهي تقول:

-على العموم فرصة سعيدة، عن أذنك.

لم يسمح لها بالذهاب، فأوقفها بسؤالٍ جديد محاولاً فتح مجالات أخرى للحديث، رغم أن تلك الأفعال لم تكن من أساليبه مع الفتيات:

-هي حورية فين ماجتش معاكي ليه؟!

هزت كتفيها مدعية اللامبالاة وهي تقول:

-ماعرفش اسألها هي مش قريبتك بردو!

-اه قرايب بس بينا مصانع الحداد، لو عايزة تعرفي عني حاجة اوعي تسأليها تعالي واسأليني.

صراحته فاجأتها ولكنها اصطنعت الضيق:

-هو أنا هعوز اعرف عنك أيه؟!

ارتسمت ضحكة ساخرة فوق شفتيه وهو يقول بشقاوة داعبت صوته:

-كتير، تسألي مثلاً عن نوع عربية مميزاتها او عيوبها.

نظرت في ساعة يدها تتظاهر بالانشغال وهي تقول ببرود: 

-العربيات أخر همي، مش من مفضلاتي، اطمن مش هحتاجك عشان اعرف حاجة.

التقط حلوى بالبندق يقلبها بين يديه وصوته يتشبث بسور التسلية والمزاح:

-خدي فكرة واشتري بكرة.

انكمشت معالم وجهها بامتعاض، فتبسم وهو يراوغها مجددًا:

-بهزر معاكي ماتبقيش خنيقة كده يا أنسة يسرا.

رفعت أحد حاجبيها باستنكار واشتدت نبرتها بضيق رغم علمها بمزاحه:

-يسرا تاني؟!

-صدقيني يسرا انسب عليكي، سلام.

توقعت اعتذاره ولكنه فاجئها بقوله الذي دفعها تهوي في بئر الصمت وهي تحدق به غير مصدقة إياه، وخاصةً حين أشار إليها بأصابعه وغمزة طفيفة صاحبت عيناه، فغادر دائرتهما سريعًا ولم يعطِ لها الفرصة في الرد أو التعقيب على مزاحه السخيف فهمست بتوعد:

-انسان رخم والله ماهعبره تاني.
                                   ***
مساءًا...

أنهت سيرا عملها وقامت بتوديع عملائها، ثم حملت حقيبتها فوق ظهرها واستعدت للمغادرة متجاهلة ذلك الثقل المتربع فوق صدرها من فكرة مرورها من أمامه، فتتلقى منه ابتسامته الخلابة بوسامته المفرطة، ويعود سجين أفكارها لليلة أخرى، زفرت بضيق وهي تؤنب نفسها:

-انا هخيب ولا أيه، اطلع من دماغي.

ولكن صدح صوت داخلها يحادثها بأمورٍ لم تكن تتخيل أن تتطرق بالتفكير إليها، وراح عقلها يبرر لها لِمَ تعلقت به بهذه السرعة؟، فبدأت تلقائيًا في عد مميزاته التي لطالما تتمناها بفتى أحلامها بدايةً من وسامته ومظهره الجذاب، فيبدو عليه أنه من عائلة غنية وأوضاعه المادية حسنة كي يدير "معرض" للسيارات بهذه الضخامة، ولكن رزانتها أرشدتها لبر الأمان بأن الماديات لا تبني علاقة سوية ناجحة كي تضعها أساس للتفكير بشريك حياتها، فهزت رأسها ترفض بعض المغريات التي تهاجم عقلها من حين لأخر، ولم تدرك أن هناك حجارة ضخمة أمامها، فتعرقلت بها وكادت تسقط في منتصف الطريق إلا أنها تماسكت على أخر لحظة، وهندمت نفسها سريعًا بلمحة من الكبرياء ولكن ظهوره من خلف زجاج "معرضه" بابتسامته الواسعة جعلها تتوتر بخجل رغم أنها اختصرت باقي الطريق بخطوات مسرعة للغاية. 
                                   ***
وصلت "سيرا" للبناية المجاورة لمنزلها وصعدت الأربع طوابق بلياقة عالية، توقفت أمام شقة صديقة طفولتها "فاطمة" فتاة بسيطة تعشق التمثيل والفن وتسعى بكل جهدها لاغتنام فرصة في إحدى الافلام السينمائية فلم تترك تجارب التمثيل إلا وذهبت ولا فرصة للتواصل مع مخرجين الافلام المشهورة إلا وتواصلت معهم ولكن في كل مرة الفشل يظل حليفها ولكنها لم تفقد الأمل بل باتت تتشبث بحلمها أكثر وأكثر.
استقبلت سيرا والدة فاطمة والسـ_كين تحمله بيد واليد الأخرى تمسك بعض من الخضروات مرحبة بها بحفاوة:

-ادخلي يا سيرا، فاطمة جوه في اوضتها.

اقتربت "سيرا" من باب غرفة صديقتها ولكنها تسمرت بصدمة تستمع لصوت نحيبها وهي تردد بانفعال:

-انت ازاي تقولي كده يا سافل يا كلب يا حقير..

وضعت أذنيها بالقرب من الباب تستمع لصوتها من جديد وهي تردد بانهيار:

-لا أنا مكنتش متخيلة أبدًا إنك قذر ومنحط كده...

هنا قررت قطع ما يدور بالداخل بفتحها للباب بقوة، والسخرية تحلق بصوتها وضحكاتها:

-أيه هو السيناريو كله شتايم، مفيش حوار أبدًا.

عبرت "فاطمة" عن غضبها من وسط دموعها المتساقطة:

-انتي ازاي تقطعيني كده وأنا في حتة مهمة زي دي؟!

خطت خطواتها لداخل الغرفة بينما كانت تغلق الباب بقدمها خلفها، وهي تتظاهر بالأسف فحركت ذراعيها يمينًا ويسارًا:

-أنا أسفة يا فنانة، هنعطل التصوير والممثلين...وسع كده يا أستاذ محتاجة السوبر ستار...

دفعتها "فاطمة" بغيظ عنها وهي تمسح دموعها بعد أن فشلت في التدريب على مشهد طرأ في وحي خيالها وقررت تمثيله كعادتها:

-اتريقي يا سيرا بكرة تتمني صورة معايا وأنا هرفض وهطلعلك لساني من فوق قمة نجاحي.

تصنعت الدهشة وهي تعبر عن استيائها من صديقتها:

-طول ما تفكيرك كده هتفضلي بين الاربع حيطان وعمرك ماهتطلعي للنور.

زفرت الأخرى بملل وهي تقوم بعقص خصلات شعرها متجاهلة جلوس سيرا على طرف الفراش بأريحية:

-هطلع للنور ازاي وفي ناس حقودة في حياتي.

نهضت "سيرا" تقف خلفها ثم وضعت قبله فوق رأسها وهي تنظر لها بالمرآة الموضوعة أمامهما، فانطلقت تستعطفها ببراءتها الممزوجة بمزاح طفيف: 

-ما خلاص بقى يا طمطم، انتي مقموصة مني ليه؟! ده انا غلبانة وحزينة واختي تبقى أبلة حكمت يعني المفروض تكوني مترأفة بحياتي البائسة، وبعدين الصراحة مالكيش حق تزعلي.

دفعتها "فاطمة" للخلف بمرفقها والغيظ يبلور صوتها بحرقة:

-نـــعم...ده كله وماليش حق ازعل، لما تسيبي صاحبة عمرك فاطمة... طماطيمو الفنانة وتاخدي البت حورية الغلاوية دي في اول يوم شغل ليكي يبقى أيه؟!

تظاهرت سيرا بالألم وهي تتدافع عن نفسها أمام هجوم صديقتها:

-يخربيت كده ما انا قولتلك يا بنتي  تعالي معايا وانتي لما عرفتي أنها جاية رفضتي تيجي وغرور الممثلين ركبك اعملك أيه؟!

-امسكي فيا ، مش تتجاهليني.

عادت "سيرا" تقوم بإرضائها بلطف: 

-أنا اقدر اتجاهلك يا طمطم ده انتي صاحبتي وحبيبتي، طيب تصدقي اليوم كان كئيب من غيرك.

ضيقت الأخرى عيناها تسألها بابتسامة واسعة والرضا يعبر فوق ملامحها:

-انتي قولتلي كنت زعلانة منك ليه؟!

ضحكا سويًا وقامت فاطمة باحتضانها تغرقها في نهر طيبتها، رغم الغرور المنبعث من صوتها:

-بس بجد شوفتي كان وشها وحش عليكي ازاي لكن أنا بقى لو موجودة كنت هبقى تميمة حظك.

كتمت سيرا حاجتها للدفاع عن حورية كي لا تستشيط فاطمة في وجهها، فغيرت مجرى الحديث ببعض من الكلمات وهي على يقين أن فضولها سيدفعها للتغاضي عن التفكير بحورية لطالما كانا دومًا على النقيض ويكنان لبعضيهما سوء الظن.

-هو مكنش وحش اوي، في حاجة هموت واحكيلك عنها...

قاطعتها فاطمة بلهفة وهي تجلس في منتصف الفراش تضع وسادة كبيرة فوق ساقيها:

-اشطا احكي يلا بسرعة...

فجلست أمامها سيرا تسرد لها ما حدث بالتفصيل الممل في ظل اسئلة فاطمة في كل صغيرة وكبيرة:

-قولتيلي اسمه اية؟

-يزن...

-اممم، اسم سينمائي.

عبرت فاطمة عن إعجاب بسيط تعجبت له سيرا ولكنها قامت بمسيراتها، فجذبت الأخرى هاتفها تفتح إحدى وسائل التواصل الاجتماعي " الانستجرام" وهي تسأل بجدية، اسمه أيه بقى بالكامل:

-ماعرفش.

-يعني أيه ماتعرفيش؟!

-بقولك ماتكلمتش معاه إلا مرتين، وبعدين حورية تليفونها مقفول ماعرفش ليه.

امتعضت فاطمة وهي تلقي بهاتفها جانبًا تتلفظ بغيظ:

-أحسن يا رب يكون اتسرق.

داعبتها سيرا بمزاح:

-صفي نيتك عشان ربنا يرزقك بفيلم تبقي البطلة فيه قدام أحمد عز.

صاحت متذكرة بحماس:

-اسكتي أنا حملت الفيلم الجديد بتاعه، تتفرجي معايا عليه.

جذبت سيرا الغطاء والقت حقيبتها وهي تقول:

-ايوه طبعًا، احسن ما اروح لحفلة كل يوم اللي في البيت.

                                 ****
أوقف "يزن" سيارته أمام منزله بعد أنهى عمله، وقرر العودة للمنزل لقضاء وقت لطيف مع أطفال سليم وعائلته والانسجام معهم أكثر، مقررًا التغاضي عن أفكاره الطائشة بالسهر مع صديقاته الفتيات، فلا زال مُصرًا على قراره بالالتزام والابتعاد عن تلك البؤرة التي باتت تستنفذ طاقته وتهلك مشاعره، وقبل أن يغادر سيارته أعلن هاتفه عن وصول رسالة، فأخرجه من جيب سرواله وقرأ الرسالة بصوت مرتفع وانعقاد حاجبيه يزداد والقلق يقفز من عينيه.

"اهرب بسرعة، سليم مستنيك والشر بيطق من عنيه" 

همس لنفسه بتعجب:

-هو أنا عملت أيه؟!

فكانت الرسالة الثانية التي أتت للتو هي الإجابة على سؤاله من قِبل أخيه زيدان أيضًا.

"مين دي يا كلب اللي بتقنعها تتجوزها عُرفي، ده أنت هيتعمل منك سندوتشات كفتة وبانية" 
وضع هاتفه في جيب سرواله والضيق يحتل ملامحه بينما كان عقله يعمل بجهد لفك شفرات تلك الرسائل معتقدًا أنها مجرد مُزحة من طرف "زيدان".
ترك سيارته وتوجه صوب منزله، ولم يضع في خاطره اعتقاد واحد أن عائلته تتآكل بنيران سليم المتوجهة، مد مفاتيحه كي يفتح الباب ولكنه فوجئ بزيدان يفتحه، يهمس بصوت يملأه الغل:

-أنت اهبل يالا أنا مش قايلك ماتجيش.

تشدق ساخرًا وهو يقول:

-ماجيش ليه؟! أنا ماعملتش حاجة غلط.

-نهارك منيل بستين نيلة على دماغك، ده كله يا جاحد وماعملتش حاجة، امال لما هتعمل هتجيب البت بعيل صغير.

انفجر الغيظ فوق ملامحه تزامنًا مع انفعاله:

-بقولك أيه أنا مش ناقصك على المسا، بت مين وعيل أيه؟!

لم تكن الإجابة من نصيب زيدان الذي كان على وشك التحدث، لكن تتطاير كلمات سليم الغاضبة جعله يتنحى جانبًا يسمح لتلك العاصفة بالهبوب في وجه يزن المصدوم مما يحدث:

-اوعى كده سيبه يبجح أنا عايزه يستمر على كده.

كالعادة اندفعت شمس تتلقف يده تحاول تهدئته بقولها الهادئ:

-اهدى يا سليم، احنا لازم نسمع منه.

مرر بصره فوق وجوه عائلته المترقبة باختلاف انفعالهم مرورًا بوالدته التي أظهرت العتاب واللوم فانفجر بغيظ:

-هو أنا هفضل كتير أسال أنا عملت أيه للتحقيق ده؟!

أبعد سليم يد زوجته المتوترة بقوة ثم اندفع كالثور الهائج باتجاه أخيه الأصغر يشير إليه يأمره بقوة:

-اتفضل اطلع معايا فوق.

هز كتفيه ببرود استفزه كثيرًا وهو يقول:

-وماله اطلع.

اندفع سليم أولاً ثم تلاه يزن تاركًا الأخرين ينظرون لأثرهما بقلق، وحينما شعر سليم بصعود زيدان خلفهما توقف ناظرًا إليه باستفهام، فرد الآخر ببراءة زائفة:

-أنا أخوكم بردو، اجي معاكم عادي.

اشتدت ملامح سليم بحدة بينما زيدان انتظر قراره بشأنه حتى التفت وقرر السماح له بالحضور معهما.

مر وقت قصير عندما دخلوا وجلسوا ثلاثتهم في صمت أثار ريبة يزن المترقب لكل رد فعل يظهر من سليم، فقرر زيدان اجتياز جسر الصمت بسؤاله:

-يزن انت تعرف واحدة اسمها ليالي؟!

-اه.

إجابة سريعة جعلت من ابتسامة سليم الساخرة تحلق فوق شفتيه وهو يقول:

-بجح.

-شكرًا، بس ممكن اعرف بجح ليه؟!

سؤاله يحمل لمحة من العتاب والضيق، فانفجر زيدان بعدم تصديق وهو يستخدم نهج أخيه الأكبر في توبيخ ذلك المتبجح:

-أنت بارد يالا، بنسألك على واحدة جاية تشتكي لاخوك الكبير إنك بتقنعها تتجوزها عُرفي ومهددها ومش سايبها في حالها، وبتقول اه اعرفها بكل بساطة وبرود.

ارتفع حاجبيه باستنكار وهو يردف:

-اهدد أيه وجواز عُرفي أيه؟! أنا والله ما فاهم أي حاجة.

ضغط سليم فوق شفتيه بغيظ يشوبه التهديد:

-ماتحاولش تستغباني عشان ماتشوفش مني وش عمرك ما شوفته.

تجاهل تهديد سليم إليه باقتضاب الهب الوضع أكثر:

-اتكلموا معايا دوغري.

حدق به سليم بهياج وهو يقول:

-الدوغري ده أنا هكسر دماغك لو فكرت اتكلم معاك بيه.

احتقنت ملامحه من ردود سليم عليه فرد معاتبًا:

-سليم أنا مش عيل صغير عشان تكلمني كده.

استنكر الأخر بصوتٍ عالٍ ظهر جليًا بكلماته:

-أيه شوفت نفسك عليا، ده أنا اللي مربيك....

بادر بالجرأة حين قاطعه بعدما نفد صبره:

-مربيني على عيني وعلى راسي، بس أنا بردو كبرت وبقيت راجل....

لم يترك له سليم فرصة في الرد وذلك عندما بتر حديثه باحتدام بان بصوته:

-واللي كبر وبقى راجل مش يحترم نفسه واهله وسمعتهم.

رمقه بنظرة يشوبها عدم التصديق وهو يسأله:

-وأنا يعني خلاص أنا اللي هجبلكم العار؟!

-بافعالك اه يا محترم، واهو شايف انت وصلتنا لأيه.

إجابة لم يكن ينتظرها يزن إطلاقًا رغم علمه بشخصية سليم الحادة وأن ردود أفعاله لن تكن هينة ولكنه لم يعد لديه طاقة لإظهار عكس ما يكنه بصدره، فتهاوى بانفعاله ليقع ببئر الخذلان حين قال:

-أنا ولا وصلتكم ولا بعملكم حاجة، وخلاص طالما أنا هبوظ سمعتكم اتبروا مني.

القى زيدان حبال الصمت الملتفة حول لسانه حين استنكر قائلاً:

-نتبرى من مين يا مجنون؟! ما تعقل كلامك.

نهض مقررًا إنهاء الحديث واكتفى بالسلبيات التي واجهها بعيني سليم:

-اعقلوا انتوا تصرفاتكوا معايا، أنتوا لازم تعرفوا أني كبرت وماينفعش تهزوقني كده قدام مراتك أنت وهو.

بان الاستهجان على وجه سليم وهو يسأل زيدان المصدوم من رد أخيه الأصغر بعدما رفع حجاب التقدير الذي طالما كان يحاول الحفاظ عليه وخاصةً مع سليم:

-هو دي عليا أنا؟!

حمحم بخشونة وهو يجيب مشيرًا بلامبالاة نحو يزن الواقف يتابع حديثهما بعدم رضا:

-لا عليا، فكك منه ده عيل أهبل.

زفر يزن بحنق ولكز زيدان بكتفه والغيظ يبتلع بقايا صبره:

-أيه اهبل دي، احترمني يا عم.

احتد الوضع أكثر حين نهض سليم يدفع يده بقوة وخشونة:

-أيه هتضربه قدامي، شكلك عايز تتظبط!

-ماتتعبش نفسك معايا، أنا سايبهلكم وماشي.

ترك زيدان مقعده وحاول الإمساك به، لكنه دفع يده بقوة وهو يردد بصوت خشن عالي يغمره الاستنكار:

-رايح في ستين داهية تاخدني، عشان ابعد عنكم العار!

ضرب زيدان كف بآخر وهو يقول:

-الواد ده اتجنن ولا أيه، ده عمره ما عمل كده.

مسح سليم فوق وجهه عدة مرات بغضبٍ، وصوت أنفاسه المهتاجة اقلقت زيدان عليه مما جعله يسأله بتوتر:

-انت كويس؟!

مرت ثواني بسيطة قبل أن يجيب باقتضاب:

-شوف رايح فين من غير ما تحسسه إنك بتراقبه.

-هيروح للبت ليالي أكيد.

رفع سليم حاجبيه بتعجب، فأكد زيدان عليه بثقة:

-اه والله، يزن مش هيسيبها إلا لما يثبتلنا إننا غلط وظلمناه.

-يا سلام تعرفه للدرجادي؟!

سأله سليم بسخرية مبطنة، فأجاب الآخر بهدوء:

-اكتر من نفسي، زي ما أنا عارف ومتأكد إنك مش مصدق البت دي وحبيت تعمل الحوار ده عشان تعلمه الأدب.

غفل سليم عن حالة الغضب المسيطرة عليه، وقال بمزاح ساخر:

-مكنتش مقتنع إنك تنفع تبقى ظابط، بس بدأت احس إنك ممكن تنفع.

-شهادتك دي عزيزة عليا جدًا، أنا على ما استنى انبهارك بيا هكون طلعت معاش!

كان يردد كلماته بضحكة ساخمة، لكن دخول شمس قطع حديثهما وخاصةً حين لاحظ زيدان تأجج الغضب بوجهها فاضطر للانسحاب تاركًا لها المساحة في معاتبة زوجها واعلانها عدم رضاها عما فعله، بالفعل اندفعت شمس تلقي لومها عليه فور اغلاق زيدان للباب الشقة خلفه:

-اللي حصل ده ميرضيش ربنا.

في العادي كان سيتركها ويدخل غرفته معلنًا رفضه لمناقشتها ولكنه كان بحاجة أكبر لإخراج تلك الشحنات السلبية  المحتلة صدره في صورة نقاش:

-وهو يرضي ربنا اللي عمله وبيعمله؟!

ضمت شفتيها بضيق وعدم رضا:

-يا سليم اسمع منه واساله ماتصدرش حكمك وتخليه يمشي زعلان ويلم هدومه.

لاحت ابتسامة ساخرة فوق شفتيه وهو يواجهها بتهكم طال صوته الخشن:

-اسمع منه هو بيقنعها بالجواز العرفي ليه ولا اسمع منه هو كان بيهددها ليه؟!

وقبل أن تتلفظ بحرف كان يردف بسخرية أكبر:

-تصدقي يمكن فعلاً يكون له ظروف خليته يعمل كده.

-يعمل أيه؟! انت مصدق بذمتك إن يزن يعمل كده، هو اه له علاقات بس كلها سطحية ماعتقدش أنه ممكن يتعدى حدوده.

لمعت عيناه بوميض غامض وهو يقول باستهجان:

-في تبرير كمان؟! مستني اسمع، ما انتي عاجبك اللي بيعمله الباشا.

-لا مش عاجبني، بس يعني احنا ممكن نعتبر اللي فيه حالة خاصة وعامله على الأساس ده.

أردفت بهدوء ينافي القلق المكتسح على ساحة مشاعرها.

-حالة خاصة! 

كررها خلفها بضحكة قاتمة قبل أن يهز رأسه ساخطًا:

-الحالة الخاصة دي أنا هخرجه منها بعون الله، أنا داخل أتنيل أنام، لو عايزة تكملي دفاع عنه كمليه مع نفسك.

تركها ودخل غرفته بخطوات واسعة، محاولاً ضبط نفسه وإنقاذ روحه من تلك الهالة السوداء المحيطة به، متجاهلاً شعوره بالقلق نحو أخيه الأصغر ولكنه كان بحاجة للتعامل معه بتلك الصورة القاسية وخاصةً بعد زيارة تلك الفتاة له الليلة قبل أن يغلق المحل، فلاحت زيارتها مجددًا على عقله يتذكر بها بكائها وانهيارها له.
                                **
قبل عدة ساعات...
أمر سليم العاملين بغلق المحل، وبدأ هو في إدخال الملفات الهامة في الخزانة الحديدية، ولكن دخول فتاة في العشرينات من عمرها، تقبض فوق حقيبتها بقوة بينما كانت دموعها تتهاوى فوق وجهها بغزارة وصوت نحيبها جذب أنظار العاملين.

-في أيه، مين....

وقبل أن يُكمل سليم سؤاله، سارعت هي بالإجابة وصوتها ينغمس في نهر الانهيار:

-أنا في عرضك يا سليم باشا.

أخفى شعوره بالتوتر مشيرًا إليها بالجلوس ولم يعرف لِمَ شعر أن الأمر يخص يزن، فأمر العاملين بالخروج من المحل، حول انتباهه بالكامل إليها قائلاً:

-اقدر اساعدك بأيه؟!

-بإنك تنقذني من يزن أخوك.

إجابة أكدت ظنونه، فتمسك بقناع الهدوء وهو يسألها بخشونة:

-ماله يزن وعمل فيكي أيه؟!

مسحت دموعها واستجمعت شجاعتها وهي تخرج هاتفها تضعه بين قبضتها، مستغلة انتباهه ولمعة عيناه بالقلق:

-يزن بيحاول يبتزني بالصور اللي كنت غلطت في مرة وبعتهاله، وعايزني أوافق إني...

صمتت تبكي مرة أخرى، وهي تردف بصوت مبحوح من شدة بكائها الحار:

-أني....أنا عارفة إني غلطت عشان بعتله صوري، بس أنا وثقت فيه، كنت بحسبه بيحبني، بس طلع...

صمتت تستطلع ردود افعاله على حديثها،  فوجدته يرمقها بنظرة فارغة، وصوته يدخل في كنف الغموض:

-عايز منك إيه، قولي على طول؟!

فشلت في تحديد مدى تعاطفه معها، فألقت ما في جعبتها مباشرةً ومن بعدها عادت لنحيبها من جديد:

-عايز يتجوزني عُرفي.

-أيه اللي يثبت كده؟! 

فتحت هاتفها سريعًا وكأنها كانت على علم بسؤاله مما أثار الشك لدى سليم ولكنه ظل على نفس قناع الهدوء رغم الغليان الذي كان يشعر به، ومرر بصره بين بعض الرسائل المُرسلة من قبل أخيه على برنامج " الواتساب" تحمل تهديدات عديدة لها وبعض من الألفاظ البذيئة.
هز رأسه بحركة تلقائية ورده كان طبيعي لعلمه بمدى شخصية أخيه وتربيته:

-استحالة، يزن مايعملش كده أبدًا.

لاحظ انقباض أصابعها فوق حقيبتها الموضوعة فوق ساقيها، وكأنها تستدعي بعض من الهدوء بعدما أصابها توتر للحظات.

-هو أيه اللي مايعملش كده، يزن علاقاته كتير بالبنات.

استنكار ناري طاف فوق ملامحه وهو يقول:

-ما أنا عارف! وعارف بردو حدوده، استحالة اخويا يعمل كده.

فقدت النهج التي كانت تسير وفقه، فقالت بغضب عارم:

-هو كان شيخ السجادة وأنا ماعرفش، طالما بقى الذوق مانفعش معاكم، عليا وعلى أعدائي وربي لأفضحكم في البلد كلها.

ظل على نفس وتيرة الهدوء خاصته، بينما هي انقشع عنها غطاء الضعف والانهيار وباتت أكثر توهج وغضب وهي تغادر المكان تُلقي أخر تهديدتها:

-واقسم بالله ما هسيبكم وهفضحكم.

وقبل أن تغادر القت نظرة عليه، فوجدته على نفس وضعية جلوسه المغرورة، والعنجهية تملئ نظراته حتى أنه فاجئها حين أشار إليها بالوداع وكأن ما فعلته وقالته لم يأثر به أو يحركه للتوسل إليها كما كانت تتوقع.
                                  **
عاد من شروده القصير وهو يزفر بقوة، ويده تلقائيًا كانت تمسح فوق خصلات شعره تعيده للخلف بعد أن كان مبعثرًا فوق جبهته، لا زال يقاوم شعوره بالقلق على يزن رغم أنه قد قرر السير على نفس المنوال كي ينقذ أخيه من وحل علاقاته مع الفتيات.
                             ****
في إحدى المناطق الراقية...وفي إحدى الابراج السكانية الشاهقة، وتحديدًا في شقة يبدو على قاطنيها الثراء..اندفعت ليالي تجلس فوق الكرسي المقابل للأريكة التي تجلس فوق والدتها سيدة المجتمع "نسرين" هانم:

-ابنك جايب اللوم عليا، وأنا نفذت كل اللي قاله بالحرف.

القى أخيها "مصطفى" إحدى التحف فوق الأرضية بعصبية:

-أنا قولتلك يا غبية تهددي اخوه؟! تهددي سليم الشعراوي! انتي عبيطة يا بت.

زار السخط معالم وجهها وهي تواجهه:

-مش انت اللي قولت في الخطة إن اهددهم؟

-يا غبية مكنش وقته خالص، كنتي اكسبي تعاطفه الاول معانا.

بان الاستياء بعيني والدتها وهي تحاول إنهاء حالة الجدال القائمة بينهما:

-خلاص بطلوا دوشة، أنا دماغي مصدعة وصدعت أكتر بعد ما كنت حاطة أمل على الحوار ده وخلاص طلع فشنك.

رمقتها "ليالي" بضيق شديد، فوالدتها لم تشعر بالقلق ولو لذرة واحدة عليها، كل ما يشغلها هو المبلغ المالي التي كانت ستجنيه من عائلة الشعراوي، انتبهت ليالي على صوت مصطفى وهو يتحدث مع نفسه بنبرة خشنة قاسية:

-انتي واحدة غبية يا ليالي، مجرد غبية بوظتي كل اللي خططتله، وراحت الفلوس...وأنا عايز فلوس دي اتصرفي ماليش فيه.

لم يشعر بنفسه سوى وهو يحك أنفه بقوه، وعيناه الباهتة تتوهج بنيران الغضب والحقد نحو أخته التي أفسدت خطته في كسب المال الكثير كي يغطي احتياجهم تلك الفترة بعدما عانوا من القحط واضطروا لبيع بعض من قطع الاثاث بالمنزل، ارتعشت شفتاه الشاحبة وأصبحت بيضاء رغم أن لسانه انفلت بوابل من الشتائم عندما شعر بحاجته لجرعة كبيرة  يسد بها جوعه من الادمان بعدما أصبح على شفا الانهيار!

-كلكم مش همكوا إلا نفسكم، لكن أنا محدش فكر فيا وفي اللي هيحصلي.

تجاهلت والدتها قولها وسألتها بنبرة تتعلق بأرجوحة الأمل:

-يعني انتي ماحستيش من ناحيته بأي تعاطف ناحيتك خالص؟

ضحكت ليالي ضحكة باهتة وهي تتذكر هيئة سليم:

-ده كان قاعد وكأني بقراله نشرة اخبار، كمية برود ماشوفتهاش، عشان كده استفزني واتعصبت وهددته.

-غبية، لازم نشوف حل تاني.

تفوه بها مصطفى وهو يشدد فوق خصلات شعره بقوة، بينما هز ساقيه بتوتر محاولاً إيجاد حلول أخرى ولكن ليالي انفجرت غاضبة:

-بقولكم أيه فككم مني خالص، أنا هاختفي عن الانظار ومن بكرة هسافر السخنة اختفي عند حد من صحابي، الناس دي مش هتسيبني.

اندفع مصطفى نحوها يقبض فوق خصلات شعرها القصيرة بغل:

-بت انتي أنا مش عايز قرف، هتكملي اللي قولتلك عليه، العيلة دي على قلبها فلوس زي الرز ودي فرصتنا الوحيدة.

-فرصتك الوحيدة عشان تاخد حقي تشتري بيه القرف اللي بتشربه، الكيميا لحست دماغك.

هتفت بغل مماثل وهو تواجهه رغم شعورها بالخوف منه، فأنت بألم حين قبض أكثر فوق خصلات شعرها وأعادها للخلف بقوة:

-دماغي دي يا حيوانة هي اللي بتخططلك مع الشباب اللي بتكلميهم عشان تكسبي من وراهم فلوس تعرف تعيشك.

-تعيشك انت يا فاشل يا مدمن.

طفح الكيل بها، فردت بعنفوان عليه متجاهلة خوفها الذي تضاعف حين انهال عليها بالضرب بقسوة متجاهلاً صراخها ومحاولاتها للإفلات من قبضته، إلا أن والدتها تدخلت بالوقت المناسب رغم برودها:

-اهدى يا مصطفى العصبية مش حل، احنا لازم نفكر صح، وان شاء الله ليالي هتعقل وتكمل اللي هتقولها عليه.

ثم ربتت فوق رأس ليالي الباكية تتلقفها بين أحضانها بحنو زائف:

-مش كده يا ليالي هتسمعي الكلام.

ابعدتها ليالي بقسوة وهي تنظر لهما بكره وسخط:

-ربنا يخلصني منكم، داهية تقرفكم.

أنهت حديثها ثم انسحبت نحو غرفتها، تختلي بنفسها مقررة تجهيز حقيبتها للفرار غدًا والمكوث مع إحدى صديقاتها متمنية أن يمر فعلتها مرور الكرام على يزن الشعراوي.

-مكنش المفروض اسمع كلام المدمن ده، طمعي هيوديني في داهية.
                                ****
خلعت يسر حجابها بإرهاق وهي تجلس فوق فراشها، تريح جسدها بعد يوم طويل قضته مع نوح وابنتهما "لينا" منذ الصباح حتى عودتهما مساءًا وهو يحمل لينا غافية بتعب بعدما أفرغت طاقتها الطفولية في اللعب.
مرت دقائق ولم يظهر نوح بالغرفة، قررت البحث عنه عندما طال غيابه، لم تجده بالصالة، فاستمعت لصوته داخل المطبخ، يبدو أنه يتحدث مع أحد بالهاتف، وقفت على عتبة المطبخ صامتة تستمع لضحكه مع إحدى مساعداته بالمركز الطبي الخاص به:

-يا قمر خلاص، مكنش يوم قفلت فيه التليفون، مش يمكن برتاح من زنكم.

صمت يستمع لحديثها وابتسامته لا زالت تتعلق بشفتيه رغم علمه بوجود يسر ورؤيته لملامحها الغاضبة فقال:
 
-لا خلاص صدقيني مش هغيب فجأة كده وهبلغك قبلها، ظبطي بس انتي المواعيد بكرة.

استمر بالحديث معها وكأنه لم يفعل شيئًا إطلاقًا، مرت عدة دقائق أخرى ثم أغلق الاتصال ووضع الهاتف بجيب سرواله وعاد لِمَ يفعله بوضع قطع الجبن بالخبز:

-أيه يا حبيبتي واقفة ساكتة ليه؟

نظرت في ساعة يدها والاستنكار يغلف صوتها:

-بتفرج على جوزي وهو بيكلم المساعدة بتاعته الساعة ٢ بليل.

توسعت ابتسامته وهو يقول بنبرة هادئة:

-شغلي يا يسر، انتي ناسية إن أنا دكتور.

-يا خبر ازاي انسى فعلاً، إنك دكتور والحالات عندك حرجة جدًا لدرجة إن السكرتيرة بتتصل تبلغك.

سخريتها لم تعجبه، فاستمر على نهج بروده:

-طيب ما هو فعلاً ده اللي حصل؟!

توسعت عيناها بتهكم والاحباط يحلق بصوتها:

-لا ماتقوليش، أيه واحدة نسيت ولخبطت وجبة الغدا مكان العشا، ولا واحدة نسيت وشربت بيبسي، مش ده شغلك بردو! ولا يمكن انت وحشتها وغيابك أثر فيها.

رغم الاستهزاء الواضح بنبرتها واحمرار وجهها بانفعال ضاري إلا أنه عندما مر من جانبها توقف وهمس بنبرة أشعلت فتيل غيظها:

-أنا غيابي يأثر في أي حد.

ثم تركها وقضم من الخبز باستمتاع تاركًا إياها تستشيط بغضب والدموع تتجمع بمقلتيها وهي تهمس باستياء:

-هو ليه لازم يبوظلي كل لحظاتي الحلوة.

انتفضت بفزع حين عاد وهمس بجانب أذنها بمزاح:

-والله ما حد مدمرلنا لحظاتنا الحلوة غيرك يا نكدية.

التفتت إليه تسأله بعدم تصديق:

-انت ازاي قادر تقف تهزر وتضحك وأنا زعلانة؟!

أشار نحو نفسه ببراءة مخادعة، مجيبًا بمراوغة:

-أنا زعلتك ولا انتي زعلتي لوحدك.

اشتبكت نظراتهما باختلاف مشاعرهما في تلك اللحظة وواجهته بنفس نبرة القهر التي بات يكرهها بصوتها:

-نوح هو انت ليه مابتحبنيش؟!

ابتسم ساخرًا وهو يجيب بلمحة من الضيق:

-هو في حد جايبني لورا غير حبك ده!

أشارت إليه بعدم رضا وهي تسأله مجددًا:

-انت كده بتحبني يعني؟!

حاول دفن بوادر غضبه ورد بهدوء زائف، متمنيًا أن تشعر بصدق مشاعره ولو لمرة واحدة: 

-انتي عارفة كويس أنا لو مابحبكيش مش هسيبك لحظة على ذمتي ولا هستحمل مرمطتك فيا.

هزت رأسها بعدم تصديق وهي تواجهه بحرقة:

-انت ازاي قادر كده تقلب الطرابيزة عليا؟ وفي الأخر بطلع أنا اللي غلطانة.

انفلت لجام غضبه وصاح مستنكرًا:

-يعني اعمل ايه اكتر من اللي بعمله، قفلت تليفوني وسيبت العيادة والحالات والشغل اللي في المعمل، وخرجتكم وقضيت معاكم...

قطعت حديثه بانفعال لم تعد قادرة على تحجيمه:

-انت بتعمل كده وكأنها جمايل، مع إنها المفروض من واجباتك.

عادت نبرته تتأرجح بأرجوحة الهدوء محاولاً امتصاص غضبها:

-مختلفناش يا يسر يا حبيبتي، واجباتي صح وانتي من واجباتك بردو تبطلي تتخانقي معايا، وتخليني مبسوط إني قاعد معاكي.

زُج عقلها في غيابة الجب ولم تعد تدرك المقصد من حديثه سوى أن الخطأ يقع فوق عاتقها، ففشلت التمسك بعلاقتهما وانفجرت به حانقة:

-انت اللي بوظت اسعد يوم في حياتي.

-أنا مني لله، عشان ترتاحي، دي عيشة تقصف العمر اقسم بالله.

القى الخبز من يده فوق طاولة الطعام الصغيرة وجذب مفاتيحه وهاتفه وقرر مغادرة الشقة بعدما فشلت محاولاته في تحملها وكالعادة لم يرى نفسه خاطئًا بل بالعكس هي دومًا من تهدد مأمنهما.
                            *****
وصل "نوح" أسفل البناية التي يسكن بها عائلته، فلم تكن بعيدة كثيرًا عن الحي الذي يسكن به.
أخرج أنفاسه ببطئ محاولاً ضبط أنفاسه وقرر الدخول لشقة عائلته متظاهرًا بحاجته للاطمئنان عليهم بعدما أغلق هاتفه يوم كامل، دخل بهدوء كي لا يوقظ أفراد عائلته، حيث أعطته عقارب الساعة إشارة أن مجيئه في هذا الوقت غير مناسب بالمرة، وكما توقع وجد والدته تتحدث بالهاتف مع اخته المتزوجة، وعندما رأته رحبت به على الفور وأغلقت الاتصال:

-نوح، ازيك يا حبيبي؟

حمحم بخشونة وابتسم ابتسامة بسيطة وهو يجيب:

-الحمد لله يا ست الكل اخبارك أيه؟

جلس بجانبها وهو يربت فوق ساقها بيد وباليد الأخرى أمسك كفها وقبل باطنه، فسمعها تسأله بنبرة غلب عليها الفضول:

-أيه جابك بليل كده يا حبيبي؟

هز كتفيه وهو يعتدل بجلسته أكثر بينما أخفى بصوته نبرة الضيق والإحباط:

-عادي قولت أجي اطمن عليكم.

توسعت ابتسامتها وهي تقول بحماس ينافي احتياجه للاحتواء:

-جيت في وقتك، اختك لميا كانت محتاجة منك مبلغ بسيط كده تحجز به هي وعيالها وتنزلنا اجازة.

ابتسامة مقتضبة بسيطة اكتفى بها وهو يردف:

-طبعًا وماله هحولها الصبح اللي هي عايزاه.

ضغطت فوق يده واستمرت بمطالبها التي لن تنتهي طالما هو موجود معها:

-وبنت اخوك ياسر هتولد اخر الاسبوع ويعني المصاريف كتير...

قطع حديثها بتفهم يستكمل عنها:

-حاضر خليها تعتبر الولادة ومصاريف المولود على حسابي ماتشلش هم.

-اخر حاجة بقى ومش هطلب منك حاجة، لا حاجتين مش حاجة معلش، اختك الصغيرة عيد ميلادها كمان اسبوعين ابقى هاتلها حاجة دهب تفرحها، واخوك فايز هيدخل في مشروع كان بيكلمني عنه ابقى اعرض عليه تساعده بأي حاجة اهو تبينله إنك فاكره وحاسس بيه.

ومَن يشعر به؟، ومَن يلقي عليه همومه التي أصبحت كالثقل فوق عاتقيه مهما حاول تجاهلها؟، الجميع يراه المصباح السحري لتحقيق آمالهم وأولهم والدته التي لم يخطر ببالها أن مجيئه في هذا الوقت ليس سوى مجرد هروب من سجن زواجه المظلم، ورغم أنه كان يحاول إظهار عكس ما يكنه بصدره إلا أنه كان يتمنى مجرد ضغط بسيط عليه من قبل والدته وينفجر مخرجًا جميع صراعاته النفسية، وكالعادة غادر منزل والدته كالمحروم فاقدًا سُبل الحنان والاحتواء كما أضاعها في علاقته مع زوجته!
                               ****
الساعة الخامسة فجرًا.
طرق "نوح" باب المعرض الرئيسي عدة طرقات قبل أن يفتح "يزن" مقتضب الجبين مشيرًا إليه بالدخول، فدخل الآخر وهو يضحك بصوت عالي:

-مصدقتش نفسي طردوك بجد؟

القى يزن نحوه صندوق صغير بغيظ:

-محدش طردني أنا اللي سيبتلهم البيت، وبعدين الحال من بعضه ما أنت كمان مطرود.

القى "نوح" بجسده فوق أريكة كبيرة وهو يردف بحنق:

-بس عشان جسمي مهدود ونفسي انام ومش لاقي حتة أنام فيها، أنا لازم اشتريلي شقة عشان كل ما اتخانق مع يسر اروح فيها.

رمقه يزن بنظرة فارغة وصوته يختنق رغم مزاحه الساخر:

-لا وانت الصادق عشان تحقق حلمك وتتجوز الجوازة التانية.

لانت ملامحه بابتسامة خبيثة وهو يجاهد الضحك على هيئة يزن الغاضبة:

-مش أحسن لما اقنع واحدة واتجوزها عُرفي وتيجي تستنجد بأخويا الكبير.

مسح يزن فوق خصلات شعره عدة مرات بغضب في حركة تلقائية تتلبسه حين يكون غاضبًا أو متوترًا:

-بنت ال****، أنا تعمل فيا كده.

-أخرة قلبك الرهيف مع البنات، شوفت استغلوك ازاي؟

واصل سخريته ولم يدرك أن يزن كان يحارب أفكاره الشيطانية لقتل تلك البربرية بعدما تجرأت عليه:

-اللي مضايقني إن اصلاً ماكملتش معاها كتير، الجرأة دي جاتلها منين، زيدان باعتلي رسايل وحكالي اللي عملته مع سليم، دي المتخلفة مفبركة محادثات بيني وبينها، وبنت العبيطة ماتعرفش إن ده مش أسلوبي ولا طريقتي.

فرك نوح وجهه بقوة، يجاهد جنود النوم التي بدأت تحتل مقلتيه:

-طيب وانت زعلان ومقموص ليه من سليم اخوك، ما هو عنده حق بردو.

-مش كل مرة هتحمل طريقته معايا وتهزيقه فيا، أنا كبرت ولازم يقتنع بكده يا نوح، ومش كل مرة مضطر اظهر عكس اللي جوايا.

احتدت ملامحه وهو ينهل من بئر مشاعره الدفينة يظهر ولو جزء بسيط مما يعانيه دومًا في علاقته الأخوية مع سليم.

-معلش يعني بس الموضوع مش سهل، وسليم بردو له حق عليك يا ابني ده هو اللي مربيك، هو ابوك الله يرحمه كان يعرف عنك حاجة لازم تعذره، وبعدين انت سايب المصيبة اللي انت فيها وماسك في سليم وطريقته معاك، ما تشوف البت دي وعملت ليه كده معاك طالما أنت ماتكلمتش معاها كتير ونفضتلها بسرعة.

لأول مرة تحولت ملامحه المشاكسة لأخرى قاتمة يملأها الغموض والانتقام:

-وأنا هسيبها في حالها، أنا مستني حد هيجبلي عنها كل حاجة وليه عملت كده.

رغم أن الفضول هاجم عقله المستسلم للنوم إلا أنه هتف قبل أن يغمض عينيه:

-أكيد بنت صاحبتها، عارفك وحافظك.

-آآ...فعلاً...

ابتلع باقي حديثه وهو ينظر لصديقه الغارق في سُباته بغيظ:

-هو أنا جايبك يا بارد عشان تنام، منك لله، يعني يوم ما احتاج افضفض مع حد مالقيش.
                                ****
هبط "زيدان" درجات السلم وهو يقوم بتعديل ياقة قميصه، مستعدًا للذهاب لعمله، ولكنه فوجئ بمليكة تقف على أعتاب شقة والدته تنظر له باستغراب:

-زيدان رايح فين؟

اقترب منها مقبلاً وجنتيها بحب وبصوت هادئ لطيف أخبرها:

-هكون رايح فين، شغلي يا قلبي.

رمشت عدة مرات بتعجب متسائلة بقلق:

-شغلك؟! طيب ويزن ماطمنتش عليه؟ ماما هتموت من القلق.

تنهد بعمق قبل أن يجيب ببساطة:

-لا طمنيها هو في الأجانص بتاعه، ويا ريت يعني ماتطلعيش تباتي فوق خليكي مع ماما النهاردة.

ربتت فوق يده وابتسامتها الباهتة ترتسم فوق شفتيها:

-لا ماتقلقش أنا كنت ناوية اعمل كده لو كنت هتروح شغلك.

كان ينوي سرقة قبلة بسيطة منها تعطيه جرعة طاقة يستعيد بها نشاطه المتبخر بسبب ما حدث مع ذلك المشاغب ولكنه انتفض مصدومًا من وجود والدته خلف مليكة تتحدث بلوم شديد:

-رايق انت وسايب اخوك يلم هدومه وساب البيت.

زم شفتيه بضيق قبل أن يتسائل باستنكار:

-هو أنا اللي طردته مش هو اللي دمه فار وقرر يسيب البيت.

-كنتوا روحوا وراه أنت واخوك الكبير عمر المشاكل ما كانت تتحل بالطريقة دي.

القت عتابها مجددًا في وجهه وحده، مما جعله يعلن عن استفزازه:

-وبتقوليلي أنا ليه، اتصلي على سليم وأنا اهو مستنيه لو نزل هروح معاه.

رمقته بنظرة غير راضية حانقة معلنة عن صمتها وعدم رضاها مكتفية بدفن اعتراضها عما حدث مع يزن كي لا تقع في دائرة الفراق عن سليم مجددًا، بعدما جاهدت في تحسين علاقتهما تلك الفترة السابقة، عازمة على التحدث مع شمس، فهي مفتاح الوصول لعقل سليم ولم تعلم أنهما يتشاحنان بشقتهما في تلك اللحظة.
                               ****
جذبت شمس الغطاء نحوها أكثر بحنق طفولي متلفظة ببعض الكلمات غير المفهومة بالنسبة له، فصاح بغلظة:

-بتبرطمي تقولي أيه؟

شهقت بصدمة وهي تعتدل بجلستها أكثر واضعه يدها فوق فمها معلنة عن صدمتها، عقد ما بين حاجبيه وحاول التفكير بما قاله فمن الواضح أنه تلفظ بشيء مهين ولكنه لم يتوصل بالمرة للأي شيء، سألها باستنكار طفيف:

-في أيه؟ أنا قولت حاجة غلط؟

أشارت نحو نفسها بعدم تصديق تسأله بحزن:

-بتبرطمي دي ليا أنا يا سليم؟

امتعض وجهه بعدم فهم وهو يقول:

-هي كلمة عيب ولا أيه؟

سالت دمعة حزينة فوق خدها، وصوتها الحزين يفاجئه بقولها:

-أنا مكنتش اتوقع أبدًا إنك تقولي كده، لدرجة دي مافرقش معاك مشاعري.

-مشاعرك؟

ردد خلفها باستهجان ثم استطرد محاولاً مراضتها رغم عدم فهمه سبب حزنها:

-حقك عليا، بس أنا يعني....

رفع حاجبيه حين وجدها تنهمر ببكاء حار تضع وجهها بين كفيها، اعتدل بجلسته يجذبها لأحضانه بقوة، يربت فوق ظهرها وخصلات شعرها الكثيفة، يغمرها بحنانه المفرط، مدللاً إياها وقد تحول كُليًا من شخصيته الحادة للأخرى تسعى لكسب رضاها:

-في أيه بس، أنا ماقصدش يا حبيبتي أي حاجة تهينك أو تزعلك.

هتفت من وسط بكائها وهي تضع ذراعيها حول خصره وكأنها تنتظر تلك اللحظة:

-أنت دايمًا كده مابتحبش ادخل بين اخواتك، مع أني بحبكم ومابستحملش عليكم حاجة، قلبت عليا عشان بقول رأيي مع إن المفروض مرايتك والمفروض اعرفك إنك غلطت لما اتصرفت كده مع يزن، وغلطت لما أحرجته قدامنا، بس حقك عليا أنا بعد كده مش هتكلم طالما مابتتقلبش مني أي حاجة، ومابتحبنيش، خلاص أنا عرفت مدى صلاحياتي عندك.

القت ما في جبعتها بمكر ولم يدرك سليم أنها حيلة أنثوية منها لعرض اخطائه الليلة، لقد نجحت في سجن ابتسامتها بين قبضان الحزن والعتاب، وصدقها هو فراح يرضيها بلطف:

-لا طبعًا انتي الوحيدة اللي في حياتي عندك صلاحيات لكل حاجة يا شمس، بس يعني أنا يمكن كنت مخنوق شوية من اللي حصل، حقك عليا.

قبلت خده بحنو ودفنت جسدها بين ذراعيه الكبيرين:

-خلاص يا حبيبي، طالما فهمت موقفي، وسمعتني أنا مش زعلانة منك خالص.

مد يده يمسح جانب وجهها برقة وعيناه تنير بوميض غامض حين بدأ عقله باستكشاف خطتها الخبيثة للإيقاع به فرد بهدوء اقلقها مشددًا فوق جسدها:

-أيه مش عايزة تقوليلي اتصل على يزن واطمن عليه؟ ولا كفاية اللي قولتيه ووصلتيه ليا.

سمحت للابتسامتها بالسراح بينما المشاكسة تداعب نبرتها الانثوية:

-لا كفاية كده، بس أنا عارفة إن قلبك طيب وكبير ومش هتسيب اخوك الصغير يسيب البيت وبكرة هتروحله تعرفه غلطه بينك وبينه وتصالحه.

-اصالحه؟!

كررها باستهجان، فردت بنعومة ماكرة:

-اه يا ابو قمر.

ضحك ضحكة صغيرة وهو يداعب أرنبة أنفها الحمراء:

-اهو بعد ابو قمر دي أنا هروح أراضيه دلوقتي.

عادت تحتضنه من جديد تغرق نفسها في بحر حنانه ودفئه:

-ربنا يخليك لينا كلنا ومانتحرمش من وجودك.

رغم بساطة كلماتها إلا أنها كانت كالقطرة الباردة أثلجت بها صدره المشحون بنيران القلق والغضب بسبب تصرفات أخيه الطائشة، ستظل هي بوابته للهدوء وراحة البال بتصرفاتها الحنونة ودفئ خصالها اللطيفة.
                             *****
صباحًا..

اوقف "يزن" سيارته أمام البناية التي تقطن بها "ليالي" ثم غادرها وهو يتحدث بالهاتف مع إحدى صديقاته:

-خلاص يا بيبي، أنا وصلت عند بيتها، ماتحرمش منك ومن معلوماتك.

-أنا عنيا ليك يا زيزو، اللي يزعلك يزعلنا يا قلبي، ابقى طمني عليك بعد ما تخلص.
صح
ضحك ضحكة سوداء وهو يقول بغل:

-ابقي اطمني عليها هي.

-لا هي تتحرق ماتفرقش، دول البنات اتجننوا من اللي هببتوا بس تستاهل بقى.

-حبايب قلبي أنتي والبنات سلميلي عليهم.

اغلق الاتصال معها حين وصل أمام باب شقتها ثم طرق الباب عدة طرقات وما هي إلا ثواني حتى فتحت ليالي وحقيبة سفر كبيرة بجانبها، فعبرت الصدمة فوق وجهها غير مصدقة سرعة مجيئه والوصول إليها:

أيه؟
النور جه. 
انتهت " ليالي" من وضع أشيائها في حقيبتها الكبيرة، ثم قامت بإغلاقها جيدًا قبل أن ترتدي سترتها العلوية، والعزم داخلها يشتد للفرار من براثن يزن الشعراوي قبل أن يصل إليها، فردد عقلها ساخرًا أن حماس البدايات المليء بالانتصارات قد اختفى سريعًا حين أطرقت النهاية مطرقتها الحادة لتسحق ما كانت تتمناه.

نظرت من نافذتها الكبيرة للسماء بلونها الصافي معلنة عن صباح مشرق إلا أن مزاجها يشوبه غيوم الخوف والقلق مما هو قادم، سرق رنين جرس الباب المتواصل انتباهها، فجرت حقيبتها الكبيرة خلفها بهدوء كي لا توقظ والدتها وأخيها، فتحت الباب بوجه عكر ولكنها فوجئت بيزن أمامها وابتسامة ساخرة سوداء تتعلق بفمه، تلفظت دون وعي وكأنها غير مصدقة ما تراه بعينيها:

-أيه؟

وضع يداه فوق الباب يدفعه قليلاً، يغلق عليها أي محاولة للفرار من أمامه وهو يردف بتهكم لاذع:

-النور جيه.

ارتجف صوتها وهي تتراجع خطوة وكأن وعيها سقط في بئر الخوف:

-يـ....يزن آآآننت.. 

-اهدي يا بيبي أيه اتخضيتي ليه كده؟

صوته الهادئ بلمحته الساخرة ضاعفت من توجسها، فتوقف عقلها عن التفكير:

-أنت أكيد فاهم غلط...

بتر حديثها وهو يهز رأسه بنفي بينما ملامحه اشتدت بقساوة غير معهودة منه:

-لا أنا مابفهمش غلط، طول عمري بفهم صح ونظرتي صح، من أول ما شوفتك يا ليالي وأنا قولت اكيد فيكي حاجة غلط، بس طلعتي اوقح من ما كنت اتخيل.

نجح في استفزازها فصاحت بتبجح:

-أنا ماسمحش تكلمني كده.

اخشوشنت نبرته بينما كانت عيناه تزجها  بسجون الغضب والقسوة:

-تسمحيلي! هو انتي ليكي عين تسمحي ولا ماتسمحيش، ده انتي عديتي ليفل البجاحة ووصلتي للوقاحة.

تراجعت عن خطاها وحاولت امتصاص غضبه، بإظهار أنوثتها ورقتها معتقدة أنها بذلك ستبدد غضبه فهتفت برجاء يغمره الدلال:

-طيب عشان خاطري وطي صوتك وتعال معايا أي كافية نتكلم بالهدوء.

رفع أحد حاجبيه متعجبًا والتهديد المنبعث من مقلتيه يضرب ظنونها في مقتل:

-طيب ما أنا هادي اهو، أيه شوفتيني رزعتك قلمين طيروكي من قدامي.

انهارت أساليبها الانثوية سريعًا قبل أن تصل لمرادها وخاصةً حين اندفعت بشراسة مصبوغة بالتحذير:

-ماتقدرش تلمسني، أنا اقدر اطلبلك الشرطة...

ترهيبها لم يجدِ بنفع بل انقلب السحر على الساحر وأمسك العصاة يجلدها بقساوة جعلتها تلتزم الصمت لفترة:

-الشرطة دي أنا لو عايز اجيبها فهجيبها لواحدة مزورة بترمي بلاها على الناس، أو مثلاً لأخوكي المدمن الصايع اللي خلاكي تعملي ده كله.

مط شفتيه بملل حين غرقت في بحور الصمت، فأشعل استفزازها أكثر حين صرح باستهزاء:

-أيه اتصدمتي، البنات صحابك طلعوا بيحبوكي اوي وحكولي كل حاجة.

انتشلت أخيرًا من صمتها وأردفت بنفاذ صبر:

-ولما هما  قالولك كل حاجة؟ جاي تعمل أيه؟
-اخد حقي؟

رد ببساطة أدهشتها، فتصنعت عدم الفهم:

-حقك؟! أيه هتضربني؟!

-لا أنا مابضربش بنات مابخدش حقي من بنت وخصوصا لو واحدة زيك ماتسواش حاجة.

قساوة رده جعلها تردف بغرور بعدما تعمد تحقيرها:

-غريبة مع إن ده مكنش كلامك لما شوفتني.

أعجبه لمحه الغرور الزائف المحتلة حدقتيها، فشعر بحاجته دهس كرامتها أكثر، اقترب خطوة أخرى واستكمل حديثه بهمس لاذع:

-وكملت معاكي ولا خلعت مش بقولك نظرتي فيك كانت في محلها، بيئة ماتناسبش بيئتي، كنت شايف فيكي وقحة صغيرة، بس الصراحة فاجئتيني وطلعتي...

صمت للحظة يمنع وصفها غير اللائق الذي انبثق بعقله فجأة، فقال بمكر مقصود:

-الوصف اللي هقوله ممكن يزعلك أكتر ما أنتي زعلانة.

لن تتحمل تحقيره لها أكثر من ذلك، فأعلنت عن استسلامها سريعًا بقولها الذي خرج بصعوبة منها:

-طيب خلاص أنا بتأسفلك وصدقني أنا مش هاجي جنبك تاني.

تأرجحت ملامحه من فوق جبل الهدوء الوهمي، ليسقط في بحر هائج بنبرة صوته الغاضبة:

-لاانتي ماتقدريش تيجي جنبي، هو انتي فاكرة أنا جاي اترجاكي انتي عبيطة ولا نسيتي نفسك، أنا يزن الشعراوي فوقي.

صاح "مصطفى" من خلفها بخشونة مخلوطة باهتزاز بسيط نتيجة لِمَ يتعاطاه:

-امال جاي ليه؟ مشرفنا بوجودك ليه لغاية البيت!

ضحك ضحكات ساخرة وهو يفتح ذراعيه مرحبًا بوجود مصطفى وكلماته المتهكمة تندفع من فوهة فمه كالقنابل:

-اهلاً بخبيتها، اهلاً بالمدمن، اللي بيبع اخته عشان مزاجه، بس الكلب ده محسبهاش صح، مقالكيش أن عيلة الشعراوي مابيدخلش عليها الحركات الخايبة دي.

كانت انفعالاته شحيحة للغاية نتيجة حاجته الشديدة لجرعته، فاضطر للاستخدام نفس أسلوب يزن الساخر: 

-ولما هي مدخلتش عليك عايز أيه؟!

ابعد يزن "ليالي" عن طريقه بلمسه يتخللها الاستحقار، قبل أن يندفع نحو أخيها بهجوم ضاري لم يتوقعه مصطفى قط:

-اخد حقي منك، اختك ماتلمزنيش دي ورقة محروقة، أما أنت لازم امسح اسمي من ذاكرتك خالص.

كانت معركة شبه محسومة لطرف يزن، فمالت كفة الميزان نحو يزن بجسده القوي والرياضي، حيث نجح في تسديد اللكمات والضربات العنيفة لمصطفى، أما الأخر ترنح وحاول الابتعاد بقدر الإمكان عن يزن، لكنه فشل ووقع في عرين الأسد، مستسلمًا له وكأنه ينتظر الموت، وفي اعتقاده أن الموت بتلك الطريقة ما هو إلا مجرد موت رحيم يختلف عن النهاية القاسية التي ينتظرها في أي وقت بسبب ادمانه.

انتبه يزن ليد "ليالي" الموضوعة فوق كتفه تحاول إيقافه، أما عن والدتها فاحتضنت ابنها بخوف تصرخ باكية عما أصابه نتيجة لعنف يزن معه.

-يزن لو سمحت كفاية، كفاية.

-احنا ممكن نطلبلك الشرطة.

هتفت والدتها بشراسة وحقد انبثق من عينيها، فعدل يزن من قميصه وخصلات شعره، بينما صوته جاهد الهياج المفرط الذي تلبسه فخرج بنبرة غير مبالية:

-ما تطلبوها أنا عايزكم تطلبوها، اقولكم أنا قاعدلكم هنا اعمليلي شاي لغاية ماتيجي.

ثم جلس فوق أحد الكراسي، يضع ساق فوق الأخرى بغرور أدهش والدة ليالي واستفز الأخرى كثيرًا، أما مصطفى اكتفى بنظرات الغل والكره عما ناله على يد يزن:

-امال انتوا فاكرين أيه، مافكرتيش أن هجيبك انتي وعيلتك ولو روحتوا فين!

جاهدت  والدة ليالي كظم غيظها، فهتفت بنبرة منكسرة عكس الضجيج المكتسح لساحة مشاعرها من غل وحقد ليزن المتابع ردود أفعالها باهتمام:

-خلاص احنا أسفين وصدقني محدش من ليالي ومصطفي هيفكر فيك.

لم يظهر شفقته بل زاد في جلدهم بسوط لسانه الحاد:

-لا بالعكس أنا عايزهم يفكروا فيا ويفتكروا اللي عملتهم فيه ويفتكروا انهم ماقدروش ينفذوا خطتهم الخايبة.

لم يعطِ فرصة لأحد بالرد ونهض ينهي حديثه الناري بنصيحة مغموسة بالسخرية لوالدة ليالي المستشيطة بغضب:

-حافظي على سمعة بنتك شوية يا حجة وسيبك من سهراتك، ربيها شوية ينوبك ثواب.

قالها وغادر الشقة متبخترًا كالملك، وابتسامة النصر تتدلى من حافة شفتيه، بينما مزاجه قد رُفع عنه وشاح الغضب، متناسيًا تمامًا ما فعلته ليالي بحقه دون محاولته إثبات براءته أمام أخويه، فآخر همه محاولة كسب تعاطفهما معه!
                                  *****
في منزل سيرا كانت الأجواء مختلفة هذا الصباح، بداية من بحثها عن الجبن المفضل إليها مرورًا بمشاكستها لأطفال فريال وشاهندا، متعمدة تحذيرهم بعدم المساس بطعامها مرة أخرى، وصولاً بوجود "أبلة حكمت" وتوبيخها لسيرا بتعمد حين لمحت القلادة الذهبية الخاصة بها تقع أرضاً، فصاحت بغيظ:

-والله انتي حرام تلبسي دهب.

وضعت "شاهندا" الاطباق فوق المائدة الكبيرة، وهي تعلق ساخرة:

-ليه يا أبلة حكمت، لما سيرا متلبسش دهب مين يلبس! 

-ربنا يديكي يا اختي.

رمقتها "أبلة حكمت" بضيق قبل أن توجه حديثها لسيرا المتابعة لحديثهما:

-السلسلة دي هتقع منك، ماتلبيسهاش تاني.

وضعتها "سيرا" حول عنقها وهي تبتسم باستفزاز:

-ماتخافيش يا ابلة، هحافظ عليها، يعني هي هتضيع مني بعد السنين دي كلها.

ضيقت "حكمت" عيناها بغيظ، وهي تسألها:

-انتي بتعايرني يا سيرا، ده أنا...

تراجعت سيرا سريعًا وهي تجلس بجانبها تحاول مراضاتها:

-اعايرك ايه بس يا أبلة حكمت هو أنا ماعرفش أن كان عندك دهب يوزن ايدك دي وايدك دي وأنتي عشان بنت أصول بعتيهم لعمو "صافي" عشان يشتري شقة في التجمع.

استكملت " ابلة حكمت " الحديث بفخر:

-وانقل لمستوى أحسن أنا وولادي، مافضلش كده محلك سر.

مالت شاهندا نحو فريال تهمس لها بضحك:

-اقسم بالله تلاقي صافي جوزها هيتجوز في الشقة دي.

-مايقدرش دي ممضياه على وصل أمانة.

توسعت أعين "شاهندا" بصدمة بالغة وهي تهمس بعدم تصديق:

-احلفي بجد عملت كده.

اكدت فريال بهمس:

-اه والله ماما قالتلي وحلفتني ماقولش لحد.

وضعت شاهندا يدها فوق فمها وهي تهمس بسخرية:

-وأنا اللي كنت بفكر استلف منها خمس آلاف جنية.

-اوعي دي تمضيكي تبيعي كليتك قبل ما تديهملك.

-بتقولي ايه يا شاهندا انتي وفريال بصوت واطي.

صدح صوت " ابلة حكمت" بتبرم تسألهما بفضول، فمالت سيرا نحوها بشقاوة:

-تلاقيهم بيحسبوا الدهب اللي بعتيه لعمو صافي يعمل كام.

توسعت أعين "أبلة حكمت" بخوف متمتمه بخفوت:

-يالهوي الله أكبر من عينيهم، هيحسدوني وأنا غلبانة.

-أنتي هتستكيلهم يا ابلة حكمت ماتسيبهمش مع بعض وممكن كريمة تتلم عليهم ويعملوا عليكي حزب، وتلاتة على واحد حرام.

نهضت " أبلة حكمت" سريعًا تنضم لفريال وشاهندا اللاتي حاولا الفرار منها، كي لا ينشب شجار بينهم بينما تسللت "سيرا" كاللصة بعدما أضرمت شرارة الحرب بينهم، ارتدت حذائها الرياضي قبل أن تخرج من بناية منزلها، ثم خرجت للطريق تردف بحماس طفولي:

-هربت منيهم.

بعد دقائق صعدت الحافلة الكبيرة واتخذت من مقعد بالخلف مكانًا لها، أجرت عدة اتصالات بصديقاتها من بينهم "فاطمة" وأوصتها بالتحدث مع يزن بطل حديثهما الليلي الفترة الأخيرة، ومن بعدها حاولت الاتصال بحورية وكالعادة وجدته مغلق.

تركت الحافلة وعيناها تستعد لخوض رحلة صباحية للبحث عنه بمحيط المنطقة في لمحة سريعة وصفتها بالخبيثة بسرها ولكن اصابها الإحباط حين لم تجده موجود بالخارج أمام معرضه، فأردفت بخفوت:

-لمي نفسك يا سيرا يا قليلة الأدب، بدوري على مين؟

رفعت أنفها بشموخ وهي تخطو خطوات واسعة نحو البرج الذي يقبع به المركز الرياضي، ولم تلاحظ أن قلادتها الذهبية سقطت أرضًا.

على الجانب الطريق الأخر كان يزن يقف داخل معرضه يتابع الطريق وهو يتحدث بالهاتف مع نوح يُملي عليه ما حدث معه في منزل ليالي، جذب انظاره الشيء الذي سقط منها ولم يحدد ماهيته، فأغلق الاتصال مع صديقه وتوجه لموقع ذلك الشيء ولكنه قد سبقه طفل صغير حين أمسك قلادتها يقلبها بين يديه وعندما لاحظ وقوف يزن أمامه سأله ببراءة:

-دهب دي يا عمو؟

لمح يزن اسمها الموضوع في إطار ذهبي يتدلى من القلادة فابتسم بعبث وهو يقول:

-اه دي بتاعتي يا حبيبي هاتها.

تمسك بها الطفل وبان بعينيه الشراسة للدفاع عن أحقيته بها:

-انت اسمك سيرا يا عمو؟

-لا يا لمض، اسمي يزن، بس دي تخصني، هاتها ياض.

حاول أن يأخذها منه ولكن الطفل تشبث بها بعند:

-لا ماتخصكش، انت عايز تسرقها مني، وفاكرني اهبل.

اندهش يزن منه فقال بغيظ:

-انت طفل ياض، انت اكيد واحد كبير متخفي في جسم عيل صغير، هاتها عشان أنا ممكن اشدها منك واطلع اجري.

رمقه الطفل بنظرة يغمرها السخرية فظهر كأنه شاب كبير وهو يردد الكلمات بدهاء لم يناسب عمره:

-انت اكيد جواك حرامي في جسم واحد كبير.

اخشوشنت نبرة يزن، وازداد اتساع عينيه كتعبير بسيط منه لتخويف ذلك المتمرد:

-لا أنا جوايا مجرم صغير، وممكن اخطفك دلوقتي لو مجبتهاش.

عادت إمارات البراءة تحتل ملامحه فسأله ببعض من الخوف:

-هتخطفني؟!

اكمل يزن طريق التهديد الذي سلكه محاولاً اقتناص القلادة منه بأي شكل حتى لو اخترق قوانين الطفولة ببعض الحيل: 

-مش بس كده، ده أنا ممكن اوديك مكان....

قدمها له الطفل باستسلام وهو يرجوه بنبرة اوشكت على البكاء:

-خلاص يا عمو، ماتخطفنيش عشان خاطري، خدها اهي.

القاها بين يدي يزن ثم ركب بساط الهروب سريعًا مبتعدًا عن دائرة يزن بكل إمكانياته، بينما أردف يزن بخفوت والعبث يرسم خطوطه فوق صفحات وجهه:

-خد تعال، طيب اوريك هاخدك فين...

وضع القلادة بجيب سرواله، وهو يهز رأسه بتسلية:

-غبي كنت هفرجه على العربيات عندي.
                              *****

ظلت "يسر" في فراشها مفتقدة لحماسها، ولأي نشاط كانت ستُقدم عليه في هذا الصباح، سامحة لذكرياتها البائسة باكتساح ذهنها المشتعل بغضب وغيرة، غير قادرة على تخطي كلماته وأفعاله معها، فراح عقلها ينير لها طريق الانفصال عنه، كي تنقذ ما تبقى من شبابها، بعد أن سقطت في غيابة جب مظلم وتحولت من فتاة  مُشعة بالحيوية للأخرى عجوز يغمرها العجز والقهر، فهمست بشرود ونبرتها الشبه باكية تصدح في الأجواء:

-كان عقلي فين وأنا بوافق، ما كان زماني متجوزة حد غيره ومفيش حاجة مضايقني.

-نصيبك بقى، تتجوزيني واعكنن عليكي.

انتفضت بفزع حين لاحظت وجوده بالغرفة، فردت بحنق:

-انت جيت امتى؟

-من وقت ما كنتي بتتمني حد غيري.

أجابها بنبرة قاسية يتدلى من حافتها غيرة محترقة لم تشعر بها هي من فرط غضبها منه:

-أنا مابتمناش حد غيرك يا دكتور نوح، أنا محترمة ومش زيك.

توسعت عيناه بوميض متأجج على وقاحتها معه، فسارعت بتوضيح مقصدها:

-آآ...قصدي يعني، عيني مش فارغة زيك.

رفع حاجبيه باستنكار ناري، فصاحت بسخط:

-يوووه، مش قصدي كده بردو، أنا قصدي إن أنا محترمة وبس.

عرقل وقاحة كلماته على طرف لسانه وغير ما كان ينوي يُسمعها إياه:

-ماشي يا محترمة، حافظي على كلامك معايا شوية، عشان أنا لصبري حدود.

-ماتهددنيش.

قالتها بتحذير طفيف، فتجاهلها وتعمد إغاظتها كعادته، حيث انتقل لخزانته ينتقي ثيابه بعناية، وصدر منه نغمة بسيطة تدل عن مزاجه الجيد، وضعت يدها أسفل ذقنها وهي تتابعه يُبدل ثيابه ثم وهو يضع عطره بغزارة:

-رايح تقابل مين؟ أكيد حد مهم في حياتك عشان تتجهز اوي كده؟!

كانت نبرتها هادئة أو ربما تخفت بثوب الهدوء الزائف، فأجاب بهدوء مماثل وهو ينظر لنفسه بالمرآة:

-صح، رايح أقابل دكتورة نيللي شريكتي في المعمل.

جذبت نفس عميق قبل أن تردف برُعونة:

-تصدق يا نوح، اوقات بتصعب عليا بجد.

أثارت استفزازه، فاستدار إليها وقرر الذهاب لحيث تجلس فوق الفراش وجلس أمامه يسألها بغلاظة:

-بصعب عليكي ليه؟! اشجيني.

هزت كتفيها وقررت اضطرام لهيب غضبه:

-يعني من اللي مريت بيه في حياتك، فأكيد سببلك مرض نفسي جواك، خلاك نفسك تحس باهتمام البنات بيك، لدرجة إنك دايمًا نفسك تتجوز تاني وكأن الجوازة التانية هي الحل لمرضك ده، بس الحقيقة هي مجرد مسكن بس، لكن أنت هتفضل زي ما أنت، بتعاني وبس.

فشل في إنقاذ نفسه من بحر غضبه الهائج بأمواجه العاتية، حين لمست تلك الحمقاء سفينة هدوئه وقامت بخرقها بكل رعونة، فهتف بتوعد حقيقي:

-طيب وحياة أمي يا يسر لأتجوز عليكي فعلاً سواء برضاكي أو غصب عني.

أخفت انفعالها خلف ستار الهدوء واكتفت بإلقاء نظرة مشفقة نحوه وهو يغادر الغرفة، تاركًا إياها تنفعل بضراوة وكالعادة صاحبها البكاء الحار. 

                                *****
زفرت بقوة وهي تتمم على محتويات حقيبتها بعد انتهاء عملها، استعدت للخروج وبحركة تلقائية وضعت يدها حول عنقها تثبت طرف حجابها ولكنها لم تجد القلادة، فلمست جانبي عنقها تتأكد من وجودها، وعندها وجدت عنقها يصرح بفقدانه لقلادتها، صاحت بذعر شديد:

-يالهوي السلسلة، السلسلة راحت فين؟!

تساءل العاملين بالمركز عن سبب ذعرها وصياحها، وعندما أخبرتهم، اندفع الجميع يبحث معها حتى زوار المركز انشغلوا بالبحث في كل أرجاء المكان، وبعد عدة دقائق طويلة لم يتوصلوا بها لشيء فهتف أحدهم:

-ممكن تلاقيها وقعت منك في الشارع، لأني بعت ام محمد تدور في الأسانسير ومدخل البرج مش موجود فيه حاجة.

أصيب بالإحباط وهي تمتم بحزن كبير:

-ماشي خلاص.

لململت أشيائها المبعثرة مرة أخرى وتركت البرج بوجه تعيس للغاية، ولكن انبثق أمل بسيط داخلها يدفعها للبحث في الطريق علها تجدها، فصارت تتحرك هنا وهناك وتنظر بوجوه الواقفين بالطريق تستكشف بهم أيهم وجد قلادتها واتخذها سرًا، جذب انتباهها صوته الرجولي المتسائل بقلق بالغ أو ربما أوهمها بذلك:

-بدوري على أيه؟

أشارت إليه بالابتعاد والضيق يغزو ملامحها الجميلة:

-اوعى كده، ثانية، يا نهار أبيض، هتكون راحت فين بس.

تظاهر بعدم الفهم وأصر على وجوده معها رغم شظايا الحنق المتناثر منها:

-طيب ما تقوليلي وادور معاكي.

هتفت شزرًا:

-حاجة تخصني!

مالت شفتيه لبسمة ساخرة وهو يقول:

-ايوه ما أنا عارف إنها تخصك، امال هتدوري عليها ليه طالما ماتخصكيش!

زفرت بضيق، فقال بهدوء ينافي حاجته للضحك:

-ماتنفخيش، أنا بعرض مساعدتي، وبسألك سؤال بريء بدوري على أيه؟!

تبرمت وهي تجيبه على إصراره غير المبرر لها:

-على سلسلة دهب عليها اسمي.

تظاهر بالجدية حين استعلم منها عن سبب بحثها المتواصل:

-والسلسلة دي وقعت هنا؟

ضحكت ضحكة قاتمة يتخللها بعض من الاستنكار، ولكنها سرعان ما صححت نهجها بعدما أدركت وقاحة ما تُقدم عليه:

-لا كانت نازلة تتمشى هنا شوية، ايوه طبعًا أنا متأكدة كنت لابسها وأنا نازلة من الباص، وقلبت الجيم فوق مالقتهاش، يبقى وقعت في الشارع، صح؟

-ممكن بس دي حاجة بسيطة يعني، مش مستهلة العصبية دي كلها.

أشعل فتيل غضبها من جديد فاستنكرت قائلة:

-انت عارف جرام الدهب عامل كام دلوقتي؟!

نظر لها مطولاً ولم يتوقع إجابتها قط وبراءة ردود أفعالها معه، فلم يجد منها تصنع مثل باقي الفتيات ولا رقة متناهية تستفزه، طالت نظراته ولم يشعر بمرور الثواني، شعرت بالخجل الشديد والتي حاولت إظهاره على هيئة عصبية:

-أنا بسألك ليه، اوعى كده ادور براحتي.

-ما الشارع واسع يا بنتي وبعدين دي سلسلة دهب أكيد هتبان يعني لو موجودة فيه.

لمعت عيناه ببسمة ساخرة، مما الهب نيران استفزاها خاصةً بعد برود نبرته، فخرجت بعض الكلمات الخافتة منها بعبوس:

-هي بوز أبلة حكمت بصتلي فيها، ربنا يسامحها.

انعقد حاجبيه وتساءل بفضول:

-أبلة حكمت مين؟!

كانت ستجيبه ولكنها الجمت اجابتها التي كانت سترضي فضوله، وأجابت بأخرى يملأها الضيق:

-آآ...وانت مالك الله.

تظاهر بالانزعاج وهو يقول بشقاوته المعهودة:

-انت خُلقك ضيق اوي يا يسرا.

رفعت إصبعها في وجهه تحذره بانفعال ضاري:

-بقولك أيه ماتقوليش يسرا دي أنا عفاريت الدنيا بتتنطط في وشي.

أبعد يدها من أمامه وهو يقول بحنق زائف:

-لا لو على الصباع أنا كمان عندي صوابع كتير اوي، مايغركش الجنتلة اللي أنا فيها.

صاحت بنبرة منفعلة معترضة على حديثه:

-جنتلة؟! انت كده جنتل يعني وانت بتعطلني.

-طيب ما أنا عرضت اساعدك وانتي رفضتي.

انفلت لجام صبرها وهي تقول:

-تساعدني ازاي بقى؟! هو انت سايبني ادور حتى.

لا زالت تتحرك بحركات عشوائية تبحث هنا وهناك وهو يدور خلفها يحاول إقناعها بما يريده:

-لا حول ولا قوة الا بالله، ما الشارع انضف من حياتنا اهو، بصي أنا هانشر خبر إن في حاجة دهب ضاعت تخصني واللي هيلاقيها اكيد هيجبهالي، خلي بالك أنا مسيطر هنا.

-والله ما باين عليك أي سيطرة.

هدمت غروره بنظرة استهزاء لم تعجبه، فقال بخشونة مقصودة:

-تحبي اولعلك في المنطقة كلها عشان تصدقيني، وبعدين يعني ده جزاتي إن شايل همك.

كتمت ضحكتها بصعوبة بالغة، واضطرت لقبول عرضه عندما انحدرت آمالها في إيجاد قلادتها في قاع الفقدان:

-لا كتر خيرك، طيب أنا بكرة اجازة من الجيم...

قاطع حديثها حين نال مراده وقال بنبرة عادية هادئة:

-هاتي رقم تليفونك وأنا هتصل عليكي لو حد لاقاها.

رفضت رفض قاطع وهي تخرج هاتفها من حقيبتها:

-لا أنا مابديش رقمي لحد، هات رقمك انت.

انعقد حاجبيه ساخرًا:

-ودي تفرق في أيه؟!

أجابت بصدق يشوبه بعض التهكم الطفيف:

-تفرق أني ليا مصلحة فبتصل عشانها، لكن انت بقى تقعد تتصل وتقولي بندور عليها وحركات الشباب دي، خلي بالك أنا صاحية ومركزة اوي.

ضيق عينيه متظاهرًا بالإعجاب نحوها، ولم يمنع ابتسامته الساخرة في الظهور فوق شفتيه:

-اه يا لئيمة، أبهرتيني.

عدلت حجابها وهي تنظر له بغرور، بينما هو ضحك على مظهرها فبدت كالطفلة حين يمدحها أحدهم، ولم تنهي فقرة اندهاشه بها عند هذا الحد، فقالت بنبرة متكبرة:

-ومتخافش أنا بتصل دايمًا في اوقات مناسبة يعني.

اعطاها الهاتف بعدما سجل رقمه، وكان سيحاول استقطابها بحديث آخر، فالتحدث معها له لذه أخرى يحاول استكشاف ماهيتها، ولكن وجود زيدان المفاجئ لهما جعلها تنهي الحديث معه بتوصية غريبة:

-ماتنساش بقى تنشر الخبر، وحافظ عليها، سلام يا استاذ يزن.

ردودها العبثية جعلت من ابتسامته تتسع تلقائيًا وهو يشير إليها بالوداع، فخلع زيدان نظاراته الشمسية متسائلاً بفضول:

-مين دي يا يزن؟!

أجاب بشرود يغمره الإعجاب:

-دي أكتر واحدة عبثية شوفتها في حياتي.

أطلق زيدان صفيره بشقاوة:

-يا سلام يا عم.

انتبه يزن أخيرًا واستطاع إبعاد نظره عن أثرها، فقال بنبرة خشنة:

-جاي ليه؟! 

-اطمن عليك.

أجاب زيدان ببساطة، فضحك يزن باستنكار:

-لا كتر خيرك يا باشا، اطمنوا أنا أحسن منكم.

ثم تركه وتوجه نحو معرضه، فخطى زيدان خلفه خطوات واسعه يسعى لإيقافه، يحاول أن يسترضيه:

-اهدى يا يزن، انت بقيت قماص اوي يا جدع.

دخل يزن معرضه ثم التفت واعترض دخوله مبتسمًا باستفزاز:

-لا بالسلامة أنت بقى، هنسيق المعرض، مش فاضيين.

ثم أغلق الباب الزجاجي في وجه زيدان، مما جعل من زيدان عبارة عن كرة مشتعلة، فأجرى اتصالاً سريعًا ينفث من خلاله غضبه:

-اقسم بالله يا سليم لو قولتلي أروح اطمن على الكلب ده ما يحصل أبدًا، الكلب قفل في وشي باب المعرض.

                                 ****
في المساء وبعد ذهاب العاملين من المعرض، ظل يزن وحده يعبث بهاتفه والملل يهاجم وحدته من حين لآخر، حتى ظهر سليم بغروره المعتاد وهو يدلف للمعرض، فاعتدل يزن بجلسته وأبقى نفسه على صمته دون أن يرحب بوجود أخيه كعادته.

فجلس سليم فوق كرسي كبير واضعًا ساق فوق الأخرى والاستهجان ينطلق في سباق كلماته:

-أيه هتطردني زي ما طردت اخوك؟!

حمحم يزن بخشونة قبل أن يجيب:

-ماقدرش.

رفع حاجبيه معًا ووبخه بشراسة:

-وقدرت تعملها مع زيدان عادي.

ابتلع ريقه بعد أن جف حلقه، ولم يستطع منع انفعاله، فقال بعصبية طفيفة:

-انت جاي تهزقني عشان خاطره؟

-وماله هو مش اخويا.

هتف بوقاحة:

-لا علشان بيطبلك بس الأيام دي وبيحاول يكسب رضاك.

-انت اتجننت  ازاي تكلمني كده؟!

انفعل سليم بقسوة، ونوى أن يغادر المكان، إلا أن يزن سارع باعتذاره وأجلسه مرة أخرى:

-خلاص حقك عليا، اعتبرها زلة لسان يا سليم، ماتزعلش.

أبعد سليم يده بضيق واضح وهو يعاتبه:

-واللي قولته امبارح ده أيه بالظبط، بردو زلة لسان يا محترم.

-لا مش زلة لسان، عشان انتوا ظلمتوني وانت ظلمتني من غير حتى ما تسمعني مع أن مش متعود منك على كده!

حاول سليم أن يهدأ من نفسه، فقام بإلقاء كافة اللوم نحوه:

-بسمعك في أمور عادية وبسيطة، مش واحدة جاية تشتكي منك وانت عايز تتجوزها عُرفي.

واجهه يزن ببراعة لاعب محترف كاشفًا عما يحاول سليم إظهار عكسه:

-سليم أنت عارف كويس اوي أني ماعملش كده ولو على رقبتي، لكن أنت حبيت بس تعلمني الأدب، وللأسف طريقتك كانت غلط، يعني لو كنت اخدتني لوحدنا وواجهتني كنت هحترمك واقولك حقك وأنا فعلاً غلطان أن اعرف اشكال زيها مش مظبوطة.

أُشعلت حدقتي سليم بتهديد متقد:

-وأيه دلوقتي بطلت تحترمني؟!

-ماقدرش يا سليم، بس أنا حقيقي زعلت من معاملتكم ليا قدام مراتك وقدام مليكة مرات زيدان.

واجهه سليم بحقيقة ما يحاول تجاهله:

-الحرج ده يا يزن المفروض تحس بيه بسبب تصرفاتك مش بسبب تصرفاتنا احنا، المفروض بعد كده تعمل حساب لإنك مابقتش العيل الطايش اللي بنعديله تصرفاته، لا أنت بقيت كبير وواعي واللي قدك متجوز وفاتح بيت ومسئول عن اطفال، الفراغ اللي مالي حياتك أخرته مش حلوة وده اللي بحاول احذرك منه، انقذ نفسك بنفسك واحميها من حاجات كتير اوي غصب عنك ممكن توصلها حتى لو كنت شبح في نفسك وقادر تسيطر عليها.

تفهم جيدًا المغزى من حديث أخيه الأكبر، واعلن موافقته على حديثه وبذات الوقت الحق بعض من معارضته بطرف موافقته المعلنة:

-بس أنا بردو شايف نفسي أن ماقدرش على خطوة الجواز حاليًا، الخطوة دي بعيدة عني خالص.

-شيطانك بس اللي مهيألك كده، ايوه ما تضحكش...

منع يزن ضحكته التي كانت على وشك الظهور بعد تحذير سليم له، واستمع بجدية لباقي حديثه:

-انت ناقصك أيه عشان تتجوز، ما شاء الله ناجح في شغلك، وبنيت نفسك بنفسك، واخدت كارير غيري، وراجل تسد عين الشمس، أيه اللي ناقصك إنك تبعد عن طريقك ده واهو مجاش منه إلا وجع الدماغ.

-لا ليالي دي بت متسواش قرش واحد، دي واحدة دماغها تعبانة هيئتلها إنها ممكن تضحك عليك وعليا وتطلع بقرشين، سبوبة يعني.

-ما أنا عارف وفاهم من أول لحظة اتكلمت معايا فيهم، أيه بقى الجديد وعارف كويس إنك هتنهي الحوار ده من غير ما يكبر، أيه بردو اللي عايز توصله ليا، بتدافع يعني عن باقي البنات صحابك، مش هما صحابك بردو؟!
تساءل باستنكار ملحوظ وقبل أن يجيب يزن، رن هاتفه برقم مجهول، فأغلق الاتصال دون رد، وحاول توضيح وجهة نظره لسليم إلا أن هاتفه قاطعه مرة أخرى، فنفذ صبر سليم وقال:

-رد عشان خلقي ضيق.

نفذ يزن أمره وأجاب على الاتصال فوصل إليه صوتها المميز وهي تسأله بأدب:

-أستاذ يزن؟

ضحك بسخرية مقصودة:

-فعلاً بتتصلي في أوقات مناسبة جدًا.

لمح نظرات سليم المشتعلة فشهريار أخيه لن يتغير قط، حاول يزن إنقاذ نفسه بالنهوض والابتعاد عن دائرة سليم كي يتحدث معها براحة أكثر.
                                ***
في منزل سيرا..

تجاهلت سيرا سخريته المبطنة وسألته بجدية:

-حد جالك ولقيت السلسلة ولا لا؟

-هو احنا لحقنا يا سيرا، دي ضايعة الصبح!

اجاب بنبرة عابثة، الهبت حنقها:

-انت شكلك طلعت أي كلام، وبتحور عليا وفاكرني هبلة لما تضحك عليا.

-يا نها اسود، ده مين ده اللي ضحك عليكي يا سيرا.

انتفضت سيرا بفزع وأوقعت الهاتف من يدها، حين وجدت "أبلة حكمت" تقف خلفها مصدومة مما سمعته!  
تركت سيرا عائلتها واجتماعهم الليلي وتوجهت نحو غرفتها، تجري اتصالاً به تطمئن من خلاله عن أي أخبار تخص قلادتها الذهبية، وكالعادة اختارت الصمت وعدم إخبار عائلتها كي لا تتلقى توبيخ حاد من قبل "أبلة حكمت"، استمعت لرنين الهاتف بملل وحين أنهى الاتصال فجأة، عبست بقسمات وجهها، ولسانها يردد وفق لعقلها:

-يا سلام يا تقيل هو أنا بتصل بعاكسك، والله لتصل تاني.

أجرت اتصالاً آخر ولم تتوقع سرعة رده، فأصابها التوتر قليلاً عندما استمعت لنبرته الرجولية المميزة بخشونة تليق به وحده:

-الو.

تلقائيًا تسربت النعومة المُفرطة لصوتها فقالت بتساؤل ناعم للغاية:

-أستاذ يزن؟

ترعرعت بنبرته الخشنة برعم من السخرية حين قال:

-فعلاً بتتصلي في أوقات مناسبة جدًا!

ضيقت عينيها بغيظ أنثوي شرس ثم أبعدت الهاتف توجه له بعض السُباب الخافت والذي لم يصله، ثم عادت تجبر نفسها على تجاهل سخريته المبطنة وسألته بجدية:

-حد جالك ولقيت السلسلة ولا لا؟!

-هو احنا لحقنا يا سيرا، دي ضايعة الصبح!

اجابها بنبرة عابثة لم يعرف أنها  سوف تلهب حنقها، فقالت بتهكم صريح:

-انت شكلك طلعت أي كلام، وبتحور عليا وفاكرني هبلة لما تضحك عليا.

-يا نها اسود، ده مين ده اللي ضحك عليكي يا سيرا.

لوهلة لم تفهم ما يحدث وسر مهاجمة "أبلة حكمت"، فانتفضت بفزع، وفي خضم انتفاضها أوقعت الهاتف من يدها، حين وجدت "أبلة حكمت" تقف خلفها مصدومة مما سمعته!
حاولت تحجيم نظرات غضب "أبلة حكمت" وتوضيح سوء الفهم الذي وصل إليها، ولكنها لم تجد الفرصة، حيث انقضت أبلة حكمت عليها، تقبض فوق ذراعها بقسوة والتهديد يشتعل بنبرة صوتها:

-قوليلي مين ضحك عليكي يا سيرا، صارحيني أحسنلك؟

ترنح صوتها من فوق جبل الثبات، وهوت في هاوية الخوف مما نسجه عقل اختها:

-يا أبلة حكمت، افهميني بس، اديني فرصة أشرحلك؟

-تشرحيلي أيه بعد ما الفاس وقعت في الراس!

تضاعف صدمتها من كلمات أختها، وبالرغم من حدة الموقف إلا أنها سخرت قائلة:

-مالحقتش تقع يا أبلة حكمت صدقيني، انتي دايمًا تحكمي كده عليا بالباطل!

-باطل؟!

سألتها باستهجان، ثم استطردت بقولها الهجومي:

-ده أنا سامعكي بودني الاتنين دول، وشايفكي وانتي بتكلميه بعنيا اللي هياكلهم الدود دول.

-هما هياكلهم الدود فعلاً، طالما مش مدياني فرصة افهمك.

فُتحت سجون الغضب بصوتها لتلهم "أبلة حكمت" بهجوم غير متوقع، فصاحت الأخرى بانفعال:

-أنتي بنت قليلة الأدب.

وضعت سيرا يدها فوق وجهها بإحراج شديد، حين لاحظت بدأ دخول أفراد عائلتها بأكملهم لداخل الغرفة بقلق عارم، ونظراتهم تنتقل بينها وبين أبلة حكمت المستشيطة بغضب، وأول من قطع لحظة الصمت هو  والدهما بسؤاله الهادئ والذي كان غير مناسبًا للأجواء المشحونة بالغرفة:

-في أيه يا بنات؟

تصاعدت ضحكات "أبلة حكمت" علنًا وهي تشير باحتقار نحو سيرا الواقفة تغلي في مرجل متقد من تصرفات اختها الحمقاء:

-تعال يا بابا شوف مين ضحك على سيرا والهانم بتحاول تهرب مني.

-كفاية بقى يا أبلة حكمت حرام عليكي.

صرخت "سيرا" بغضب عارم، بعدما زجتها أختها في قبو مظلم بتصرفاتها الهجومية، فلم تعد قادرة على مواجهتها وتبرير موقفها.

رفعت أبلة حكمت أحد حاجبيها بتبرم، بينما راحت شاهندا تخطو نحو سيرا تحتويها بين جناحي حنانها، وتحاول تهدئتها:

-اهدي يا حبيبتي وفهمينا أيه اللي حصل؟

انهارت سيرا ببكاء حار وهي تتلفظ بصوت مبحوح اثر انفعالها، فالتف الجميع حولها يحاولون تهدئتها بما فيهم والديها:

-أنا سلسلتي ضاعت يا بابا النهاردة، وماعرفش وقعت مني فين، في واحد صاحب معرض عربيات عرض عليا أنه هينشر خبر أنها تخصه بما انه مسيطر في المكان ده، فأنا اخدت رقمه وكلمته اسأله لقاها ولا لا، ولو حضرتك مش مصدقني، تقدروا تيجوا معايا وتسألوه، وأبلة حكمت دخلت فجأة وسمعتني بكلمه وبسأله عليها، وبقوله انت شكلك مش مسيطر وبتضحك عليا.

انطلق "صافي" زوج أبلة حكمت بقوله الذي فاجئ به الجميع:

-يعني يا سيرا، الراجل بيعرض خدماته تقومي تكلميه  بالشكل ده!

تدخل زوج كريمة اختها الأخرى يعارضه بقوله المعاتب:

-هو ده وقته يا حاج صافي انتقاداتك، وفرها لوقت تاني.

رمقه " صافي " بغيظ وهو يضرب كف بآخر:

-لا حول ولا قوة إلا بالله، هو حرام الواحد يقول رأيه، يلا بينا يا حكمت ننزل شقتنا.

سارعت "أبلة حكمت" بلم غضبها ودفنه بين طيات الاحراج:

-يلا يا اخويا، زمانك واقع من الجوع.

وقامت بإلقاء غمزة لأولادها، فتفهموا على الفور، وانطلقوا خلف والدتهما، أما سيرا كانت تحاول الافاقة من صدمتها أثناء سقوط دموعها الكثيرة فوق صفحات وجهها، فهمست:

-هي ازاي تمشي كده؟!

تدخلت والدتها تحتضنها وكالعادة تجبر بخاطرها:

-يا حبيبتي يعني أنتي مش عارفة اختك لما بتغلط بتعمل أيه، بتهرب كعادتها.

-بس هي اتهمتني زور يا ماما!

وجهت عتاب نجح في محاربة قبضان الحزن بصوتها، فربتت والدتها فوق كتفيها برفق:

-يا حبيبتي ما تقصدش، وحقك عليا، أنا بكرة هعاتبها واعرفها اللي عملته في حقك غلط.

تابعت "كريمة" هي الأخرى بصوتها الحاني:

-يا سيرا كلنا عارفين أبلة حكمت على أيه، معلش هي بقالها يومين ماعملتش الأكشن بتاعها.

ضحك زوج "شاهندا" رغم عنه وهو يقول:

-أنا كنت مستغرب هدوئها أصلاً اليومين دول.

لم يهدأ غضب سيرا أبدًا فقالت بصوت مشحون:

-بس مش على حسابي.

أكدت فريال عقب حديث سيرا بقول حازم:

-الصراحة أيوه يا بابا، أبلة حكمت تصرفها غلط في حق سيرا، احنا عارفين اختنا محترمة ومؤدبة ولا يمكن تتصرف التصرفات دي أبدًا.

انطلق لجام الحزم بصوت والدها ينهي الأمر:

-خلاص، امكم هتكلمها بكرة، لو سمحتوا اخرجوا انتوا كملوا سهرتكم وسيبوني مع سيرا شوية.

على الفور بدأ الجميع في الخروج من الغرفة، وترك المساحة الكاملة لهما، ليبدأ "حسني" والدها بقوله المعاتب:

-ينفع اللي حصل ده؟!

رفعت عينيها الباكية ترمقه بعدم تصديق:

-بابا أنت مصدق أبلة حكمت بجد؟!

-لا طبعًا.

قولاً واحد نفى ما تسرب لعقلها، ثم عاد وأردف بنبرة ممزوجة بطيف من اللوم:

-ينفع سلسلتك تضيع وماتعرفنيش، من امتى بتخبي حاجة؟

ردت بصدق:

-ماحبتش اشغلك، كفاية الضغط اللي أنت فيه.

انفجر التهكم الممزوج بالحزن فوق صفحة وجه والدها وخاصةً وهو يقول:

-ضغط أيه؟! على أساس هما عيالي وانتي لأ، أنا مش متعود منك على كده، أنا متعود دايمًا إن سيرا صريحة وماتخبيش، واهو موقف زي ده لو كنتي حكيتلي عنه كنت وقفت حكمت من أول ما دخلت عند حدها، لكن اللي حصل عكس كده فاضطريت استتى زيي زي أي حد واعرف في أيه اللي بيحصل! 

شعرت بالخجل الشديد لِمَ يقوله والدها، فأبدت موافقتها على حديثه:

-عندك حق يا بابا.

قبل جبينها بحب ولمعت ابتسامته الحنونة لتذيب بقايا غضبها:

-وبالنسبة لسلسلة لقيتها خير وبركة لو كانت ضاعت تبقى راحت لصاحب نصيبها.

اندست الحسرة بين نغمات صوتها الحزين:

-بس أنا كنت بحبها اوي.

حاول والدها بمراضاتها بقوله:

-ياستي ربنا هيكرمني وهجبلك غيرها.

احتضنت والدها بحب واغمضت عينيها تستمتع بحنو في لحظة ربما تتكرر بعد فترة كبيرة، بسبب انشغال والدها الدائم بعقبات أخواتها الفتيات، ومشاكل أزواجهن المتكررة، ومشاغبة اخويها "قاسم وعبود" وفترة مراهقتهما الصعبة، فكانت النتيجة أنها المنسية الضائعة بين هموم الحياة رغم صغر سنها وحاجتها الدائمة لاحتواء والديها.
                                 ****
قاد سيارته وعقله منشغلاً بها وسر إغلاقها السريع للاتصال، هل أثار غضبها لدرجة أنها أغلقته عمدًا في وجهه، أم أصابها مكروه! غرق في التفكير المنصب حولها فقط، ونسى تمامًا وجود "سليم" بجانبه حتى أنه لم يلاحظ حديثه حتى شعر بيد سليم القوية تقبض فوق ذراعه يسأله باستنكار:

-سرحان في أيه يا شهريار زمانك؟!

-فيك يا أبيه!

سرعان ما خرج من دائرة شروده وارتدى ثوب العبث المنسوج بخيوط السخرية، وكما توقع اندفع سليم يوبخه باحتقار:

-احترم نفسك، عشان مانزلش من العربية واكسر دماغك.

ضحك بخفة وهو يجبر نفسه على الابتعاد عن دوامة التفكير بها، فقال:

-أنا دماغي متكسرة لوحدها، مش محتاجة تكسير زيادة.

لمعت بسمة ساخرة فوق وجه سليم وهو يردف بخفوت:

-هو في حد يكلم كمية البنات دي كلها، ودماغه تبقى سليمة!

رفع يزن أحد حاجبيه بتحدٍ وهو يقول بنبرة مغمورة في شقاوته:

-حاسس بحقد ولا متهيألي!

انفجرت إمارات الغضب فوق تقاسيم وجه سليم الذي قال:

-متهيألك يا بارد، أنا هحسدك على أيه، اللي أنت فيه ده عقاب.

تابع يزن قيادته لسيارته بتسلية وقد نسى للحظة أمر سيرا بعدما نجح أخيه في جذبه لنقاش ناري حول صداقاته مع الفتيات، فقال بنبرة عابثة يغلب عليها الضيق الزائف:

-نفسي تفهموا إن أنا مابضحكش على أي بنت وبوهمها بحاجة، أنا في فئة كده بحبهم وبحب أبقى for fun معاهم، غير كده متلاقنيش، لكن أي واحدة تدخل على سكة تانية مابكملش معاها.

تعجب سليم من تفكيره فقال بحيرة من أمر أخيه المجنون:

-يا بني ما تتجوز وترتاح من الهم ده كله.

رد باعتقاد مترسخ داخل ذهنه عن الزواج والمسئولية، فسرعان ما أوضح وجهة نظره:

-الهم ده أنا هشوفه لو اتجوزت يا سليم صدقني.

زفر سليم بحنق وهو يردف:

-يعني مضطر استحمل غبائك كتير، المهم كلم اخوك وصالحه.

-أنا مزعلتش حد، هو اللي مقموص.

أوقف سيارته أمام منزلهم، وقبل أن يترك سليم السيارة هو الآخر قال بتحذير طفيف:

-لا انت بس ماحترمتش اخوك وقفلت في وشه باب معرضك، أنا لو منه ماعبركش العمر كله على الحركة دي.

تركه سليم ودخل المنزل بعنجهيته المعهودة، ففتح يزن فمه بصدمة ولسانه يردد:

-يا أخي اعوذ بالله من اللي يفكر يضايقك، الواد زيدان عليا نعمة طلع نسمة وأنا ماعرفش.

-هتقف عندك كتير؟

اغلق يزن سيارته وتحرك نحوه مردفًا بشقاوة:

-لا جاي وراك يا ابيه.

هز سليم رأسه بعدم رضا ونفاذ صبر من أفعال أخيه الأصغر المستفزة، وفي طريقهم لدخول شقة والدتهما، وجدوا زيدان أمامهم، وكما هو متوقع تلقى يزن نظرة غاضبة منه وتجاهل مقصود حين رحب بسليم بحفاوة:

-أزيك يا سليم؟

رد سليم بهدوء:

-الحمد لله يا زيدان.

لم يسكت زيدان عند هذا الحد بل تابع بترحيب آخر:

-أخبارك أيه يا سليم؟!

حمحم سليم بخشونة وهو يجيب:

-قولتلك الحمد لله في أيه؟

حول نظراته المحتقرة نحو يزن الواقف يتابع أفعاله بتسلية:

-أصل أنا بحب اطمن عليك يا سليم يا أخويا يا محترم.

منع سليم نفسه من الضحك، وأكمل بنفس جديته:

-كتر خيرك يا زيدان.

-الواحد والله بيفتخر انك اخوه يا سليم.

رفع سليم حاجبيه معًا، وفشل في منع ابتسامته  التي تسللت لفمه وهو يجيب:

-يا سيدي كتر خيرك.

وقبل أن يتحدث زيدان، سابقه يزن وهو يوجه حديثه هو الأخر لسليم الواقف بينهما:

-إلا قولي يا سليم، أنت من امتى بقيت دماغك صغيرة وقماص كده.

وقبل أن يجيب سليم بتوبيخ، بتر زيدان حديثه حين وجه له هو الأخر حديثه المبطن بنيران الغضب:

-أنا مش قماص يا سليم، أنت تعمل عملتك وجاي تقولي دماغك صغيرة.

ضحك يزن بسخرية وهو يوجه حديثه لسليم المنتظر هو الاخر رده وكأنه اعجب بـ لعبتهما:

-الله امال أنا حاسس هيطقلك عرق ليه يا سليم؟

لمعت عيون زيدان بشراسة وهو يقول:

-وأنا هيطق لي عرق ليه من واحد زيك يا سليم مايستاهلش.

توسعت أعين يزن وهو ينظر لسليم غير مصدقًا:

-يا نهار أبيض، زيدان اتعدى حدوده معاك خالص يا أبيه، أنت ماتستاهلش؟! لما أنت ماتستاهلش، امال مين يستاهل؟!

تفوه زيدان بلفظ غير لائق وكاد يشتبك مع يزن المبتسم بعبث:

-يا****** انت عيل...

صاح سليم ينهي لعبتهما السخيفة بحدة:

-بس أنت وهو، انتوا الاتنين ماتستاهلوش أصلا اقف معاكم، واقف مع عيلين في ابتدائي، أنس أعقل منكم. 

تركهما ودخل لشقة والدتهما، بينما ظل يزن يستفز في زيدان الثائر بغضب:

-كده ارتحت لما اتهزقنا منه!

ظهرت "مليكة" في الصورة أمامهما وهي ترحب بيزن، سعيدة بإنهاء أمر خلافهم:

-ازيك يا يزن؟

قابلها ببسمة صافية كعادته، وهو يجيب بمكر:

-الحمد لله يا مليكة، ثواني وأغير هدومي واطلع معاكم.

رفع زيدان أحد حاجبيه باحتجاج واضح:

-نعم تطلع فين؟!

أجاب يزن ببساطة أدهشتهما معًا:

-انت مالك، مليكة كلمتني وعزمتني عندكم على العشا.

نظر زيدان لمليكة المتابعة للموقف بدهشة بالغة:

-بجد يا مليكة اللي بيقوله ده؟

تلجلجت مليكة بقولها وقد أدركت خطة يزن في مراضاة زيدان بأسلوبه المبطن بشقاوة معهودة منه دائمًا:

-آآه...طبعًا أنا كلمته وعزمته على العشا، في اعتراض يا زيدان، هو مش بيتي ومن حقي اعزم في أي حد.

رفع يزن أحد حاجبيه بتحدٍ سافر، فقال زيدان بحنق طفيف:

-هو أنا اتنيلت ولا اتكلمت، اطلع يا عم، خسارة فيك  طاجن ورق العنب.

توسعت أعين يزن بسعادة بالغة:

-لا بجد، طاجن ورق عنب، لا أنا طالع من دلوقتي، مش ضروري أغير هدومي، أخاف زيدان يلهفه كله في كرشه.

ردد زيدان باستحقار خلفه وهو يصعد الدرج:

-كرشه! نسي يسلم على أمه عشان الأكل، لا أصيل وابن بار فعلاً.

-ماتدخلش في علاقتي مع أمك يا أصفر.

قالها يزن وهو يصعد خلف مليكة المتحمسة لإعادة جو العائلة الفكاهي والعلاقة المرحة بين زيدان ويزن.
                                ****
أشرق الصباح ليزيح غمة الليل القاتمة، فدبت عجلة الحياة كالعادة في منزل السيد "حسني" ولكن سيرا استطاعت ترك المنزل باكرًا قبل استيقاظهم، لم تكن تريد استقبال "أبلة حكمت" هذا الصباح ولا رؤيتها بعدما هدمت جبال صبرها معها بقنبلة الشكوك التي ألقتاها في وجهها بالأمس، ورغم أن الجميع قام بمراضاتها إلا أنها فشلت في قنص لحظات النوم وظلت حزينة بغرفتها، حتى قررت النزول لمنزل فاطمة صديقتها، وقبل أن تصل للبناية التي تسكن بها صديقتها، ظهر أمامها "فايق" جارها بوجهٍ خالي من أي تعابير، تجاهلته في البداية إلا أنه اعترض طريقها وقال بصوتٍ مستنكر:

-أيه يا سيرا مفيش صباح الخير، هو في حد بيخاصم جيرانه ولا أيه؟!

أمسكت عصاة الاستنكار منه وهي ترمقه من أعلاه لأسفله بتعجب بالغ:

-هو أنا من امتى بكلمك يا فايق ولا بصبح عليك؟!

ورغم حدة كلماتها إلا أن تعابير وجهه لم تعكس غضبه، بل كان أكثر راحة واستمتاع وهو يحادثها:

-حتى لو مكنتيش بتقوليها بلسانك، كنتي بتقوليها بعينك كل مرة بشوفك الصبح.

التهبت نيران الاستهجان بحدقتيها وهي تواجهه:

-نعم؟! انت بتقول أيه على الصبح؟!

رسم ابتسامة استفزتها وهو يقترب منها خطوة فتراجعت للخلف خطوة مقابلة له:

-مابقولش بس قريب اوي هتقولي كل حاجة.

دفعته عن طريقها بحقيبتها الكبيرة وهي تمتم بانفعال ضاري:

-أوعى من طريقي عشان مش ناقصك والله!

تنحى جانبًا ووقف يتابعها باستمتاع بالغ وهي تدخل لبناية فاطمة، متذكرًا كلمات أخته عن مدى إعجاب سيرا به بعدما استطاعت بكل خبث سحب الكلام من فاطمة وبطيبتها أخبرتها عن مدى إعجاب سيرا بأخيها، فزاد غروره بنفسه وتوهجت أفكاره بشرارة الإيقاع بها  في شباكه أو ربما تصلح حاله ويتقدم لخطبتها، وكعادته اندلع غروره يرسخ بعقله أنه فرصة لن تتكرر لأي فتاة، لحسن سلوكه وأخلاقه في المنطقة، معتقدًا أنه لم يعلم أحد عنه أنه مدمن للخمر، فهو نجح في ارتداء ثوب الاخلاق الحميدة وأقنع به الجميع حتى عائلته.

أما بالأعلى وتحديدًا بغرفة فاطمة، كان النقاش بينهما محتدم للغاية، حين أبدت فاطمة اعتراضها:

-يا بنتي الصراحة أنا مش مصدقة، كلام كمال جوز اختك فريال، معقولة فايق يكون بيشرب خمرة.

-أنا أصدق يا فاطمة، هو كمال هيكدب ليه، يا بنتي بقولك شافه في فندق كان بيشتغل فيه مع صحابه وهو بيشرب وسكران، بجد أنا مش عارفة دماغي فين وأنا بعجب بيه.

ضربت فاطمة كف بآخر وهي تقول:

-لا حول ولا قوة الا بالله، فايق مثال الاخلاق يطلع فشنك.

ضحكت سيرا بقهر:

-ماتفكرنيش، بمثال الاخلاق، عقلي كان فين وأنا بعجب بواحد زي ده وكمان اسمه فايق!

تشاركا الضحك معًا، ثم بدأت فاطمة في سرد أخر الأخبار المنطقة على مسامع سيرا لتسليتها وإخراجها من حالة الحزن المسيطرة عليها، ومن أن أنهت حديثها حتى سألتها بفضول:

-مش هتروحي ليزن ده النهاردة؟!

صاحت باستنكار ناري:

-أنا! لا يمكن طبعًا أروحله أو اعبره.

تبرمت فاطمة بضيق ولم يعجبها تفكيرها:

-خلاص براحتك ولا كأني قولت حاجة.

عادت سيرا تأكد على حديثها بكل ذرة قوة لديها وخاصةً عندما تذكرت سخريته منها بالأمس:

-قال أروح له قال، ده أنا ابقى كلبة لولو لو فكرت اروح له.

                               *****
أنهت " يسر" ترتيب غرفتها ونثرت القليل من معطرات الجو المبهجة علها تريح نفسها المشحونة بويلات الغضب، وتعطي لعقلها التعيس أمل مشرق حتى ولو كان زائفًا! خرجت لتقابل شقتها المظلمة فبدأت في فتح النوافذ وكأنها تطرد كل الشحنات السلبية الموجودة بها، فهب بوجهها نسمات الهواء التي استطاعت العبور لصدرها وتغلغلت به تزيح ثقل الهموم المتربع فوقه، أغلقت عيناها البنية تستمتع بسحر اللحظة، داعية الله أن يرزقها بصلاح الحال وراحة البال، ولكنها سرعان ما تراجعت وتساءلت كيف؟! كيف ستنجو بسفينتها الخرقاء لمرسى أمان وزوجها يتعمد إغراق سفينتهما بكل برود وتبجح منه، كيف ستحصل على حياة هادئة؟! بينما النساء تلتف حوله في كل مكان، وهو يترنح بسعادة في بهو إعجابهم به، آه محترقة خرجت من جوفها الملتهب بنيران الغيرة، فبدت غير قادرة على مجابهة ذكريات الماضي، حين قابلته على سُلم الدرج الخاص ببنايتهما قبل أن تنتقل عائلة نوح لمنطقة أخرى، فهم كثيرين التنقل والسكن بمناطق مختلفة، زحف لعقلها مشهد لقائهما المفاجئ، قبل ست سنوات.
                                ****
تركت "يسر" شقتها، عازمة على استكمال رسالة الماجستير علها تخرج من قوقعة الفراق عن خطيبها "نوح" بعدما فقدا طريقًا للتواصل بينهما، وفشلت العقول في إيجاد حلاً يرضي كلا الطرفين، وخاصةً حين فاجأها بشرط لم ولن تستطيع تقبله أبدًا، ورغم أنه أعطاها مبرراته لذلك الشرط اللعين إلا أنها لم تقتنع وأبدت رفضها التام، فاختارا معًا طريق الانفصال باقتناع تام بينهما ومن بعدها انتقل هو وعائلته لمنطقة أخرى وتركوا شقتهم، فانقطعت عنها أخبارهم، حاولت التلصص عن أخباره ولكنها فشلت ولم تجد ما يريح قلبها، وتحديدًا حول ارتباطه، فبدت كالمخبر السري وهي تتبع أخباره هنا وهناك، لذا قررت الانشغال بشيء آخر علها تنسى لحظاتهما معًا وسعادتها بارتباطهما والذي لم يدم سريعًا وانفصلا في أمر مفاجئ للجميع.

ضغطت على زر المصعد عدة مرات بنفاذ صبر، وأخيرًا وجدت المصعد يستقر بطابقها، لكنها صدمت بوجود نوح أمامها، فاهتز قلبها من مكانه وأصابه رجفة لذيذة للغاية، انقشع عنها قناع الحزن فور رؤيته، وباتت أكثر إشراقًا وكأنه يملك تعويذة سحرية تستطيع تحويلها من تعيسة لأخرى سعيدة لمجرد وجوده فقط.

-ازيك يا يسر؟

كانت نغمة صوته تحمل اشتياقه الصريح لها، فرقصت مشاعرها بساحة الحب والهوى:

-الحمد لله يا نوح، أنت عامل أيه؟!

رمقها ببسمة صافية ممزوجة بلمعة العشق، وكعادته غمرها باهتمام لطيف لن تجد مثله أبدًا:

-أنا كويس طول ما أنتي كويسة.

توردت وجنتيها باحمرار طفيف، ولمعت عيناها بوميض العشق، فقالت بصوت مبحوح من فرط هياج مشاعرها:

-ر...ر...ربنا يخليك أنت جاي ليه في حاجة؟!

لا زالت ابتسامته تلمع بسماء عينيه الصافية، رغم أنه أظهر بعض الضيق:

-يعني شوية مشاكل في عقد الشقة، فخلصته مع الحاج أحمد، وكان في شوية حاجات باقية لينا باخدها، فالأسانسير وقف وقولت أكيد أنتي اللي طلبتيه.

احتل ثغرها بسمة واسعة وهي تسأله بخجل:

-وأنت أيه اللي أكدلك أن دي أنا؟!

-قلبي قالي.

فاجأها برده ونظرته المعبرة عن حزنه لفقد طرق الوصال بينهما، فقرأت بعينيه سطور آماله بعودتهما، وفي خضم صمتهما وتواصل أعينهما المستمر بسرد ما تكنه الصدور وما تخفيه العقول، استمر نوح بإثارة صدمتها حين أمسك يدها يسألها بنبرة غلب عليها لهفته وحبه الشديد لها:

-لسه يا يسر مُصرة على رأيك؟!

أنار عقلها بكلمات والدتها حول إعطائه فرصة أخرى له، وأن ما يطلبه منها ليس سوى طيش شباب، فالزواج مسئولية بالغة ومرهقة للقلب والعقل معًا، وبذكائها الأنثوي تستطيع محو شروطه الحمقاء، معتقدة أن شرارة الحب تستطيع التهام وحوش رغباته الغريبة والعجيبة!

-ها يسر؟ لسه زي ما أنتي!!

رفعت وجهها تواجه عينيه بعنفوان أنثوي دومًا يليق بها:

-أيوه زي ما أنا يا نوح، هتغير ليه؟

-ماحدش قالك تتغيري أبدًا، وأنا ماتمناش تتغيري بالعكس أنا بحبك كده وهفضل أحبك طول عمري بكل حاجة فيكي.

تصريحه أذاب الجليد حول فؤادها، فانصهرت مشاعرها وهي تقرأ سطور العشق والهوى بحدقتيه، همست بحزن مغمور في دورق الحسرة:

-واللي طلبته مني صعب اتقبله يا نوح.

-يسر أنتي لو بتحبيني بجد زي ما بحبك، عمرك ما هتفكري في التفاهات دي، بالعكس هتفكري فيا وفي وجودك جنبي، وفي حياتنا، أنتي فجأة سيبتي كل الحب اللي ما بينا على جنب وفكرتي في النقطة دي، رغم أنك ممكن كنتي تتغاضي عنها وتفكري ازاي ماتوصلنيش للي أنا عايزه.

احتلت غمامة الكآبة وجهها وهي تجيبه بواقع حياتهما المستقبلية:

-الكلام سهل صدقني، بس الواقع أصعب، وبعدين ليه دايمًا مطلوب مني أني أبذل مجهود، أنا مش داخلة حرب، ده جواز والمفروض أساسه يكون مودة ورحمة ما بينا.

أبدى موافقته السريعة على حديثها:

-فعلاً عندك حق، وأنا عمري ما هقلل منك أبدًا، ولا أعاملك معاملة تقل منك، أنتي هتفضلي يسر البنت اللي يوم ما قولت يا جواز مافكرتش غير فيها.

ابتسمت بشجن وهي تلقي ما في جعبتها:

-ويوم ما فكرت تجرح مافكرتش غير فيها بردو.

حاول التملص منها بقوله المعارض بخشونته المتعلقة بنبرته الرجولية:

-يعني يوم ما اطلب أبسط حقوقي تقولي بجرحك، وبعدين انتي اللي قولتي ننفصل يعني ده قرارك، رغم أني مكنتش حابب كده، ومدتنيش فرصة أقنعك باللي أنا عايزه.

تفهمت إلى ما يرمي إليه، فقالت بدهاء أنثوي دائمًا يليق بأنثى فريدة الخصال مثلها:

-يعني لو فشلت تقنعني، كنت هتسيبني صح؟! ده اللي حسيته منك، فسهلت عليك الطريق.

ورغم مهارتها في تسديد كرة اللوم والعتاب، إلا أنه عاد وسدد بملعبها بنفس طريقتها بأسلوبه البسيط والهادئ:

-أنا حسيت أني سهل عندك، فزعلت بس على قد زعلي على قد ما كنت اتمنى ترجعيلي ونتمم جوازنا اللي وقف عشان حاجات الله أعلم هي هتحصل ولا لأ.

تعلقت قشة الأمل خاصتها بقولها الحازم وهي تواجهه بصراحة:

-وأنا اعيش رهن هيحصل ولا لا ليه يا نوح، ليه دايمًا لازم أحس أني في اختبار.

ضغط فوق كفيها بقوة وهو يحثها على عودتهما:

-سيبي نفسك وماتفكريش في أي حاجة غير حياتنا وبس، هو يعني سهل عليكي تقطعي علينا فرحتنا.

تدخلت والدتها التي كانت تقف خلف الباب تتابع حوارهما بشغف:

-والله كلام نوح عين العقل يا يسر، أنتي بتحبيه وهو بيحبك ليه تفكروا في حاجات ملهاش لزمة وزي ما قولتلك تقدري تخليه مايفكرش في اللي هو عايزه.

القت والدتها نحوه نظراتها المعاتبة حتى هي لم تستطع التأقلم مع رغباته التي أفصح عنها بكل برود، ولكن الحب المتأجج بقلب ابنتها والعذاب التي تعرضت له فور فراقهما، جعلها تسعى بكل إمكانياتها لإصلاح الأمور وتهدئة هياج أفكار أبنتها، معتقدة بسذاجتها أن ابنتها تستطيع تحجيم رغبة نوح المُلحة ووضعها في بئر النسيان بحبها وأنوثتها وحصاره في عش الزوجية بمسئولياته الكثيرة.

-قوليلها يا حاجة، قولي لبنتك اللي دماغها زي الحجر، كل حاجة يا يسر لسه مستنياكي ومستنية إشارتك عشان نرجع للي كنا بنحلم نكمله.

ضاعت يسر بين صراع قلبها المتمني وعقلها الثائر برفضه، فشعرت أن كفة الحنين تميل نحو فكرة الرجوع والرضوخ لشرطه وخاصةً بعدما أعلنت أحاسيسها المتلهفة له العصيان على عقلها الرافض الرجوع إليه، حتى أنه بدت أمانيها تغلب معتقداتها في حرب أصبحت محسومة لعودتها لنوح! 

لكن لا زالت موافقتها تصارع سجون الرفض، فتفهمت والدتها ما تعانيه ابنتها بصمتها الطويل، لذا حاوطتها برفق وكأنها تشجعها على تخطي عقبات زائفة كما تعتقد، أما هو حثها على نطقها بعينيه المتلهفة لعودتهما بأي شكل، وأخيرًا استطاعت التخلي عن قيود الرفض بقول متهور لم تعتقد أنها سوف تندم عليه فيما بعد:

-ماشي يا نوح موافقة.
                                ****
عادت يسر من شرودها أخيرًا بعدما نفدت قواها لتحمل كم الذكريات المؤلمة المتدفقة لعقلها، فأغمضت عينيها الباكية والحسرة تتناغم بصوتها الحزين:

-يا ريتني ما وافقت، كنت افضل على نفس رأيي، ماكنش يبقى دا حالي.

فتحت عيناها حين وجدت ابنتها تحاول استراق انتباهها:

-ماما أنا جعانة وعايزة آكل.

همست ببسمة مكسورة وهي تهم لإطعام ابنتها والخروج من بقعة التفكير به.

-حاضر يا حبيبتي.
                              ****
تمم " يزن" على آخر الملفات الخاصة بمبيعات المعرض، والرضا يزحف لصدره بعدما نجح في تحقيق أعلى نسبة مبيعات هذه السنة، بالرغم من شقاوته وعبثه مع الفتيات إلا أن عمله يمثل لديه الخطوط الحمراء واستطاع تحقيق أحلامه من خلال تطوير أمانيه كل عام.

-أستاذ يزن.

لم يصدق، هل بالفعل هي موجودة أمامه، شغفه الجديد تقف بجسدها الممشوق ونظراتها الحادة والتي تنافي رقة ملامحها، ونغمة صوتها الناعمة تسقط على مسامعه بدفيء لذيذ، فقطعت سيرا تأمله بها بعدما شعرت بالخجل:

-هتفضل باصص لي كتير؟!

-أصل مش مصدق عيني الصراحة!

أجاب بنبرة يغمرها المكر وهو يعيد جسده للخلف، يستمتع بوجودها أمامه، في ظل وقفتها الهجومية وكأنها تستعد للانقضاض عليه:

-وده ليه ان شاء الله، طبيعي آجي وأسالك عن أي أخبار تخص سلسلتي.

تصنع الجدية وهو يشير إليها بالجلوس، مردفًا بنبرة جادة هو يدرك تمامًا أنها لن تليق به في ظل حاجته المُلحة لإثارة غضبها بسخريته:

-كويس إنك جيتي؟ أنتي مش متخيلة المجهود اللي عملته عشان الاقي السلسلة.

-مجهود؟!

كررت خلفه باستنكار، فأسرع بقوله والجدية تقطر من حروفه رغم حاجته المفرطة للضحك:

-طبعًا، هو سهل يعني نلاقي سلسلة دهب؟ هو أنتي عارفة جرام الدهب بكام دلوقتي يا سيرا؟!

ضيقت عينيها بغيظ واضح حين لاحظت سخريته المبطنة عليها، ولكنه استطرد بجدية ملونة بمشاكسة لطيفة:

-أنتي مش متخيلة الحوارات اللي دخلت فيها عشان خاطر عيونك....آآ اقصد عشان خاطرك يعني، ده الوا......قصدي الراجل اللي لاقاها كان مُصر أنها بتاعته بس على مين أنا جبته من قفاه وهددته لو مطلعهاش وادهالي هو حر وطبعا خاف مني عشان أنا حد واصل أوي يعني، فادهالي.

تركت بطولاته الزائفة في اقتناص قلادتها جانبًا وصاحت بفرحة عارمة وهي تسأله:

-يعني الحمد لله لقيتها، هي فين هاتها؟ 

عبس بوجهه وهو يقول بتهكم طفيف:

-أيه ده مفيش شكرًا ولا أي حاجة، ده أنا بحكيلك عانيت قد أيه عشان اوصلها.

زمت شفتيها بضيق رغم محاولاتها المستمرة لإظهار لطفها ولكن أفعاله تثير حنقها دومًا:

-شكرًا طبعًا لمجهوداتك العظيمة، بس هي فين بقى؟!

هز كتفيه ببساطة وهو يجيب:

-مش معايا طبعًا.

ارتفعت نبرة صوتها بدهشة ممزوجة بالاستنكار اللاذع:

-نعم؟!

جذبت أنظار العاملين بالمعرض، فسارع بتهدئتها بقوله وهو يشرح لها ما حدث:

-أيه اهدي في أيه، أنا لقيت القفل بتاعها مكسور فبعت اصلحها.

فشل في اقتناص إعجابها به، وذلك حين ردت بهجوم حاد:

-الله وأنت تعمل حاجة زي دي ليه من غير أذني.

أصابه الغيظ من تعمدها الواضح لتقليل من مجهوداته، متعجبًا من أفعالها والتي تنافي تصرفات باقي الفتيات معه، فهو لم يخطأ أبدًا حين وصفها بعقله بالفريدة في كل شيء:

-يعني ده جزاتي، تصدقي إن أنا غلطان.

عادت تصيبه بالجنون حين ترنحت من فوق أرجوحة الهجوم وعادت لأرض النعومة والدلال:

-أه....اقصد، طيب بص لو سمحت هو فين المحل ده عشان اروح اجيبها.

تلقت نظرته المعاتبة وهو يستعد للنهوض ولململة أشيائه:

-رغم إن أنا زعلان، بس أنا هاخدك واوديكي.

لم تمر سوى دقيقة واحدة وعادت رصاصات الهجوم من فوهة مدفعها:

-تاخدني فين؟! أيه كمية الحب اللي بتعاملني بيها دي!

اتسعت ابتسامته باستفزاز واضح وهو يتعلق بعينيها المشتعلة بنيران السخرية:

-لا أنتي لسه ماشوفتيش حب مني، ده بوادر لطف.

حاولت كظم غيظها بشتى الطرق وهي تتجاهل غزله المبطن، فقالت:

-يا أستاذ يزن وفر لطفك وحبك وقولي فين المحل؟

انطلقت إمارات السأم تغزو وجهه الوسيم وخاصةً حين قال:

-لا حول ولا قوة إلا بالله، ما أنا بقولك يلا هوصلك بعربيتي.

رفضت رفض قاطع وهي ترمقه باستنكار ملتهب:

-لا انت مجنون، انت عايزني اركب معاك، لا طبعًا.

تسللت بوادر السخط لحديثه المصبوغ باستهزاء بسيط: 

-هو حد قالك إن أنا بعض، أو عندي مرض معدي، أنا زي الفل ومستحمي قبل ما أنزل.
رفعت أنفها بشموخ وهي تقتل آماله بالذهاب معه، فيبدو أن الإصرار يفرض عباءته على عقلها ورزانتها:

-بعيدًا عن هزارك أنا ماينفعش اركب معاك عربية لوحدنا، أنا هطلب أوبر.

تضجر وهو يرمقها بسخرية: 

-يعني هي فرقت!

-اه طبعًا تفرق، وأنا أيه عرفني يمكن ورا إصرارك ده تخطفني، انت شكلك عايز تخطفني.

توسعت مقلتيه غير مصدقًا أن عرضه لإيصالها من باب الذوق حولته بعقلها المجنون لخطة خبيثة للإيقاع بها، فقال باستياء:

-اخطفك؟!

-اه طبعًا والله أنا حاسة ليك في تجارة الأعضاء.

أكدت على حديثها برعونة أدهشته، فقال ممازحًا إياها:

-مايميش معاكي اني مدمن خطف البنات الحلوة اللي زيك.

عبست بوجهها تسأله بتحذير طفيف رغم أن مشاعرها مالت بجنون نحوه وأصبحت متشوقة لغزل آخر:

-نعم؟!

اقترب منها واختصر المسافات بينهما، فهمس بنبرة مشاكسة استطاع من خلالها سبر أغوار قلبها:

-ما انتي اللي بتهزري، طلعتني مجرم ورئيس عصابة.

تظاهرت بالعبوس والجدية وهي تبتعد عنه محذرة إياه بقسوة مهزوزة:

-يبقى ريح نفسك وقولي المحل فين، عشان مارقعش بالصوت واتهمك بحاجات توديك ورا الشمس.

فتح ذراعيه وهو يبتسم بشقاوة:

-يا سلام والله اتمنى.

شملته بنظرة مستنكرة من أعلاه لأسفله وهي تسأله بعدم فهم:

-تتمنى أيه؟! 

-اروح ورا الشمس، عايز اعرف أيه هناك.

تابع مزاحه وهو أكثر راحة في الحديث معها، ولكنها صدمته بسخريتها منه:

-هاها ها...سوري ظريف جدًا.

توقعت غضبه منها ولكنه صدمها بلطفه الزائد عن حده:

-هعتبرها مداعبة لطيفة منك، يلا بينا.

تذمرت بضجر وهي تغادر المعرض خلفه:

-بردو؟!

توقف على باب معرضه يعلن استسلامه لها، ثم أوقف سيارة أجرة، متابعًا الحديث معها بخفوت وهي تستقل في المقعد الخلفي:

-يا ستي اركبي تاكسي وأنا هاخليه يمشي ورايا، وقبل ما تفتحي بوقك وتتهميني أني بتاجر في المخدرات، المحل اللي بعتله السلسلة مش هيرضى يسلمها إلا ليا، هتيجي ولا لأ.

صمتت ولم تعقب على حديثه رغم العبوس المحتل لقسمات وجهها الجميل، بينما هو كان أكثر راحة واستمتاع وهذا ما أثار استفزازها نحوه رغم أن دقات قلبها كانت تتصارع بجنون في أروقته، فراح عقلها يهيئ لها أنه يمكن للقدر نسج خيوط الوصال بينهما ولكن شتان بينها وبينه، الفارق بينهما كبير ومخيف لدرجة أن آمالها هوت واصطدمت بواقعها.
                              ****
وصلوا أمام "المحل الأساسي" الذي يخص عائلة الشعراوي والذي يتخذه سليم مكانًا له أغلب الوقت، ولكنه أجرى اتصالاً قبل أن يذهب وعلم من أحد العاملين أن اخيه الأكبر يتابع باقي المحلات اليوم، فارتاح أكثر وهو يأخذ تلك المشاكسة معه، وكما توقع رفضت أن يدفع للسائق أجرته، ودفعت هي بكل غرور، فيبدو أن تلك المشاكسة تحظى بعزة نفس كبيرة.

دخلا معًا ولم تلاحظ أنه غمز أحد العاملين، فسارع الآخر بجلب القلادة ووضعها أمامهم، ابتسمت براحة وسعادة وهي تلتمسها بين يديها ولكن سرعان ما تركتها حين استمعت للعامل وهو يقول:

-القفل المكسور احنا شلناه خالص وركبنا قفل دهب مكانه وان شاء الله مش هتتقطع تاني ولا تبوظ.

توسعت عينيها بشراسة وهي تردف بضيق اجتاح صوتها:

-وانت تعمل كده ليه من غير ما تقولي؟!

توتر العامل وهو ينظر ليزن، الذي هو أيضًا أصابه عدم الفهم فنظر إليها يهدأ ثورتها بنبرته الخافتة:

-في أيه يا سيرا، الراجل شاف شغله، هو غلطان في أيه؟!

شعرت وكأن دلوًا من الماء البارد صُبَّ فوق رأسها بسبب شعورها بالإحراج، ليس معها المال لذلك القفل الذي بالتأكيد سيكون بعدة آلاف، تشعر الآن وأن مظهرها أمامه كالفرخ الصغير الذي سقط في بركة من الماء الفاسد، كيف تخبره بأنها لا تملك ذلك المال!، وكيف يغير شيئًا فيما يخصها دون الرجوع إليها، وعند تلك النقطة التفتت إليه لتصب كامل غضبها عليه وتخرج مما هي فيه.

-فعلاً هو مش غلطان، انت اللي غلطان عشان اتصرفت في حاجة ماتخصكش.

وبلمحة دهاء منه أدرك مما تحاول إخفائه من خلال عصبيتها، فحاول تهدئة انفعالاتها بقوله الخافت:

-انتي مضايقة من أيه، ماتشليش هم حاجة.

اندفعت الدماء لوجنتيها وهي تواجهه بشراسة منسوجة بخيوط الغضب:

-هم أيه! لا طبعًا، أنا مايهمنيش دي كلها أمور بسيطة وعادية، أنا بتكلم في المبدأ نفسه.

-في أيه اللي بيحصل هنا؟!

وجود سليم المفاجئ أربك الجميع وخاصةً يزن، فسارع بلم الأمور المبعثرة بقوله الجاد:

-مفيش حاجة يا سليم، روح أنت على مكتبك وأنا جايلك.

ركز سليم بنظراته الثاقبة عليها مما أثار حنقها الضعف ورمقته بعنفوان شرس، يكفي الغليان الذي تشعر به وهي تقف كالجرو المبتل أمامهم، حولت جسدها نحو العامل المتابع للأجواء بفضول:

-بص خليها عندك هنا وأنا بكرة هجيب بابا واخدها.

سارع يزن برفض ما تحاول فعله:

-لا طبعًا، والدك أيه اللي تجبيه، بقولك مش مستهلة، خدي سلسلتك.

أعطاها القلادة فوضعتها بقوة فوق الطاولة الكبيرة، ترفض ما يقوله بترفع:

-بأمارة أيه يعني تعمل معايا كده، لا طبعاً واللي هقوله هو اللي هيحصل يا أستاذ يزن، وكتر خيرك لغاية هنا.

وضعت حقيبتها خلف ظهرها واستعدت للمغادرة متجاهلة أمر وجود سليم الذي اندفع نحو أخيه يسأله بريبة وحذر:

-مين دي يا يزن، ده حوار جديد؟!

سارع يزن بالنفي شاعرًا بالضيق الشديد:

-لا يا سليم ولا حوار ولا حاجة، هبقى احكيلك بعدين سلام.

غادر هو الآخر تاركًا سليم ينظر خلف أثره بتفكير لثوان ثم قرر التوجه لكاميرات المحل، يتابع من خلالها ما حدث أثناء غيابه.
                             *****
سارت ساعات الليل ساعة خلف الأخرى، وأخيرًا استطاعت سيرا النوم، متناسية ما حدث في هذا اليوم ، ومن فرط إرهاقها باتت تتوهم وجود أحد بغرفتها، ففتحت نصف عين بقلق ممزوج بالخوف وهي تتابع الظل الموجود بغرفتها، فتأكدت من وجود أحدهم من خلال صوت أنفاسه العالية، أغلقت عينيها بخوف شديد وهي تهمس لنفسها:

-أنا همثل أني نايمة وهو يسرق أي حاجة براحته.

ولكنها بدأت تشعر بيد أحدهم على ساقيها حتى وصلت إلى بطنها ومنها إلى كتفيها، فقالت بهمس مرتجف وهي تغلق عينيها بقوة ترفض فتحهما:

-أنا ممكن اقولك على مكان الفلوس فين بس ماتقتلنيش. 
سارت ساعات الليل ساعة خلف الأخرى، وأخيرًا استطاعت سيرا النوم، متناسية ما حدث في هذا اليوم ، ومن فرط الإرهاق الواقع فوقها باتت تتوهم وجود أحد بغرفتها، ففتحت نصف عين بقلق ممزوج بالخوف وهي تتابع الظل الموجود بغرفتها، فتأكدت من وجود أحدهم من خلال صوت أنفاسه العالية، أغلقت عينيها بخوف شديد وهي تهمس لنفسها:

-أنا همثل أني نايمة وهو يسرق أي حاجة براحته.

ولكنها بدأت تشعر بيد أحدهم على ساقيها حتى وصلت إلى بطنها ومنها إلى كتفيها، فقالت بهمس مرتجف وهي تغلق عينيها بقوة ترفض فتحهما:

-أنا ممكن اقولك على مكان الفلوس فين بس ماتقتلنيش.

شعرت بضربة قوية تقع فوق ذراعها وصوت "أبلة حكمت" يخترق قوقعة خوفها بقولها الحاد:

-أنتي عبيطة بتسلمي أبوكي للحرامي.

اعتدلت سريعًا بجسدها، ومدت يدها لتفتح الأنوار من خلال المفتاح الصغير الموضوع بجانبها:

-أبلة حكمت، انتي بتعملي أيه هنا الساعة ٢ بليل.

فركت وجهها بيدها وهي تنظر  لوجود أختها المفاجئ، وقد تخيلت أن "أبلة حكمت" بجبروتها المعتاد ترسل لها نظرات الأسف، ومع استمرار صمتها قالت سيرا بعدم فهم وخاصةً أنها علمت من والدتها اليوم أنها اختفت منذ الصباح ولم تثبت وجودها كما هو معتاد منها، حتى أن عائلتها اليوم كانوا أكثر راحة وهدوء بعدما قررت "حكمت" الجلوس بشقتها متظاهرة بالانشغال، فلم تستطيع والدتها معاتبتها فيما هو حدث منها.

-ماتزعليش مني.

رمشت سيرا عدة مرات بعدم تصديق، فتجولت بعينيها الناعسة بملامح "أبلة حكمت" تتأكد مما سمعته منها، فاستطردت بقولها العابث:

- أيه مش متخيلة أني بصالحك، صح؟!

هزت سيرا رأسها بالإيجاب، فأكملت الأخرى بغرور:

-حقك ماتصدقيش، بس يعني أنا حسيت ان تقلت في الهزار معاكي شويتين.

عبست سيرا بضيق وهي توجه لها عتاب حاد:

-لا يا أبلة حكمت ده مكنش هزار أبدًا.

زعقت بها ابلة حكمت وهي تحاول الفرار من أمر مواجهتها:

-بقولك كان هزار، هو انتي هتدخلي في نيتي يعني، وبعدين خلاص أنا صالحتك وقولتلك ماتزعليش.

لم تنجح في تلطيف الوضع بينهما كما اعتقدت، فعادت تردف بنبرة أكثر حنو:

-انتي المفروض تفرحي أني صالحتك يا بت يا سيرا، هو أنا من امتى يعني صالحت حد، ده انتي غالية اوي عندي.

لانت ملامح سيرا ببسمة صافية، وهي تردف بخفوت يحمل صفاء خالص متناسية ما حدث:

-ماشي يا أبلة حكمت، أنا مش زعلانة.

قبلتها أبلة حكمت وكادت أن تنهض إلا أنها عادت وقالت بتحذير قاسي:

-اوعي تقولي لحد أني صالحتك يا سيرا.

عقدت ما بين حاجبيها بتعجب، فسرعان ما عادت توضح وجهة نظرها:

-انتي عارفة اخواتك، هيجننوني ويقعدوا يقولوا بتصالحي سيرا ومابتفكريش تصالحينا، هيغيروا من علاقتنا.

هزت رأسها بإدراك لطبيعة شخصية "أبلة حكمت" وما تعانيه من غرور وتكبر تخشى أن تفقدهما مع باقي اخواتها، فلا تزال تسعى على محافظة الحدود الحمراء الموضوعة من قبلها في التعامل معهم حتى وأن اخطأت بحقهم، لقد اعتادت اجتياز جسر الإخوة بتدخلاتها المستمرة المصبوغة بقليل من التنمر، متجاهلة كالعادة غضبهم وحزنهم منها، معتقدة أن حق الإخوة يعطيها صلاحية لكل شيء.

غادرت أبلة حكمت بخفة كما دخلت كي لا تقابل أحد من افراد عائلتها ويفتضح أمرها، ولم تعلم ما تنوي سيرا فعله في الصباح.

                             ****

في اليوم التالي...

كالمعتاد جلست "يسر" تتابع التلفاز بملل شديد يكسو حياتها مؤخرًا، متجاهلة الركود والإضرار الذي حدث لعلاقتها مع نوح، ورغم تكرار الاسئلة بذهنها حوله الآن وخاصةً بعد غيابه الليلة الماضية وعدم اتصاله بها، إلا أنها ركبت بساط العناد والقسوة وظلت متمسكة برأيها، حتى يعلن زوجها المبجل خضوعه لها ولِمَ تريده منه، فالأمر بسيط من قِبله ويحتاج فقط إلى التخلي عن بعض رغباته، ليحظى بحياة بسيطة وسعيدة معها!

مرت الدقائق وهي على نفس حالتها حتى وجدت نفسها تتابع إحدى القنوات وتحديدًا برنامج إحدى المذيعات ذو الشهرة الواسعة وهي تنصح الفتيات التحلي بالقوة في وجوه الرجال  العنيدة والجبارة، فاستمعت باهتمام لِمَ تقوله وكان من ضمن حديثها بعض الجمل التي أنارت عقلها المظلم.

"أنتي لازم تبقي قوية" 

"اوعي تبيني ضعفك للراجل"

"لو حسسيته أنه مش فارق معاكي، هيجري وراكي"

"النكد والزعل مايلقيش بيكي، أنتي لازم تكوني منورة والنكد يكون من نصيبه هو"

فصاحت بحماس أنثوي تعقب على حديثها بغل:

-أيوه صح، هو اللي لازم يتنكد عليه!

عادت تستمع لحديث المذيعة باهتمام بالغ وهي تملي على مشاهديها التوصيات لمساعدتهن في تخطي عقبات حياتهن البائسة.

"قومي بصي لنفسك في المراية، هتلاقي الدموع مغرقة عينك، ووشك أصفر وبهتان وده كله عشان أيه، بالعكس غيظيه وخليه يموت من قهرته عليكي، وأنه ممكن يخسرك في ثواني"

تنهيدة عميقة أخرجتها من ضمن ثقل قوي يتربع فوق صدرها المشحون بتناقضات كثيرة، وكالمسحورة توجهت نحو المرآة تتابع تفاصيل وجهها الشاحب والحزن يكسو معالمها الجميلة، فشعرت وكأن روحها الشبابية تلبسها أخرى عجوز بائسة تستعد لنهايتها! 
سقطت دمعة حزينة مسحتها سريعًا، فحاولت التمسك بحبال الصبر، جذب رنين هاتفها انتباهها، فراحت تجيب على المتصل وقد ظنت أنه نوح ولكن هُدمت آمالها بواقع آخر، حين وجدت المتصل هو ابن خالتها زفرت بضيق وكادت تغلق الاتصال ولكن شرارة كلمات المذيعة أشعلت لهيب عقلها، ولم تدرك أن تلك الشرارة البسيطة التهمت بقايا صبرها ومعه قليل من رزانتها، فابتسمت بمكر أنثوي وهي تُقدم على تصرفات طائشة لمجرد إغاظة نوح وإثارة غيرته:
-الو، أهلاً يا منير، وحشتنا خالص.
                            *****
في المركز الطبي الخاص بنوح..

كان اليوم مشغولاً جدًا منذ بدايته، وتراكم متابعة المرضى يقع فوق رأسه بكثرة، فلم يستطع أخذ راحته إلا خمس دقائق  اقتناصتهم مروة مساعدته بإجراء مقابلة عمل مع إحدى الفتيات وتدعى  "حسناء" فتاة في مقتبل العمر، ذات جسد ممشوق وملامح عربية بلون بشرة قمحية متناسقة مع لون عينيها البنية الواسعة، طلتها جميلة وسرقت انتباه نوح الذي اعتدل في كرسيه يستقبلها بطريقته اللبقة:

-أهلاً يا حسناء نورتي.

مدت حسناء يدها تصافحه برقة ودلال كان لائقًا بها كما وصفها نوح بعقله، فابتسمت مروة على إنجاز مهمتها في إيجاد مساعدة بديلة عنها، وذلك بعد أن عُرض عليها السفر لإحدى الدول الخليجية للعمل بها، وكانت فرصة لا تُرفض، لذا تحدثت مع نوح بكل صراحة والأخر شجعها بشهامة وحثها على بناء مستقبلها بالطريقة التي تراها ولكنه طلب منها إيجاد مساعدة بديلة قبل أن تغادر البلاد.

-أول مرة تشتغلي يا حسناء؟!

هزت رأسها بالنفي وهي تجيب بثبات ولباقة أعجب بها نوح:

-لا طبعًا يا دكتور اشتغلت مرة في عيادة دكتور أسنان، ومرة في عيادة دكتور باطنة.

ابتسم ممازحًا لها:

-ما شاء الله لفيتي على التخصصات كلها.

ضحكت برقة ثم استطردت بجدية تخللها بعض من النعومة:

-أنا كنت واخدة اجازة بسيطة وكنت هرجع شغلي تاني، بس لما مروة كلمتني وقالتلي على الشغل هنا، وأنا عارفة منها إن حضرتك بتقدر جدًا اللي بيشتغلوا معاك، فقولت ليه لأ اجي وان شاء الله اتوفق فيه.

ابتسم لها بسمة صغيرة وهو يوجه حديثه لمروة المتابعة لحوراهما بصمت:

-تمام يا مروة عرفي حسناء الشغل ماشي معاها ازاي، والمرتب وكافة التفاصيل ولو هي محتاجة حاجة زيادة كلميني.

هزت مروة رأسها بالإيجاب ودفعت حسناء للخارج برفق وهي تقول:

-اوك يا دكتور، هندخلك الحالة اللي المفروض تدخل.

وما أن غادرا هما الأثنان حتى هتفت حسناء بإعجاب خافت:

-أيه الدكتور القمر ده يا بت يا مروة، هو متجوز؟!

جلسا الاثنان فوق مقعدهما خلف طاولة كبيرة وبدأت مروة في الإيجاب على أول سؤال طرق بعقل حسناء:

-اه يا اختي وعنده بنت اسمها لينا بيموت فيها.

وضعت حسناء يدها أسفل ذقنها وهي تقول بنبرة بها لمحة من المكر:

-أيوه مانا أخدت بالي من صورتها المحطوطة على المكتب وقولت أكيد بنته.

ضيقت مروة عينيها بمكر مماثل وهي تقول:

-ولما أنتي اخدتي بالك يا لماحة بتسألي متجوز ولا لأ ليه؟!

هزت كتفيها ببرود ينافي الحماس المصبوغ بعقلها:

-قولت يمكن مطلق ياختي.

-ادعي وهيحصل قريب.

زاد حماسها للضعف وهي تقترب منها تستعد لسماع أحاديث مروة عن نوح وزوجته المشتعلة دومًا بغيرتها عليه، وما أن أنهت حديثها حتى قالت بتنهيدة قوية:

-بس سبحان الله رغم كل المشاكل اللي ما بينهم، إلا أني عمري ما حسيت أنهم هيسيبوا بعض.

شردت حسناء بأسلوب أقلق مروة فقالت بفضول:

-اوعي تحطيه دكتور نوح في دماغك يا بت يا حسناء، فكك من خراب البيوت يا حبيبتي، اشقطي واحد مش متجوز.

اندلعت أحلامها في نسج خيوط خطتها وكأن هذا العمل المفاجئ قدم لها فرصتها على طبق من ذهب، فهمست بشرود:

-واللي حياته مدمرة نسيبه كده ولا نساعده، يمكن يلاقي نصيبه اللي بجد.

ضحكت مروة بلامبالاة:

-يبقى نويتي أن امك تعمله عمل يوقعه.

تنهدت حسناء بخفة وهي تحسم أمرها:

-شوفي أنا عمري ما مشيت في طريق أمي ده، بس لو عشان خاطر نوح ده همشي فيه ونص.

-والله أنتي دماغك تعبانة أنتي وأمك الدجالة دي.

-طيب بس لاحسن اخليها تسيب عفاريتها عليكي، ويلا قوليلي بتنظمي المواعيد ازاي.

انشغلا في الحديث لفترة بسيطة عن كيفية ترتيب أمور العمل بالمركز الطبي، ودخول المرضى لنوح، ولكن دخول " يسر " المفاجئ أثار ربكة مروة قليلاً، فاستقبلتها ببسمة جافة وهي تشير لها بالدخول لنوح ولكن ما أثار دهشتها هو ذلك الشخص الغريب الذي دخل معها، فلم تنتبه لأسئلة حسناء الفضولية:

-المزة دي مراته؟! ومين ده اللي معاها؟! أكيد أخوها صح؟!
                             ***
اشتدت الصدمة فوق وجه نوح الذي سارع بإخفائها وهو يتأمل زوجته المتأنقة وتلك الإشراقة المحتلة ملامحها وثيابها المائلة للون الزهر المفضل لديها، و....ماذا؟! البلهاء تضع أحمر شفاه لونه وردي، وترتدي عدسات لاصقة باللون الأزرق، ماذا يعني ذلك؟! أهي ترحب بعودة منير من عمله؟! فهو يعمل محاسب في أحد بنوك الإسكندرية ويأتي للقاهرة كل فترة! هي تعرف تمام المعرفة أن التوافق بينهما يندرج بقائمة المستحيلات، وأنه الشخص الوحيد بعائلة يسر يكرهه، لأسلوبه البارد وتودده الدائم لزوجته!
غفل نوح عن الترحيب بمنير ولكن الآخر لم يعقب وكأنه معتاد على قلة الذوق منه دائمًا، فكسرت "يسر" حاجز الصمت والتوتر السائد للأجواء بقولها الهادئ المائل للعتاب:

-أيه يا نوح مش هتسلم على منير!

-أهلاً.

خرجت جافة وباردة منه وهو يمد يده يصافحه، ولكن منير لم يشعر بالإحراج بل تعمد مضايقة نوح أكثر كنوع من التسلية فهو يعلم مشاعر نوح نحوه ويستمتع بذلك، لطالما يرى أن يسر لا تناسب نوح، فابنة خالته تستحق شخصًا أفضل منه، شاعرًا بالأسف نحوها، فدائمًا يراها جوهرة وضعت في يد شخص مهمل لم يقدر ثمنها.

-عامل أيه يا دكتور، والله كنا مستعجلين بس يسر أصرت نيجي ونسلم عليك.

ضغط فوق أسنانه بقوة والغضب يتفاقم لديه بطريقة مُرعبة، ولكنه أخفى كل ذلك خلف رداء الهدوء وهو يتساءل:

-ويا ترى رايحين فيه؟!

وقبل أن تجيب يسر بثبات زائف، رد منير بحماقة قاصدًا إشعال غيرة نوح:

-أيه ده معقول يسر مش قالتلك؟!

اكتفى فقط بإرسال نظراته المرعبة لها، ومنع أي كلمات متهورة قد تندفع من فوهة بركانه الثائر، فتفهمت هي ما يجول بداخله وما ينتظرها من عواقب وخيمة، لذا حاولت إخراج نبرة صوتها الثابتة بقدر الإمكان:

-ماكنش في وقت اتصل واقوله يا منير، خصوصا إن نوح مشغول اوي في عيادته اليومين دول، على العموم احنا كنا رايحين نتغدا، أصل منير عازمنا أنا ولينا وخالتوا على الغدا، حتى لينا تحت معها في العربية.

أنهت حديثها سريعًا وفتحت مجالاً للهواء لدخول لرئتيها، وخاصةً بعد شعورها بانقطاع وشيك لتنفسها، وبعدما كانت على مشارف تنفيذ خطتها لإثارة غضبه وغيرته، ها هي ستقع فريسة بين يديه إن فشلت في الفرار من أمامه الآن وتحديدًا بعدما قال منير بحماقة: 

-والله مش هتصدق يا نوح، أول حاجة عملتها لما جيت القاهرة، اتصلت على يسر عشان اشوفها هي ولينا أصلهم وحشوني اوي.

-وحش لما يلهفك، ما تظبط يالا في أيه؟!

-نوح!

قالتها يسر بتحذير والإحراج بغزو وجنتيها، بينما منير كان عبارة عن كتلة من البرود، مستمعتًا باستشاطة نوح.

-نوح أيه بقى هو انتي خليتي فيها نوح، بقولك قوم اطلع برة، اقولك انزل لأمك زمانها قلقانة عليك.

رمقه منير بنظرة باردة والابتسامة الواسعة تحتل محياه وهو يتعمد تجاهله:

-انا نازل يا يسر، خلصي وهتلاقيني مستني تحت.

نقشت الصدمة فوق تعابير وجهه الغاضبة، متسائلاً بقسوة:

-هو عايز يضرب صح؟!

انتظرت خروج منير من الغرفة، وعقب إغلاقه للباب خلفه حتى وجهت عتابها الصريح له، تزامنًا مع نبرتها النارية:

-خلاص بقى يا نوح، كفاية إحراج، ماينفعش تهزقه بالشكل ده.

نهض من مكانه، مختصرًا المسافات بينهما وهو ينفجر بانفعال ضاري:

-انتي اتجننتي ازاي تفكري تنزلي من بيتك من غير إذني.

تراجعت خطوة للخلف، رغم تعمدها إظهار قوتها حتى وإن كانت هشة أمام طوفان غضبه:

-في أيه أنا ماغلطتش على فكرة...

بتر حديثها بغلظة أرعبتها، وهو يشدد يده فوق ذراعيها يقربها إليه:

-ماتستعبطيش يا يسر، أنتي عارفة كويس ان اللي عملتيه غلط وماينفعش، بس أنتي بقى شيطانك ركب دماغك لمجرد إنك عايزة تغظيني.

رفعت حاجبيها بتعجب زائف وهي تضحك ساخرة:

-بجد والله! لا أنت ماتفرقش معايا أصلاً، مابقتش في حساباتي.

رغم اهتياج أنفاسها، ورعونة كلماتها بحقه، وما آل لعقلها من ردود أفعاله التي حتمًا ستكون وخيمة عليها إلا أنه فاجأها حين أمسك بخصرها يجذبها نحوه، يقتحم شفتيها بقبلة طويلة يبث فيها تناقض مشاعره، وفرط اشتياقه لها، فترنحت قبلاته ما بين اللين والقسوة، بينما هي تمسكت به بضعف كالغريق المتشبث بطوق نجاة تتحامى به من هياج أمواج حبه الهائجة.
نجحت في الابتعاد عنه وحاولت التحلي بالقوة إلا أنها هوت بضعف بين ذراعيه تهتف بهمس يغمره الرجاء، متناسية أنها من أشعلت النيران في حقل غيرته:

-نوح مـ...ماينفعش.

أغمض عينيه يستمتع بسحر لحظتهما، وأحاسيسه تتخبط بين جدران صدره تسعى للفرار من سجونه المظلمة، فؤاده الشريد يتلهف للمزيد منها رغم التفاف النساء حوله وتقديم فروض الولاء له، فوحدها تستطيع إشباع روحه الجائعة بحنانها الفياض، غزالته البرية تملك مفاتيح قلبه ولكنها تأبى التنازل بل أنها تضرم قلبه بحريق لن ينتهي سوى بهلاكهما!
خانته أصابعه وتلمست تفاصيل وجهها المحبب له، يتغزل بملامحها الجميلة بإشراقتها المحببة لقلبه، فوقعت عينيها أسيرة لنظراته الشغوفة بها، ورغم عنها مالت شفاها المرتعشة ببسمة صافية وكأنها تناست ما فعله بها الأيام الماضية، فتمنت أن تضع رأسها فوق صدره تخبره بحجم اشتياقها له، ولكن كرامتها كانت كالحاجز الحديدي الذي تحطم عليه جميع أحلامها.

-هبعت معاكي السواق وتاخدي لينا وتروحي تزوري ماما، وأنا هاخلص بسرعة وأجيلك أخدك ونروح مع بعض.

ارتجف صوتها من فرط مشاعرها وهي تقول:

-و..مـ...منير وخالتو أعمل فيهم أيه؟!

كظم غيظه بمهارة ورد بأسلوب بارد ينافي الغليان الذي يشعر به كلما ذكرت أسمه أمامه:

-ماتعمليش حاجة أنا همشيهم، محدش طلب منك تتعاملي مع الواد ده.

امتهنت الضيق وهي تتحدث بنبرة شبه محذرة:

-نوح، ماينفعش تبوظ علاقتي بقرايبي.

استنكر بغيظ واضح، قائلاً:

-والله حلال فيه ماتبوظيهاش بس، لا تولعي فيها.

هتفت محذرة بنبرة شبه عالية:

-نوح؟!

اخشوشنت نبرته ليقطع حبال النقاش معها:

-يسر؟

فشلت في إخفاء بسمتها وسعادتها بعدما لمست حبه لها، فلا زال نوح عاشقًا لها رغم ما يفعله وما يقوله، لذا حاولت تهدئته نفسها الراغبة في تحطيم رأسه، وأجبرت ذاتها على الاقتناع، بأنه يتمسك فقط بالعناد معها، وبالتأكيد لم ولن ينفذ ما يطلبه، وأن رغباته من الممكن أن تكون ورقة يستخدمها لتجديد علاقتهما وحبهما كما دومًا تقنعها به والدتها!

-يلا بقولك عشان تزوري ماما، وبالنسبة لخالتك هبقى اخدك في يوم والواد الملزق ده مسافر نزورها.

تركته وتوجهت صوب الباب والحروب لم تهدأ بعقلها إطلاقًا رغم حالة الهدوء التي وقع بها قلبها فبدا كالمحارب الذي اقتنص هدنة بعد حرب طويلة أنهكته.

-نوح، هو أنت ممكن تتنازل علشان ماتخسرنيش؟!

سؤالاً لم يتوقعه، فوقع فوق رأسه كالقنبلة، حاول إيجاد إجابة دبلوماسية، رافضًا الاعلان عن حقيقة مشاعره:

-بليل هنتكلم في كل الاسئلة اللي انتي عايزاه، بس روحي دلوقتي عشان في ناس كتير اتأخرت برة وهيضايقوا، السواق مستنيكي تحت.

لمعت عيناها بوميض شرس، فتأكد أن الليلة لن تمر مرور الكرام، وأن ذلك الوقت مجرد هدنة قبل بداية مشكلة جديدة بينهما تنتهي بخصام لمدة ربما تكون مفتوحة!

لاحظ خروجها فتنفس أخيرًا محاولاً تهدئة نفسه، وأمسك الهاتف يبلغ سائقه بمعلومات محددة:

-وصل المدام ولينا للحاجة، ايوه هي لسه مانزلتش، في واحد وقف عندك اسمه منير، خد منه لينا لغاية ما المدام تنزل، ولو حصل أي حاجة غير اللي بقولها بلغني.

أغلق الهاتف وهو يتوعد بغل:

-ماشي يا منير الكلب، ورحمة أبويا لأعلمك الادب.
  
                               *****   
                            
ارتدت سيرا بلوزة صيفية بلون أزرق بها خيوط بيضاء متناثرة بها وسروال جينز وكعادتها احتارت في لون وشاحها، فأخذتهم وخرجت تستطلع آراء اخواتها الفتيات، وأخذت برأي الجميع وبشقاوتها اختارت وشاح لم يختاره أحد، فصاحت فريال بغيظ:

-يا باردة بتسألينا ليه، طالما مش هتختاري اللي بنقولك عليه؟!

-كنت بتأكد بس، إن رأيي هو الصح.

قالتها بضحكة واسعة، فبدت مشرقة وهي تنتظر والدها كي يذهبا لجلب القلادة، ولكن دخول أبلة حكمت من الباب قلب الأجواء، فقابلت أحد أبناء شاهندا وأمسكته معقبة:

-أيه يا واد التيشرت الملزق ده، هي أمك بردو هتفضل تجيب مقاسات صغيرة.

وضعت شاهندا حبات البزلاء بالصحن والضيق يعلو معالمها من تحكمات أبلة حكمت ورأيها الاستفزازي:

-احنا لسه بنقول يا هادي يا أبلة حكمت.

رفعت حكمت حاجبيها معًا بتحدٍ سافر، فراحت كريمة تخرج من المطبخ وهي ترسل الغمزات لباقي الفتيات، وحاوطت أبلة حكمت باستمتاع:

-بس يا شاهندا ماتزعليش من رأي أبلة حكمت، دي قلبها أبيض وكبير، وبتحب الكل، وأي حد بيزعل منها بتصالحه حتى ولو الساعة ٢ بليل.

ضيقت " ابلة حكمت" عينيها بسخط وهي ترسل نظراتها الحانقة لسيرا، التي سارعت برفع نبرة صوتها وهي تدعي البحث عن طعامها:

-الجبنة الرومي فين، كلتوها، ينفع كده عيالك يا فريال ياكلوا أكلي.

ضحكت فريال بتسلية وهي تقول:

-معلش بقى خلي أبلة حكمت تجبلك غيرها، ما هي بردة قلبها أبيض وكبير، وبتصالحك الساعة ٢ بليل.

احتقنت معالمها بغضب وهي تبعد كريمة عنها:

-اوعي ياختي، قافشة فيا زي الحرامي ليه كده، وبعدين مالك يا حبيبتي منك ليها، بتشقطوني لبعض زي الكورة ليه؟! والله لولا بس أن انا مش فايقلكم لكنت قعدتلكم هنا وعلمتكم الادب.

خرج والدهم من غرفته بعدما استعد، وهو يقول بنبرة محذرة:

-اهدي يا حكمت، احنا لسه بنقول يا هادي.

علقت حكمت حقيبتها بغرور في ذراعها، وهي تقول:

-عشان خاطرك أنت بس يا بابا، يلا بينا.

اوقفت سيرا والدها تسأله بهمس:

-هي أبلة حكمت جاية معانا يا بابا؟!

-اه.

أجاب والدها ببساطة أغاظتها، فبترت فريال سؤالها، بقولها الفضولي:

-هي أبلة حكمت رايحة معاكم فين يا بابا؟!

غمزت حكمت والدها كي لا يخبرهم، ولكن والدها دمر أمانيها وقال ببساطة:

-عايزة تبص على شقة، بتفكر تشتريها.

هتفوا ثلاثتهم بقول واحد:

-تاني؟!

فتحت كف يدها بخمس أصابعها عاليًا وهي تقرأ المعوذتين، ثم قالت بصوت متحشرج:

-اعوذ بالله، أيه الشرقة دي، احميني يا رب من عينهم الجاحدة.

ثم سارعت بالخروج خلف والدها وهي تعاتبه:

-أيه يا بابا، هو الواحد مايعرفش يخبي حاجة في البيت ده، امال أنا قايللك ليه، ما عشان صافي مايعرفش.

تجاهلها والدها الذي سارع في النزول، بينما سيرا حاولت الفرار منها ولكنها فشلت حين أمسكتها بأخر الدرج:

-بقى أنا اقولك ماتقوليش، تفضحيني فضيحة الكلب يوم فرحه كده، أنا مافيش حد علم عليا من اخواتك غيرك، بس الغلط مش عليكي عليا أنا، بعد كده مش هعبرك.

اصطنعت سيرا البراءة وهي تقول:

-انتي فاهمة غلط يا أبلة، ده هما جرجروني بالكلام وأنا وقعت غصب عني، أنتي عارفة أنا مش هعبرهم تاني ولا احكيلهم حاجة الفتانين دول.

-شوفتيهم وهما بيحقدوا عليا؟

هزت رأسها بالإيجاب، وقبل أن تتحدث صاح والدهما بضيق:

-هتفضلوا تتكلموا كتير على السلم، يلا مشاورينا كتير.

انصاعا لوالدهما وتحركا خلفه، وبعد مرور عدة دقائق طويلة وصلوا أمام محل "الشعراوي" انبهرت أبلة حكمت بتصاميم المحل وبمشغولات الذهب المعروضة أمامهم، بينما وقفت سيرا بعيدًا تنتظر والدها حتى ينهي الحساب، متجاهلة نظرات سليم لها وتعجبت منه ومن جلوسه المغرور أمام مكتبه الذي يقع في إحدى زاويا المحل، رفعت عيناها نحو الصورة المعلقة على الجدار خلفه وكانت لرجل كبير، تكهنت بذكائها أن يكون والده، مطت شفتيها وهي تمرر بصرها في أرجاء المحل، وكالعادة همست لنفسها:

-عبيطة صاحب معرض عربيات عايزة يروح لأي صايغ، لازم يروح لحد تقيل بردو.

ولم تدرك أبدًا أن اسم الشعراوي هو نفس أسم يزن الذي ألقاه على مسامعها في أول لقاء لهما، فيبدو أن النسيان لعب دورًا هامًا حين غمرها يزن بنظرته التي عبرت عن إعجابه بها، فتغاضت عن بعض النقاط الهامة وتناستها فيما بعد، انتهبت سيرا للاعتراض والدها ونهوض ذلك الشخص المتعجرف للتحدث معه، فاستمعت إليه وهو يقول بلباقة عالية تنافي التعالي والكبر المنحوتان في تفاصيل وجهه:

-انت حضرتك أيه اللي مضايقك، دي هدية مننا عشان الأنسة جاية من طرف يزن الشعراوي أخويا الصغير.

توسعت أعينها بطريقة ملحوظة، واصبغت وجنتيها بحرج شديد، أما عقلها وقع في دائرة ذعر عندما شعرت باتساع الفجوة بينها وبينه، انتهت قصة إعجابها به قبل أن تبدأ، فهي لم تكن متقبلة عمله والذي نم عن ثرائه، والآن أوضحت لها الحياة مدى ثراء عائلته أيضًا، فهمست لنفسها:

-غبية امال كنتي مفكرة عيلته هايبقوا أيه؟!

عادت تستمع لتدخل العامل في الحديث:

-أستاذ يزن منبه علينا مناخدش حاجة.

فتدخلت حكمت سريعًا:

-خلاص يا بابا الناس ذوق وعايزين يعملوها هدية، متشكرين.

بتر والدها حديثها بصرامة بالغة، سرقت إعجاب سليم به وبعزة نفسه والتي تشبه عزة نفس تلك اليافعة التي تقف وحدها والصمت يحجزها بين جدرانه:

-حكمت، ماتتدخليش...

ثم استطرد حديثه لسليم بنبرة أقل حدة ويملأها الرزانة:

-احنا متشكرين جدًا، بس أنا هكون مرتاح أكتر لما ادفع حقها، وأنا سعيد جدًا بمعرفتك يا أستاذ سليم، وبالنسبة ليزن أنا هروح لغاية عنده واشكره على نبله مع بنتي.

توقعت أنه مجرد كلام ولم تعلم نية والدها الجادة بالذهاب ليزن لشكره، وما إن أنهى الحساب، وأخذت سيرا القلادة وخرجوا من المحل، حتى سألته سيرا بفضول:

-طبعًا يا بابا الكلام اللي كنت بتقوله جوا ده مش هيحصل!

-لا طبعًا، هنروح له، يلا بينا.

استعدت أبلة حكمت بحماس وفضول شديد، بينما سارعت سيرا بالرفض:

-ليه يا بابا، أنا شايفة ملهاش لزمة، خليها وقت تاني، ولا اقولك أنا هشكره بالنيابة عنك.

تدخلت أبلة حكمت تعارضها وتعرض وجهة نظرها من واقع خبرتها التي دومًا تستعرضها أينما كان الحديث:

-من خبرتي يا بابا، احنا لازم نروحله ونشكره، وبالمرة نروح نطمن على المنطقة اللي سيرا بتشتغل فيها!

-عندك حق يا حكمت يلا بينا.

وضعت سيرا يدها فوق وجهها وودت الصراخ عاليًا، تتمنى أن يحدث شيء ويلغى ما عزم عليه والدها، ولكن القدر لم يحالفها، فوصلوا ثلاثتهم أمام معرض يزن وانبهرت أبلة حكمت بأجواء المنطقة الراقية، فصرحت بذلك علنًا:

-الله يا بت يا سيرا، امسكي في الشغل ده بايدك واسنانك، هي الشقة هنا تعملها كام مليون؟!

هتفت سيرا بغيظ من بين أسنانها والضيق يعلو قسمات وجهها:

-عشرين مليون يا ابلة.

توسعت أعين حكمت بانبهار، متسائلة:

-وهو في حد معاه عشرين مليون؟!

-ماتدخلنياش في تفاصيل دي يا أبلة حكمت.

ثم وجهت حديثها لوالدها بنبرة غلب عليها الرجاء فلم يفهمها وتعجب لها:

-يا بابا بلاش ندخل عنده عشان خاطري.

وقبل أن يفصح والدها عن أسئلته، ظهر يزن من العدم أمامهم وهو يرحب بهم بحفاوة وكأنه كان على علم بمجيئهم:

-أهلاً، أنا يزن الشعراوي.

التفت أبلة حكمت تتفحصه بعناية، فسارعت بتقديم يدها تصافحه وهي تقول:

-حكمت أخت سيرا الكبيرة، وده بابا.

رمقها والدها بعدم رضا ثم حول نظراته ليزن الذي استطاع بابتسامته اللبقة محو أي ضيق حدث في نفسه من تصرف ابنته الكبرى:

-اهلا يا ابني، أنا كنت جايلك مخصوص عشان اشكرك على اللي عملته مع سيرا، ومتشكر جدًا على محاولتك اننا مندفعش حق السلسلة...

قاطعه يزن مرحبًا به ولكنه أظهر عتابه:

-ان حضرتك تيجي لغاية عندي على راسي، بس أنا زعلت على إصرارك انك تدفع حقها، دي حاجة بسيطة.

ربت "حسني" فوق ذراعه بامتنان:

-شكرًا يا ابني، عن أذنك.

-لا والله أبدًا أنت لازم تدخل وتاخد ضيافتك.

أخيرًا خرج صوت سيرا من سجون الصمت وهي ترفض:

-لا شكرًا، احنا مستعجلين، يلا بابا، يلا أبلة حكمت عشان نشوف الشقة اللي انتي عايزاها.

لم تعلم سيرا أن عيني أبلة حكمت قد ثقبت الزجاج ولمحت السيارات المعروضة بالداخل، فقالت بحماس:

-لا لغيت فكرة الشقة، أنا بفكر اشتري عربية.

-يا خبر يا هانم احنا عينيا ليكي.

كان قاصدًا إغاظة سيرا بعدما شعر بحاجتها المستمرة للفرار منه، فمالت ابلة حكمت بإعجاب تهمس لسيرا الحانقة:
-بجد يزن ده ذوق اوي، ده قالي يا هانم، عنده نظر بجد.

ثم قالت لوالدها الغارق في عدم رضاه بسبب تصرفاتها:

-يلا بينا يا بابا، ماينفعش نزعل أستاذ يزن.

-لا أستاذ أيه بقى، قوليلي يا يزن، اتفضلوا.

ومد يده يشير لهم بالدخول، دخلت حكمت اولاً ثم تابعها حسني سريعا كي يحاصرها لعلمه أنها ستنتشر بالمكان، بينما سيرا قالت بغيظ خافت:

-أنت دماغك دي هتسوحنا اقسم بالله، انت ماتعرفش أبلة حكمت.

همس لها سريعًا والتسلية تحلق بسماء عينيه:

-مالها دي عسل، أنا حبيتها جدًا.

اغتاظت سيرا من تصرفاته العنيدة بحقها وهي تقول:

-اتفضل، اهي واقفة قدام عربية تعملها ٢ مليون.

شاكسها يزن وهو يستعد للدخول:

-انتي بتطيري الزبون من ايدي ليه، يا قاطعه الارزاق انتي.

دخلت خلفه وهي تهمس بحقد من عناده معها:

-انا غلطانة، ان ما فاصلتك فيها وقالتلك ما تنفعش ب ٢٠٠٠٠ جنية مابقاش أنا.

تجاهلها يزن وهو يتقدم من والدها واختها الواقفان أمام سيارة يتابعان تفاصيلها بتركيز، بينما كان يخرج هاتفه من جيب سرواله يجيب على اتصال أخيه زيدان:
-تشربوا أيه؟

ردت أبلة حكمت وهي تفتح باب السيارة الأمامي وتجلس بداخلها:

-أي حاجة سخنة.

ثم وجهت حديثها لوالدها بابتسامة واسعة:

-شكلي فيها حلو يا بابا، ابان شخصية مهمة.

وقبل أن يجيب والدها استمعوا ثلاثتهم لصوت يزن المصدوم وهو يتحدث بالهاتف:

-أيه؟! لا حول ولا قوة إلا بالله، ماشي جاي.

لمعت عيناها بفضول وهي تتابع نظراته الغامضة، فـعلى ما يبدو أن هناك خبر سيء تلقاه من خلال ذلك الاتصال، فقطع طريق فضولهم بقوله:

-عمتي اتوفت. 
فُرضت قيود الصمت على ألسنتهم، وغُلفت بعض الأفئدة بالحزن لهيبة مشهد وداعها، بينما البعض الآخر اكتفى بطي العداوة المنبثقة بقلوبهم في بئر النسيان، فلم يعد مجالاً للكراهية الآن، غادرت ميرڤت بجبروتها وقسوة قلبها وجحود طباعها لعالم آخر تجني به ثمار ما زرعته طوال حياتها.
مسحت "نهى" قطرات الدمع المتساقطة فوق صفحات وجهها الحزين والإنكسار يغزو روحها، لم تستطع وداعها بعدما فشلت في التقرب منها وبث الهداية بقلبها، حيث رفضت والدتها مقابلتها عدة مرات، واتسعت طرق الفراق بينهما، فأغلقت صفحات محاولاتها معها ووضعت كلمات النهاية بالدعاء لها، وكعادته معها ساندها "خالد" بإحتوائه ودعمه المستمر لها، مربتًا فوق جوارحها بهمساته الحانية، طالبًا منها الدعاء لها، فهي في أمس الحاجة إليه، هزت رأسها وهي تبكي، سامحة لصوتها بالتسلل للعلن:

-ربنا يرحمها، ويغفر لها.

ثقلت كلماته بلسانه، بعدما حارب عقله مشاعره التي حاولت التكيف مع مشهد وداع زوجة عمه، فلم يتذكر لها سوى القسوة والبغيضة التي ولدتها بقلبه نتيجة أفعالها معه، ولكنه أجبر نفسه على الدعاء لها، ثم حمحم بخشونة عندما لاحظ سليم وأخويه ينتظرون عند باب المقابر الخارجي، فقال لنهى بنبرة غلب عليها التخبط: 

-ولاد خالك بقالهم كتير مستنين.

التفتت نصف التفافة تنظر إليهم، وبسمة ساخرة تعلقت بشفتيها الباهتة نتيجة لإرهاقها المستمر في شهور الحمل، ثم عادت بنظراتها الشاحبة نحو قبر والدتها تنظر إليه وكأنها تعاتبها، فلم يستطع لسانها الصمت كثيرًا وهمست بأسى متخيلة أن زوجها الواقف بجانبها لم يسمعها:

-أكتر ناس كرهتيهم وعادتيهم هما اللي حضروا جنازتك، اخدتي أيه من اللي عملتيه؟!

سؤالاً تمنت دومًا الإجابة عليه، علها تجد مبررًا للسواد القابع بقلب والدتها اتجاه أولاد خالها، وتحديدًا سليم، لم تتوقع أبدًا حضوره ولا تأديته لصلاة الجنازة عليها، والأغرب هو من دفع كافة تفاصيل دفنها، اخترق حزنها بتصرفاته واحتارت فهم طباعه، ولكن الشيء المؤكد لديها أنه عكس ما كانت ترويه والدتها عنه، طوال الأشهر الماضية لم يكف بالسؤال عنها سواء هو أو شمس زوجته والإطمئنان على صحتها، عرض مساعدته لها دومًا لأي شيء يخصها أو يخص خالد، ودون أن تشعر نمى بقلبها شعور بالامتنان له.
تركت قبر والدتها بقلب مكسور وحزين، وتوجهت لهم، تتلقى عزائهم بوجهٍ مرهق، وأنفاس ثقيلة نتيجة لإرهاقها وأول من لاحظ ذلك هو يزن، فقال بأسلوبه اللبق:

-متهيألي يا خالد تيجوا تريحوا الليلة دي عندنا، نهى شكلها تعبانة.

-أنا شايف كده بردو.

أكد سليم على حديثه ولم يخفي إهتمامه بابنة عمته الوحيدة فشعوره نحوها بالمسئولية زاد الضعف، ولكن نهى سارعت بالرفض ممسكة بيد خالد بقوة:

-لا أنا هرتاح أكتر لما نروح، ملهاش لزمة أننا نقعد.

تفهم خالد حاجتها بالذهاب لمنزلها، حيث نجحت في بناء عُش لهما تحتمي به أثناء ضعفها:

-خلاص على راحتها، وكمان أنا مينفعش اتأخر على شغلي.

ودعت نهى سليم أولاً وهي تنسج خيوط الإمتنان بنبرتها الثقيلة:

-شكرًا يا سليم على كل حاجة، ربنا يجعله في ميزان حسناتك.

فرض بسمة فوق شفتيه وهو يقول بصوت مجهد:

-مفيش شكر ما بينا، لو احتاجتي أي حاجة كلميني على طول.

هزت رأسها امتنان شديد، ثم ودعت يزن الذي أظهر تعاطفه معها كعادته، ثم انتقلت لزيدان المتخبط بين مشاعره ولكن غلب عليه الحزن لِمَ هي تعانيه من وحدة بالرغم من وجود عائلتها، وكسرة بسبب أفعالهم الشنيعة بحق أنفسهم أولاً فكانت نتائجها وخيمة عليها وحدها، وذلك بعدما قابلت رد فعل والدها وأخيها على خبر وفاة والدتها بالتجاهل الشديد، ولكن احتلت الراحة جزء بداخله عندما اطمئن عليها ولاحظ احتواء خالد لها.

-لو احتاجتي أي حاجة أنا موجود.

همست بنبرة متحشرجة للغاية، وهي تغلق عينيها وكأنها تجبر نفسها على نسيان الماضي:

-شكرًا.

قطع عليها خالد ذكريات الماضي المندفعة لعقلها بسرعة البرق، فوجوده له أثر مهيب على نفسها، وحضوره الطاغي على قلبها جعله ينتفض بدقاته العنيفة لمجرد إحتواء كفه لكفها ثم مساعدتها للسير نحو سيارتهما:

-لو حاسة إنك هتتعبي، إحنا ممكن نحجز في أي أوتيل.

هزت رأسها بنفي وهي تستند عليه، تلقي بثقلها وهمومها فوقه بكل أريحية:

-لا، صدقني هرتاح أكتر في بيتنا.

هز رأسه بالموافقة، يقدم فروض الانصياع لرغبتها، وفتح باب السيارة الأمامي وقبل أن تستقل بها همست بسؤال يغمره نيران الفقد:

-خالد هتجيبني ازورها كل فترة؟!

اختفت مشاعره السلبية خلف جدار رزانته وهو يقول:

-وأنا من امتى برفضلك طلب يا نهى! أؤمري انتي ومالكيش دعوة.

آه لو يتوقف الزمن وتبقى معه دون أن يراهما أحد، حتمًا كانت ستقع بأحضانه تنهل من بئر حنانه ما يروي ظمئ قلبها، ولكن فُرض الخجل قيوده عليها، واكتفت بإرسال رسالة شكر صامتة من خلال عينيها، تخبره بها كم تتمنى أن يظل إحسانه معها وألا تضل دربهما أبدًا.
                                *******

مساءًا...
دخل سليم شقته بجسد منهك، وعقل مجهد، وعيناه تفتقد حدتها المعتادة، فمالت تعابير وجهه للإرهاق وهو يقابل ابنته الجالسة بمقعد مخصص للأطفال وبجانبها أنس الذي يحاول تقديم جميع العابه لها، بينما هي كانت تلتهم قطع الألعاب بفمها معتقدة أنها طعام، فأبعدها سليم عنها وهو يقبل وجنتيها بحب، يهمس بنبرة يغمرها الاشتياق لتفاصيلها:

-هي ماما مجوعاكي ولا أيه؟!

وجدت شيء أخر تلتهمه ألا وهو وجنته، فصدر عنها صوت طفولي رقيق وإبتسامة واسعة احتلت محياها وهما يتشاركان الضحك هي وسليم الغارق بكل شيء تصدره، متناسيًا وجود أنس المتابع لهما بعيون تفتقد لِمَ تتلقاه قمر من قبل والدها، وقبل أن ينهض "أنس" يتوجه لوالدته يطلب منها الإحتواء بصمت كعادته، وجد والده يعيق حركته بعدما وضع قمر بمكانها، ثم أجلسه هو فوق ساقه يسأله بإنعقاد حاجبيه ونبرته الهادئة:

-رايح فين وسايبني من غير ما تسلم عليا؟!

قبله أنس في خده ثم رد بعفوية:

-رايح لماما.

-طيب ما تجيب حضن كبير عشان أنت واحشني أوي الفترة دي.

عانقه أنس فورًا متناسيًا ما حدث قبل دقائق وشعور بالغيرة من أخته "قمر" تلاشى بتصريح والده له، مهما كان سليم جامدًا وقاسي المشاعر مع الأخرين إلا أنه مع أطفاله شخص آخر يفيض حنانًا ولطف، ظل سليم يحظى بدفيء طفله أنس، فمَن يتعطش للحنان ليس سواه، حيث اضمحل خريف مشاعره وهو يستقبل ربيع وجود أطفاله حوله! نعمة كبيرة سيظل يحمد الله عليها كل لحظة بحياته.
ظهرت شمسه من قوقعة المطبخ المحتجزة بها كعادتها، فأظهرت كامل إهتمامها بوجوده كما دومًا تفعل معه، وعيناها الشاردة بتفاصيله تبحث عن مأوى يطمئن من خلاله قلبها عليه، فسألت بإهتمام بالغ:

-عملتوا أيه؟

هز كتفيه بهدوء وهو يبعد جسده عن أنس ويستند بظهره على مسند الأريكة:

-مفيش خلاص ادفنت.

همست بنبرة فاترة وهي تقول:

-ربنا يرحمها ويغفر لها،...

ثم استطردت بقولها الذي يتدلى منه العتاب:

-كان المفروض أنا ومليكة على الاقل روحنا معاكم وقدمنا واجب العزا لنهى.

اغمض عينيه وهو يتنهد بقوة:

-وأنا قولتلك أنها هترجع تاني ملهاش لزمة تيجوا، ابقوا كلموها بالتليفون يا شمس.

مالت نبرته للحدة في أخر حديثه، فعقدت ما بين حاجبيها وشعرت بحاجته للصمت أو تركه وحده يصارع وحوش ماضيه المُصرة على طرق أبواب حاضره بكل قسوة، فاخترقت عالمه بسؤالها الخافت وخاصةً بعدما تركهما أنس وتوجه للتلفاز يتابع مسلسله الكرتوني المفضل:

-سليم، أنت زعلان عليها؟!

ضرب الإستنكار اعتقادها حين سأل:

-على مين بالظبط؟!

مطت شفتيها بضيق لمراوغته لها:

-عمتك ميرفت.

-الله يرحمها، بقت من الأموات، مايجوزش عليها غير الرحمة يا شمس.

انزعجت من أسلوبه المبطن، فقالت بنبرة مستاءة:

-أنا مابتكلمش عليها وحش، أنا بسألك عن مشاعرك أنت ناحيتها؟!

مال برأسه أكثر ناحيتها وهو يسألها بمكر امتزج بخصال شخصيته المغرورة:

-طيب ما تسأليني عن مشاعري ناحيتك أنتي؟!

استندت بذقنها على يدها وهي تجيب بذكاء ومكر أنثوي ادهشه:

-لا ما أنا عارفة أنك هتجاوب عليا بإستفاضة في أي حاجة تخصني، لكن أنا بقى بحب أدخل في اللي مايخصنيش.

أنهت حديثها ببسمة واسعة تستفزه بها ولكن ملامحه أبت الافصاح عن أي شيء وهو يقول:

-وهتستفادي أيه؟!

أرجعت خصلات شعرها الثائرة خلف أذنيها، ثم انتقلت أصابعها بمرونة لخصلات شعره تداعبها برقة، تاركة العنان للسانها يفصح عن حقيقة ما تشعر به اتجاهه:

-أنا بحس بإنجاز كبير لما بخترق جزء مكتوم جواك، عارف انت عامل زي أيه؟!

صمتت لحظة تجد وصف مناسب لِمَ يدور بعقلها:

-المغارة، أيوه أنت عامل زي المغارة وأنا بقى مغامرة بحب استكشف أي حاجة جديدة وبحس بالإنجاز الرهيب لما بعرف تفصيلية صغيرة جواك مكنتش أعرفها عنك زمان وبالذات بقى لو أنت قولتهالي.

لمعت عيناه بالإعجاب وقرر الخوض أكثر في الحديث معها رغم إرهاقه وحاجته للنوم:

-وهتفرق في أيه بقى انتي اللي اكتشفتيها ولا أنا اللي قولتهالك؟!

هبطت بأناملها تمررها فوق تقاسيم وجهه، وتخبره بنعومة أفرطت بحقها نحوه:

-لا تفرق يا سولي، لو أنا اكتشفتها طيب ما ده العادي، أنا على طول بعمل كده، لكن أنت لو حكتهالي فده إنجاز عظيم، أنت ما بتتكلمش بسهولة، فأكيد في اللحظة اللي تختارني أنا وتحكيلي عن حاجة جواك مضايقك هكون أسعد انسانة في الدنيا.

-دي كلها محاولات خبيثة منك عشان تعرفي أيه يا شمس؟!

واجهها بشراسته العاشقة إليها، فردت بضحكة مشاكسة وهي تواجهه دون خوف:

-زعلان عليها؟!

-ازعل عليها ليه؟! هي ماتت يعني ارتاحت، ارتاحت من تفكيرها العقيم وضميرها الأسود، ارتاحت من قلبها اللي مفيهوش ذرة رحمة، فازعل عليه، بالعكس الموت  راحة ليها ولينا كمان، على قد ما كانت مضايقني إلا أن كنت ببقى مضايق وقرفان من اللي بتعمله في نهى، ورغم ده كله البنت كانت بارة بيها، نهى تستحق عيلة أفضل من دي!

نجحت في قطع جزء من السلك الشائك العائق أمامها، وبحرت كسباح ماهر تواجه عنفوان مشاعره الحاملة للكرة والسواد نحو عمته فقط:

-عندك حق، بس هي خلاص ماتت المفروض تسامحها يا سليم!

-ماتطلبيش مني حاجة فوق طاقتي، حاليًا أنا كل اللي محتاجه أنام عشان مافكرش في حاجة اضايق نفسي بيها.

-اممم يعني بتهرب مني بالنوم!

ابتسم بصدق وهو يداعب أرنبة أنفها بأنامله:

-أنا لو اطول أفضل صاحي وابصلك بس هعمل كده.

توردت وجنتيها بخجل شديد من تصريحه المفاجئ لها، فهمست بدلال:

-لا لا أنا مش قد التصريحات الخطيرة دي، قلبي مايستحملش.

داهم النوم عينيه فرد بصوت خامل يجاهد الاستيقاظ والتركيز:

-سليم أفعال وليس أقوال.

ضحكت بنعومة وهي تنظر له بهيئته شبه الطفولية وهو يمجد بنفسه وعينيه تكاد تغلق بسبب إرهاقه، فقالت بمشاكسة:

-سليم محتاج ينام، وممكن نسيب الأفعال دي لبعدين.

اعتدل بجلسته أكثر وهو يجذب الوسادة تحت رأسه، مقررًا النوم مكانه فوق الأريكة وسط طفليه فهما دومًا مصدر أمانه:

-سليم شايف كده بردو.

واستسلم لرحلة نوم ربما لو دخل غرفته كان افتقد دربها، وغاص في مهاجمة ماضيه كعادته كلما انفرد بنفسه، فوجد أن التجاهل لندباته أفضل حل لعلاجها! 

                               ******

عم السكون على شقة يسر وهي تجلس وحيدة بصالة شقتها تنظر للفراغ بلا مبالاة، والحزن يكسو فوق معالمها بعدما نقض نوح وعده لها ولم يأتي لها في منزل والدته فاضطرت للعودة وحدها هي ولينا، وكالعادة تحجج بالزحام في عيادته وعدم إيجاد وقت للذهاب إليها.
زفرت باختناق حاد، مقررة وضع حد لِمَ تعانيه معه في هذه الليلة، لن يمر بأفعاله مثل كل مرة، ولن تطفئ قبلاته أجيج فؤادها، استمعت لصوت مفاتيحه في الباب، فظلت على نفس وضعيتها التي أعطته فكرة عن مستقبل غفوته الليلة!

-مساء الخير يا يسر.

ودت تصيح بما اندفع لعقلها من وقاحة تناسب ما فعله معها الليلة، ولكنها فرضت لجام الرزانة وهي تجيب بصوت مبحوح:

-أقعد يا نوح، محتاجة أتكلم معاك.

رضخ لطلبها ببساطة أدهشتها، فاستغلتها بقولها:

-أخرة اللي أحنا في أيه؟!

زم شفتيه بضيق وهو يفرك وجهه بقوة:

-أخرته أيه يعني يا يسر! أنا بجد مش فاهم في أيه، غير إنك مستلماني خناق من أول ما دخلت، رغم اننا المفروض كنا كويسين يعني.

توسعت عيناها الممتلئة عن أخرها بالدموع وهي تقول بتعجب:

-والله المفروض يعني كده أننا كويسين، أنت فاكر يعني عشان بو.....

بترت حديثها بإنفعال ظهر جليًا فوق ملامحها، فردت بحدة بالغة:

-نوح أنت عارف كويس أنا اقصد أيه، بلاش تلف وتدور عليا! قولي أنت عايز أيه مني، أنا حاسة في مرة هموت أو هيجرالي حاجة بسببك.
  
انتقلت لعنة الغضب إليه وانتفض يصيح عاليًا ينفجر بها:

-عشان شاغلة نفسك بس باللي بيشتغلوا معايا وبأمور المفروض أنها تكون تافهة بس ازاي أنتي مكبرها لدرجة أنك منكدة علينا عيشتنا كل يوم.

انتفضت بهياج وهي تتصدى لانفعاله بشجاعة:

-هو لما اضايق من البنات المايصة اللي بتشغلهم معاك أبقى غلطانة، لما أضايق ان كل حياتك عبارة عن بنات وبس أبقى غلطانة، يا راجل ده مفيش راجل يوحد ربنا بيسأل عليك غير يزن صاحبك غير كده كلهم بنات في بنات، أيه الرحمة بيا!

اختصر المسافات بينهما والاغتياظ ينحر قسماته، فمد يده يمسك ذراعها بقسوة وهو يقول:

-ومين يرحمني أنا، مين يحس بيا، أنا المفروض أحس بيكي وأحس بأمي وبأخواتي وبعيال أخواتي، واسمع ده واراضي في ده، وأشوف ده عايز أيه؟! أيـــــــه ومين يسمعني ومين يحس بيا وباللي بضايق منه، حتى أنتي فشلتي في ده وبقيتي نسخة تانية من أهلي عايزني بس اعملك اللي أنتي عايزة لكن أنا عايز أيه أو زعلان من أيه أو أيه بيحصلي في يومي أخر همك، عشان كده يا يسر أنتي كمان أخر همي، واللي أنا عايزه هعمله ومش هيهمني حد، واه هتجوز عليكي وأنتي اللي موافقة ومن الأول برضاكي، ماتجيش بقى تعمليلي فيها دور المقهورة وأنا اللي بعمل حاجة غصب عنك.

انهى ثورة بركانه والتفت يغادر إلا أنه أوقفته متسائلة بإنكسار والدموع تغرق وجنتيها:

-أنت ازاي شايفني كده؟! ازاي قادر تجرحني كده؟!

-ما أنتي بتجرحي الأول، أنتي اللي بتبدئي على فكرة وأنا بس نتيجة لأفعالك، اشغلي نفسك مرة واحدة بيا، لكن ازاي كل همك كرامتك مجرحهاش واتجوز عليكي، مش يمكن جوازتي التانية دي تعرفك قيمتي؟!

قابلت سخطه بإمتعاض ناري منها وهي تجيب بإستنكار:

-لو هعرفها بالطريقة دي، الله غني عنها.

اشتدت ملامحه بقسوة بالغة وغرقت نبرته في تحدٍ:

-حلو يبقى أنتي كده اللي اختارتي يا يسر، سلام.

أوقفته متسائلة بحذر:

-قصدك أيه؟!

-في أقرب وقت هعمل اللي عايزه وهتجوز عليكي، ابعدي بقى.

تركت يده بسهولة كما هو يعلن ما تتمناه نفسه دومًا بكل بساطة دون مراعاة حبهما أو هدم عشهما التي جاهدت الحفاظ عليه طوال تلك السنين الماضية، لقد خسر قلبها الرهان وفشلت في إيجاد وسيلة للوصال بينهما، بينما أرتاح العقل لوضع كلمة النهاية بعد إجهاد كبير بذلته في رَفْء ثوب حياتهما معًا!

                                 *****
بعد مرور عدة ساعات..

استمع "يزن" لِمَ باح به نوح بإهتمام، وظل على نفس صمته لفترة قطعها نوح بغضب آخر:

-لا وجاية بمنير الزفت تغيظني به، دماغ البنات دي تعبانة أقسم بالله، يعني كده كانت هترتاح لما اقوم اكسر دماغه قدامها.

مط يزن شفتيه وهو يعبث بنموذج للسيارات الصغيرة الموضوعة أمامه:

-ماعملتش كده ليه؟! أنا لو مكانك كنت قومت ضربته وعلمته الادب.

-أنا محتاج أعمل كده فعلاً، أنا محتاج اقوم اكسر عضم حد عشان أرتاح..

شمله يزن بنظراته الساخرة:

-أنا عمتي ماتت وحالتي بائسة.

-يلا ربنا يجحمها، ماكنتش بطيقها، معلش يعني يا يزن.

اتسعت ابتسامته الساخرة وهو يقول:

-هي الله يرحمها مكنتش بطيقك ماعرفش ليه؟! بس هي عمتي كده مابتحبش أي حد سالك!

نهض نوح وهو يتنهد بثقل، مقررًا إنهاء حالة الغم المحاطة به:

-بقولك أيه ما تفكك من الحداد اللي أنت عامله على عمتك ده، وتيجي نسهر في أي مكان.

نهض يزن هو الأخر وهو يصطنع الإستياء:

-لو مكنتش تصر بس يا نوح، يلا بينا، حكم القوي.

-يا عم أنت بتلكك أصلاً، امشي.

اختارا سيارة يزن، بعدما ترك نوح حرية الإختيار ليزن، فوصلا أمام أحد أماكن السهر المشهورة، ودخلا معًا، فمال يزن يعاتب نوح المشغول بمتابعة المكان:

-يعني لو حد شافني دلوقتي هيقول عليا أيه؟!

-هيقول عمتك حرباية وماتستاهلش حد يزعل عليها، يا ابن الـ ****

توسعت أعين يزن بصدمة وهو ينهر صديقه:

-أيه ياعم الغباء ده، بتشتمني ليه؟!

لكزه نوح بضيق وأفكاره العدوانية تنفعل بضراوة:

-هشتمك ليه؟! أنا بشتم منير ابن المضايقة واقف هناك اهو.

ركز يزن ببصره على منير الواقف بين مجموعة من الفتيات والشباب فهمس بغضب:

-هو يوم ابن مضايقة أصلاً، بقولك؟

انتبه نوح إليه ونظراته تنضح بويلات الغضب:

-فرصتك وجتلك، عصيرك أهو...

التقط "يزن" كوب العصير الموضوع فوق الطاولة الموضوع أمامهما:

-عصيرك اهو وأنت عارف أيه اللي هيحصل!

نبعت شبه بسمة قاسية فوق محياه والتقط كوب العصير، ثم سار بخطوات واثقة اتجاه منير مستغلاً الزحام حوله واصطدم به عن عمد، فتساقط كوب العصير على قميص نوح الذي هاج بإنفعال:

-في أيه مش تحاسب يا غبي؟!

عقد منير ما بين حاجبيه بعدم فهم لوجود نوح أمامه، واندفع سؤاله على طرف لسانه إلا أنه تلقى ضربة عنيفة بوجهه من قبل نوح، الذي استعد للشجار المندلع من قبل أصدقاء منير، فتدخل يزن بالوقت المناسب وعارض اللكمات المتوجهة لصديقه:

-لا ده صاحبي فكك.

لم يستمع إليه صديق منير وظل يسدد اللكمات نحوه، فانتفض يزن بغضب:

-مفيش رأفة أبدًا ده أنا عمتي متوفية وقلبي حزين يا ابن ال***.

واندفع هو الأخر للشجار المندلع بالمكان، اما نوح امسك بمنير في إحدى الزوايا يسدد له الضربات العنيفة والقوية بينما الأخر حاول الدفاع عن نفسه وتسديد اللكمات لنوح هو الأخر فنجح في واحدة استقرت بوجه نوح، الذي انحنى للأسفل والشر يطرق برأسه لقتله، ولكن يد يزن التي وضعت فوق ذراعه يجذبه للخارج بسرعة بعدما دخل الأمن في المكان، استقل بجانب يزن في سيارته وانزل المرآة الصغيرة يتفقد وجهه:

-علم عليك؟!

استنكر نوح وهو يتفقد تلك الكدمة:

-هو انت اعمى ماشوفتش وأنا معلم على اللي خلفوه، وبعدين أنت ساحبني ليه كده؟!

-الأمن دخل وكنا هندخل في حوارات مالهاش لزمة، وبعدين الواد كان بيفرفر في إيدك، كفاية عليه كده.

حرك رأسه بإيجاب وهو يقول بنبرة مغلولة:

-صح كفاية عليه كده، مانشوف بقى هي هتعمل أيه لما تشوف المحروس معمول فيه كده.

تنهد يزن وهو يجيب بضحكة ساخرة:

-خناقة جديدة، يلا المهم هتنام في العيادة ولا في المعرض عندي.

-في العيادة، ورايا شغل كتير بكرة.

                               ******

في اليوم التالي...

سارت سيرا بجانب فاطمة صديقتها في الطريق المؤدي لعملها، وتحدثا بأمور عديدة منها محاولة سيرا لمحو فكرة شراء أبلة حكمت لسيارة من معرض "يزن"، فتساءلت فاطمة بفضول:

-وأقنعتيها ازاي بقى؟!

هزت كتفيها وهي تبتسم بمكر:

-مفيش قولتلها أخواتي لو عرفوا هيحسدوها، وأنها تستنى شوية، وهي أكيد هاتشوف حاجة تانية تشبط فيها غير العربية.

أومأت فاطمة برأسها والتردد يلوح بنظراتها التي التقطتها سيرا بمهارة:

-في أيه يا طماطيمو من وقت ما خرجنا وأنتي عايزة تقولي حاجة؟!

توقفت فاطمة تخرج ما في جعبتها مرة واحدة:

-الصراحة بقى عرفت من سهام أن فايق عايز يتقدملك ويخطبك.

شهقت سيرا بصدمة واعتراض في آن واحد وهي تقول:

-أيه؟!

-يا بنتي بس أنا نهيت الإقتراح ده وقولتلها إنك مابتفكريش في الجواز دلوقتي، بس الخوف بقى أن أمه بتفكر تكلم أبلة حكمت.

صاحت مرة أخرى باعتراض شرس:

-أيه أبلة حكمت؟! بلاش دي.

-حاولت والله يا سيرا، بس ماعرفش سهام المتخلفة دي بصتلي وكأني بغير منك، وماتعرفش اللي فيها أصلاً، دي طالعة بأخوها السما وكأن مفيش منه اتنين، هي أبلة حكمت تعرف أنه بيشرب خمرة؟!

ردت بشرود، وشعور بالخوف يترعرع داخلها من فكرة دخول أبلة حكمت في مسألة زواجها، دارت عجلة ذهنها وبدأت في التفكير في إيجاد فرصة لقطع سُبل الوصول إليها من قبل ذلك الـ "فايق"، وتلقائيًا اندلع شعور بالاشمئزاز داخلها من فكرة ارتباطها به، وأثناء شرودها لم تلاحظ محادثة "فاطمة" بالهاتف ولا سعادتها المفرطة.

-باركيلي يا سيرا الشركة اللي حكتلك عنها امبارح كلموني دلوقتي وهروح حالاً اعمل تجربة أداء.

غاصت معالم سيرا في الفتور وهي تواجه سعادة صديقتها غير المبررة بالنسبة لها:

-يعني هتسيبيني وكل اللي اتفقنا عليه نعمله خلاص كده!

حملت نبرتها الرجاء وهي تقول:

-عشان خاطري يا سيرا ماتزعليش، عارفة لو وافقوا واخدوني في أي فيلم ولا مسلسل، يالهوي هعزمك على نص كباب.

-مش عايزة حاجة يا ستي، ربنا يوفقك بس إياكي يا فاطمة تدفعي فلوس، لو هتعمليها ببلاش ماشي غير كده لا.

تظاهرت فاطمة بالموافقة وهي تردف:

-طبعًا يا بنتي، طبعًا، يلا هنأجل مشوار السينما معلش.

أومأت برأسها ثم بدأت في توديعها ولكن فاطمة توقفت تسألها بمكر وفضول:

-انتي هتروحي ليزن ده وتعزيه في وفاة عمته؟!

استنكرت بنبرتها وهي تتظاهر باللا مبالاة:

-لا طبعًا، ليه هو من بقيت عيلتي ولا أيه؟!

-أنا شايفة من باب الذوق انك تعزيه وخصوصًا انه عامل معاكي موقف جدعنه يعني.

امتهنت عدم الاقتناع وهي تقول بنبرة مترفعة:

-بس أنا مش شايفة كده! يلا روحي عشان متتأخريش.

وافقت فاطمة بعدم رضا، وغادرا كل منهما في اتجاه أخر، مرت دقائق بسيطة وهي تنتهي من الطريق المؤدي لعملها وقبل أن تدخل البناية تراجعت وهي تحسم أمرها ومالت لرأي صديقتها باقتناع تام، فدخلت المعرض تبحث عنه ووجدته بالفعل يقف بأحد الزوايا يتحدث مع أحد العاملين، فتوجهت نحوه والحرج يتسلل لوجهها واحتارت في مناداته، فتوقفت صامتة على بعد خطوات منه، حتى استطاعت سرق انتباهه، فرحب بها بحفاوة:

-سيرا، اهلا؟

كادت تجيب عليه إلا أنها لاحظت عدم أي أثار للحزن بملامحه، فعقدت ما بين حاجبيها تمرر بصرها عليه بإستفهام صامت، وسرعان ما أدرك هو ما يجول بخاطرها، فرسم ببراعة إمارات الحزن وهو يشير إليها نحو مكتبه:

-تعالي اتفضلي!

توقفت مكانها ترفض عرضه، وهي تقول بصوت متحشرج:

-أنا كنت جاية عشان اقولك البقاء لله.

-الدوام لله، صاحبة واجب.

لمحت السخرية المبطنة بصوته، فسألت بشراسة مطوية بين نبرات الحدة:

-قصدك أيه؟!

وضع يده في جيب سرواله  وهو يقول بنبرته المستنكرة لحدتها غير المناسبة:

-يعني مافكرتيش تتصلي بيا امبارح تتطمني يا شيخة، ده أنا عمتي ماتت وكنتي شايفني ازاي امبارح؟!

-مالك امبارح، بالعكس كنت حاسك مبسوط مش زعلان خالص.

صدمته بردها الجامد، فهمس بنبرة حاقدة قاصدًا إثارة استفزازها:

-عديمة المشاعر.

توهجت عيناها بضراوة وهي تتسأل:

-أنت تقصدني أنا؟!

رسم بريشته خطوط الأسى والفقد فوق ملامحه، واصطنع حزنه الشديد لفقده عمته:  

-يعني المفروض تواسيني يا شيخة ده أنا عمتي ماتت وخلعت قلبي، سابت فراغ كبير ربنا...

ثم أردف بهمس شديد:

-يجحمها مطرح ما راحت.

رفعت أحد حاجبيها وعدم الإقتناع يلوح بمقلتيها:

-أنت بتقول أيه بصوت واطي؟

-بدعي لعمتي يا بنتي، حتى الدعاء بتسوئي الظن فيا.

رمقته بضيق لتأكدها من سخريته اللامعة بعينيه، فتجاهلته عن قصد وهي تقرر الذهاب دون الرد عليه، ولكن قوله فاجأها وجعلها تستدير له بفزع تسأله بتركيز:

-أنت قولت أيه؟! عايز أيه؟!

-رقم تليفون أبلة حكمت!

أجاب ببساطة أدهشتها فاستشاطت بسخط حاولت كتمه بقدر الإمكان:

-وده ليه بقى ان شاء الله؟!

-عايز اعتذرلها عن موقف امبارح.

لا زال عدم الفهم يسيطر عليها وهي تسأله:

-هو أيه اللي حصل امبارح؟!

عاندها بمشاكسة وهو يكرر حديثه:

-وانتي مالك؟! هتجيبي رقم أبلة حكمت ولا اجيبه بمعرفتي!

كادت تطلق لسانها لتوبيخه بسبب أسلوبه معها إلا أنها صُدمت حين صدح صوت أبلة حكمت في الأجواء من العدم:

-أبلة حكمت بنفسها هنا. 
شعور بالخوف اجتاح صدرها وهي تمرر بصرها فوق أختها "أبلة حكمت"، بوقفتها المتعالية، وابتسامتها الواسعة، وعينيها اللامعتين بانبهار، فخرج صوتها متأرجحًا بين الخفوت والسطوع:

-أنتي أيه اللي جابك يا أبلة حكمت؟!

تجاهلتها "حكمت" تمامًا وهي تنظر إلى يزن والمعرض في آنٍ واحد، قائلة بحماس استنكرته الواقفة بجانبها:

-جاية أعزي أستاذ يزن في وفاة عمته ونكمل كلامنا بخصوص أني عايزة اشتري عربية وكده.

ابتسامة جانبية خبيثة احتلت محياه وهو يتابع نظراتها المستنكرة ووجهها الغارق في بركة دماء، ويبدو أنها فشلت في ضبط انفعالاتها، فأظهر ترحابه الشديد وحماسه الطاغي بصوته وهو يقول:

-كلك ذوق يا هانم، وبخصوص كلامنا عشان العربية تقدري تتفضلي جوه في مكتبي ونتكلم براحتنا.

رمقته "حكمت" بنظرة إعجاب، وهي تتلقى ترحابه بها برضا، فرفعت أنفها بتعالٍ واضح وهي تخطو خلفه نحو مكتبه، بينما وقفت سيرا لثوانٍ معدودة تستوعب ما يحدث، حتى انطلقت صفارات الإنذار في عقلها تدفعها دفعًا خلفهما، فدخلت خلف أختها الكبرى وجلست بجانبها تهمس لها بصوت خافت جدًا، مستغلة حديث يزن مع أحد العاملين وطلبه تقديم عصائر مثلجة كواجب ضيافة لهما:

-مقولتليش ليه إنك جاية يا أبلة؟!

-اخرسي، هو أنا هاخد منك الإذن ولا أيه؟!

نهرتها بعنف منخفض، على عكس ابتسامتها التي احتلت شفتيها منذ دخولها المعرض، فانعقد حاجبا سيرا بضيق ممزوج بالتفكير بعدما فشلت في فهم ما يدور في عقل أختها، فهل يبدو عليها الثراء لدرجة شراء سيارة بمبلغ وقدره وهي لا تستطيع القيادة أساسًا؟ أم أنها تريدها استثمارًا كما تفعل دومًا بشراء شقق وبيعها؟ أم أن حياة الأثرياء والتعالي أضرمت شعلة غرورها وأثارت إعجابها بحياة جديدة لم تعهدها؟ أم أن فضولها المعتاد دفعها إلى مراقبتها وفرض قيود السلطة عليها كما تفعل معها دومًا، متحججة بخبرتها في الحياة التي تفوق خبرتها هي وأخواتها الفتيات!

انتبهت "سيرا" إلى صوت "يزن" المخترق لأذنيها، وهو يتوجه نحوهما ليجلس بهيبة رجل تخالف شبابه ومرحه الدائم، أما عن وقاره ولباقته في الحديث، فقد جعل فم "أبلة حكمت" ينفرج، فباتت كالمراهقة وهي تتأمله، نظرت لها باستغراب وقالت بحدة طفيفة، وكأنها تلبست دور الأخت الكبرى:

-أستاذ يزن بيكلمك بخصوص العربية اللي نفسك تشتريها يا أبلة!

نهرتها "حكمت" بحدة مماثلة وهي تقول:

-سامعة...بس أنا يعني...

صمتت لثوانٍ، تختار كلماتها بعناية، والحرج يطفو فوق نبرتها:

-مابعرفش اسوق ولا كان في خيالي اجيب عربية، أصل أنا متجوزة الحاج صافي وعنده تجارته الخاصة ومخليني مش عايزة أي حاجة، أصل أنا جوازتي غير اخواتي خالص، يعني أنا الوحيدة ....

قاطعتها "سيرا" باستياء ووجهها يتوهج بنيران الغضب فظهر جليًا على صوتها:

-أبلة حكمت أستاذ يزن مش بيسألك عن قصة حياتك وجوازك من أبيه صافي، بيسألك عن نوع العربية اللي عايزاها.

رمقتها " أبلة حكمت" بانفعال ضاري وهي توجه عنف كلماتها لها غير مراعية لموقفهما ومتابعة يزن لشجارهما المتراشق بكلمات مبطنة:

-انتي ازاي تكلميني كده!، وبعدين أيه اللي جابك هنا؟ هو انتي مش وراكي شغل؟!

تراجعت "سيرا" سريعًا قبل أن تغضب "أبلة حكمت" وتجعلها تغادر رغمًا عنها، وحينها سيصيبها جلطة لعدم معرفتها بما دار بينها وبين ذلك اليزن، فحتى وهي موجودة، كانت ستخبره بأسرار عائلتهما وكأنه فرد مقرب منهما!

-أنا ماقدرش اسيبك لوحدك يا أبلة؟!

-ليه ان شاء الله حد قالك أني ممكن اضيع!

ردت بعنفوان، فضغطت سيرا فوق أسنانها وهي تميل برأسها نحوها تهمس بخفوت شديد:

-برستيجك يا أبلة مش كده اهدي!

تداركت حكمت موقفها وانفعالها ونبرتها المرتفعة فتقهقرت كالعدو المتخاذل وهي تبتسم ابتسامة مهزوزة:

-خلاص اقعدي، المهم زي ما حكيتلك أنا مش في دماغي العربيات، أصل أنا بشتري شقق وبستثمر فيهم.

ابتسم يزن ابتسامة غير مفهومة بالنسبة لـ "سيرا" أما "أبلة حكمت" فكانت في وادٍ من التباهي وحدها، وما أخرجها منه هو رنين هاتف "يزن" الذي استأذن للرد بعدما وجد "سليم" أخاه المتصل:

-أيوا يا سليم!

صمت وهو يستمع للرد، وانعقد حاجباه والقلق يزحف نحو ملامحه الوسيمة، ليغيرها إلى أخرى حادة مع صوت أنفاسه المرتفع ونبرته الهجومية:

-يعني أيه مش لاقيين ماما؟! لا طبعًا مش عندي ولا جت!

صمت مرة أخرى ثم قال وهو يغلق الاتصال:

-طيب، طيب ثواني وهكون عندك.

كرة الاستغراب تبادلتها "حكمت" "وسيرا"، فوجدا "يزن" ينهض ويعتذر بتوتر، منهيًا جلستهما بحرج:

-أنا أسف بس يعني في ظرف عندي في البيت ومضطر امشي.

نهضت "سيرا" أولًا، متفهمة موقفه دون رد، بينما همّت "أبلة حكمت" بعرض مساعدتها في البحث عن والدته بنبرة رغمًا عنها غلب عليها الفضول:

-لا أبدًا لو تحب نيجي ندور معاك على والدتك ماعنديش مانع، هي عندها الزهايمر ولا أيه، هما اللي بيمشوا كده من غير ما حد يعرفلهم طريق.

أي شعور يوصف ما تمر به "سيرا" الآن من خجل وإحراج وانفعال متوهج بعدما بصقت أختها المتزعمة لفطنتها التي لا مثيل لها قولًا غير لائق بالمرة؟ وما زاد الطين بلة هو حديث "يزن" المحتد نوعًا ما:

-لا هي مش مريضة عن أذنكم، مضطر امشي.

وبالفعل، جذب متعلقاته الشخصية بسرعة شديدة وغادر معرضه تحت أنظار سخط "أبلة حكمت" ومشاعر "سيرا" المتضاربة، مما شعرت به من تعاطف معه بسبب قلقه الظاهر عليه وغضبها من حديث أختها الأبلة!

-هو مضايق مني ليه؟! هو أنا قولت أيه غلط!

زمت "سيرا" شفتيها بضيق وأحست اكتناز صدرها بمشاعر متضاربة فقالت بشيء من السخرية:

-لا خالص ماقولتيش أي حاجة، يلا أنا همشي هروح شغلي، وأظن انتي عارفة الطريق يا أبلة!

بادرت "أبلة حكمت" بحاجتها إلى الاطمئنان على عملها ومقره، وكان دافعها كعادتها خبرتها في الحياة التي تفوق خبرة أي أحد!

-هاجي معاكي شغلك واهو بالمرة اطمن انتي بتعملي أيه؟!

-لا ماينفعش، هيطردوني لو عملت كده، ممنوع اصطحاب أي حد أعرفه معايا.

سارعت "سيرا" بالرفض والابتسامة التي يشوبها الضيق لما يدور في عقل "أبلة حكمت"، ولكن الأخرى قابلتها باستهجان:

-ليه أنا ولية أمرك، مش حد تعرفيه والسلام!

استعدت "سيرا" للهروب من أمام وجه أختها المتطفلة في كل شيء يخصها، فقالت بابتسامة مقتضبة:

-ما هو مأكدين على بند ولي الأمر ده، وكمان في شرط جزائي هبقى احكيلك عليه بعدين سلام يا أبلة، ومتخافيش مش هحكي لاخواتي على أي حاجة من استثماراتك اعتبري سرك في بير.

ضغطت "سيرا" على كلماتها بعدما امتلكت الأداة السحرية للضغط على "أبلة حكمت" كي تتراجع عن فكرة الذهاب معها، فكان أسلوبها ساخرًا مبطنًا بالتهديد الذي قابلته "أبلة حكمت" بالتوتر وهي تودعها بصوت مهزوز من فكرة معرفة عائلتها بشأن امتلاكها للمال الوفير من أساسه!

-ماشي، مع السلامة يا سيرا يا حبيبتي، كله إلا الشرط الجزائي، احنا ممعناش ندفع فلوس كتيرة.

ثم همست لنفسها وهي تراقب توجه "سيرا" إلى إحدى الأبراج الشاهقة:

-احنا يا ختي على باب الله...

ثم رفعت يدها تحركها في شكل دائري لتحصن نفسها من الحسد ومن فكرة معرفة عائلتها بأي شيء يخصها!
                              ****

وصلت "يسر" إلى مقر عيادته واندفعت بجسد يتأجج بنيران الغضب بعدما علمت بشأن ما فعله بـ"منير" ليلة أمس، ذلك المتهور الفج يلقن ابن خالتها درسًا متعمدًا لكي يبتعد عنها، وبذات الوقت يتركها هي تتلوى فوق لهيب الغيرة والهجر، بينما هو يسهر ويصفي ذهنه من أي عواقب!

-الدكتور جوه؟!

خرج صوتها حادًا، يحمل بعض القسوة، وهي تنظر إلى الفتيات في قسم الاستقبال، وهن متزينات بصورة واضحة كأنهن يعملن لدى شركة أزياء، لا مجرد عيادة طبيب تغذية! لكن اللوم لن يقع على عاتقهن، بل على عاتق زوجها المبجل، العاشق لكل ما هو أنثوي وجميل! شعرت بالاشمئزاز من مجرد التفكير بذلك، وارتفعت ذروة الغضب لديها، معتقدة أنها ستلقنه درسًا قاسيًا على ما يفعله بها.

-هادخل ابلغه بوجود حضرتك يا افندم.

هتفت بها "حسناء" برقة مصطنعة، وهي تنهض بجسد يتمايل بنعومة استفزتها، لكنها أظهرت عكس ذلك حين قالت بقسوة:

-خليكي يا حلوة عارفة طريقي.

اندفعت "يسر" داخل غرفة "نوح"، الذي لم يتفاجأ بها وكأنه كان على اقتناع تام بمجيئها، فأظهر لامبالاة مقصودة حطمت بعضًا من أسوار غضبها، لكنها تشبثت بالباقي حين قالت بهجوم ضارٍ:

-بأي حق يا دكتور يا محترم، تضرب منير الضرب ده، انت لدرجادي بقى أسلوبك منـ....

قاطع حديثها حين نهض من مكانه وشدد فوق كتفيها، يقبض عليهما بقسوة:

-لمي لسانك يا يسر عشان ماتزعليش مني، وبعدين أنا لسه محاسبتكيش إنك شوفتي الواد الخايب ده من ورايا.

دفعت يده بعيدًا عنها بقسوة مماثلة، وعيناها لم ترتجفا إطلاقًا، رغم أنفاسه الساخنة التي كانت تلفح وجهها، تزيده توهجًا:

-بس بقى كفاية تمثيل، اللي يشوفك كده يقول بتغير عليا وبتموت فيا، وأنت ولا بتحبني ولا أنا أفرق معاك أصلاً.

شيء من السخرية طال صوته وهو يسألها، محتفظًا بالمسافة القريبة منها:

-أمال أنتي بالنسبالي أيه؟!

-مجرد واحدة شوفتها زمان وزغللت في عينك، وقررت إنك تحطها في متحف بيتك، ومفكر إنها هتبقى زيها زي التحف اللي موجودة، وناسي إنها إنسانة وبتحس وعايزة اللي يقدرها ويحترمها، مش عايزة واحد بصاص وعينه زايغة ومستني أي فرصة يتجوز عليها.

شراسة كلماتها وقعت فوقه كالحجرات الرقيقة التي ربما يعتقد البعض أنها لن تصيبه، لكن وقعها عليه كان كوقع الحجر الثقيل، فأصابته في مقتل، مما دفعه للجمود أكثر أمامها والاستنكار يعلو بصوته:

-الله! ده أنتي جاية تلوميني على كلامي امبارح، ودور إنك زعلانة على العلقة السخنة اللي اديتها لابن خالتك ده كان أيه بح! لما وصلتي اللي انتي عايزاه.

دفعته بعيدًا عنها أكثر وهي تقول باشمئزاز واضح:

-أنا للأسف مابوصلش معاك لأي حاجة، غير لحيطة سد، وأصلاً مابقاش في كلام ما بينا بعد اللي قولته امبارح، واه زعلانة على ابن خالتي ويهمني أمره لإنه انسان نقي وواضح مش زيك.

استدارت لتغادر الغرفة ولكنه سابقها ودفعها نحو حائط، ممسكًا بوجهها بشراسة وصوت أنفاسه يعلو بشكل ملحوظ:

-إن كان عقلك مصورلك إن أنا ماقدرش اعلمك الأدب على الكلام اللي قولتيه تبقى مابتفهميش عشان أنتي عارفة كويس لو زودتي في كلامك نهايته عندي هتبقى أيه!

اشتبكت مع نظراته الشرسة بأخرى ينطلق منها سهام التحدي:

-تصدق ماعرفش نهايته أيه؟! أيه هتضربني؟! 

أمسك بذقنها، ثم جذبها بقسوة نحوه، وعيناه تخلو من المشاعر والعاطفة كعادته معها دومًا، شعرت بحاجته لوضع سيطرته عليها، لكنها لم تتهاون معه كعادتها، ولم ينجح في تحريك عاطفتها من كهفها المظلم، بل أضرمت نظراته نيران غضبها، فدفعته بعيدًا عنها بكل ما أوتيت من قوة، وهي ترمقه باستياء وانفعال:

-للأسف مابقتش تفرق معايا يا دكتور نوح، أنا وأنت مابقاش في حياة تجمعنا وأنت اللي حطيت نهايتنا بإيدك.

تركته في وضعه المحتد وغادرت بعنفوان أنثوي لم يعجبه إطلاقًا، لدرجة أنه فقد السيطرة على نفسه ودفع بعض الأشياء من فوق مكتبه، هامسًا بوعيد قاسٍ:

-ماشي يا يسر وحياة أمي لأندمك بجد على اللي بتعمليه.
                            ****

مشاعر مشحونة بالغضب، القلق، والحيرة سيطرت عليهم، فيما عرقلت الأنفاس المتسارعة أي محاولة لتهدئة قلوبهم والاطمئنان على والدتهم التي غابت لأكثر من ست ساعات، وهاتفها مغلق، لم يعلم أحد منهم شيئًا عنها، سوى أنها كانت تجلس في غرفتها صباحًا تقرأ القرآن، ثم رآها "أنس" الصغير تستعد للخروج، وعندما سألها عن وجهتها، لم تجبه واكتفت بالتربيت على رأسه وتقبيله، ثم غادرت دون تفسير، ولم يخبر الطفل والدته إلا بعد مرور ساعة، حين دخلت تبحث عنها، ليجيبها بصوت طفولي لا مبالٍ بينما كان يشاهد التلفاز.

أغلق "زيدان" هاتفه، واليأس يحتل ملامحه، بينما سارعت "مليكة" بسؤالها، والقلق ينهش صوتها:

-ها يا زيدان مفيش أي أخبار؟!

هز رأسه نفيًا، وصوته بالكاد يخرج من حباله الصوتية المتحشرجة:

-لا لسه زمايلي في المرور شاغلين مش ساكتين.

عاد "يزن" بسؤالٍ لم يدرك أنه طرحه للمرة الرابعة، وقد فقد التركيز والسيطرة على نفسه من الخوف على والدته:

-سليم أنت اتصلت بكل قرايبنا متأكد إنك ماسبتش حد!

سارعت "شمس" بالرد، والقلق يفيض من صوتها، مبحرًا نحو مرفأ متهالك:

-ايوه يا يزن.

كانت تدرك أن إجابة سليم، هذه المرة أيضًا، قد تؤدي لانفجاره فيهم جميعًا، مع انعدام السيطرة على أعصابه، ظهرت بوادر ذلك من خلال رجفات ساقه وملامحه التي ازدادت قساوة، مشوبة بقلق نابع من خوفه العميق على والدته ومن احتمال وقوع مكروه لها.

فركت "شمس" يديها بتوتر شديد، وخرجت عن صمتها متحدثة بشرود:

-يمكن في قرايب لعمو محمد الله يرحمه أحنا مانعرفهمش هي راحت تزورهم، أو يمكن هي راحت تزور ميرفت؟!..بس تزورها أيه هي مبطقهاش أصلاً.

كانت تسأل وتجيب عن نفسها في آنٍ واحد، بنبرة مستنكرة قلقة، غير مدركة أنها فتحت بابًا جديدًا للبحث أمام "سليم"، كان غائبًا عن باله في خضم تشبث مشاعره بسور الأمل، نهض يقول بلهجة آمرة:

-في مكان هروح أشوفها فيه، خليكوا انتوا هنا، عشان لو جت تبلغوني.

غادر تحت أنظارهم المتعجبة، ليقول "زيدان" بضيق، يملأه الاحتجاج:

-عمره ما هيتغير، ما يطمنا ويقولنا هو رايح فين؟

نهى "يزن" أي محاولة لإثارة خلاف، محاولاً الحفاظ على هدوء الأجواء، قائلاً بحسم:

-مش وقته يا زيدان، المهم نطمن على ماما.

وكأنه يحذر زيدان من الانزلاق إلى الظلام الدائم الذي طالما طارد عقل أخيه سليم، والذي نجح بالكاد في النجاة منه، ليحافظ على علاقة مرضية تجمعهم جميعًا.
                                **** 
خطى "سليم" بخطوات ثابتة يكسوها بها بعض القلق وهو يبحث بعينيه عن والدته في المقابر، وكما توقع وجدها تجلس أمام قبر أبيه، صامتة، ساكنة، تضع يدها فوق القبر، فاستكمل خطواته بهدوء شديد والراحة تحبو نحو صدره بعد أن اطمأن قلبه عليها، ولكن ما أثار استياءه كان دموعها المتساقطة على وجنتيها والعجز الكامن بملامحها، ويدها المتشبثة بالقبر وكأنها تتمنى الدخول معه! فخرج همسه متحشرجًا للغاية:

-ماما!

فتحت عينيها بوهن شديد وناظرته بعدم فهم بنظرات مشوشة:

-سليم أيه اللي جابك هنا؟!

ثم انتقلت بنظراتها حولها فلم تجد سواه، أدركت حينها أن ضوء النهار قد اختفى، واحتلت ظلمة الليل سماء الدنيا، على ما يبدو، أنها شردت بين ذكريات الماضي وأوجاع الحاضر لدرجة أنها غابت عن الوقت.

حاولت التحدث أو الاعتذار عما بدر منها، لكنها صمتت عندما سمعت صوته الخافت يقرأ الفاتحة لأبيه، نهضت تستعد للمغادرة معه، وكما توقعت، حين أنهى الفاتحة والدعاء، ناظرها بنظرته الجامدة رغم شعاع الخوف عليها الذي اخترق عينيه المعتمتين:

-يلا، لو كنتي خلصتي؟!

هزت رأسها إيجابًا، ثم التفتت بجسدها نحو بوابة المقابر الحديدية، مد يده نحوها يساعدها، وأمسكها من مرفقها قائلاً بحنو يخالف جمود صوته:

-على مهلك.

تساءلت بلهفة ممتزجة بالأسف:

-هو أنا خضتيكوا عليا يا ابني؟!

جاء جوابه الساخر البسيط:

-لا أبدًا فزعتينا بس.

ساعدها في الركوب بسيارته ثم استقل هو الأخر خلف عجلة القيادة.

-معلش ماحبتش أشغلكم، قولت اخطف نفسي واجي ازور ابوكم.

التقت نظراته الجامدة بعينيها المرتجفتين وهو يلقي بكافة لومه عليها:

-بس لو كنتي قولتي لحد فينا يجي معاكي، مكنتيش قلقتينا بالشكل ده!

تساءلت بنبرة غير مصدقة والدموع تترقرق في عينيها:

-هو أنا قلقتكوا لدرجادي؟!

انعقد حاجباه بعدم فهم:

-قصدك أيه بقلقتينا؟! طبعًا قلقتينا وخوفنا عليكي، انتي عملتي كده عشان نقلق عليكي؟!

سارعت بالنفي، مبرزة صدقها في حديثها:

-أبدًا والله يا سليم، أنا فعلاً كنت عايزة ازور ابوكم واتكلم معاه شوية.

لم يقتنع بما قالته وأصر على رأيه:

-مش مبرر بردو كنتي تقدري تعرفينا وأي حد فينا يوصلك!

امتزجت مرارة صوتها المهزوز بحديثها وهي تجيبه:

-محدش فيكم فاضيلي كل واحد عنده همه ودنيته.

نفد صبره وهو يجادلها، مشددًا بحدة وصرامة:

-طيب ما انتي بردو دنيتنا، ليه فجأة سحبتي نفسك منها؟!

اندفعت كالطفل يبرر خطأه خوفًا من حزنه، وقالت بتلعثم طفيف:

-أنا مابتكلمش عليك يا ابني، انت الله يكون في عونك.

اعتدل أكثر في جلسته، ناثرًا كلماته الصارمة:

-امال مين على اخواتي؟! ما هما كمان عندهم شغلهم بردو زيي محدش فيهم قاعد فاضي.

تراجعت عن نيتها في إخباره بما يثقل صدرها، وهو ما جعلها حزينة ومكسورة طيلة الأيام الماضية، لم يرأف بها أحد من أولادها، ولم يجبر بخاطرها أحد، لذا قررت إظهار عكس ما تكنه بصدرها:

-عندك حق، معلش يا ابني أنا.....

زفر بقليل من الحنق وهو يصر على فتح أبواب قلبها له:

-أمي لو سمحتي قولي اللي جواكي، لو قصرنا معاكي في حاجة واحنا مش واخدين بالنا منها قولي، لكن ماتستكيش وكأنك مغلوبة على أمرك، أنا ماتعودتش منك على كده!

رفعت عيناها اللامعتين تسأله بحسرة وندم:

-اتعودت على أيه مني يا سليم، الجحود؟!

انفلت زمام أعصابه سريعًا، وتراشقت الكلمات من على طرف لسانه:

-بتفتحي في الماضي ليه بس يا أمي، كل ما بحاول انسى واتجاهل بردو بنظراتك ليا مُصرة تخليني افتكر كل حاجة حصلت.

تداخلت خيوط الندم بضعفها البائن على ملامحها:

-أنا أسفة يا بني.

حول نظره بعيدًا عنها وهو يتحدث بجمود بدا مهزوزًا هذه المرة:

-ماطلبتش منك تعتذري، بس يا ريت تفهميني  وتحاولي تنسى، زي ما أنا بحاول انسى.

استرسلت بكلماتها التي تراشقت كسهام في قلبه، خاصة عندما قالت:

-محدش يقدر ينسى ذنب ارتكبه يا ابني.

تجاهل تلميحها حول مشاعرها، وأصر على إلقاء ذكريات الماضي في بحر النسيان، قائلاً بهدوء:

-ماتحمليش نفسك فوق طاقتك، أنتي لما قسي...

صمت للحظة، مستدرجًا ذرات الهواء إلى صدره المشحون، ضاغطًا على عقله بأمورٍ تخالف آرائه ومعتقداته الراسخة به:

-لما قسيتي عليا كان لمصلحتي وكنتي عايزاني ابقى حاجة، وأنا قدامك اهو ماضعتش ولا بوظت. 

انفجرت باكية، تشهق بنبرات عالية، وأصابعها ترتجف بينما جسدها الضعيف يدخل في نوبة بكاء هستيرية، جلاد الماضي يقسو على حاضرها، فتخرج كل الضغط النفسي في صورة شهقات متتالية، حاولت إظهار قوتها وثباتها طوال الفترة الماضية، لكنها فشلت، وبقيت الوحدة والألم النفسي ينخران في نفسها الضعيفة، تركت نفسها تتخبط هنا وهناك دون أي مقاومة، حتى ذبلت كورقة خريف شاردة.

راقب "سليم" حالتها الحزينة التي مزقته إلى أشلاء، لم يكن قادرًا على إدراك أي شيء سوى عاطفة عميقة تدفعه لاحتضانها واحتوائها، لكن حواجز الماضي منعته ودفعته بعيدًا عنها، حاول جاهدًا أن يُجبر يديه على التربيت فوق رأسها، وبعد صراع داخلي، استطاع أخيرًا النجاة من الأطواق الملتفة حول عنقه، استنشق ذرات الهواء العليل وأدخلها إلى صدره، ثم تحرك بجسده نحوها، يجذبها إليه برفق، مقبلًا رأسها بحنو بالغ وهمس:

-اهدي يا أمي مفيش حاجة تستاهل ده كله!

-أنت تستاهل يا ابني، أنت اهم حاجة، أنت ومفيش بعدك أي حاجة تانية..

رفعت رأسها لتخبره بجزء من مشاعرها نحوه، فأمسكت بكفه بين يديها تحتضنه بأمومة، ثم استكملت حديثها:

-لما بتدخل تسأل عليا وتقولي اخبارك أيه، اليوم ده ببقى أسعد انسانه، لما بلاقيك فاكر ادويتي بقول بس كده يا منال انتي مش عايزة حاجة من الدنيا سليم راضي عنك النهاردة، لما بتضحك في وشي الدنيا كلها بتضحك ليا يا حبيبي، ولما بتبعد الدنيا بتسود في وشي.

شقت بسمة صافية محياه وهو ينظر إليها باشتياق، لقد نجحت في ريّ صدره البور بمشاعر غزيرة كان يفتقدها في علاقته معها:

-عيالك لو سمعوا كلامك الحلو ده ليا، هيغيروا مني.

ابتسمت من وسط بكائها تستكمل حديثها بحنو بالغ:

-عمرهم ما هيفكروا يغيروا منك، زيدان ويزن عارفين غلاوتك عندي ومكانتك في قلبي وإنك ماتتقارنش بحد، بس انت اللي شكلك ما تعرفش غلاوتك عندي أيه!

قبل رأسها مرات عدة، وكأنه لا يملك سوى قبلاته للرد على جمال كلماتها المعبرة له، فوالدته ببساطتها جعلته عاجزًا عن النطق والتعبير، معترفًا بأن مرواغته ودهاءه ولباقته، في تجارته لم تفلح في هذه الجولة البسيطة من المواجهة مع والدته.

-يلا نمشي نروحلهم، عشان اتأخرنا وزمانهم قلقانين عليكي، وبعد كده ماتمشيش لما تعرفينا انتي رايحة فين.

-حاضر يا ابني، ربنا يخليكم ليا ويبارك فيكم وفي ذريتكم.
                             ****
مساءًا....

استقبل "يزن" "وزيدان" والدتهما بالأحضان، محاولين عتابها باستمرار، لكن سليم قطع حديثهما بعدما عزما على ترقيعه بخيوط الندم.

اعطت منال يدها ليد شمس الممدودة أمامها، وهي تقول بتعب وإرهاق:

-دخليني يا شمس ارتاح شوية في اوضتي.

راقب "زيدان" دخول والدته مع "شمس" "ومليكة" إلى غرفتها، وما إن أغلقوا الباب خلفهن، حتى اندفع نحو "سليم" الجالس بينما كانت يداه تداعب ملامح طفلته "قمر":

-انت كنت تعرف مكانها من الاول، ولما احنا فشلنا فجأة افتكرت هي فين؟!

وضع "يزن" كفيه على وجهه، محاولاً السيطرة على أعصابه ومنع نفسه من الصراخ، بينما رفع "سليم" عيناه الصارمتان، متفوهًا بنبرة شبه حادة تحمل تهديدًا خاصًا:

-شكلك فاضي وعايز تتخانق؟

كز "زيدان" على أسنانه بغيظ وأردف بهجوم خافت:

-اه يا سليم هنقلبها خناق.

ابتسم "سليم" باستفزاز وهو ينهض حاملًا طفلته، وقال بهدوء بارد:

-بس أنا مش قادر اتخانق معاك النهاردة، نأجلها لبعدين، وبعدين قمر واحشني مش هضيع وقتي معاك واسيبها، تصبح على خير.

اتسعت عينا "زيدان" بصدمة بالغة وهو يراقب سليم بهيبته يداعب "قمر"، متجاهلاً إياه وأمر شجارهما المعلق مؤقتًا، التفت "زيدان" بنظره نحو "يزن"، الذي ما إن التقت أعينهما حتى فر هاربًا هو الآخر نحو غرفته.

                                *****

بمنزل "سيرا"...

فتحت المبرد تبحث عن صحن جبن رومي خاصها فلم تجده، فصاحت بانفعال:

-لا بقى مين الجزمة اللي كل الجبنة الرومي بتاعتي.

ركض اولاد اخواتها من أمامها، فركضت هي خلفهم، تمسك بصندوق فارغ صغير تهدد به:

-اللي كل الجبنة يقول حالاً، أنت أكيد يالا، تعال كده، خد مش هعملك حاجة.

انتشر المشاغبون في كل مكان بالمنزل وهي تركض خلفهم يمينًا ويسارًا بجنون، ولم تلاحظ أصغر اطفال "شاهندا" الذي امسك بثوبها يحمل هاتفها ويحاول جذب انتباهها:

-خالتوا سيرا، استني، فونك، عمو عايزك.

نفضت "سيرا" يده بصياح وهي تقول:

-بس يا ابني لما اشوف مين الكلاب دول اللي كلوا الجبنة بتاعتي.

-عمو...عمو عايزك.

كرر الطفل كلماته بابتسامة عريضة رافعًا يده الحاملة للهاتف، فانتبهت "سيرا" لكلامه، جذبت الهاتف سريعًا ووضعته فوق اذنيها تهمس بارتباك وخجل:

-الو.

وصلها صوت ضحكات "يزن" الرجولية المستمتعة وهو يقول:

-يا متوحشة هتاكلي عيال اختك عشان جبنة رومي!
يتبع 
أغلقت "سيرا" باب غرفتها خلفها بإحكام، ثم خطت بخطوات واسعة بجانب نافذة غرفتها الكبيرة، ملتصقة بها وهي تردف بتوتر:

-في أيه...قصدي خير... قصدي يعني متصل ليه يا أستاذ يزن؟

ألصقت الجدية بطرف حديثها متعمدة، فاستمعت إليه وهو يقول بمزاح وأريحية:

-بتصل اعاتبك واعتذرلك، بس مكنتش اعرف إنك بتقتلي ولاد اختك عشان الجبنة الرومي.

تلونت وجنتاها باحمرار طفيف وهي تقول من بين أسنانها بغيظ:

-أنت فهمت أيه!، ده أنا بلعب مع عيال أخواتي، وبعدين يعني هو أنا معقول هزعقلهم عشان جبنة رومي دي تفاهات يا أستاذ يزن.

أعجبه ارتباكها الذي يصل إليه من خلال مكالمتهما، فأصر على الضغط عليها بكلماته المتلاعبة:

-لا ثواني ازاي ده أنا سامعك بوداني والعيال بتصرخ من الخوف منك.

ضغطت فوق شفتيها بقوة، ثم حمحمت بحرج رغم أنها تتظاهر بالجدية:

-لا أبدًا أكيد فهمت غلط، دي لعبة اسمها لعبة الجبنة الرومي.

-لا يا شيخة! ودي بتتلعب ازاي بقى؟!

نفخت بضيق وهي تقول بشبه عصبية:

-هتلعبها مع مين؟! دي عايزة عيال صغيرة.

وصل إليها صوت ضحكاته الرجولية، ثم ادعاؤه الصرامة وهو يقول:

-لا ماسمحلكيش تتدخلي في خصوصياتي يا أستاذة سيرا، قوليلي بتتلعب ازاي ويبقى كتر خيرك.

رفعت أحد حاجبيها باعتراض، وألزمت الصمت حول لسانها كي لا توبخه، وبعد ثوانٍ بسيطة قالت:

-ممكن أعرف عايز تعتذرلي ليه؟!

تجاهلت أمر عاتبه عن قصد، ففهم مقصدها ورد ببساطة:

-عشان لتاني مرة اضطريت أمشي واسيبكم بس يعني أكيد عارفة أنه بيبقى غصب عني.

أظهرت تفهمها للموقف وهي تعقب خلفه:

-أكيد طبعًا، مامتك بخير؟!

وهنا انفجر بها معاتبًا بأريحية تعجبت لها:

-لسه فاكرة تسألي، كتر خيرها أبلة حكمت سألت عليا، ست ذوق ومحترمة حقيقي ماشفتش زيها أبدًا.

آلام طفيفة أصابت رأسها، أو ربما خُيل لها أنها ستفقد وعيها عندما ذكر "أبلة حكمت" فتسائلت بحذر:

-هي أبلة حكمت كلمتك؟!

أجاب، ونبرة غريبة تلاحق كلماته لم تفهمها، وكأن ذلك الثعلب أدرك نقاط ضعفها من جانب أختها المتهورة:

-اه سألت عليا واتطمنت على والدتي، اختك ذوق اوي.

تبرمت بشفتيها وهي تجيبة بضيق:

-أنت بتحاول تجر ناعم مع أبلة ليه، ما صدقت لقيت زبونة زيها صح؟! انت شكلك محدش بيعبرك وبيجيلك الأجانص بتاعك!

ضحكة صغيرة صدرت عنه وهو يقول ساخرًا:

-أنتي ليه محسساني أني كمان شوية هقف قدام باب الأجانص وبشحت، أو مثلاً اطلع عربية مرسيدس واقف بيها وامسك ميكرفون واقول بمليون ونص تعال بص.

جذبت نفسًا طويلاً تحاول تهدئة نفسها قبل أن تنفجر به، لكنها فشلت قائلة بهجوم شرس:

-يا بني افهم ابعد عن ابلة حكمت خالص.

-ليه بقى؟! أبعد عنها ليه؟! خليكي صريحة مقابلتين شوفتهم فيها كان واضح جدًا إنك مش مرتاحة أو بتحاولي تتطفشيها مع إنها اختك، أنتي شكلك الطرف الأسوء في العيلة.

ضيقت عينيها بغيظ شديد ووجنتاها تتوهجان بانفعال مفرط، وحين حاصرها "يزن" بأسئلته، استغلت صمته وحاول عقلها خلق كذبة أو ادعاء يرضي خصوصيتها التي تحاول الحفاظ عليها معه:

-بص يا يزن....

قاطعها مصححًا لها بجدية ساخرة:

-استاذ يزن لو سمحتي!

زفرت بخفة وهي تتجاهل تعقيبه عن قصد:

-بص أنا خايفة عليك بجد، أبيه صافي جوز أبلة حكمت صعب جدًا وغيور أوي أوي أوي فوق ما تتخيل، تخيل بقى لو سمع إن أبلة بتكلم راجل غريب، ده ممكن يطربق الدنيا فوق دماغك ويكسرلك الأجانص بتاعك، ويأذي أبلة حكمت، أنت ترضيلها الأذية؟!

صدر عنه همهمة بسيطة معلنًا استجابته لحديثها، فزفرت براحة وكأن عقلها الشارد وجد غايته ونجاته أخيرًا، فسمعته يقول:

-يااااه جوزها صعب لدرجادي؟!

أجابت بتأكيد صارم:

-جدًا فوق ما تتخيل.

-غريبة مع إن الراجل كان لطيف جدًا ومتفهم وهو بيكلمني.

تحشرج صوتها وأصابها الغباء وهي تتساءل:

-راجل مين؟!

رد بسلاسة والتسلية تحلق بنبرته عاليًا:

-أبية صافي!

كأن دلو ماء سقط فوق رأسها وهي تسأل بنبرة مستنكرة:

-أبية صافي كلمك أنت؟!

-ايوه لما ابلة حكمت اتصلت تتطمن على والدتي، عرفتني على جوزها الحاج صافي وكان راجل لطيف ومتفهم جدًا ووعدني أنه هيجي يشرب معايا فنجان قهوة عندي في الأجانص في أقرب وقت.

ابتلعت لعابها عدة مرات تحاول إنهاء تلك المكالمة قبل أن تنهي حياتها بسبب بئر الإحراج الذي تغرق فيه والسبب تصرفات " أبلة حكمت" المثيرة للجدل!

-طيب...طيب سلام بقى يا أستاذ يزن، مضطرة اقفل، مع السلامة.

أغلقت الهاتف دون أن تستمع لرده، ثم توجهت سريعًا إلى الصالة تبحث بعينيها عن اختها الكبرى فلم تجدها، ولكن العزم الذي بداخلها لم يمنعها من متابعة خطواتها نحو شقتها بالأسفل، فطرقت الباب عدة مرات حتى فتحت "دهب" ابنة "حكمت" الكبرى وهي تحمل كتابًا يخص مرحلة الثانوية:

-نعم يا خالتو؟

-امك فين يا دهب؟!

أجابت بلامبالاة وهي تنظر إلى الكتاب مدعية الاجتهاد:

-راحت مع بابا تتخانق مع عمي عشان واكل على بابا تلاتين ألف جنية في حسبة بيع تخص الميراث.

نفخت "سيرا" بضيق وقررت أن تغادر وقبل أن تترك باب شقة أختها حركت الكتاب ناحيتها وهي تقول:

-ابقي وطي إضاءة التليفون يا روح خالتو وانتي بتذاكري.

ارتبكت "دهب" وتظاهرت بالثبات:

-أصل بذاكر من الاتنين.

ابتسمت "سيرا" ساخرة:

-ما شاء الله الاجتهاد واخد حقه معاكي، ربنا يحميكي يا بنتي.

تركتها "سيرا" وقررت بدلاً من الصعود إلى شقتها الذهاب إلى منزل صديقتها " فاطمة" للتفكير معها بشأن تصرفات "أبلة حكمت" المريبة، طرقت باب شقة صديقتها عدة مرات بتتابع موسيقي حتى فتحت والدتها وهي تبتسم:

-واحدة بتطبلي على الباب، والتانية بتمثل جوا.

اتسعت ابتسامة "سيرا" وهي تضحك:

-هي الفنانة طماطميوا بتتدرب!

زفرت والدة "فاطمة" بغيظ وهي تقول:

-عشان خاطري يا سيرا كلميها، خليها تطلع الموضوع المهبب ده من دماغها.

تنهدت "سيرا" بحيرة وهي تتلفظ بضيق:

-واقسم بالله أنا زهقت كلام معها، بس هي وعدتني إنها مش هتدفع فلوس تاني لأي كاست، وأهو لعل وعسى تكره الحوار ده وتزهق، وانتي بردو يا طنط لمي ايدك شوية في المصاريف، خلي فاطمة تهدى وتعقل.

ارتسمت خيوط الأسى بريشة الحزن فوق وجه والدة "فاطمة" وهي تقول:

-مابحبش ازعلها ده هي اللي حيلتي من يوم وفاة أبوها وهي بقت كل دنيتي.

اقتربت منها "سيرا" بحب وقبلتها فوق رأسها تخفف عنها حزنها:

-ربنا يخليهالك ويبارك فيها يا رب، يلا هدخل اقعد معها شوية.

تركتها "سيرا" ودلفت إلى داخل غرفة "فاطمة" التي ما إن رأتها حتى رحبت بها ترحابًا شديدًا، وأخبرتها قائلة بحماس:

-وبس يا سيرا ادوني المشهد ده اتمرن عليه، واروح بكرة في مقر الشركة الرئيسي عشان فيه مخرج مهم هيشوفني أنا وكام بنت.

عادت "سيرا" تسألها بتحذير:

-دفعتي فلوس يا فاطمة؟!

هزت "فاطمة" رأسها تُظهر عكس ما يدور بداخلها:

-أبدًا، أنا اقتنعت بكلامك أصلاً ومادفعتش جنية وهما بردو ماطلبوش.

صمتت "سيرا" على مضض وأظهرت ملامح عدم الرضا عن الطريق الذي تصر صديقتها على سلكه رغم شوائبه وعواقبه العديدة، ولكن ثرثرة فاطمة المعتادة دفعتها لإخبارها بما حدث اليوم، فعقدت "فاطمة" ما بين حاجبيها:

-الله! أبلة حكمت دي غريبة جدًا، اللي يسمعك وانتي بتقولي اتصرفت ازاي مع يزن ده مايشوفهاش وهي بتتخانق الصبح على اتنين كيلو طماطم مع ام سارة.

عبرت "سيرا" عن قلقها قائلة:

-أنا خايفة اوي يا فاطمة من أبلة حكمت لتفضحني بجد، لسانها مفيش حد في الدنيا يقدر يسيطر عليه، ربنا يستر.

ربتت "فاطمة" فوق يد "سيرا" بحنان:

-ماتقلقيش يا سيرا، خير ان شاء الله، أنا عارفة أبلة حكمت كويس حياة الأثرياء دي مش هتتحملها كتير، صدقيني.
                              ****
في اليوم التالي...

هبطت "سيرا" من الحافلة التي استقلتها للذهاب إلى مقر عملها، وسارت بالطريق الرئيسي الكبير بوجه جامد وملامح شبه غاضبة، إذ لم يكن صباحها أفضل صباح.
بدأ يومها بشجار مع أولاد أخواتها بسبب تدخلهم في خصوصياتها داخل غرفتها، ثم تبع ذلك جدال مع "أبلة حكمت" في أمور شتى، وانتهى بمواجهة مع "فايق"، ذلك المستفز الذي حاول التحدث معها، لكنها أطلقت فتيل غضبها في وجهه وتركته يحدق في أثرها متعجبًا من جرأتها غير المعتادة.

لمحت من بعيد جسد "يزن" وهو يقف مستندًا إلى أحد الأعمدة أمام "معرضه"، ويبدو عليه أنه ينتظر قدومها. 
شجعت نفسها على تجاهله بعدما نفدت قارورة صبرها لهذا اليوم، فقد قررت ألا تتحمل لعبة القط والفأر التي بدأت تشعر ببداياتها معه، سارعت بخطواتها بوجه جامد، مجبرة نفسها على تحديد وجهتها، حتى نجحت أخيرًا في الدخول من بوابة البرج الحديدية، ملقية السلام على صاحب البرج بابتسامة مقتضبة.

أما "يزن" فقد تراجع بجسده خطوتين بعدما كاد يستعد للذهاب خلفها والتحدث إليها، إلا أن تجاهلها له أثار استغرابه قليلًا، ثم أوهمه عقله بأنها ليست سوى خطة منها للإيقاع به في شباكها، فارتسمت على شفتيه نصف ابتسامة ماكرة، وهو يردد بحماس شبابي:

-ماشي يا ست سيرا اتقلي براحتك.

أما على الجانب الآخر، مال الحاج " أحمد" صاحب البرج الذي تعمل فيه "سيرا"، على أحد أصدقائه قائلاً بعبوس كعادته:

-هو أيه حكاية يزن الشعراوي ده، أنا ملاحظ إنه مابينزلش عينه من على البت اللي لسه طالعة الجيم.

هز صديقه رأسه بتأكيد ساخر:

-مايبقاش يزن الشعراوي إن ما حاول يكلمها.

احتدت ملامح الحاج " احمد" بقسوة:

-لا أنا مابسمحش عندي بالمسخرة أبدًا، قول لصاحب الجيم يمشيها.

-لا لا يا حاج البت الشهادة لله محترمة ومشوفناش منها أي حاجة وحشة، وبعدين أنا قولتلك لسه بيحاول يوصلها، بس باين عليه مش عارف ياخد معاها حق ولا باطل.

تنهد بتروي قبل أن يقول بحسم:

-خلاص فتح عينك لو لقيتها اتسهالت معاه قولي وعرفني، أنا مش عايز أي سمعة وحشة على البرج، وبعدين ربنا يهديه يا أخي إلا ما الواحد شاف له زبون راجل، كلهم ستات في ستات، مع إن اخوه الكبير محترم وراجل ابن ناس سمعته زي الجنية الدهب، مش عارف ماطلعش لاخوه ليه! 

-ملناش دعوة يا حاج، دع الخلق للخالق.
                             ****

انتفضت "يسر" بفزع وهي تنظر لوالدها السيد "فاضل" بعدما هب يوجه طوفان غضبه نحوها:

-يعني أيه عايزة اتطلق وخلاص، هو أنا اهبل قدامك، في واحدة محترمة عايزة تهد بيتها من غير سبب!

-هتفت برجفة بسيطة وهي تقول:

-يا بابا أنا ونوح مابقناش متفاهمين صدقني، وده أحسن لمصلحة لينا.

ضرب السيد " فاضل" كفًا بآخر وهو يقول:

-لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم، قوليلي سبب واحد عشان تطلبي الطلاق منه، بيضربك؟

هزت رأسها نفيًا، فتابع هو بصرامة:

-بيشتمك بأهلك، بيقل منك؟؟

عادت تحرك رأسها نفيًا، والخوف يسيطر عليها من إفشاء سرها مع نوح، فتابع والدها بانزعاج:

-مابيصرفش عليكي؟!

هزت رأسها، والصمت يلتف كشبكة عنكبوتية حول لسانها، فصاح "فاضل" بغضب:

-امال أيه يا بنتي!، بصي بقى مفيش طلاق غير لما تيجي تقوليلي سبب واحد وصريح، غير كده أنا مش هسمح بلعب العيال ده، وأنا النهاردة هروح لنوح اتكلم معاه.

وضعت "أمل" التي كانت تتابع حديثهما، يدها فوق وجهها بصدمة، فسارعت "يسر" تحاول إلغاء تلك الفكرة قائلة بارتباك طفيف، والدموع تتسابق فوق وجنتيها:

-طـ...طيب بص يا بابا سيبني اتكلم معاه النهاردة واوصل لحل يرضيني، ولو حسيت إننا لسه مش متفاهمين هسيبك تتكلم معاه تمام!

أحس "فاضل" بشيء مريب لم يستطع فك لغزه، ولكنه أظهر موافقته وغادر إلى عمله، أما "أمل" فقد انتقلت فورًا بجانب ابنتها، وقالت بخوف:

-يالهوي لو ابوكي عرف الحقيقة، وإنك كنتي موافقة من الاول ده يبهدلنا ويسود عيشتنا.

بكت "يسر" بانهيار في احضان والدتها قائلة بنبرة عاجزة:

-أنا تعبت ونفسي ارتاح بجد.

ترددت " أمل" قبل أن تلقي ما في جعبتها مرة واحدة:

-أنا من رأيي يا يسر، تـ...تسيبه يجرب اللي هو عايزه وفي الآخر يا بنتي هيعرف قيمتك وإنه كان متجوز جوهرة...

قاطعتها "يسر" بغضب شديد:

-لا يا ماما أنا غلطت مرة واتنازلت وكنت فاكرة إني هنجح في علاقتي مع نوح، بس بالعكس أنا اتدمرت ومانجحتش في أي حاجة، غير إن دمرت نفسي وبس.

تنهدت "أمل" بقلة حيلة:

-خلاص يا بنتي دي حياتك وانتي حرة فيها، حاولي تقنعي أبوكي بأي حاجة غير أنه يعرف اللي حصل.

هزت رأسها "يسر" بتفهم، ونهضت تدخل غرفتها لتستجمع قواها وتحاول إيجاد فكرة مناسبة لإنهاء تلك المعضلة.

                                ****
استطاعت "سيرا" اقتناص وقت للراحة، فأخرجت هاتفها تعبث بيه قليلاً على وسائل التواصل الاجتماعي، حتى رأت رسالة نصية مُرسلة من قبل "فاطمة" فحواها:

"سيرا الحقيني أنا في مصيبة، الشركة اللي قولتلك عليها طلعت نصباية وصاحبها راجل متحرش، أنا قدرت اخلع منه وقفلت على نفسي في اوضة من  جوه، هبعتلك الليوكشن انقذيني، اوعي تتصلي عشان ده الفون الصغير اللي معايا، التاني برة معاهم في شنطتي".

توسعت عينا "سيرا" بصدمة وتسارعت أنفاسها، فأرسلت رسالة بأصابع مرتجفة:

"ماتخافيش يا طمطم هتصرف واجيلك"

استأذنت سريعًا من عملها وهبطت الدرج بسرعة جنونية، ثم إلى الطريق الرئيسي وبدأت تهرول كالمجنونة وعقلها عاجز عن التفكير بمن تستنجد به في هذه الحالة دون أن تثير بلبلة حول صديقة طفولتها.

أما "يزن"، فقد رآها تركض بسرعة جنونية والقلق يسيطر عليها من خلف زجاج معرضه، ترك الملفات التي كانت بيده وسارع خلفها ليطمئن عليها، بينما الحاج "أحمد" تابع ما يحدث بوجه مستاء حتى غابت "سيرا" عن أنظاره ثم كذلك "يزن"، فتمتم بضيق:

-يزن ده مش هيجيبها لبر أبدًا.

بينما كانت "سيرا" تحاول إيقاف أي سيارة أجرة، لم تلاحظ وجود "يزن" خلفها مباشرةً إلا عندما قال بنبرته الرجولية التي اخترقت مسامعها:

-سيرا انتي كويسة؟!

انتفضت بفزع وهي تستدير بكامل جسدها نحوه، والقلق واضح على ملامحها، حتى لمعت برأسها فكرة الاستعانة به، فقالت برفق مهزوز:

-يزن ممكن تساعدني؟

أجابها بثقة وتأكيد على الفور: 

-طبعًا، مالك في أيه؟

-عندك عضلات، وبتعرف تضرب؟

كان سؤالها عجيبًا، ولكنه لم يتعجب كثيرًا، فقد اعتاد أن "سيرا" فتاة غريبة الأطوار، قهرت جميع معتقداته عن الفتيات بتصرفاتها غير المتوقعة، حتى استفزت فضوله ومشاعره نحوها لاكتشاف أغوارها أكثر:

-انتي شايفة أيه؟!

استعرض عضلاته أمامها، فقالت بتوتر متجاهلة هيئته التي خطفت أنفاسها:

-بص دي رسالة من فاطمة صاحبتي كانت بتعمل كاست تمثيل...

ناولته هاتفها ليقرأ محتوى الرسالة، فقال لها بحزم:

-ثواني هجيب عربيتي واجيلك ماتتحركيش من مكانك، وابعتيلي اللوكيشن ده حالاً.

هزت رأسها بالإيجاب وانتظرته حتى أتى بسيارته ووقف أمامها، مشيرًا إليها بالصعود، امتثلت لطلبه وبدأت في فرك كفيها بتوتر بالغ، وعقلها يصور لها أسوأ اللحظات التي قد تمر بها صديقتها، حاولت إرسال رسائل إليها دون أن تتلقى أي رد، فانهارت باكية وهي توجه حديثها لـ "يزن"، الذي شعر بتوتر لم يصبه مثله من قبل:

-هي ليه مابتردش عليا طيب؟ يبقى كسروا الباب عليها صح!

نظرت إليه، والدموع تتسابق على وجنتيها وكأنها في سباق للركض، اختطف "يزن" نظرة سريعة نحوها وأصابه شعور بالعجز والضيق، فجذب منديلاً وأعطاها إياه، قائلاً بلطف:

-خلاص اهدي، ان شاء الله مش هيحصلها حاجة، وأنا كلمت زيدان اخويا ظابط شرطة وهو كمان في طريقه ليها.

هتفت بتوتر وخوف:

-بس هي عمرها ما دخلت اقسام وأنا ما...ماكنتش عايزة يعني إنها تتبهدل، أكيد انت فاهم إنها بنت....

رمقها بنظرة متفهمة يبث فيها روح الاطمئنان، والتي وصلت إليها من خلال كلماته:

-ماتقلقيش أكيد فاهم، وزيدان هيتصرف.

تنهدت بخوف وهي تتابع الطريق الذي سلكه "يزن" بأقصى سرعة، حتى وصلا إلى البناية المنشودة، فالتفت إليها قائلاً بتحذير:

-هو أنا مش قولتلك ماتتحركيش من مكانك، ماسمعتيش كلامي ليه؟!

-أنا مابسمعش كلام حد.

ردت بعنادٍ وهي تتجه بتمردٍ نحو الدرج، فتابع خطواته خلفها محذرًا:

-سيرا، احنا لازم نستنى لما زيدان يجي ماينفعش نتهور أبدًا.

توقفت عن صعود الدرج، ونظرت إليه نظرة ساخرة:

-هي العضلات دي تركيب ولا أيه؟!

ضيق عينيه واقترب منها مختصرًا بعض المسافة بينهما وهو يقول:

-بتستفزيني صح، بس أنا بقى دماغي اللي بتسبق ايدي ودي المعلمة.

-طيب يا معلم أنا صاحبتي فوق وفي واحد بيتحرش بيها، هنسيبها لغاية ما اخوك الظابط يجي.

-اخوه الظابط جه يا جماعة.

التفت "يزن" إلى مصدر الصوت، بينما رفعت "سيرا" رأسها تبحث عنه، لتجد شابًا يشبه "يزن" إلى حدٍ كبير ويحمل وسامة مماثلة، وخلفه بعض الرجال، عقدت حاجبيها بعدم فهم ووجهت نظراتها إلى "يزن":

-هو مش اخوك ظابط شرطة؟!

-أيه مش حاسة صح، أنا نفسي مش متأكد.

قالها "يزن" بمزاحٍ طفيف رغم صعوبة الموقف، فاحتل الضيق معالم وجه "زيدان" وهو يردف بغرور:

-مالي يا ماما ماشبهش ظباط الشرطة ولا أيه؟!

وجههت "سيرا" حديثها لـ "يزن" مرة أخرى متجاهلة أمر "زيدان" من فرط خجلها وهي تردد باستنكار:

-غريبة! مش لابس لبس ظباط الشرطة ليه؟

حاول "يزن" التحدث وهو يرمق "زيدان" نظرة محذرة، حين لمح في عينيه الاندفاع والهجوم، لكن سبقه "زيدان" قائلاً بتهكم:

-معلش بيعملي حساسية، الدكتور مانعني منه.

نظرت إليه نظرة متوترة يختلط بها الحدة، ثم استكملت صعودها، ولكن "يزن" عرقل "زيدان" محذرًا:

-خف يا خفيف عشان مازعلكش، ومتضايقهاش تاني، أحسنلك.

رفع "زيدان" أحد حاجبيه باعتراض وكتم ردوده الوقحة عندما لاحظ متابعة رجاله لجدالهما، أما "يزن" لم يعطه فرصة للرد، حيث تحرك خلف تلك المهرة سريعًا محاولاً حمايتها، مما أثار تعجب زيدان،
وصلوا أمام باب الشقة فقالت "سيرا" بحماس ممزوج بالخوف:

-يلا اكسر الباب، أو طلع مسدسك اضرب عليهم نار.

وجه حديثه لـ "يزن" متعمدًا نفس أسلوبها معه:

-قولها متتدخلش في شغلي.

ثم اقترب خطوة وكاد أن يطرق الباب، فقالت "سيرا" بانفعال خافت والدهشة ترتسم فوق معالمها:

-يا نهار أسود، انت بتعمل أيه؟!

-بخبط عليهم!

رد ببساطة ساخرة أدهشتهما، فقال "يزن" متابعًا باستفهام ساخر:

-أنت أكيد في موسيقى الشرطة يا زيدان قولي وريحني؟!

رفعت "سيرا" حاجبيها معًا قائلة بتهكم طفيف:

-أنت بتستأذن منهم؟

-أنا ظابط متربي عشر مرات، قبل ما اقبض على حد بستأذنه الاول، اعمل أيه في أخلاقي!

قالها بضحكة سمجة، جعلتها تغضب سريعًا فظهر انفعال ناري بأنفاسها ونظراتها، لكزه "يزن" بخفة ثم همس له بتهديد:

-أنا مش قولتلك ماتزعلهاش!

-خلاص اسكتوا أصل ويمين الله اقبض عليكوا انتوا.

أبعده "زيدان" عنه بغيظ، وطرق الباب طرقة قوية فزعت "سيرا" وجعلتها تستكين بصمت بجانب "يزن"، فنظر إليها "زيدان" بنفس ابتسامته السمجة:

-كده أعجب!

أخفت ملامحها خلف جسد "يزن" الذي ثار بضيق:

-يا عم ما تخلصنا بقى، إيه الحوار اللي مش باين له معالم ده!

فُتح الباب وظهر رجل قصير القامة ممتليء الجسد وأصلع الرأس، يتظاهر بالنوم وهو يفرك في عينيه متسائلاً:

-خير، مين حضراتكم؟

-يارب ما يكنش أزعجناكم؟! اوعى يا عم من كده من وشي، مش ناقصة لؤم على الصبح!

رد عليه "يزن" باستهجان متأجج بعد أن نفد صبره، ودفع الرجل للخلف بقوة في حركة مباغتة أدهشتهم جميعًا، فقد الرجل توازنه وسقط أرضًا، بينما اندفع "يزن" إلى الدخل يبحث عن صديقة "سيرا"، في حين كانت هي تسير خلفه بخطواتٍ مسرعة تنادي بصوت قلق:

-فاطمة انتي فين؟!

-إيه اللي بيحصل في بيتي ده!

قال الرجل بقسوة، وهو يوجه حديثه إلى "زيدان" الذي كان يقف يرمق أخاه بنظرات شرسة، بعد أن تجاوز حدوده وبادر بأمورٍ لم تكن بمحلها!، لكن "يزن" لم يكتفِ عند هذا الحد، بل أمسك الرجل من ثيابه وهدده بقسوة:

-هتخليك محترم هتطلع منها سليم، هتلاوع هخرب عليك وعلى اللي خلفوك، فين فاطمة؟

ارتجف الرجل تحت يده وأردف بتلعثم:

-فـ....فاطمة مين؟ أنا ماعرفش حد بالأسم ده!

كانت "سيرا" تفتح أبواب الغرف واحد تلو الأخرى بحثًا عن فاطمة، حتى وصلت إلى غرفة أخيرة، وحاولت فتحها ولكنها كانت موصدة، فقالت بذعر:

-يزن خليه يفتح الاوضة دي.

-فين مفتاح الاوضة دي؟!

سأله "يزن" بصرامة، وعيناه تشتعلان غضبًا، فقال الرجل بتحذير مهزوز:

-أنا هبلغ البوليس، وهحبسكم.

-وتبلغ ليه يا افندم، البوليس موجود بنفسه معاك.

قالها "زيدان" وهو يقف بجانب رجاله، ينظر للرجل بنفس ابتسامته السمجة، بينما معالمه وجهه تخفي الكثير والكثير، فقال "يزن" لـ "زيدان" بحسم:

-خلي رجالتك يكسروا باب الاوضة.

لم يتحرك أحد من رجاله حتى أشار إليهم "زيدان" بنظرة واحدة جعلتهم يندفعون كالإنسان الآلي، ينفذون الأمر في ثوانٍ معدودة، وفجأة ظهرت "فاطمة" تقف مكبلة الأيدي وعلى فمها شريط لاصق ومن خلفها رجل يضع سكينًا على عنقها، فصرخت "سيرا" بفزع:

-فـــــاطـــمــــــــة.
                              ****

بعد مرور عدة دقائق..

خرجت "سيرا" بجانب "فاطمة" من البناية، تساندها بلطف ورفق، محاولة تهدئتها بشتى الطرق:

-خلاص يا فاطمة بقى، اهدي ماحصلش حاجة واهم اتقبض عليهم.

هتفت "فاطمة" بنبرة مذعورة، وعيناها ترتجفان خوفًا:

-أنا عيشت أصعب لحظات في حياتي.

ربتت "سيرا" فوق رأسها عدة مرات وهي تقول برفق:

-خلاص يا حبيبتي الموضوع انتهى وانتي الحمد لله بخير، وهما راحوا في ستين داهية.

هزت "فاطمة" رأسها محاولة الاقتناع بكلمات "سيرا" اللطيفة، علها تطفئ نيران صدرها وتهدئ ثورة عقلها.
في تلك اللحظة، استمعتا معًا إلى صوت "يزن" الذي قال من خلفهما:

-يلا عشان اوصلكم.

سارعت "سيرا" بالرفض مع ابتسامة مهذبة ممتنة:

-لا شكرًا، احنا هناخد تاكسي، شكرًا يا يزن على اللي عملته، تترددلك ان شاء الله.

عقدت "فاطمة" حاجبيها من رد "سيرا" الأخير، بينما ضحك "يزن" رغمًا عنه قائلاً بمزاح:

-هترديها في أيه!، أنا مش هقبل أقل من حالة تحرش.

تحفظت ملامح "سيرا" عن إظهار الامتنان، وأعلنت اعتراضًا شرسًا على مزاحه الساخر بحقها، فرمقته بنظرة ساخطة، وجذبت "فاطمة" خلفها، أما "يزن"، فقد وقف يتابع أثرهما بتسلية، حتى وقف "زيدان" بجانبه ينثر تهكمه:

-يا حرام!، اخدت غرضها وخلعت منك.

التفت إليه "يزن" يخصه بنظرة مستنكرة والاشمئزاز يحتل وجهه:

-انت تسكت خالص، كسفتني يا أخي الله يكسفك وأنا اللي كنت بتباهى بيك، طلعت أي كلام.

طال التعجب ملامح "زيدان"، فتابع "يزن" حديثه بعتاب ساخر:

-إلا ما طيرتلك باب ولا كسرت رجل ولا ايد حد حتى، هو الاكشن اتلغى من الشرطة ولا أيه؟

زفر زيدان بحقد وغل:

-تصدق بالله أنا راجل أهبل عشان مشيت وراك وجيتلك، كنت المفروض اسيبك محتاس، وتطلع فشنك قدام السنيورة بتاعتك، وبعدين يا اعمى البصيرة أنت ماشوفتهمش وهما مستسلمين قدامك، هيبتي بس تكفي.

حذره يزن بقوة:

-اولاً ماتدخلش السنيورة في كلامنا احسنلك، ثانيًا هيبة مين ياعم، أنت اللي وقعت في مجرمين محترمين شوية.

ثم غادر "يزن"، تاركًا "زيدان" ينظر إلى أثره باستنكار وضيق، وهو يهمس لنفسه:

-ماشي يا يزن، أنا هعرف أخرتك مع السنيورة أيه!
                                ****
دقت الساعة الثانية بعد منتصف الليل، جرت "يسر" أقدامها بثقل شديد حتى وقفت أمام الشقة التي تقع بها عيادة "نوح"، جذبت أنفاسًا طويلة، وملامحها الذابلة تزداد ضعفًا وقهرًا؛ فقد ترك العجز آثاره على ملامحها الجميلة، واختفى بؤبؤ عينيها من شدة الدموع المتجمعة فيهما، دقت الجرس وانتظرت بخمول، حتى فتح "نوح" الباب، متفاجئًا من وجودها أمامه بهذه الحالة البائسة:

-يسر مالك؟ حصلك حاجة انتي ولا لينا؟

هزت رأسها نفيًا، وكلماتها تثقل أكثر فوق طرف لسانها:

-لا، أنا كنت عايزة اتكلم معاك، ينفع؟

-طبعا ينفع، ادخلي.

وقبل أن تدخل "يسر"، سمعت صوتًا أنثويًا يهتف من خلفها، جعل "نوح" يصاب بالصدمة، وظهرت علامات الارتباك على ملامحه:

-دكتور نوح.

وما كانت تلك سوى "حسناء"، السكرتيرة، تقف في وضعية مشبعة بالغنج والدلال، مع ابتسامة خبيثة تخفي الكثير خلف ثغرها الملون بحمرة وردية. عجزت "يسر" عن تفسير وجودها في تلك الساعة، سوى أن طبول الخيانة بدأت في القرع، شعرت بأنها لا تملك أحقية الدفاع عن حياتها الزوجية، خاصة بعدما قطع "نوح" حبل الوصال بينهما، فقررت رفع راية الاستسلام أمام خصمها، سواء كانت "حسناء" أو أي شخص آخر. 
آلامٌ تسري في سائر جسدها، وجدرانُ صدرها تنقبض بشدة، وكأن روحها ستذهب إلى بارئها، عيناها متجمدتان تأبيان البكاء؛ فلم تدرك أكان ذلك من شدة الصدمة أم لأنها وصلت إلى خط النهاية، ممسكة بخيوط الخيانة أخيرًا بعدما كانت مجرد أقاويل ليس إلا!

ابتعدت خطوة لتفسح لها المجال، فرأت جمالها عن قرب، كانت جميلة حقًا، بل إنها أجمل منها! روحها مشعة بالأمل، ووجهها يتراقص بابتسامات يغمرها الدلال، وعيناها تفصحان عن إعجابها به، ربما كان هو أيضًا معجبًا بها، وقد دفعها عقلها إلى توهم ذلك، خاصة بعدما سمعت صوته المتحشرج:

-حسناء ليه جاية في وقت زي ده؟!

صوتها كان ناعمًا جدًا، يحمل كل سُبل الأنوثة المفرطة، وهي تجيب:

-نسيت حاجة تخصني يا دكتور، فقولت آجي أخدها، مكنتش أعرف إن حضرتك بايت النهاردة في العيادة!

كلماتها السامة كانت كخنجر اندفع بقوة إلى فؤادها، فمزقه إربًا، تلك الحسناء تخبرها بطريقة مبطنة بأنها تعلم سر علاقتها بزوجها، وأنها ليست سوى علاقة مهزوزة هشة تحمل صورة منمقة من الخارج، بينما تنطوي من الداخل على صراعات وشقوق يصعب ترميمها!

-طيب ادخلي يا حسناء جيبي اللي انتي عايزاه وبعد كده ماتبقيش تنزلي متأخر من بيتك...استنى لتاني يوم مش هيحصل حاجة!

أغلقت عينيها بوجع وهو يدهس فوق كرامتها أكثر، كان وقع كلماته أمر من العلقم! ربما سابقًا كانت تلجأ إلى الحيل للدفاع عن علاقتهما وبتر أي جذور متفرعة قد تتسبب في فساد هيئتها، لكن الآن، لقد سُحب منها البساط، وفقدت أداتها السحرية في السيطرة على لجام جماحه.

ظلت على نفس وقفتها، صامتة، تغلق عينيها وتصر على إغلاق أذنيها بشتى الطرق، حتى لا تستمع إلى أطراف حديثهما، الذي قد يبدو للبعض عاديًا، لكنه كان بالنسبة لها كوقع حجر ثقيل يسقط على رأسها من مكان عالٍ جدًا.

استفاقت من ثورة مشاعرها على يده الممسكة بيدها، يجذبها خلفه للدخول إلى الشقة، بينما تلك الأفعى تلونت أمامهما ببسمة صافية، مودعة إياهما وهي تتخذ طريقها للمغادرة، أما "نوح" فانتظر ذهابها، ثم قال بصوت مشحون بمشاعر مختلطة:

-في أيه يا يسر، ليه جاية في وقت زي ده؟

جلست ببرود على أقرب مقعد يقابلها، وانتزعت نبرة الضعف من حبالها الصوتية وهي تردف بجمود:

-جاية اتفق معاك على سبب طلاقنا.

بسمة جانبية ساخرة احتلت محياه، وهو يرمقها ببرود مماثل:

-السبب واضح، هنلف وندور ليه؟!

احتقنت ملامحها، ونظرا إليه غير مصدقة:

-أنت عارف كويس أني ماقدرش اقول لبابا إنك عايز تتجوز عليا وإني كنت موافقة على كده من الاول!

تبجح بها متعمدًا:

-ليه هو مش من حقي! بطلب حاجة غريبة مثلاً، ابوكي نفسه لو مش لاقي الراحة مع أمك كان زمان ده قراره.

هبت واقفة، تنفجر فيه بغضب بالغ، وقد برزت عروق كفيها من فرط انفعالها:

-ما تقولش بس مش لاقي الراحة، قول إنك راجل عينك زايغة، ومايملاش عينك غير التراب، أنت من قبل جوازنا وأنت متفق معايا إنك هتتجوز عليا، من قبل ما تشوفني هريحك ولا لا!

-حلو اووي، ما هي سهلة اهو، روحي قولي لبابا حبيبك، أنا للأسف يا بابا غلطت ومكنتش في وعيي وأنا بوافق على خطوبة كان فيها شرط أساسي إن نوح يتجوز عليا، تصدقي أبوكي مش هيزعل خالص لأني كنت واضح وصريح معاكي من الاول، مكدبتش عليكي وضحكت على سيادتك، بالعكس أنا سيبتك لما انتي رفضتي.

اختصرت المسافة بينهما بجنون، وبدأت تضربه على صدره بقبضتيها الضعيفتين وهي تتحدث بنبرة مكتومة غاضبة:

-أنت مابتحسش بحد ليه، مابتفكرش غير في مصلحتك ليه، قلبك ده أيه حجر، أنت جمعت أنانية الدنيا كلها في قلبك.

أوقفها ممسكًا بها بقوة، وبتر أي حديث لها وهو يردد بنبرة مماثلة للقسوة التي تحدثت بها:

-عمري ما كنت أناني، أنا مافكرتش في نفسي غير لما كبرت، يسر من الآخر كده هي مرة واحدة بس هعيشها، يا عيشها زي ما أنا عايز يا ملهاش لزمة.

غرست أظافرها في يده التي أمسكت بها بغل:

-أنت أسوء اختيار ليا، نفسي اغمض عيني وافتحها والاقيك مش في حياتي، نفسي انساك وانسى حياتي معاك.

-انتي عندك شيزوفرينيا، انتي كنتي موافقة على شرطي من الاول، جاية دلوقتي تندبي ليه، أنا ممكن ماطلقكيش واسيبك زي اللي رقصت على السلم، وصورتك الاجتماعية اللي انتي بتحاولي ترسميها لنفسك بردو تتهز ويتقال إن جوزك اتجوز عليكي، مش ده اللي انتي خايفة منه!، خايفة تتكسري قدام الناس، أصل أنا مافرقش معاكي.

-معاش ولا كان اللي يكسر بنتي يا دكتور، وهتطلقها غصب عنك ورجلك فوق رقبتك، أنا مايشرفنيش إنك تبقى جوز بنتي.

صدح صوت "الحاج فاضل"، يهز أرجاء المكان بقسوة وكره، وهو ينظر باشمئزاز إلى "نوح"، الذي بدت على ملامحه آثار الصدمة من وجوده وسماعه لحديثهما، قال "نوح" بنبرة تفتقد إلى اللباقة:

-أنت ماتعرفش حاجة، يا ريت تسمع...

أمسك " فاضل" بابنته بقوة وجذبها نحوه وهو يرد بحسم حاد:

-مايهمنش اسمع كلامك، اللي يهمني بنتي، وورقة طلاقها توصلنا من غير شوشرة.

-وأنا بقى مش هطلقها، وزي ما قولتلها بقولك، هي هتبقى على ذمتي لآخر نفس فيا، وهعمل اللي أنا عايزه وهتجوز عليها، ده حقي وشرع ربنا يا حاج، أيه هتعترض عليه!

-يبقى اشتريت عداوتي يا نوح، وعلى جثتي تكمل مع بنتي لحظة.

سحب "فاضل" ابنته خلفه بقوة، حتى كادت تسقط عدة مرات، لولا يده القوية الممسكة بها، أما "نوح" فقد آخر ذرة من تعقله، واندفع يلقي أي شيء يقابله أرضًا بجنون، وأنفاسه تتسارع بجنون مفرط، وكأنه مصارع فقد صوابه في حلبة المصارعة!

                           **
"قبل قليل"

كان الحاج "فاضل" يسير خلف ابنته بحذر، بعدما رآها تسير خلسة ليلًا خارج المنزل، ثار عقله بجنون، إذ هاجمه الشك كعدو مباغت يحمل جميع أسلحته الفتاكة التي كادت تفتك باتزانه، كانت دقات قلبه تقرع كطبول الحرب وهو يتابع خطوات ابنته حتى وصلت إلى مقر عيادة زوجها "نوح"، حينها ارتاح قلبه قليلًا، وجلس في سيارته يأخذ أنفاسًا طويلة قبل أن يصعد لفهم ما يدور بينهما.

بعدما خف التوتر قليلاً وسكنت بعض مخاوفه، صعد إلى الطابق الذي تقع فيه عيادة "نوح"، وهناك وجد فتاة لم يعرفها تقف على أعتاب الباب، تسترق السمع إلى شجار محتدم بين ابنته وزوجها، عند ظهوره أمامها، ارتبكت وغادرت بسرعة ولهفة ممزوجة بالخوف.

اقترب خطوة من الباب، ليجد نفسه يسمع ما لم يتمنى سماعه يومًا، ارتجف قلبه بصدمة بالغة، وحين أدرك حديث "نوح" وهو يقلل من شأن ابنته، انفجر غيظه واندفع كأَسدٍ ثائر، يهجم عليه متوعدًا بأشد أنواع الانتقام!

                              ****

ألقى "يزن" بجسده فوق فراشه بإرهاق، بينما كان عقله يدفعه دفعًا للبحث عن "سيرا" على وسائل التواصل الاجتماعي، قرار حاول تجنبه طيلة الأيام الماضية، لكنه أخيرًا أعلن فشله لأول مرة، وترك هيبته وهالته التي كان يحاول فرضها حول نفسه مع الفتيات جانبًا، بدأت أسوار قلعته تنهار تدريجيًا دون أن يشعر.

ابتسم بانتصار حين وجد حسابها، وبدأ يتصفح صفحتها الشخصية، يقرأ منشوراتها بعناية في محاولة لفهم مكنونات شخصيتها، فجأة، قابله منشور ساخر على صفحتها.

"تعرف منين إنك عبيط لما تحكم على شخصيتي من خلال بوستاتي"

حمحم بحرج حين شعر أن المنشور موجه إليه رغم أنه نُشر بتاريخ سابق، وزفر بحنق وهو يهمس لنفسه:

-افهمك ازاي أنا يا شيخة!

دارت عجلة ذهنه بحثًا عن طريقة للتقرب منها دون أن يُظهر أي تقليل من شأنه، فقد كانت ذاته الجامحة لا تزال تحتفظ بصورة الفارس الذي تقع تحت قدميه الفتيات، يتطلعن إلى لفت انتباهه ويتهافتن على الإعجاب به، بينما هو يتمتع بنظراتهن المتلهفة للإيقاع به.

زفر بحيرة بعدما فشل في حسم الجدال القائم داخله، إلا أن اندفاع الباب فجأة جعله ينتفض بغيظ من دخول "زيدان"، فصاح بضيق:

-حلو يعني لما اهزئك؟!

-احترم نفسك يالا أنا أخوك الكبير، وبعدين انت يا بجح جايب الجرأة دي منين؟ بتعمل اللي عايزه وسايق فيها ولا همك حد.

قالها "زيدان" بانفعال وغيظ، وفتح "يزن" فمه لتوبيخه، لكن ظهور "سليم" المباغت لهما جعله يغلق شفتيه على الفور، نظر "سليم" إليهما بصمت طويل قطعه بعد فترة من التوتر التي سيطرت على "يزن":

-في أيه؟ انت عملت حاجة يا يزن؟

كاد "زيدان" أن يرد بحماقة كعادته، لكن "يزن" استبق الحديث وقال بجدية مبالغ فيها:

-لا لا مفيش أي حاجة، أنت عارف زيدان مايهدلوش بال إلا لما يفرغ طاقته في أي حد، فالظاهر مقدرش على مليكة جايلي بقى.

رفع "زيدان" أحد حاجبيه باعتراض واضح، فاقترب منه "يزن" وقبل وجنته بابتسامة تحمل الرجاء، في تناقض مع صوته المداعب:

-مش كده يا زيزو، بس أنا اخوك حبيبك وهستحملك في أي وقت.

كانت نظرات "زيدان" غير الراضية تنمّ عن انفجار قريب، فسارع "يزن" إلى ملء كفة تدليل أخيه ليهدئه، وقال بنبرة مازحة:

-حبيبي يا زيزو يا أحن أخ، اهدى كده وروق بالك، والله الواحد من غيرك مايسواش بصلة!

قرأ "زيدان" الارتباك في عيني أخيه الطائش وقرر ألا يفصح عما حدث صباحًا، رغم نظرات "سليم" المليئة بالشك، والتي حاول بها فهم ما يدور، ومع ذلك، أظهر "سليم" عكس ذلك وقال:

-طيب اقعد يا يزن محتاج اتكلم معاك.

همس يزن بارتباك بسيط:

-استر.

-أحسن، الهي يولع فيك.

قالها "زيدان" بحقد خافت، فحمحم "سليم" بقوة، ليلفت انتباهما:

-أنا مابحبش الأسلوب ده، اللي عنده حاجة يقولها بصوت عالي.

-ها يا سليم عايزاني في أيه؟!

جلس "يزن" مكانه فوق فراشه وعلى الجانب الآخر جلس "زيدان" هو الآخر، أما "سليم" جلس على مقعد جلدي ضخم أمام فراش يزن، واضعًا ساقًا فوق الأخرى بغرور، قبل أن يتحدث بنبرة رخيمة:

-الادارة عندي شايفين إنك ناجح في التسويق وبتخلق أساليب جديدة عشان تجذب زباين للأجانص عندك، فكلموني استعين بيك، تحطلنا خطة نغير بيها أسلوب التسويق للمحلات عندنا.

مرت لحظة من الصمت عليهم، حتى تقابلت نظرات "زيدان" "ويزن" في حالة من الحيرة والارتباك تجاه جدية "سليم" المفرطة، وفجأة، ظهرت على وجه "يزن" ابتسامة عريضة ونظرة شقية، قبل أن يغمز لـ "زيدان" بغرور ويقول:

-أنا مش أي حد بردو، عشان تعرف قيمتي.

 تابع حديثه بعنجهية وتعالٍ استفز "سليم":

-أنا كنت عارف أني ملك في الحتة دي، بس مكنتش اعرف أني مسمع لدرجادي.

اغتصب "سليم" بسمة سمجة، وهو يرد بفظاظة:

-هما قالوا بس أنا مش مقتنع بكلامهم، وشايف إن أسلوبك تافه ومفيش فيه أي ابتكار.

-بـــــــــــــــوم، طحن خواطر من الدرجة الأولى.

قالها "زيدان" بتسلية، متابعًا حديثهما باهتمام، مما أشعل فتيل الغيظ لدى "يزن"، لكنه أظهر عكس ذلك بنبرة لا مبالية:

-وجاي تكلمني ليه، أنا أعرف اللي مش مقتنع بحاجة بيرمها البحر، بسيطة ارمي كلامهم ورا ضهرك ولا كأنك سمعت منهم حاجة.

-لا ما أنا بحب ادي فرصة للشباب المبتدأ اللي زيك، واهو اسمع منك واللي يعجبني اعمله واللي مايعجبنيش ارميه في البحر.

فقال "يزن" بابتسامة مستفزة تعكس تسليته:

-بس أنا مش فاضي أفكرلك في حاجة تخص شغلك، أنا عندي هم ما يتلم وشغل لفوق راسي.

ضحك زيدان ضحكات متقطعة ساخرة:

-على يـــــــدي، اسألوني أنا.

بينما جز "يزن" على أسنانه حين شعر بالكلمات المبطنة من أخيه عن أحداث الصباح، رمقه بنظرة تحذيرية، قابلها "زيدان" بنظرة مستنكرة، لكنهما انجذبا لحديث "سليم" الجاد:

-أولاً مسمهاش شغلك، اسمها شغلكم، دي مش محلاتي لوحدي حتى لو أنت استقليت بنفسك في كارير تاني، ثانيًا أنت ملزم تفضي نفسك وتحاول تقنعني زي ما هما بيحاولوا يقنعوني ولا أنت بتستعين بحد في موضوع التسويق ده قول ماتتكسفش.

كتم "زيدان" ضحكته بصعوبة، مؤكدًا لنفسه أنه يكاد يشم رائحة الحريق المتصاعد من غيظ "يزن"، الذي انفجر قائلاً:

-يا سليم مفيش أي ابتكار، هو بيستغل وسامته على كام بوست وكام إعلان والدنيا ماشية معاه.

انفجر "يزن" باستفزاز وقال:

-ما تخليك في شغلك يا حضرة الظابط، ولما هي حاجة تافهه بتنزل صورك ليه وبيجيلك متابعين ليه؟! 

رد "زيدان" ببرود:

-تسلية مش أكتر.

أطلق "سليم" تعجبه قائلاً:

-يااااه هي السوشيال ميديا لدرجة دي مهمة، تعرضوا شغلكم، وتنزلوا صوركم!

ضحك يزن بسخرية:

-يا سليم ده أنت قديم جدًا، ده في بلاوي بتحصل على السوشيال ميديا أنت لو عرفتها ممكن يجرالك حاجة! بس عارف عشان أنت اخويا وحبيبي وأنا مرضاش تتوه في العالم ده هساعدك.

هز "سليم" رأسه موافقًا وقال:

- انجز وقصر وقول هتعمل أيه يعني؟!

-شوية خطوات بسيطة بس الاول نصورك كام صورة حلوة في كام محل وسيبي الباقي عليا.

انعقد حاجباه بعدم فهم وسأل:

-هتعمل أيه بصوري؟!

-هيزغلل بيهم عين الزباين.

أردف بها "زيدان" بضحك متهكم، فرمقه يزن بضيق:

-قعدتك مع المجرمين أثرت عليك.

-خليك معايا وهتعمل أيه تاني؟!

استعاد "سليم" انتباههما بجدية، فحاول يزن استكمال حديثه بابتكار أفكار جديدة ليبهر سليم، الذي من الصعب جدًا إرضاؤه:

-هنجيب بنت ايدها حلوة وجذابة نعرض عليها الشغل الموجود ونعمل شوية فيديوهات صغيرة، ويا سلام لو انت ظهرت معاها في الفيديو بكام حركة الدنيا هتولع الدنيا.

قاطعه سليم ساخرًا باندفاع:

-وشمس تولع فينا.

ابتسم "يزن" ساخرًا وهو يراقب أخاه الأكبر، صاحب الشخصية القوية الذي لم يهاب أحدًا أبدًا:

-أنت بتخاف من شمس يا سليم؟ مكنتش اعرف عنك كده.

أخفى "سليم" ارتباكه ببراعة ورد بأسلوب فطن ونبرة صارمة:

-لا طبعًا، في فرق ما بين بخاف منها وبحترمها، أنا بحترم وجودها في حياتي.

حرك "زيدان" رأسه بيأس وسخرية في آنٍ واحد معقبًا على حديث أخيه:

-اقسم بالله أنت متربي عشر مرات، مجتمع النساء هيحبوك اوي، احتمال يعظموك ويعملولك تمثال.

سأله "سليم" بتهديد واضح:

-ليه هو أنت مابتحترمش مليكة مراتك؟!

أجاب "يزن" باستنكار:

-يا سليم هو ده بيحترم حد اصلاً، فكك منه وركز معايا أنت معترض على ايد البنت ليه إنها تعرض الشغل، ده أنا كنت هقولك هنجيب بنات تانية ونصورهم ونزلهم على كل السوشيال ميديا ونعمل حملة كبيرة.

حاول "سليم" إقناعه بطريقة أخرى، محاولًا إبعاد تلك الفكرة الشائكة:

-طيب ما أنا عندي فكرة أحسن، عم فارس ايده صغيرة ممكن نلبسه جوانتي أبيض ونعرض الشغل ونبعد عن الفكرة دي عشان مش مستريحلها.

اعترض "يزن" بقوة، غير راضٍ عما يحاول سليم إقناعه به:

-أيه يا سليم ده، انت لو قاصد تكره الناس فيك مش هتعمل كده، هتجيب البنات أنت ولا أجيبهم أنا على ذوقي.

نظر "سليم" إلى "زيدان" الذي كان يتابع النقاش بصمت، طالبًا رأيه بعينيه، فوجد الأخير يرد بسرعة وبنبرة غير راضية:

-أنا من رأيي تجيبهم انت، عشان ماجيبه هتبقى هباب على دماغنا.

صمت "سليم" قليلاً، ثم حسم رأيه وهو ينهض:

-خلاص هجيب أنا البنات على ذوقي.

شهقة لم يسمعها أحد خرجت من فم "شمس"، التي كانت تبحث عن "سليم"، وحين علمت أنه في غرفة "يزن"، اقتربت لتستمع إلى آخر الحديث، شعرت باقترابه من الباب، فركضت سريعًا نحو شقتها، متجاهلة نداء "مليكة" لها، هرعت إلى دورة المياه القابعة في غرفتها، وأغلقت الباب بإحكام، وضعت يدها فوق رأسها، تحاول استيعاب ما سمعته.
فتيات! أي فتيات سيختارهن على ذوقه؟!  أيجب سؤاله، حركت رأسها برفض سريع، نافية تلك الفكرة، فهو ليس من السهل أن يجيبها بما يُرضي فضولها، أم تُراقبه من بعيد وتضعه تحت الأنظار؟
ضربت فكرة الخيانة عقلها كمطرقة حديدية، مما جعلها تهز رأسها بعنف وهي تقول:

-لا سليم لا يمكن يعمل كده، أنا واثقة فيه!

قالتها وكأنها تحاول إخماد ثورة الغيرة التي شعرت بمرارتها لأول مرة، انتبهت على طرقات الباب وصوت "سليم" يناديها، فقالت بصوت متحشرج:

-ايوه، جاية.

نثرت الماء فوق وجهها لتلطيف احمرار وجنتيها من فرط توترها، وما إن خرجت حتى اقترب منها مرددًا بقلق:

-مالك فيكي أيه؟!

-ماعرفش دايخة شوية، هروح اشوف قمر.

أجابته بنبرة تحمل بحة استعجب لها:

-تمام هستناكي، عشان واحشني.

تابعها بعينيه وهي تبتعد سريعًا، ثم وقفت على أعتاب الباب قبل أن تخرج، ممسكة بالمقبض بقوة، وسألته بلهجة تحمل استنكارًا:

-بجد واحشتك؟! 

سألها بحذر، محاولًا فهم ما وراء كلماتها:

-أنتي شايفة غير كده؟!

ابتسمت بسمة شائبة وقالت:

-أنا شايفة كل خير.

ألقت كلماتها غير المفهومة بالنسبة له وأغلقت الباب خلفها، وقف مكانه يحاول استيعاب التغيير الطفيف في معاملتها وكأنها تبدلت، لكنه ألقى بالأمر خلف ظهره، معتقدًا أن النساء دائمًا ما تتقلب أمزجتهن.

                                 ****
في الأسفل، أرسل "يزن" طلب صداقة إلى "سيرا"، ثم أتبع ذلك برسالة نصية يطلب فيها لقاءها على انفراد، انتظر دقائق قليلة قبل أن يجدها تفتح الرسالة وتجيب بإعجاب على حديثه.

" يا ريت نتقابل بكرة محتاج اتكلم معاكي" 

سارع بإرسال رسالة أخرى تحتوي على تفاصيل الموعد والمكان، محددًا وقتًا مناسبًا، فردت هي بإعجاب آخر فقط.

تعجب من طريقتها، لكنه لم يُطِل التفكير، إذ كان الإرهاق قد أخذ منه كل طاقته، مكتفيًا بنجاحه في اتخاذ أول خطوة للتقرب منها.

                              ****
بمنزل " الحاج " فاضل.

اتخذت "يسر" من غرفتها مقرًا تلجأ إليه لتنفجر بالبكاء، سامحة لنفسها بالانهيار من فوق جبل الثبات الذي كانت تتشبث به في الفترة الماضية، تاركة نفسها للرياح العاتية كورقة خريف ذابلة، كانت كلمات والدها الموبخة تتردد في أذنيها، معبرة عن عدم رضاه عن فعلتها التي أقدمت عليها دون وعي أو إدراك لحجم المصائب التي تنتظرها، وأهمها السماح لنفسها بالتقليل من شأنها. تذكرت كلماته الغاضبة:

"للأسف خيبتي ظني فيكي، بعد ما كنت بتباهى إني ربيت بنت عقلها يوزن بلد، طلعتي خايبة ورضيتي تذلي نفسك عشان حد ما يستاهلش".

حاولت كتم بكائها، لكن شهقاتها خرجت متقطعة، وهي تتخبط بلا اتزان بين جدران عقلها الثائر، الذي تمزق بين حديث والدها وكلمات زوجها الموجعة بحقها، وعاطفتها المحترقة بنيران الغيرة، وذهنها الذي يرفض التخلي عن ذكرى سوداء علقت به كوصمة عار، فسمحت لنفسها بالدخول في دوامة ذكرياتها، دون بذل أي جهد للابتعاد عنها كما كانت تفعل سابقًا.

                                **
كانت "يسر" في أوج سعادتها عندما أنجزت كل إجراءات زواجها من فتى أحلامها "نوح"، ذلك الطبيب الذي اختطف قلبها في رحلة نسجتها بريشة الخيال، وتمنت أن تتزوجه، لم تكن تتوقع أن الحياة سترضخ لأمانيها بهذه السلاسة، حيث تقدم "نوح" لخطبتها، ووافق والدها، خاضا معًا رحلة حب متبادلة حتى قررا تحديد موعد زواجهما.

سارعا في إنهاء بعض الأمور المتعلقة بشقتهما، وخلال ذلك تعرفت "يسر" أكثر على شخصية "نوح"، فازداد هيامها به، وحلق فؤادها في سماء الهوى بسعادة، كطير استعاد جناحيه بعد طول حرمان.

انتهيا من اختيار بعض أثاث منزلهما، وسارا معًا، تتشابك كفاهما بحب، في الطريق المؤدي إلى مقهى عائلي قررا أن يتخذاه مكانًا لفترة استراحة قصيرة.

-كده كل حاجة جاهزة، باقي بس شوية حاجات نظبطها ونختارها ويبقى كله تمام.

ابتسم لها وهز رأسه إيجابًا دون أن يجاريها كعادته في الحديث، مما دفعها لسؤاله بقلق، وهي تجوب بعينيها فوق ملامحه:

-مالك يا نوح، أنت فيك حاجة متغيرة!

خرجت كلماته بصعوبة وهو يجيبها، متجنبًا النظر في عينيها:

-هنوصل الكافية ونتكلم مع بعض.

أجابت بالموافقة وصمتت على مضض، بينما داخلها يثور بفضول شديد حول تغيره المفاجئ، وخصوصًا اليوم تحديدًا.

جلسا معًا على طاولة تبعد قليلاً عن باقي الطاولات، وكأنها مميزة بتصميمها المحيط بهما، مما جعل جلستهما أكثر راحة وخصوصية، كان هو أول من بدأ الحديث، يخبرها بنبرة ثقيلة وعيناه تتجنبان ملاقاة عينيها، خشية من ردة فعلها، لذا تحدث بحذر شديد:

-أنا بقالي مدة عايز اتكلم معاكي في موضوع مهم بس خايف تفهميني غلط.

-أيه الجو اللي كله قلق ده؟! في أيه ادخل في الموضوع على طول؟!

-الموضوع مش بسيط يا يسر زي ما أنتي فاكرة، الموضوع محتاج منك صبر وإنك تدي نفسك فرصة تستوعبي كلامي وتديني فرصتي عشان افهمك باللي أنا عايزه منك واتمنى إنك توافقي عليه.

صمتها كان الرد الوحيد على حديثه، فتنهد تنهيدة ثقيلة، وبدأ يسرد بعشوائية ما يدور داخله:

-انتي عارفة إن حالتنا المادية ماكنتش أحسن حاجة، وعارفة كمان إن أنا اتمرمطت وشقيت لغاية ما عملت لنفسي اسم اقدر اتسند عليه، بس اللي ماتعرفهوش او اللي ماكنتش اعرفه إني وأنا مشغول بتحقيق أحلامي نسيت نفسي، ومشاعري كراجل، أو بمعنى أصح كنت بحرم نفسي من حاجات كتير ممكن اعيشها زي أي شاب في نفس سني عشان اعمل فلوس واكبر نفسي، ولما خلاص اسست حياتي حسيت إنه لا، أنا مش مكتفي ولا عمري هكتفي، يمكن عشان ماسددتش الفراغ اللي جوايا ده من زمان، واحساس إن اكتفي بواحدة عمره ما هيرضيني ولا هيريحني.

-أنا مش فاهمة أي حاجة، وبحاول استوعب بس مش قادرة.

حاول تهذيب كلماته بعناية وهو يخاطبها، بينما التوتر يسيطر على عينيه كضيف ثقيل غير مرحب به:

-يسر بوضوح ومن غير لف ودوران وقبل ما ندخل في الجد، أنا ماقبلش نأسس حياتنا على حاجة مش واضحة، أنا ليا شرط واتمنى إنك توافقي عليه عشان نقدر نكمل حياتنا ببساطة ومن غير أي مشاكل.

شعرت بثقل جاثم على صدرها دون أن تعرف مصدره، فتساءلت بحيرة:

-شرط أيه؟!

-قبل ما نتجوز لازم تكوني عارفة وموافقة إني هتجوز عليكي.

ألقى كلماته كقنبلة سريعة، وكأنه يريد إراحة عقله من كثرة التفكير، مرت ثوانٍ طويلة وهي تنظر إليه بعدم استيعاب، قبل أن تنفجر ضاحكة، وكأنها استمعت إلى مزحة فكاهية، فقال بحزم:

-يسر أنا مابهزرش، يمكن تستغربي جرأتي وطلبي بس أنا بحب الصراحة.

ردت برُعونة وهي ترمقه بنظرات حادة:

-لا دي وقاحة، عمرها ما كانت صراحة، أنت بتتكلم جد ولا أنت بتعمل مقلب فيا، أصل اللي بتطلبه مش منطقي.

تجاهل حدة كلماتها وحاول تبرير موقفه وإقناعها:

-وليه مش منطقي، هو أنا مش من حقي امتع نفسي بالحلال وبعدين أنا بسد فراغ جوايا بشرع ربنا ومابعملش ولا هعمل حاجة حرام، أنا اتحرمت من حاجات كتير، انتي تعرفي أيه احساس إنك تكون معجب ببنت ومش قادر تاخد خطوة وتكلمها وتتعرف عليها لتخاف تعرف بظروفك او انكوا تتقابلوا وماتقدرش تدفع تمن الحاجة اللي هتشربها، فتدفن نفسك وتبص من بعيد على صحابك وهما بيعشوا شبابهم وحياتهم برفاهية اتسحبت منك، وتفضل ناقم على حياتك ومش مبسوط..

ضحكت ساخرة وهي تواجهه بشراسة:

-وخطبتني ليه لما أنت لسه ناقم على حياتك ومش مبسوط؟!

تراجع بجسده للخلف، يخبرها بصدق، بينما ظلت إمارات الاستنكار تحتل وجهها:

-ما دي محاولة مني إن اكافئ نفسي بجزء من اللي بتمناه.

-اه يعني أنا أمنية وبتكافئ نفسك بيها، طيب وأنا ماقدرش أسد الفراغ ده ولا هو انثى واحدة لا تكفي!

استمرت تقسو بواقع كلماتها، تضغط على ضميره الذي حاول التملص منها، متمسكًا بمعتقداته وأمانيه كحل سحري يطيب خاطره الذي تأذى كثيرًا في بداياته:

-أنتي مش قادرة تستوعبي كلامي، هو أنا بقولك هتجوزك وتاني يوم هتجوز عليكي، أنا بعرفك إن في يوم من الأيام لما أحس أني نفسي اعملها هعملها وانتي تكوني موافقة، بسيطة يعني.

اندفعت قذائف التهكم من كلماتها بجنون، تاركة آثارها على وجهها المنفعل:

-وأنا افضل في اختبار وحيرة صح؟ وكأني داخلة على امتحان مش جواز.

حاول تهدئتها بعدما أحس بفقدان السيطرة على مجرى حديثهما، ساعيًا لبث الطمأنينة في قلبها من ناحيته:

-أنا عمري ما هقصر فيكي ولا اعيشك في رعب...

-اللي بتقوله في حد ذاته هو الرعب، أنا حاسة أني قاعدة قدام انسان غريب ماعرفهوش!

زفر بقوة، مرددًا بنبرة مستسلمة تحمل في طياتها حزنًا خاصًا به وحده:

-فعلاً في حاجات كتير عني ماتعرفيهاش يا يسر، بس أنا مريت بظروف صعبة وحاجات كنت اتمنى اعيشها بس المسئولية اللي كانت عليا من أهلي وتحملي لكل أمور حياتنا خلتني زي الانسان الآلي من غير مشاعر، يا يسر أنا وصل بيا الحال قبل ما اخطبك إن لو شوفت واحدة جاية من ارض زراعية متبهدلة وطالع عين أمها هشوفها ملكة جمال، وصلت لمرحلة مش عارف أميز الجمال، كل الستات كانت في عيني حلوة وجميلة.

لكن كلماته لم تؤثر فيها، ولم تنجح في جلب تعاطفها، ظلت على حدتها، لعلها تنجح في إيقاظه من الجنون الذي يحاول الإقدام عليه معها:

-اه محروم يعني؟! طيب لما هو كده، ماسنتش ليه تدور على واحدة بجمالها تخطفك وتخليك مش قادر تبص لغيرها.

-ما انتي خطفتيني...

بترت حديثه بلمحة من الاستياء وعدم الرضا، رغم محاولاته المستمرة لإقناعها:

-انت كداب، انت لو حبتني بجد هسد أي فراغ جواك.

تعمد الاستمرار في تجاهل حدتها، ورد بنبرة صادقة لم تستطع تخطي حاجزها:

-أنتي لو مش سادة الفراغ اللي جوايا مش هتجوزك.

-أنت للأسف يا نوح مش عارف عايز أيه، عايز كل حاجة ومفيش حد بياخد كل حاجة.

أغلق عينيه محاولًا التملص من محاصرتها له، ثم رد ببساطة أدهشتها:

-أنا عارف إن الحياة تنازلات..

نهضت لتنهي جلسة كانت السبب في دهس قلبها وانهيار عقلها، بعدما سمعت ما لم تتوقعه من فتى أحلامها، الذي كان من المفترض أن يكون زوجها المستقبلي:

-لا وتننازل ليه يا دكتور، أنا بختصر عليك أي مسافة وبقولك دبلتك أهي وروح دور على اللي توافق على شروطك وماتتجوزش عليها واحدة بس تتجوز عليها تلاته كمان، لكن أنا لا يمكن اقبل بالوضع المهين ده.

-ممكن اعرف أيه المهين كده؟!

استوقفها سؤاله المبطن بالاستنكار، فأشارت نحوه بغضب بالغ، مجيبة:

-شرطك في حد ذاته إهانة ليا.

احتدت نبرته هو الآخر وسألها بحذر، متمنيًا ألا تجيب بالإجابة التي تكمن في نظراتها الساخطة والمصدومة منه في آن واحد:

-ده آخر كلامك؟!

-طبعًا ومفيش أي كلام بعد اللي أنا قولته.
                            ***
استفاقت على صوت بكاء طفلتها، التي بدت وكأن كابوسًا مزعجًا يهاجم أحلامها الطفولية، احتوتها برفق ولين، بينما دموعها تنهمر على حالها وحال طفلتها، التي كُتب عليها الشقاء وانعدام الأمان في ظل غياب أبيها، الباحث عن أمانيه الطائشة!

اندفع والدها إلى داخل غرفتها، والغضب يرسم بريشته فوق وجهه، حتى بدا شديد الاحمرار، بينما اختلط القهر بنبرته رغم حدتها الواضحة.

-اعملي في حسابك، نوح لو مطلقكيش بالذوق، هخليه يطلقك غصب حتى ولو وصلت إنك تخلعيه أو أأجر بطلجية تضربه ويعلموه الادب، وإن مكنتش عارفة تعمليلك قيمة معاه أنا هعملك. 
في اليوم التالي..

لا تزال حالة البؤس مسيطرة على منزل "الحاج فاضل"، وانعزال "يسر" مستمر، منغمسة في بؤرة السواد المحيطة بها، ترفض الانصياع لكلمات والدتها أو حتى لمسات صغيرتها "لين"، التي تحاول تخفيف الضغط عنها، بدت كمريضة على فراش الموت، تنتظر مصيرها المحتوم.

أما والدها، فكان يراقب الوضع عن كثب، رافضًا التحدث مع زوجته، معلنًا عصيانه عليها بعدما تفاجأ بأنها كانت على علم بكل شيء، بل إنها هي مَن دفعت ابنتها إلى هذا الفعل المشين بمعتقداتها الساذجة وأفكارها المحدودة عن الحياة والزواج.

راقب زوجته "أمل" وهي تجلس بجانبه بإنهاك، قائلة بضيق ونفاد صبر:

-أنا تعبت البت من الصبح مش راضية تاكل أي حاجة، وزعلانة على أمها وبتعيط، لا حول ولا قوة إلا بالله.

اشتدت ملامح "الحاج فاضل" بقسوة وهو يقول بصوت يملؤه الغل:

-صعبانة عليكي البت وأمها، كانت دماغك فين يا حاجة وانتي بتساعدي بنتك في مصيبة زي دي.

جادلته بنبرة مهزوزة، ترفض الاعتراف بخطئها:

-هو الجواز بقى مصيبة، بنتك كانت بتحبه واتدمرت بجد بعد ما فركشوا الخطوبة يا فاضل، وهو كمان بيحبها، ما هو ماخطبش حد وفضل مستنيها لغاية ما وافقت، وبعدين أنا قولت طيش شباب وهو هينسى اللي عايزه والحياة هاتلهيه بمشاكلها، مكنش في دماغي ده كله.

-مكنش في دماغك تعاسة بنتك يا أمل، أنا كنت بشوف النقص والتعاسة في عينيها وافضل اسأل نفسي البنت دي ناقصها أيه، ماعرفش بقى اللي فيها، والحياة الزفت اللي كانت عايشها بسبب كلام أمها الخايب.

ألقى كافة لومه عليها بشراسة خافتة، كي لا تسمعه حفيدته، خاصةً بعدما رآها تجلس بحزن، تضع كفها أسفل ذقنها، تتابع التلفاز بشرود وكأنها تحمل هموم الدنيا فوق عاتقها لمجرد رؤيتها لوالدتها بهذا الشكل!

-طيب أنا غلط وزفت، قوم لبنتك قولها تفوق شوية لبنتها، البت مقطعة في قلبي.

قالتها بلا مبالاة محاولةً الهروب من حصاره لها، فقد اكتفت بالأمس من شجاره معها وتوبيخه المستمر، نهض، ينصاع لحديثها على مضض، موجهًا وعيدًا شرسًا نحوها:

-أنا هدخلها، بس يمين الله لو اتدخلتي تاني في أي حاجة تخص يسر وجوزها ولا حتى طلاقها ليكون حسابي معاكي عسير يا أمل.

رفعت حاجبيها بصدمة وهي تقول بعدم تصديق:

-أول مرة تهددني يا فاضل؟!

-لما الأمر يوصل للحقارة اللي أنا شوفت جوز بنتك بيكلمها بيها، واعرف التقليل اللي بنتك عملته في نفسها، واعرف إنك موافقة على كل حاجة وكمان بتشجعيها تستمر وفي الآخر هيرجعلها يبقى لا لازم يتحطلك حد.

أجاب بنبرة غليظة، وعيناه تطلق شرارات الغضب، فحاولت الدفاع عن نفسها موضحة حقيقة ما فكرت فيه:

-يا فاضل دي بنتي، هو أنا كنت عايزة أأذيها يعني، أنا ماحبتش تكون مطلقة والدنيا تنهش فيها.

-ده لما يكون أبوها ميت، طالما أنا حي أرزق، الله في سماه اللي يفكر بس يجي ناحيتها هاكله بسناني، ونوح ده أنا كنت بعتبره ابني، بس خلاص أنا هوريه نابي الازرق وهسود عيشته شهريار زمانه.

انطلق، يترك الصالة متوجهًا ببساطة إلى غرفة ابنته، تاركًا خلفه "أمل" مندهشة، وعلامات الصدمة بادية على وجهها، فقد تعرفت لأول مرة على جانب شرس من زوجها.

                                ***
دخل "فاضل" غرفة ابنته، فوجدها تستند بجسدها في نصف جلسة على ظهر الفراش، مغمضة عينيها، ويبدو أن الدموع حفرت أثرًا لها فوق صفحات وجهها الباهت والحزين، مع تورد بسيط في وجنتيها، استغفر ربه قائلاً بحدة:

-رافضة الأكل وقولنا ماشي، طيب بنتك ذنبها أيه؟!

اعتدلت في جلستها على الفور، والحرج يطفو كجثة فوق وجهها:

-هي ليه رافضة الأكل؟!

تساءلت بوجه شاحب، فاغتاظ والدها ورد بنبرة حادة ساخرة:

-عشان أمها بتعيط على الأطلال!

حاولت تحجيم حنقها من سخريته المتعمدة عليها، والدهس أكثر فوق كرامتها:

-أنا مابعيطش على نوح يا بابا، أنا بعيط على نفسي وعلى اللي عملته فيها.

-يا شيخة ما هو واضح، بس على رأيي الست تفيد بأيه يا ندم!

لا زال مصباح السخرية يضيء في وجهها بقوة، فانزعجت رغماً عنها وردت بنفور:

-أنا عارفة أني غلطت لما وافقت على وضع زي ده من الاول بس....

انفجر بها والدها بغضب ومقت:

-لا يا شيخة يكفيني إنك عارفة! والله!، ها طيب وبعدين، بعد ما دمرتي نفسك ومستقبلك وحياتك وحياة بنتك، كان عقلك فين وانتي بتوافقي؟، أيه بتحبيه؟ ملعون أبو الحب اللي يعمل كده فيكي، أنتي لو واحدة أهلك مكرهينها في عيشتها هقول ماشي البت معاها حق، بس لا، ده انتي بنتي الوحيدة اللي ماليش غيرها وموفرلك كل حاجة تحت رجليكي كان ناقصك أيه حنان واحتواء مكنتش حارمك، علمتك وصرفت على تعليمك شيء وشوايات عشان تطلعي مثقفة وواعية لنفسك ويوم ما تختاري....تختاري صح تختاري اللي يليق بيكي وبمكانتك، اللي يقدرك ويشوفك حاجة كبيرة وعالية، لكن للأسف خيبتي ظني فيكي، وسمعتي كلام أمك وصحبتك...

صمت برهة يلتقط بعض ذرات الهواء بعدما حبس أنفاسًا قليلة في صدره، وهو ينفجر كالقنبلة الموقوتة في وجه ابنته الساذجة، فتحت فمها للتحدث، لكنه لم يمهلها فرصة واستكمل بحدة أكثر:

-كان عقلك فين وانتي بتسمعي لأمك وبتوهمك إن جوزك ممكن يعقل ويقتنع بيكي لوحدك، طيب أمك واتصرفت بدافع الأمومة والفطرة ست خبرتها قليلة في الحياة، طيب صاحبتك اللي قعدت تزن عليكي توافقي راحت فين دلوقتي بعد ما دبستك التدبيسة دي تقدري تقوليلي؟!

أجابت بنبرة مبحوحة بها شيء من التيه:

-كل واحدة اتلهت في حياتها.

-البت دي اللي اسمها سمر صح؟!

اكتفت بهز رأسها فقط، وهي تخفض عينيها إحراجًا من أبيها، فصاح الأخير بثورة كالبركان:

-يا بنتي، أنا كام مرة حذرتك من البت دي يا يسر، وقولتلك مش كويسة ونظراتها ليكي مش مريحة، واختياراتها غلط اصلًا في حياتها، هي مش اتجوزت واحد بيصبحها بعلقة وبيمسيها بعلقة وكل شوية بتديله مبررات وبتدافع عنه! 

حركت رأسها بصمت والدموع تنهمر فوق وجهها بينما والدها استطرد بغضب:

-ليه مافكرتيش إنها مش عايزكي تبقي أحسن منها واقنعتك بالجوازة المهببة دي عشان تبقي معاقة زيها.

رفعت عينيها بصدمة، فأكد "فاضل" على حديثه بنبرة أشد قسوة:

-مصدومة ليه؟، ما اللي ترضى على نفسها تتضرب من جوزها وتديله مبررات، واللي تقبل بشرط إن جوزها يتجوز عليها زيك، يبقوا شوية معاقيين في تفكيرهم، داهية تقرفكم سديتوا نفسي.

حاولت النهوض خلفه لإيقافه وتبرير موقفها، رغم أنها لم تجد ما ستبرر به بعدما هدم أبيها كل ثوابتها:

-بــــابـــــا استنى...

-بلا بابا بلا زفت يا شيخة.

أشاح والدها بيده باشمئزاز وهو يغادر غرفتها، بل الشقة بأكملها تحت نظرات والدتها المتعجبة، انهارت يسر مجددًا وأطلقت لفراشها فرصة أخرى لاحتوائها، تنفصل من خلاله عن العالم بأسره، وخاصةً ابنتها التي كلما رأتها تتذكر "نوح" بأفعاله المشينة بحقها وكلماته الجارحة لها، وخيانته التي أصبحت مؤكدة.

                               ***
مرت ساعة ثم ساعتان، وهو على نفس الحال ينتظرها كالأخرق، وكل ما بيده هو محاولة الاتصال بها، ولكن هاتفها في كل مرة يعطيه تارة إشارة الإغلاق، وتارة أخرى سوء تغطية، أما عن محادثتهما على إحدى وسائل التواصل الاجتماعي، فكلما أرسل لها رسالة، أجابت بعلامة إعجاب، بدا الأمر لديه غريبًا؛ في بادئ الأمر تعامل مع الوضع بتسلية ومرح، لكنه بدأ يشعر بالضيق لتعمدها سلوك طريق معه غير مفهوم على الإطلاق.

قرر "يزن" إنهاء جلسته الوحيدة، التي لم تحدث إطلاقًا من قبل، والخروج من المقهى الشبابي شبه مكسور الخاطر، همس لنفسه بسخرية:

-طيب ادلع نفسي ازاي طيب وأنا اتقفلت من الصنف كله.

تابع خطواته بشرود تام، والغيظ وصل إلى ذروته بسبب تصرفاتها المتناقضة، تارة تضحك في وجهه وتكون أكثر سلاسة ولينًا معه، وتارة أخرى تبدو مثل صديقتها "حورية" صلبة، لا تلين، وعابسة، وكأنها تراه عدوًا، زفر بحنق من عقله المُصر على دفعه نحو التفكير بها فقط، وكأنه لا يملك أي أمور أخرى للتفكير فيها سواها، أصبحت تحتل عقله كعدو شرس لا تسمح لذهنه بالانشغال سوى بها.

قرر الاتصال بـ"نوح" كي يذهبا سويًا إلى أي مكان يبعده عن التفكير بها، ولكن هاتف نوح المغلق أفسد عليه خطته البائسة، قرر العودة إلى المنزل والجلوس مع عائلته، فيبدو أنهم أفضل حل للخروج من بقعة التفكير بها، التي تتسع تدريجيًا دون شعور منه، منتظرًا الصباح بفارغ الصبر.

                              ****
كان "نوح" في عيادته يجلس وحيدًا فوق أريكة جلدية كبيرة، مغلقًا جميع الأنوار، فالاكتئاب سيطر عليه في ظل الصراعات القائمة داخله التي تزداد شراسة، أصبح منهمكًا وغير قادر على مجابهة ثوران صدره، بصياح مشاعره وحنينه إليها وغضبه منها وتسرعها في محاولة إنهاء زواجهما وكأنه الحل الأمثل لحالة التيبس التي أصابت علاقتهما، ومن ناحية أخرى، كان عقله كالبركان المتأجج بعد تهديد والدها، ومذاق الإهانة المرير يصيب تفكيره بشظايا العناد، مما زاده تشبثًا برغباته التي تلتف حول عنقه كالأفعى السامة.

طرقات مستمرة أخرجته من دوامة تفكيره، فنهض بكسل وفتح الباب بعبوس، تحول إلى اندهاش من وجود والدته أمامه:

-أيه يا بني ده كله نوم!

افسح لها "نوح" المجال للدخول متسائلاً بقلق:

-في أيه يا ماما مين جابك وجاية ليه؟!

-اللي جابني ياسر اخوك وصلني ومستنيني تحت، وجاية عشان اطمن عليك.

همس بتهكم طفيف وحزن دفين يكمن في كلماته:

-ومطلعش معاكي يتطمن عليا ليه! طبعًا مفيش مني مصلحة حاليًا..

تجاهلت حديثه الخافت عن قصد كعادتها، ودخلت في صلب الموضوع:

-أيه يا بني اللي وصل الحال بينكوا أنت ومراتك لكده؟!

قطب ما بين حاجبيه بعدم فهم وهو يتساءل:

-انتي عارفة أيه بالظبط؟!

راوغته والدته بمكر وأردفت بهدوء:

-اللي حصل ما بينكم.

حاول التمسك بحواف خصوصياته وقال ببرود:

-دي مشاكل بسيطة يا ماما ما تحطيش في دماغك.

تبسمت والدته بسخرية وأردفت بنبرة لاذعة:

-اه فعلاً تصدق عشان كده الحاج فاضل جه وبهدلنا وهددنا إنك لو ماطلقتش بنته هيوريك اللي عمرك ما شفته.

توسعت عينيه بصدمة بالغة وهو يقول باعتراض قوي وفج:

-نــــــــــعــــم، الراجل ده اتجنن ولا أيه؟!

حاولت والدته تهدئته وهي تقول:

-اقعد بس يا بني واستهدى بالله، الراجل بردو عنده حق يا بني، دي بنته في الأخر وانت عايز تتجوز عليها بدون أي وجه حق، طبيعي يتصرف كده.

انفجر نوح بغيظ وحقد، لدرجة أن عروق وجهه كانت تنفر بشدة:

-لا طبعًا محدش عنده الحق غيري، أنا ماضربتهاش على ايدها وكنت متفق معاها وهي موافقة، ماتجيش هي ترجع في كلامها، أنا مش عيل قدامها بتنومه.

-هو يا بني في واحدة توافق إن جوزها يتجوز عليها دي لا مؤاخذة كانت بتاخدك على قد عقلك.

الاستنكار انطلق كالسهام الحادة من كلمات والدته وأصاب عقله، الذي ترنح وفقد السيطرة على نفسه، فبدا وكأنه يهذي ولكن بصورة شرسة:

-لا بقى ولا عاش ولا كان اللي تعمل فيا كده، وهتجوز عليها غصب عنها وعن أبوها.

زمت والدته شفتيها بضيق بالغ، وحاولت النبش أكثر داخله ليخرج ما يحاول إخفاءه:

-ما هو بصراحة انت مابتقولش سبب مقنع، هي يسر قصرت في حاجة، لو قصرت قولي وأنا اتكلم معاها مرة واتنين لغاية ما تتعدل معاك، لو ماتعدلتش يبقى تنفذ اللي انت عايزه.

ألزم لسانه الصمت أمام حديث والدته المبطن بأمور عديدة، وحده يعلم دواخلها، لذا لم ينسق خلفها، ولم يعب بزوجته، فقال بنبرة خشنة:

-يسر مفيهاش أي عيب، ده اتفاق ما بينا وقولتلها أنا في يوم من الأيام هنفذه ماتجيش هي وترفض أنا مش لعبة في ايدها، ومن الأخر أنا حُر اعمل اللي أنا عايزه.

-لا يا نوح احنا اهلك بردو ولازم نسألك وتريحنا احنا يهمنا....

-يهمكوا مصلحتكم وبس، خايفين اكون حبيت واحدة تانية وتكوش على كل حاجة وتقفل حنفية الفلوس عنكم، محدش فيكم يهمه مصلحتي ولا حد فيكوا بيفكر فيا، أنا فين؟ بعمل أيه؟، تعبان؟، مرتاح؟ ولا بهبب أيه؟، أنا آخر واحد تفكروا تسألوا عليه، بس أول حد تفكروا فيه لو احتاجتوا فلوس ولا مصلحة، اراهنك لو قولتلهم مثلاً أنا هتجوز على يسر كلهم هيقولوا آمين، محدش هيتعاطف معاها رغم إنكم ماشوفتوش منها إلا كل خير، فكرك مثلاً حد من اخواتي هيفكر يصلح ما بينا لا هما مالهمش دعوة، بس اللي أنا متأكد منه، إنهم باعتينك يا ماما عشان تطمني وتعرفي مين بالظبط اللي هتجوزها مش صح؟!

تساءل مستنكرًا في آخر حديثه الصادم لوالدته، بعدما سلط الضوء على جزء كبير من الحقيقة، فاستكمل دون أن يعطي والدته أحقية الرد:

-حتى أنتي يا ماما جاية عشان صورتك بس قدام الحاج فاضل ومراته، مايهمكيش يسر زي ما أنا شايف في عينك أني مثلاً  كنت اعملها واتجوز من غير ما اعرفها صح؟! عارفة أيه المشكلة؟  أني عارف كل واحد فيكم على أيه وبيفكر في أيه!.

ابتلعت والدته غصة بحلقها وهي تنظر إليه بجمود، فلم تجد مبررًا واحدًا للرد على حديثه، بسبب تصرفات أولادها بحقه وحماقتهم بعض الشيء، وأنانيتهم المفرطة بحق أنفسهم، وللأسف، هي أيضًا تحمل عبئًا كبيرًا في اتساع تلك الفجوة بين جميع أولادها.

-طالما أنت شايف كده يا نوح، يبقى خلاص مفيش كلام تاني يتقال، عن أذنك، ربنا يهديلك حالك يا ابني.

وقف جامدًا يستقبل عتابها بصدر رحب بعدما نجح في إفشاء جزء بسيط مما يكمن في صدره من ندبات موجعة له طيلة حياته، لقد سأم من دور ماكينة السحب، فهو إنسان ويحمل مشاعر وطاقة، لذا سلط الضوء الأخضر على ما يعانيه منهم:

-ابقي سلميلي عليهم وقوليلهم اشغلوا نفسكم بحياتكم محدش له دعوة أنا بعمل أيه! 

وقفت والدته على أعتاب باب العيادة ترمقه بعدم رضا:

-ما تقطع علاقتك بينا أحسن عشان نريحك.

-ماقدرش اعمل كده، وبعدين أنا عندي استعداد اتحمل أكتر من كده عشان خاطرك أنتي، وأنا زي ما أنا موجود لو حد فيهم احتاج حاجة مايترددش.

ابتسمت والدته ساخرة وهي تردف بنبرة حاولت تحجيم الحنق فيها:

-خاطر أيه بقى!، ده أنت دشملت خاطري وخاطر الجيران يا دكتور، مع السلامة.

أغمض عينيه بنفاد صبر، وغضب جامح يجتاح كيانه بأكمله من تصرفات "فاضل"، التي فاقت تصرفات زوجته جنونًا، لكنه يدرك تمامًا أنها مجرد خطوة من والد "يسر" لإثارة البلبلة حوله، ونثر فضائحه بجرأة كي يقدم على الطلاق، ولكن ما فعله زاده عنادًا وتحديًا بالغًا.

                               ***
بإحدى المناطق الشعبية..

راقبت "حسناء" خروج واحد تلو الآخر من المكان المخصص لوالدتها لاستقبال الجيران داخل مقرها، حيث تمارس الشعوذة وتدعي أنها تملك قبيلة كاملة من الجن تفعل لها ما تشاء!

نفد صبر "حسناء"، واضطرت للدخول قبل أن يدخل أحد آخر، وهي تصيح بنزق:

-جرى أيه ياما هو أنا هاخد دور زي الناس المعتوهة دي، بقولك من الصبح عايزاكي.

رفعت والدتها الغطاء المثبت على وجهها، تخفي ملامحها الشيطانية، وصوتها الخشن ينطلق في الأجواء القاتمة من حولهما:

-بقولك أيه يا بت الناس دي هي اللي بتدينا الفلوس عشان نجيب الهم وناكل ياختي.

اقتربت منها "حسناء"، وصوت فحيح يخرج منها يلفح وجه تلك الماكرة:

-اسمعي يا ماما لو ركزتي بس كلامي، ووفرتي كل جهدك تعمليلنا عمل حلو كده من ايدك الاتنين دول، هعرف اوقع واحد سُقع على قلبه فلوس قد كده، ويرحمنا من القرف اللي أحنا فيه ده.

تحمست والدتها، واندلع فتيل المكر في حدقتيها وهي تستمع لـ"حسناء" التي قالت بتروٍ:

-أنا عرفت كل حاجة عن الدكتور اللي بشتغل عنده، هو ومراته خلاص قربوا يتطلقوا، ودي فرصة ياما اتدخل ما بينهم، انتي بكام عمل حلو كده منك احطه في العيادة يمنعه من إنه يرجعلها، وأنا بقى بحلاوتي هشغل عقله وتفكيره واخليه يتعلق بيا.

-طيب قوليلي كده كل حاجة سمعتيها عنه وعرفتيها عن مراته عشان وأنا بعمل العمل اعمله صح وبمزاج، بس اطلعي الاول طردي أي حد برة.

انطلقت "حسناء" تهرول بحماس لتنفيذ أمر والدتها، وداخلها يستعد لدخول الملعب وتغيير مجرى اللعبة في اللحظات الأخيرة، معتقدة أنها ستحظى بالجائزة دون بذل مجهود إضافي، كانت طيلة الأيام السابقة تصوب أهداف أنوثتها وجمالها بكل مهارة وبراعة، ولكن ينقصها فقط الهدف الأخير، ألا وهو الزواج به.

                                  ****

في منزل  "الشعراوي"...

جلس الجميع في الصالة بعد تناول العشاء، فانشغل "زيدان" و"مليكة" باللعب مع أولاد "سليم"، بينما انفرد "سليم" و"يزن" جانبًا وظلا يتحدثان بخفوت تحت أنظار "شمس" التي تراقب كل شيء بينهما عن كثب.

فمال "يزن" على "سليم" وهمس بحماس مفرط:

-صورتك عاملة قلق يا سليم على السوشيال ميديا، من بكرة مش هتلاحق على الزباين.

ضيق "سليم" عينيه بعدم فهم لحماسه المفرط، فرد بنفس النبرة الخافتة ولكنها مستنكرة:

-هو حد قالك أنا مش لاقي أبيع، اخوك مسيطر على السوق، وبعدين صورتي هتجيب الزباين ليه يعني!

رمقه "يزن" بعدم رضا وهو يقول همسًا:

-خيرًا تعمل شرًا تلقى، ده بدل ما تشكرني على أسلوب الدعاية والاعلان الجديد بتاعي، ومتخافش أنا عملت لشمس مراتك بلوك عشان ماتشفش حاجة.

ارتسمت الصدمة على ملامح "سليم"، لكنه استطاع السيطرة عليها كي لا يجذب الأنظار نحوهما:

-انت اتجننت ازاي تعمل كده؟!

-امال أسيبها تشوف تعليقات الجنس اللطيف على صورك وقد أيه انت خطير وعينك مفيش منها، ماعرفش الصراحة على أيه مع أنها نفس لون عيني عادي يعني، ووسامتك اللي خطر على الكوكب، مع إن أنا بردو مستغرب لأني أحلى منك انت وزيدان بكتير، بس أهو البنات دي دماغهم تعبانة محدش يركزلهم.

كاد "سليم" يصيح بغضب، لكنه ألجم نفسه في اللحظة الأخيرة وهتف بأمر ناري:

-فورًا تمسح صوري فورًا، يا أما....

ابتسم "يزن" بسماجة وقاطعه قائلًا:

-مابقاش ينفع يا أبيه صورتك اتشيرت خلاص، انت بقيت مشهور مش بعيد تطلع مع منى الشاذلي، وتحكيلنا قصة كفاح سليم الشعراوي، دي هتبقى حلقة جنان بس هتبقى تريند لو اخدوني أنا مكانك.

عض "سليم" على أصابعه بقوة وغيظ، محاولاً التحكم بنفسه بشتى الطرق، خطف نظرة إلى "شمس" التي وجدها جالسة بنظرة متوعدة، تحاول كشف جلسة الأسرار بينه وبين أخيه المتهور، استمع بعدها لهمس "يزن" وكلماته التي نجحت في التلاعب بعقله:

-حلو خليها تعرف وتغير، ماتخافش...

نظر إليه "سليم" باستهجان، فأكمل "يزن" كلامه:

-مين منا مابيخافش وخصوصًا لو كان مهدد بالقتل، بس صدقني أكتر أحساس ممتع ممكن تحس بيه وأنت بتشوف مراتك بتولع من الغيرة، ويا سلام لو شميت ريحة الشياط اللي أنا شاممها هتتبسط على الآخر.

-ويا سلام لما نتطلق، انت هتبقى مبسوط أكتر.

قالها "سليم" ساخرًا، فابتسم "يزن" بتهكم وأردف بشقاوة:

-اللعيب الصح اللي يجنن مراته عليه وفي الآخر ميخسرهاش، وبعدين بذمتك مش نفسك تحس مرة إنها بتموت من غيرتها عليك، غير روتينك مش كل مرة انت اللي خانقها، جدد نشاطك.

-يزن أنت آخر واحد ممكن اسمع منه نصيحة، فلم نفسك واسمع الكلام وامسح صوري، أنا على أخر الزمن هبقى مهزئة السوق.

أنهى "سليم" حديثه بعدم رضا، ونهض موجهًا حديثه للجميع:

-أنا طالع تصبحوا على خير.

ترك "شمس" خلفه تنظر إلى أثره بشرود، يتخلله نيران الغيرة التي بدأت تلتهم جزءًا من عقلها، انتقلت بنظراتها إلى "يزن" الذي سارع بتمثيل الإرهاق ونهض قائلًا:

-ياااااه الواحد طول اليوم مرهق وتعبان تصبحوا على خير.

فر هاربًا إلى غرفته، وأغلقها بإحكام بعدما قرأ بوادر "شمس" لحصاره، ابتسم متخيلًا جزءًا من الحصار الذي سيكون فيه "سليم" عندما تصعد "شمس"، وهمس ضاحكًا:

-بيعمل علينا دراكولا وهو معاها سولي. 
                                ****
في اليوم التالي...

راقب "يزن" خطوات "سيرا" منذ أن هبطت من الحافلة وسارت بهدوء في الطريق المؤدي إلى البرج، لكنها انحرفت ودخلت إلى محل البقالة الكبير، دخل خلفها، متتبعًا خطواتها بحرص، عازمًا على الانفراد بها بعيدًا عن أعين الناس ليوبخها بعتاب عما فعلته به بالأمس، التفتت هي ناحيته، ترمقه باستنكار متعمد:

-انت شكلك عايز تخطفني صح؟ ماشي بتتسحب ورايا ليه؟!

-والله؟!

قالها باستنكار مماثل، راسمًا على وجهه إمارات العتاب، فردت هي ببرود مقصود وابتسامة مستفزة:

-خير يا أستاذ يزن على الصبح؟

رفع حاجبيه معًا وظل ينظر إليها بصمت، محاولًا كشف الغموض المحيط بها، حركت رأسها بمعنى "ما بك؟" فعقد ذراعيه أمامه وقال بحسم جديد على نبرته معها:

-ممكن اعرف عملتي كده معايا ليه امبارح؟!

رمشت بأهدابها عدة مرات وسألته بعدم فهم، وقد ارتسم فوق ملامحها المشرقة:

-أنا؟! عملت أيه؟!

همس بصوته كي لا يجلب الأنظار إليه وقال باعتراض واضح:

-هتستعبطي صح؟!

رفعت أحد حاجبيها باحتجاج، وانطلق لسانها يشتد بحزم:

-لا بقولك أيه الزم حدودك معايا، أنا مابحبش الطريقة دي في الكلام، هتكلمني كده هسيبك وامشي، لو كان عندك حاجة قولها، ماعندكش يبقى سلام.

كادت تغادر موقعهما، لكنه أمسك بمرفقها سريعًا، فسرت رجفة كهربائية بجسدها جعلتها تنتفض مبتعدة عنه بخطوتين، تنظر إليه بغضب يكمن أسفله ارتباك قوي عقب لمسته لها، بينما هو، بتلقائية شديدة، لم يقصد أي شيء، بادر بالأسف، متغافلًا عن مشاعره التي ثارت بجنون لرؤية الاحمرار الساكن في وجنتيها عقب لمسته البسيطة:

-أنا أسف ماقصدش حاجة، بس يعني أنا اتضايقت لما نتكلم ونتفق إننا نتقابل وماتجيش من غير ما حتى تعتذري، فدا ضايقني و....

قاطعته سريعًا راسمة الصدمة على وجهها:

-أيه حيلك حيلك، أنا عملت كل ده؟!

-امال أنا! أيوه انتي طبعًا، مش أنا كلمتك امبارح على الماسنجر وقولتلك عايز اتكلم معاكي وانتي رديتي؟!

-أنا!

قالتها باستنكار ملحوظ، فاستكمل حديثه بتعجب:

-وقولتلك على مكان الكافية والمعاد وانتي وافقتي..

ظل الاستنكار مترسخًا في ملامحها وصوتها:

-أنا!

-أيوة أنتي!

قالها وهو يسارع بإخراج هاتفه، ثم وضعه أمامها وسأل بنبرة رخيمة يحاول بها إخفاء إحراجه:

-مش ده أنتي؟

نظرت إلى الهاتف لثوانٍ، ثم ابتسمت ابتسامة مهزوزة:

-ده طلعت أنا فعلاً.

حمحمت بحرج مقصود وهي تنظر إليه باستعطاف لما بدر منها بطريقة غير مقصودة:

-بص حاول تفهمني، أنا عندي شياطين كتير في البيت بيمسكوا تليفوني...

استوقفها سائلًا بمزاح لتخفيف حدة الموقف المحرج بينهما:

-دول بردوا اللي بياكلوه الجبنة الرومي من وراكي؟!

ازداد عبوس وجهها وهي تقول:

-انسى الجبنة الرومي دلوقتي، خلينا في كلامنا، هما دول اللي عملوا كده، وبعدين مجاش في بالك ليه برد بـ لايك، ما اتكلم معاك، مجاش في بالك إن في حاجة غلط مثلاً!

مط شفتيه محاولًا إخفاء انزعاجه عندما ظهر بصورة حمقاء أمامها:

-يعني قولت يمكن مكسوفة...ولا انتي مابتتكسفيش؟!

فتحت فمها للرد عليه، لكنه سارع بالضحك مقاطعًا حديثها:

-خلاص بهزر، أيه مابتهزريش؟!

-مابهزرش مع اللي ماعرفهمش!

ردت بحدة لا تزال تسكن طرف لسانها، فقال بنبرة مازحة مصحوبة بابتسامة شقية تخصه وحده:

-طيب ما تتعرفي عليا، عشان ماتبقيش قفوشة كده معايا، أصل أنا جو الكآبة ده ماياكلش معايا، مابستحملوش بيجيلي heart attack على طول.

لانت ملامحها عن قصد وهي تسأله بنبرة رقيقة تركت أثرًا لذيذًا في نفسه:

-أيه ده، أنت عايز تتعرف عليا؟!

التقط "يزن" الفرصة كالصياد الماهر، وغرز أول بذرة في حديثه اللبق:

-طبعًا وعشان كده طلبت اقابلك امبارح بس الله يسامحهم بقى آكلي الجبنة الرومي، ولو يعني ماعندكيش مانع يا ريت نتقابل النهاردة.

نظراتها أربكته، فقد عجز تمامًا عن فك شفراتها، لكنه فوجئ بابتسامة جميلة التصقت بثغرها الخالي من أي مساحيق تجميلية، مما زاد إعجابه بها:

-تمام مفيش مشكلة، ممكن نروح سينما؟

لمَ يشعر وكأن هناك خطبًا ما بسبب سهولة موافقتها؟ على ما يبدو أنها ليست كما تبدو! لكنه رمى بأفكاره السلبية خلفه وبادر بالموافقة السريعة:

-تمام، هحجز تذاكر فيلم كريم عبد العزيز الجديد، وهستناكي الساعة ٨.

رمشت بأهدابها عدة مرات مع ابتسامة ناعمة وصوت يغمره الغنج:

-اوك، اشوفك على خير.

تركته وغادرت، بينما ظل هو ينظر إليها حتى اختفت عن أنظاره، فبالرغم من إخفاقه في المرة الأولى، إلا أنه نجح أخيرًا في مد جسر التعارف بينهما، لم يكن يتوقع أن يحصل على موافقتها بهذه السهولة، وهمس بحماس:

-ما طلعت سهلة اهي امال أنا كنت مستصعبها ليه؟!

أما هي، فسارت في طريقها إلى عملها بابتسامة كبيرة تحتل وجهها، بعدما نجحت في خداعه وإقناعه بأنها لا تعرف شيئًا عن أمر المحادثة، وها هي تحيك له حيلة أخرى ستصعقه حتمًا حين يصطدم بها، نظرت إلى الساعة في يدها، متمنية أن تمر الدقائق بسرعة البرق، ثم قامت بالاتصال بشخص ما، والمكر يحلق في أفق عينيها. 
انتقلت بنظراتها في جميع أرجاء الشقة، تراقبه وهو يدلل أطفاله بحنان بالغ، بعدما قرر بشكل غير معتاد اقتناص إجازة مفاجئة من عمله، أثارت تصرفاته في نفسها دوافع الشك، فانتشر القلق في صدرها كانتشار النار في الهشيم، لكنها ظلت ملتزمة الصمت معه، مكتفية بوضعه تحت المراقبة.

رن اتصال آخر، فابتعد عن ابنته وذهب بعيدًا عنهم، ليجيب بصوت خفيض على غير عادته، احتدت نظراتها وهي تقرر ألا تتحرك من مكانها، مكتفية بمتابعته بعينيها، بينما هو رغم إعطائه ظهره لها، شعر وكأن سهامًا حادة مصوبة نحوه، زفر بخفة، قائلاً بصوت جاد لكنه خافت:

-يعني كويس إني ماجتش النهاردة؟!

أجاب الموظف بتنهيدة قوية:

-طبعًا يا سليم باشا، أنت مالكش في الجو ده، وأنا كنت متأكد إنك لو كنت جيت وشوفت كمية البنات اللي جاية تبص...

حمحم الموظف بحرج مستكملاً:

-اقصد تشوفك، كنت زمانك مخلينا قافلين المحلات كلها!

زفر سليم زفرة قوية، وكانت أسوار ثباته وهدوئه على وشك الانهيار، فتمتم بحقد وضيق:

-الله يخربيتك يا يزن.

ثم تابع قائلاً:

-أنا مش عارف عملت أيه في نفسي!

-يا باشا هو مش حاجة غلط، يعني صورك اللي يزن باشا منزلها عادية خالص بس واضح إن كارزميتك عالية شوية، وبعدين أنا نسيت اقولك نص الصاغة عملت زيك يا باشا، انت الاساس وهما التقليد.

رفع سليم أحد حاجبيه قائلاً بحدة:

-أيه يا بني، أنت بتكلمني كده ليه؟! انت فاكرني فرحان لما الناس تيجي تبص لي هو أنا سلعة في الڤاترينة!

-يا باشا على فكرة ما شاء الله الايرادات عالية جدًا النهاردة في كل المحلات، أنت فاكر انهم بيجوا وبيمشوا، لا ما شاء الله بيشتروا، بس يعني انت ماكنتش هتستحمل حد يبصلك أو يحاول يكلمك.

أخرج سليم تنهيدة ثقيلة من صدره، ثم قال بجدية:

-قولي أول بأول كل حاجة، ولو الصور دي اتمسحت عرفني، وأنا هشوف يزن ممسحهاش ليه! سلام.

أغلق الهاتف واستدار، فتفاجأ بشمس تقف خلفه مباشرة، رسم ابتسامة صغيرة على شفتيه، ثم مد أصابعه ليداعب وجنتيها بلطف:

-واقفة زي المخبرين ليه كده!

-مرحتش الشغل ليه النهاردة؟!

خرج سؤال مباشر من أعماق نبرتها المظلمة، فتجاهل حدة ملامحها وتحرك نحو طفليه وهو يجيب:

-ما قولتلك، حسيت إن أنا مقصر معاكم فقولت اقعد معاكم النهاردة، على فكرة دي تالت مرة تسأليني، هو أنا قعدتي تقيلة لدرجادي على قلبكم؟!

تغاضت عن الإجابة عن قصد، ثم وجهت سؤالًا يحمل في باطنه شكوكًا متوهجة:

-وانت مش واخد بالك إني لغاية دلوقتي مش مقتنعة أصلاً بإجابتك؟!

استدار يرمقها بنظرة استخفاف متعمدة، وسألها بتهاون أشعل فتيل غضبها:

-بجد؟! ماخدتش بالي خالص، المرة الجاية هاخد بالي!

كتمت أنفاسها بصعوبة، وعيناها أفصحتا عما يدور بخلدها من شكوك نحوه، للحظة، شعر بلذة غريبة بسبب شعلة غيرتها، وبدأ عقله يميل إلى حديث أخيه المجنون، حاول إقناع نفسه: لماذا لا يستمتع قليلًا بغيرتها عليه؟ لكنه لم يدرك أن جحيم غيرتها سيدفعه نحو غيابة الجب، متجاهلاً اعتقاده بأن أصعب المعارك التي يخوضها العاشق هي معركة الغيرة، فإن نجا منها، اقتنص من الحب فرصة أخرى. "فكن سطحيًا ولا تقترب من أعماق العشق المظلمة!"

اتخذت شمس من غرفتها مقرًا سريًا، تبحث في هاتفها عبر وسائل التواصل الاجتماعي عن تلك الصور التي سمعت عنها، لكنها لم تجد شيئًا، زفرت بحنق وتركت لنفسها دقائق طويلة لتختلي بأفكارها علها تجد حلاً لفك شفرة أحاديثه منذ الصباح مع موظفيه.

قررت استخدام هاتف آخر غير هاتفها، فانطلقت تبحث عن مليكة في الطابق السفلي، لكنها لم تجدها، زفرت بضيق، ولم يهدأ عقلها حتى استعانت بهاتف منال، الذي تركته بإهمال في الصالة، بدأت البحث على الإنترنت هنا وهناك، حتى توصلت أخيرًا إلى صفحة جديدة باسم زوجها، تحمل صورًا حديثة له مدونة عليها عبارات موجهة لسوق الذهب مع عناوين لمحلات الشعراوي.

جذب انتباهها الكم الهائل من التعليقات المنبهرة بصور زوجها، حتى إن فتيات عدة شاركن الصور، توسعت عيناها بغضب حين قرأت تعليقًا له يشكر فيه إحدى الفتيات على تعليقها الجميل:
"شكرًا يا جميل"

كشرت عن أنيابها وركضت بسرعة صاروخ نووي نحو شقتها، عندما وصلت، وجدته يداعب قمر وأنس معًا، أبعدتهما عنه، وحملت قمر وطلبت من أنس أن يتبعها دون أن تنطق بكلمة واحدة.

سألها بعدم فهم:

-شمس، واخدة العيال فين؟!

استدارت شمس قبل أن تغادر شقتها ووجهت كلمة واحدة مكتومة بغضب:

-ثانية واحدة وجيالك.

رفع سليم حاجبيه معًا بتعجب من تصرفها، دون أن يدرك حجم ما ينتظره، وفي هذه الأثناء، توجهت شمس مباشرة بأطفالها نحو شقة مليكة، وطرقت الباب، وبعد لحظات، فتحت مليكة الباب ورحبت بها بحفاوة:

-شموسة تعالي، ادخلي.

-لا خدي عيالي شوية وجيالك...

التقطت مليكة الطفلة الصغيرة من يديها وهي ترحب باستضافتهما بحب، ظهر زيدان من خلف الباب قائلًا بابتسامة:

-تعالي ادخلي يا شمس! في حاجة؟!

ردت شمس بنبرة صارمة ودون أن ترتسم أي ابتسامة على ملامحها على غير عادتها:

-لا.

قبل أن تغادر، سألتهما بحرج انبثق وسط توهج مشاعرها:

-هو أنا عطلتكم عن حاجة؟!

سارعت مليكة بقولها:

-لا أبدًا يا حبيبتي، براحتك خالص، سيبيهم معايا اليوم كله، أنا فاضية ولا يهمك.

هزت شمس رأسها عدة مرات تعبيرًا عن الامتنان، قبل أن توجه بصرها نحو زيدان، الذي كان يتولى مداعبة قمر بحب، رمقته بنظرة غاضبة، فرفع زيدان حاجبيه معًا باستنكار، ثم تابع مداعبة الطفلة.

عندما غادرت شمس الشقة، سأل زيدان زوجته بفضول:

-هي شمس مالها؟!

-ماعرفش أنا بردو حاسة إنها متغيرة!

                           ****

في شقة سليم.

كانت المواجهة على وشك الانهيار، حين استفزها سليم قائلاً:

-ما قولتلك أنا ماعرفش حاجة عن الصور دي، أكيد مابكذبش يعني!

ردت بهدوء عكس ما توقعه، وهو يجلس أمامها وكأنه في جلسة اعتراف:

-وتعليقاتك اللي بترد فيها على البنات! دي كمان ماتعرفش عنها حاجة!

وضع ساقًا فوق الأخرى بغروره المعتاد، غير آبهٍ بما يدور في خاطرها من توعد وأمور انتقامية لم تطرق أبدًا ببالها من ناحيته.
"لا تستفز مشاعر أنثى، فأنت لا تتخيل حجم جحيم غيرتها!"

-زي ما أنا ماعرفش حاجة عن الصور، أكيد ماعرفش حاجة عن التعليقات!

تركت مكانها في لمح البصر، واختصرت المسافة بينهما حين انحنت بجذعها العلوي نحوه، مشيرةً نحو صدره، ولهيب أنفاسها يلفح وجهه، بينما نظراته الباردة تراقبها بلا مبالاة:

-انت فاكرني هبلة ولا عبيطة، هو في حد يقدر يعمل كده من غير إذنك وموافقتك.

-لا فيه، يزن.

أجاب ببساطة وصدق، فضيقت عينيها بتهديد، وسؤالها صدح في الأجواء المشحونة من قبلها، بينما ظل هو باردًا ينظر إليها باستمتاع:

-امممم يزن، قولتلي! وأنت بقى راضي عن المهزلة دي؟!

أبعد خصلة من شعرها المتناثر حول وجهها، وكأنه يساندها في ثورتها عليه، ثم سألها بهدوء، والاستنكار يلتف حول صوته:

-مهزلة أيه؟! دي مجرد صور بسيطة في مكتبي يعني!

مدت أصابعها تداعب وجهه في حركة أشعرته بالقلق، لكنه التزم الصمت أمامها، وهي تردد:

-بس متاخدة بزاوية معينة عشان تبين وسامتك والبنات يعجبوا بيك صح؟!

-الموضوع أبسط من كده يا حبيبتي!

قالها بنبرة عاشقة، وهو يبتسم ابتسامة صافية بقدر صفاء مشاعره نحوها، فقالت هي باستهجان قاسٍ:

-حبيبتك!

هز رأسه وجذبها بسرعة لتجلس فوق ساقيه، ثم عد على أصابعه باستمتاع لطيف:

-وقلبي وحياتي وما بحبش غيرها....

أمسكت أصابعه بين قبضتها الصغيرة، وأوقفته عن محاولاته لإلهائها عما تريد الوصول إليه.

-انت بتخوني؟!

-ماقدرش اعمل كده، مفيش غيرك يملى عيني.

رده كان سريعًا لدرجة أدهشتها، فرمشت عدة مرات محاولة استيعاب ما حدث، بعدما فشلت في إدراك حجم التغيير الطارئ عليه:

-سليم أنت متغير اوي! وأنا أعصابي تعبت بجد.

دمعة خانت حاجز عينيها وسقطت فوق وجنتها، مسحتها سريعًا تخفي ضعفها الذي ظهر بوضوح له، وما أغاظها ابتسامته الواسعة، رغم جاذبيتها المفرطة:

-انت بتضحك على أيه؟!

-اسمها انت مبسوط من أيه؟!

رفعت حاجبيها معًا، تجيب بنبرة متحشرجة:

-يا سلام ودي تفرق؟!

-طبعًا، مبسوط عشان شايفك غيرانة عليا، مع أني ماليش أي يد في الحوار ده؟!

كان يردد كلماته بنبرة مغموسة من دورق العشق، وعيناه تضيئان بلمعة فريدة، وكأنه امتلك الدنيا وما فيها، أما ملامحه، فكانت مسترخية، ونظراته تجوب وجهها الجميل، الملون بحمرة طفيفة دومًا تصاحبها حينما تنفعل.

-يعني أنت متفق مع يزن تعملوا الحوار ده عشان اغير عليك يا سليم؟!

كان صوتها مليئًا بالعتاب، فرد بنفي قاطع، وهو يقول بصدق خرج من خشونة قوية التصقت بصوته حين هاجمته بادعاء مثل هذا:

-لا طبعًا، أنا ماليش في الشغل ده أساسًا وانتي عارفة كده، الموضوع كله جه صدفة!

صمتت وتركت له المساحة الكاملة بهدوء تام كي يستكمل حديثه، في داخلها، كانت تسلم بصدق حديثه حينما سرد ما دار في خلده طيلة الأيام السابقة:

-كانت فكرة زي الزفت لما فكرت استعين بيه واشغله شوية فوق شغله بحيث مايفكرش في البنات اصلاً، وماعرفش إنه هيعمل فيا كده، الباشا بيعاندني وفاهم كويس أنا عايز ابعده عن أيه، فحب يعمل عليا صايع ويعلمني الادب عشان ابعد عنه، مايعرفش إن أنا نفسي طويل ومش هتنازل عن إنه يعقل ويتهد.

هزت رأسها بتفهم، ثم نهضت عنه بهدوء دون أن تعقب على حديثه، لكن في داخلها، لم ترضَ بما حدث، فلا زالت أحاسيسها تحترق بنيران الغيرة، ومع ذلك، كتمت كل ذلك بصعوبة داخلها، واكتفت فقط بأنه أخلى مسؤوليته عن هذا العبث!

أما سليم، فقد راقب ابتعادها عنه وصمتها المبالغ فيه، فقرر قطعه بسؤاله الخشن:

-مش مصدقاني؟!

-لا مصدقاك، بس أكيد يعني مش مبسوطة باللي حصل!

قالتها بهدوء، وهي تبعد خصلات شعرها عن وجهها الجامد بتعابير صامتة، وكأنها تضع وشاحًا يخفي أسفله حقيقة ما تتلظى به، اقترب منها، أمسك كفيها، وقبل باطنهما بحب، ثم سألها ببسمة عاشق أنهكه الهوى:

-طيب أيه يرضيكي واعمله!

لانت ملامحها قليلاً، محاولةً أن تثبت حبها له المنسوج بخيوط الثقة والصدق:

-أنا واثقة فيك وعارفة إن قلبك عمره ما يحب غيري، بس يعني تعليقات البنات مش ظريفة وإنك ترد عليهم ده عيب في حقي وبعدين الناس هيتكلموا في حقك....

قاطعها وهو يصحح لها:

-قولتلك مش أنا اللي علقت عليهم، أما بقى منظري فده مايهمنيش عشان مابيفرقش معايا، كلام الناس ده آخر همي، بس طبعًا اللي يفرق معايا، هو أنتي، عشان كده اتضايقت إن يزن عملك بلوك ونزل صوري من الأساس، مكنتش حابب اضايقك لأني كنت عارف أيه اللي هيحصل!

قال آخر جملته بغرور، ثم عاد بظهره يستند على مقعده بعنجهية تليق به وحده، مع ابتسامة تدلت من حافة شفتيه، جعلت عينيها تتوسع بحماقة وهي تنظر إليه غير مصدقة:

-ياااه واثق اوي من نفسك أنت يا سليم!

-طبعًا مش سليم الشعراوي، لازم اكون واثق في نفسي، شكلك مش عارفة قيمة جوزك.

رد بتعالي ممزوج بنبرة تسلية، هزت رأسها وهي تضحك تخبره بحنق انبثق رغمًا عنها من ثوران مشاعرها:

-لا للأسف مكنتش مقدرة حجم وضعك يا سليم باشا، بس تصدق أنا لو منهم مانبهرش بالصور دي، أيه يعني راجل عادي قاعد حاطط رجل على رجل بغرور وبيبص من غير مايبتسم، أيه الوسامة في كده مش فاهمة! بنات مابتفهمش، ماعرفش أيه الانبهار في كده!

ضحك ضحكة ساخرة عقب حديثها، جعلتها تقبض كفها بقوة، لكنها احتفظت بقناع الغموض أمام حصاره لها:

-هو بعيدًا إن أنا شامم ريحة شياط منك، وعينك بتقول عكس كده، ممكن اسألك أيه هو الانبهار من وجهة نظرك، من باب التسلية مش أكتر!

فتحت فمها تحاول إغاظته وإشعال شعلة الغيرة لديه هو أيضًا، لكنه كان أسرع منها حين هددها بنبرة قوية شرسة جعلتها تتراجع عما كانت تقدم عليه:

-وان فكرتي تضايقني وتثبتيلي إنك معجبة بحد غيري، وإن أنا مش استايلك والكلام الفارغ ده، هتزعلي مني جامد يا شمس، عشان انتي عارفة ماعنديش هزار في الحتة دي بالذات.

نهضت تقترب منه في غنج متأصل في طباعها معه، ومالت عليه في دلال تخبره بذكاء أنثوي حاد:

-وأنا كمان ماليش في الجو الرخيص ده، عشان أنت عارف إنك مالي عيني وقلبي يا سولي، هو في حد يبقى متجوز من سليم باشا الشعراوي ويفكر يعجب بحد تاني! رغم أنا زعلانة منك عشان خبيت عليا، واحنا مش متعودين على كده!

ابتسم ابتسامة واسعة وهو يغمرها بقبلات صغيرة فوق صفحات وجهها كتعبير بسيط عما يشعر به من تخبط في مشاعره، وكأنه مراهق استمع لعبارة إعجاب لأول مرة، فقال بصوت خافت دغدغ مشاعرها:

-حقك عليا! بس ماحبتش اشغلك بالتفاهات دي!

ابتسمت بدلال، وهي تمسك بذقنه بطرف أصابعها، تلتحم مع نظراته في ملحمة العشق والهوى:

-خلاص سامحتك يا أحلى سولي، بس ليا طلب صغنن.

-قوليه من غير سولي، بتموعلي نفسي يا شمس.

تجاهلت حديثه عن قصد، وقالت ما كانت تتمناه في الفترة الأخيرة، تقتنص موافقته الحتمية في تلك اللحظة، متأكدة أنه لن يرفض لها طلبًا:

-نفسي اروح سينما يا سولي، ممكن نخرج أنا وانت بس النهاردة؟!

-سينما؟!

تساءل باستنكار ملحوظ، فهزت رأسها تستعطفه، والحزن المصطنع يغمر وجهها ونظراتها التي شابهت نظرات قمر ابنته، داعبت قلبه بلطف، تجاهل كل هذا الضغط، ورد بصرامة:

-لا ماليش في الكلام ده، ماتطلبيش كده مني تاني، ممكن نروح مطعم.

نظرت إليه بوجهٍ عابس وعدستيها يغمرهما التحدي لما تتمناه في تلك الفترة.

                               ****
لم تعلم متى غرقت في نومها لدرجة أنها تقلبت بين كوابيس بشعة، زادت من ظلمة فؤادها المسكين، سرت رجفة في جسدها، وهي تتقلب في فراشها يمنيًا ويسارًا، تبحث عن مأمن من تلك الأحلام القاسية، ولكن برودة جسدها جعلتها تعود تدريجيًا إلى أرض الواقع، ففرقت جفنيها بصعوبة بسبب ما أصابهما من انتفاخ نتيجة بكائها الذي لم ينقطع حتى أثناء نومها.

لكن لماذا يتردد في أذنيها صوته؟ حاولت هز رأسها، تفرض سيطرتها على عقلها في نسيانه ولو لفترة قصيرة، تستعيد بها ذاتها، كي لا تقع أسيرة في قلعته للأبد، مالت نفسها للتحرر والفرار بما تبقى لها من ذاتها، كي تحاول إصلاحه بعيدًا عنه وعن علاقة أيقنت أنها أصبحت مرضية ومزعجة!

-أنا مش ههدى خالص يا حاجة أمل لو سمحتي، أنا عايز مراتي.

التفتت بوجهها بصدمة بالغة نحو باب غرفتها، تحاول جذب أطراف التركيز بعدما انفلتت من يدها، وبعد ثوانٍ، استمعت لصوت والدتها تحذره بنفاد صبر:

-يا نوح اللي أنت بتعمله غلط وماينفعش.

إلى هنا، نهضت بفزع كمَن لسعه عقرب سام، وتوجهت دون دراية بنفسها وبما ترتديه من قميص بيتي قصير يصل لركبتيها بلون زهري، وشعرها مسدل فوق ظهرها بفوضوية بالغة، فتحت باب غرفتها بقوة، غير مصدقة وجوده، فقالت بصدمة:

-نوح؟!

التفت لمصدر الصوت، وتضاربت مشاعره عندما رآها بهذا الشكل الذي خطف أنفاسه لرحلة قصيرة، خرج منها سريعًا حين صدمته بقولها الجامد:

-أنت بتعمل أيه هنا؟!

هنا تحول من سكونه اللحظي واستطاع النجاة من قوقعة غرامه بها، حين قال بجمود مماثل:

-جاي آخدك يا هانم أنتي ولينا عشان ترجعوا بيتكوا، هو أنا مش قولتلك أني مش هطلقك؟!

-بس أنا مابقتش عايزك.

ردت ببساطة قاصدة استفزازه، ففقد أعصابه لدرجة أن صوته صدح بجنون في أرجاء المكان:

-مش بمزاجك، أنا مش لعبة في ايدك، وقت ما تعوزيها تمسكي فيها ولما تزهقي ترميها، فوقي.

اقتربت منه، وهي لا تبالي بهيئته الشرسة إطلاقًا، ما يتردد أمامها هو رؤيته ومعه تلك الحسناء:

-اعتبرني عيلة وغلطت وبصحح غلطي.

كاد أن يمسك رأسها ليهشمه من شدة غضبه، فكور يده بقوة، يحجم غضبه بقدر ما يستطيع، رد بتهديد:

-حلو هتستحملي تبعدي عن بنتك يا هانم؟!

ظهر صوت الحاج فاضل في الأجواء فجأة، ويبدو أنه عاد سريعًا من عمله عندما علم من حارس البناية بمجيء نوح، وذلك وفقًا لتعليمات الحاج فاضل له:

-ماتقدرش تاخد بنتي ولا حفيدتي مني يا نوح، وقولتلك قبل كده أنا اللي هقف في وشك!

ثم استدار نحو ابنته ينهرها بصوت غاضب، يضغط فوق حروف كلماته بكل قسوة، يصفع بها عقل نوح:

-ادخلي استري نفسك، ماتقفيش قدامه كده، ده بقى واحد غريب عنك.

فصاح نوح بتبجح، وهو يشتبك مع نظرات "فاضل" في معركة شرسة:

-غريب مين أنا جوزها!

رمقه فاضل باشمئزاز، وهو يرمي بثقل كلماته في وجهه:

-مايشرفنيش إنك تبقى جوز بنتي.

مال ثغر نوح ببسمة ساخرة مستفزة، وهو يقول بلا مبالاة مقصودة:

-دي مشكلتك مش مشكلتي، أنا مطلقتهاش ولا هطلقها، مراتي وبنتي هاخدهم بالذوق بالعافية هخدهم منك.

أشار "فاضل" إلى الباب، صائحًا بغضب:

-اعلى ما في خيلك اركبه، ويلا من غير مطرود.

ألقى نوح نحوه نظرة تحدٍ، قبل أن يوجه بصره نحو زوجته الواقفة بسكون تام، تغلق عينيها عما يجري، وكأنها ترفض واقعها الأليم!

غادر نوح رافعًا رأسه، والتحدي يتدلى من حافة عينيه التي صوبها لفاضل وزوجته، التي على ما يبدو أن عدم الرضا يلوح في أفق عينيها، فاستمع لصياح فاضل لها بصوت جهور:

-الانسان ده مايدخلش بيتي تاني فاهمة ولا لأ.
                                 ****
استغلت "حسناء" فراغ غرفة نوح في العيادة، ودخلت بحجة تنظيفها وترتيبها سريعًا قبل أن يعود نوح ويبدأ عمله المتراكم مع المرضى بسبب إجازته المفاجئة بالأمس، أخرجت الأعمال السحرية التي سهرت والدتها المشعوذة على إعدادها بإتقان، ووقفت حائرة تتطلع هنا وهناك تبحث عن مكان خفي لتضع الأعمال فيه، حتى وجدته بالفعل وبدأت بوضعها بسرية تامة، متغافلة عن أمر الكاميرات الموضوعة بزاوية معينة في الغرفة.

سمعت صوت نوح بالخارج، فهندمت ثيابها سريعًا لاستقباله وتظاهرت بترتيب المكتب حتى دخل، ألقى نظرة نحوها يغمرها البرود، ثم توجه نحو كرسيه، يفتح حاسوبه والعبوس يحتل وجهه، متحدثًا بنبرة جادة:

-دخلوا أول حالة، واعملوا قهوة سادة.

لمعت عيناها بوميض الاهتمام، وسألته بنبرة رقيقة:

-مالك يا دكتور حاسة انك مش افضل حالاتك.

رفع وجهه يطالعها بنظرة مستفزة وبسمة سمجة، بعد أن وصلت يسر لمبتغاها وكره صنف النساء بأكمله!

-أنا فعلاً في أسوأ حالاتي، فـ مش عايز أي وجع دماغ، وتلاشوني خالص.

رمشت عدة مرات بحرج، ثم قالت بنبرة مصرة على غمرها في بئر الدلال، علها تسرق انتباهه لهيئتها الجميلة وثيابها الأنيقة وعطرها الفج الذي وضعته بكثرة استعدادًا لرؤيته:

-حاضر يا دكتور، أهم حاجة متكونش متضايق، أنا يهمني إنك تكون مرتاح.

ثم توجهت سريعًا إلى الخارج قبل أن تتلقى توبيخًا آخر منه، بعدما اعتقدت أنها نجحت من وجهة نظرها في وضع أساس خطتها للإيقاع به!

                              *****
وقفت فاطمة بجانب سيرا في شارع منطقتهما، تنتظران استكمال مجيء عائلة سيرا بعد أن فاجأتهم بشراء تذاكر للسينما متحججة بأخذ أول مرتب شهري لها مقدمًا وتثبيتها في عملها، تظاهرت أمامهم بحاجتها للاحتفال معهم، وحجزت لهم جميعًا تذاكر عدا والدها ووالدتها اللذين يرفضان تلك الأمور، أما زوج شاهندا أصر على ذهابهم بـ"ميكروباص" يملكه صديقه كي لا يكلف سيرا فوق طاقتها، مكتفيًا بذوقها وترفيهها عليهم.

مالت فاطمة نحو سيرا تهمس بعدم رضا:

-يزن ده هياخد صدمة عمره!

رفعت سيرا أحد حاجبيها باعتراض وهي تقول بخفوت:

-حاسة إنك متعاطفة معاه! انتي من امبارح بتغلطيني من تحت لتحت في أيه؟!

-أيوه عشان عماله تسوحي في الراجل وهو وقف جنبك كتير وآخر مرة انقذني، مرة تشتغليه وتبعتيه على الكافية يتلسع بالساعتين هناك واتحججتي بعيال اختك هما السبب وإنك ماتعرفيش حاجة! لكن المرة دي يا سيرا هتقوليله إيه ده انتي واخدة الفريق القومي كله معاكي!

عقدت سيرا ذراعيها أمامها ترفض ما ترمي إليه صديقتها، مُصرة على رأيها:

-ومحدش قاله يفكرني بنت سهلة وعايز يخرج معايا، وبعدين هو أنا هرمي أهلي عليه، أنا أصلا مش هعبره! بس يتلم وميفكرش يطلب مني كده تاني.

ضحكت فاطمة بسخرية وهي تقول:

-يا خرابي عليكي، عليا يا سيرا، انتي بتشدي وبترخي، من الآخر بتعلقيه بيكي بس بالأدب.

-أنا!

تظاهرت سيرا بالاستنكار وهي تشير نحو نفسها، ثم قالت بنفي كاذب:

-خالص، أنا فعلاً مش عاجبني أنه بيلف ورايا كده، فبديله على دماغه بس.

صدح صوت أبلة "حكمت" في الاجواء وهي تقول بنفاد صبر:

-ما يلا يا سيرا أنتي والفنانة خلينا نوصل بدري.

فهتفت كريمة خلفها بحماس والبسمة تخترق وجهها:

-اه يلا خلينا نشتري فشار...

شهقت أبلة حكمت وهي تقول بتوبيخ حاد:

-فشار أيه، فلوسكم كتيرة ياختي منك ليها، أنا عاملة فشار اهو في أكياس.

-أيه! يا نهار أسود لا يا ابلة عشان خاطري، ماتطلعيش الكيس ده أبدًا، أنا هجبلكم على حسابي فشار!

ضربت أبلة "حكمت" كفيها ببعضيهما وهي تقول بعدم رضا:

-وليه التبذير ده بس..

قاطعتها ابنتها "دهب" وهي تصيح بضيق:

-ما خلاص يا ماما بقى، خلينا نروح وهناك اللي يحصل يحصل بقى، انا زهقت من القعدة، ادخلي يا خالتوا يلا.

دخلت سيرا هي وفاطمة، والقلق ينتشر في صدرها خوفًا من تصرفات أبلة حكمت تحديدًا، داعية الله أن تمر تلك الرحلة البائسة مرور الكرام، نظرت للخلف، فوجدت أخواتها الفتيات وأزواجهن يضحكون بحماس، حولت نظرها لفاطمة وهمست تستنجد بها بلطف:

-فاطمة، أبلة حكمت ماتغبش عن عينك، عشان مانروحش في داهية.

همست فاطمة بنزق:

-ولو شافت يزن ده، اعمل أيه؟!

-لا يالهوي دي مش هتسيبه خالص، اوعي يا فاطمة الزقي فيها عشان خاطري وأنا هتصرف.

قالتها سيرا برجاء خافت، استفز أبلة حكمت التي أطلت برأسها تسألهما بفضول:

-ياختي بتقولوا أيه من الصبح، ما تحكولي يمكن أفيدكم.

تبسمت فاطمة وهي تقول:

-بقنع سيرا ناكل من الفشار اللي أنتي عملتيه يا ابلة.

أخرجت " أبلة حكمت" حقيبة بلاستكية سوداء كبيرة وهي تشير ببسمة كبيرة:

-شوفتي نصاحة اختك!

بلعت سيرا لعابها بصعوبة، والإحراج يغزو وجهها من تصرفات أبلة حكمت البخيلة، مغلقة عينيها بنفاد صبر.

في الصالة الخارجية، وقف يزن جانبًا يبحث عن سيرا بين الجمع المتواجد بإحدى المولات الشهيرة، وبين الثانية والأخرى ينظر في ساعته بعد أن تأخرت قليلاً عن موعدهما المتفق عليه، حتى وجدها أخيرًا تظهر من البوابة الكبيرة لصالة الانتظار ومعها صديقتها، ثم توسعت عيناه تدريجيًا حين وجد أبلة حكمت وبعض الأشخاص الذين لم يتعرف عليهم، وكأنهم في رحلة جماعية بدخولهم المثير للانتباه.

وقف مكانه بصدمة ولم يتحرك، أو بالأحرى فشل في تحديد قراره، حتى تقابلت أعينهما معًا، وجاء الرد من خلال رسالة من قبلها:

" أسفة معايا عيلتي، يا ريت تقدر موقفي، هبقى افهمك بعدين" 

أخرج تنهيدة مثقلة للغاية من صدره، وحسم قراره بعدم التقرب منها الليلة فقط منعًا لإحراجها، نظر للتذاكر بيده بحسرة كبيرة، وها هو يترنح من فوق جبل الأماني ليسقط بقاع الواقع الذي يرفض التآلف بينه وبينها! وكأنه أصيب بتعويذة سحرية أصابته بالتعاسة مع الفتيات، ولكن لا، فهو حظه جيد مع جميع الفتيات، ولكن لِمَ هي تحديدًا يتعثر كالطفل حين يقرر أن يحبو في جنانها؟!

حاول أن يتوارى عن الأنظار ودخل الفيلم بعدما دخلوا جميعًا، يراقبها عن كثب مع عائلتها، ولكنه صُدم بوجود سليم أخيه وشمس معًا في إحدى الجهات، فابتسم بتسلية كبيرة، وترك متابعة الفيلم، وبقي ينتقل بنظراته بين سيرا وعائلتها وسليم الذي يبدو عليه الحنق والاعتراض لوجوده في مثل هذا المكان!

                              ****
بعد ساعتين...

خرج الجميع من صالة السينما، وإلى هذا الحد كان الرضا والراحة يغمران قلب سيرا بعدم تعرض يزن إليها وخطتها تسير كما هي، ولكن ما أثار قلقها هو اختفاؤه عن أنظارها فعلى ما يبدو أنه غادر! فمالت بحماقة تقول:

-الله هو راح فين؟!

-هو مين ده؟!

استمعت لصوت "أبلة حكمت" بجانبها، فارتسمت صدمة بالغة بملامحها وحاولت تجميع شتات نفسها بعد أن ظنت أن التي بجانبها هي فاطمة:

-أقصد...فاطمة فين؟!

تظاهرت بالبحث عنها، فأشارت " أبلة حكمت" بإهمال نحو إحدى الجهات:

-قالتلك أنها رايحة الحمام يا مسطولة.

-اه اه، أنا رايحلها لغاية ما تجمعوا نفسكم.

تركتها سيرا سريعًا وهي تحمد الله أن حماقتها لم تسرق انتباه أبلة حكمت نحوها، وتوجهت لدورة المياه تبحث عن صديقتها حتى وجدتها.
خرجتا معًا للبحث عن الجميع، ولكن اعترض طريقهما شابان حاولا التحدث معهما إلا أنهما تظاهرتا بالتجاهل، حتى تشجع أحد الشابين وأمسك بيد سيرا كي يلفت انتباهها فصاحت به بقوة تبعده عن طريقها، تضربه بحقيبتها عدة ضربات بشراسة، وفي المقابل ساعدتها فاطمة بحقيبتها هي الأخرى حتى أظهر أحدهما آلة حادة صغيرة يستخدمها في الشجار قاصدًا إخافتهما مستغلاً فراغ المكان من الأناس ووجود السيارات  الفارغة في موقف الانتظار!

تراجعت سيرا وفاطمة معًا بخوف، ولكن سيرا هتفت بنبرة غلفتها بقشرة رقيقة من الثبات:

-ابعد أحسنلك.

-وإن مابعدتش يا بطل هتعملي أيه؟!

تلقى الشاب لكمة قوية جاءت من العدم في وجهه اوقعته أرضًا، فتوسعت أعين سيرا بصدمة حتى اطمأن قلبها قليلاً لوجود يزن من العدم: 

- بوفيتك، هعملك بوفتيك يا روح أمك.

قالها يزن بشراسة ضمنية، فتحمست فاطمة وهمست بجانب أذن سيرا التي استشعرت الخوف عليه:

-الهيرو ظهر من العدم.

لم تبتسم سيرا على تعقيب صديقتها، بل صرخت بقوة حين وجدت الشاب الآخر يظهر سكينًا حادًا صغيرًا وبدأت المشاجرة بقوة....
                            **** 
في إحدى الجوانب بمكان الانتظار وتحديدًا داخل سيارة سليم، جلست شمس تدندن بكلمات أغنية تحت أنظار زوجها الحانق وعدم رضاه الواضح، ولكنها تجاهلته حين نجحت في تنفيذ مبتغاها، ففتحت زجاج السيارة من ناحيتها بينما هو بدأ يتحرك بـبطء:

-ما تيجي يا سولي، نقفل اليوم قفلة حلوة وناكل أيس كريم.

فتح فمه يرفض اقتراحها كعادته، فهو يبغض التجمعات والأماكن العامة، يكره أن يكون تحت الأنظار، ولكن صرختها اخترقت أذنه حين قالت:

-سليم، الحق يزن بيتخانق هناك اهو. 
ازاي يا سليم، يعملوا فيكم كده؟!

رفع "سليم" عيناه المستشاطة غضبًا واكتفى بنظرة ساخطة نحو "يزن" المُلقى بجانب والدته ممسكًا برأسه متألمًا، فصاح "زيدان" بغضب للمرة الثانية على التوالي:

-الكلاب اقسم بالله ما هسيبهم أبدًا.

أخيرًا، خرج صوت "سليم" متحدثًا بقسوة وعيناه تشتد ظلمة:

-أنا كان ممكن ألم الموضوع وده كله مايحصلش، بس ماحستش بنفسي لما لقيت يزن اضرب، فنزلت عجن فيهم.

نطق آخر حديثه بنبرة سوداء ساخرة، لكن ابتسامتها التي أضاءت له في عتمته استفزته كثيرًا، خاصةً أنه يعلم تمام العلم أن ابتسامتها تخفي وراءها الكثير من السخرية، بعد أن سلطت بصرها على الكدمة الحمراء بجانب عينيه، وقد تأكدت له ظنونه حين نطقت بصوتها الهامس وهي تميل نحوه، تخصه بلهجة متشفية:

-شوفت اللي بيجي عليا، مابيكسبش أبدًا يا...سولي.

احتدت نظراته نحوها، بينما تراجعت بظهرها والتسلية تعبر بقوة فوق ملامحها، وكأنه لمح شيئًا من السعادة لما مر به اليوم! زفر بحنق محاولًا الابتعاد عن التفكير بها وبتصرفاتها الطفولية التي كادت أن تصيبه بالجنون.

انتبه "سليم" إلى شجار قائم بين كلاً من "زيدان" و"يزن"، حتى ارتمى "يزن" مرة أخرى في أحضان والدته يئن متألمًا:

-اه يا ماما، المفتري ابنك جاي عليا بزيادة، يا أخي خلي عندك دم.

ثم فتح نصف عينيه، ينظر إلى "مليكة" الجالسة بجانب "زيدان"، تُبدي تعاطفها معه:

-ما تجبيله كيسين من بنك الدم يا مليكة، وتعملي فينا معروف.

فلتت منها ضحكة صغيرة، لكنها سرعان ما دفنتها بسبب توهج عيني "زيدان" نحوها، وقوله:

-والله ما في حد غيرك ماعندوش دم، بسببك اخوك الكبير اتضرب.

-حسن ملفظك، الواد اخدني على خوانة مش أكتر.

اخشوشنت نبرة "سليم" متجاهلًا النظر إليها بعد أن لمح شبه ضحكتها، وما أنقذه هو قول "يزن":

-يا عم أنت نفسك لو كنت موجود كان زمانك اتطحنت دول عشرة على اتنين، ده كويس اننا طلعنا بخير من الحوار ده!

ربتت "منال" فوق ظهر "يزن" بحنان ممزوج بعتاب اصطحبته نبرتها:

-شوفت يا يزن أخرة حوارات البنات! عالله تكون عقلت وربنا يهديك.

حمحم بحرج قائلاً وهو يعدل جلسته:

-يا ماما صدقوني أنا بريء، المرة دي بجد مكنش معايا بنات والله، دول بنتين شوفتهم بيتعرضوا لموقف زبالة وأي حد مكاني كان عمل كده.

-يا سلام وطالما أنت ماكنش معاك بنات، رايح السينما ليه لوحدك؟! عليا بردو!

قالها "زيدان" بسخرية لاذعة، فوجه "يزن" حديثه بنفاد صبر لـ "شمس" يسألها:

-شمس أنتي شوفتي معايا حد يا بنتي؟؟

-لا خالص كان لوحده.

قالتها ببسمة متحفظة، بينما ركز "سليم" ببصره عليه بقوة وكأنه يخبره بعدم تصديقه، لكنه ظل ساكنًا حتى نهض وتقدم نحو "يزن"، مشيرًا إليه ليتبعه، تجاهله "يزن" عن قصد وظل يتألم، عله يجذب خيوط الشفقة لديه، ولكن الفشل كان حليفه حين أحس بقبضة "سليم" القوية تستقر فوق ذراعه، تجذبه بقوة وصوته المبطن بالهدوء أثار الذعر في نفسه:

-قوم ادخلك جوا اوضتك، أكيد دايخ دلوقتي، من الخبطة اللي اخدتها على دماغك.

-الحنية دي مش متطمنلها، سيبني هنا أحسن، أنا ناقصني حنان الأم.

توقف "سليم" لحظة، يهتف ساخرًا:

-وحنان الأخ؟!

امتعض وجه "يزن" وهو يجاهد الفرار من قبضة "سليم" القوية:

-لا مابحبوش بيقلب معدتي.

تجاهله "سليم" عن قصد وحاول التحرك، لكن تشبث "يزن" بموقفه، مستخدمًا قوته للفرار من عرين أخيه الأكبر:

-أيه يا سليم أنت بتجر وراك ابن اختك، شكلي يا أخي قدامهم.

نجح "سليم" أخيرًا في تحريكه حتى وصلا إلى داخل غرفة "يزن" وأغلق الباب خلفه وهو يقول باستهجان ملحوظ:

-وأنت بتحافظ على شكلك اصلاً!

تصنع "يزن" الصدمة وهو يردف بنبرة مبطنة بالسخرية:

-ليه وشي باظ؟!

نهره "سليم" بقوة وهو يقسو في كلماته، ونظراته الغاضبة تشمل ملامح "يزن" الباردة، مما أثار القلق في نفسه:

-ماتستعبطش، انت فاهم كويس أنا اقصد أيه؟!

زفر "يزن" بقوة وهو يضرب كفًا بآخر في اعتراض قوي مماثل:

-احلفلك على المصحف إن أنا مكنش معايا بنات عشان تصدقني، ربنا يسامحك يا زيدان الكلب هو اللي حط الفكرة دي في دماغك.

لكزه "سليم" في كتفه والغضب يتطاير كنيران من نبرته ونظراته:

-ليه شايفني عيل بيصدق أي حاجة بتتقاله، ده أنا حافظك صم وشوفتك بعيني.

للحظة، أصابه توتر بسيط، لكنه سرعان ما أظهر عكس ذلك بمهارة لا يمتلكها إلا هو:

-أكيد كان متهيألك صدقني، دي تهيؤات، بتحصل ساعات.

رفع "سليم" حاجبيه من إصرار أخيه على الفرار من صلب الموضوع، على الرغم من أن هذا لم يكن طبيعته من قبل؛ فقد كان أكثر جرأة وحماقة، ودائمًا يرى ارتباطه بالفتيات أمرًا غير معقد بالمرة، عكس هذه المرة، حيث يبعد الشبهة عن هذه الفتاة بأي طريقة، لذا عقد ذراعيه أمامه وكان أكثر وضوحًا وهو يقول:

-مش دي البنت اللي جت قبل كده المحل عندنا عشان سلسلتها! والخناقة النهاردة كانت بسببها بردو.

لوهلة، أحس بالضيق عندما نجح "سليم" في كشف الستار عنه، لكنه حرك كتفيه بلا مبالاة مقصودة وهو يتحرك نحو فراشه ليجلس عليه:

-صدفة! مجرد صدفة مش أكتر.

استدار "سليم" خلفه وهو يقول بنبرة يغمرها الضيق:

-يا سلام والمفروض أني اصدقك، انكوا اتقابلتو صدفة!

رفع "يزن" عينيه بتجهم واضح، فالتف حبل السخرية حول صوته قائلًا:

-اه زي ما قابلتك صدفة بردو، وانت استحالة تروح سينما وحصلت عادي يعني!

نفد صبر "سليم"، فتلفظ حروفه بشراسة ضمنية:

-ماتلفش وتدور عليا، أنا مش صغير قدامك، علاقتك أيه بالبنت دي يخليك تتحمق ليها لدرجة دي!

نهض "يزن"، يجاهد فرض الهدوء مجددًا بينهما، رغم أنه افتقد لذلك في بداية حديثه:

-ولا علاقة ولا نيلة، دي معرفة سطحية جدًا، وموقفي واحد سواء معاها أو مع أي بنت بردو غيرها!

وقبل أن يفتح "سليم" فمه، سارع بفرض قوله:

-وبعدين انت شوفتها كلمتني ولا عبرتني حتى!

عقد "سليم" ما بين حاجبيه بعبوس وهو يقول:

-ما يمكن ده حوار ما بينكم؟!

ضحك يزن بسخرية على حاله، قائلاً:

-لا ماتقلقش هي محترمة مالهاش في الكلام ده.

استكانت ملامح "سليم" للحظة، لكنه ثار مرة أخرى يسأله بعبوس مبطن بالاشمئزاز:

-غريبة؟ يبقى كنت بتحاول تفرض عضلاتك قدامها، بتجذب انتباهها ليك يعني، ماجتش سكة كده، تيجي كده.

استنكر "يزن" قول أخيه، ونفض غبار الدناءة عن نفسه، حين قال بنبرة يملأها الغرور والترفع عن تلك الأفعال المشينة بحقه:

-لا حاسب مش يزن الشعراوي اللي يعمل كده، وبعدين انت ليه محسسني أني خسيس ودنيء كده، ده أنت يا أخي اللي مربيني وعارف أني شهم وجدع وبقف جنب أي حد.

تنهد "سليم" بنبرة ملؤها الحزن، مسلطًا الضوء على أمور يبدو أن أخيه الأصغر يتغاضى عنها:

-للأسف أنا فشلت في تربيتك، واوعى تكون فاكر أني مش حاطط عيني عليك.

رفع يزن حاجبيه معًا باستنكار وهو يقول:

-متراقب يعني؟! أنا كبرت على الكلام ده يا أبيه!

تغاضى "سليم" عن سخريته المقصودة واحتدت نظراته وصوته الغاضب، الذي استخدمه كسوط شرس يهبط به فوق عقل "يزن" الغائب عن أمور تمس الشرف والسمعة:

-لا يكون في علمك مفيش حد كبير عليا، وأي غلطة يا يزن هتحصل تاني من ناحيتك صدقني هيكونلي حرية التصرف في حياتك زي ما أنا عايز وبالشكل اللي أنا شايفه صح! 

اتسعت ابتسامة "يزن" بتهكم وهو يقول:

-وأنا أعمل أيه؟!  المفروض ابصم يعني على كلامك ده؟

اقترب "سليم" من الباب كي ينهي ذلك الجدال المرهق بقوله الحاد:

-أعلى ما في خيلك اركبه، أنا صبرت عليك كتير، يمكن تعقل وتهدى، بس خلاص صبري نفذ ومابقتش قادر استحمل تصرفاتك, تصبح على خير يا محترم.

زفر "يزن" بقوة وهو يرى أخيه ينهي الجدال حينما أراد ، فقال بعصبية طفيفة:

-دي مكنتش خبطة اخدتها في عينك، هتعملي حوار عليها يا سليم!

لم يجبه "سليم"، بل أغلق الباب خلفه. زفر "يزن" بقوة، وهو يخلع حذاءه ملقيًا إياه أرضًا بعنف:

-ده أيه القرف ده!

ثم تنهد عدة تنهيدات متتالية وكأنه يجذب أطراف الهدوء إلى صدره المشحون، والسلام إلى عقله الثائر بسبب تهديدات "سليم" المستمرة، فتلك الفتاة تحديدًا لم يتوقع أن تكون غريبة الأفعال؛ لقد احتار حقًا في التعامل معها، ولأول مرة في تاريخ تعامله مع الفتيات، تقود فتاة العلاقة بينهما، فيصبح هو التابع لها، ينتظر أفعالها وتقربها منه!

وعند هذا الحد، عاد بجسده للخلف وأغمض عينيه بقوة يحاول تصفية ذهنه ليجد طريقه في التعامل معها! بالرغم من أنه شعر بالضيق لتجاهلها له وتركها له أثناء العراك، عندما لاذت بالفرار مع صديقتها دون أن تطمئن عليه، بل تجاهلته عن قصد عندما لم تُجرِ حتى اتصالًا به!

                            ****
في اليوم التالي...

غابت غريبة الأطوار عن أنظاره طوال اليوم، فهدمت آماله في لقائها، انتظر مرورها ككل صباح، لكنها اختفت فجأة حتى ظهرت تتبختر في مشيتها أمامه من أول الطريق، متظاهرة بتجاهله، زادت وتيرة الغيظ لديه من تلك الغامضة، فراقب مشيتها البطيئة بتمعن وتركيز حتى دخلت باب البرج الكبير. 
خطا خلفها بخطوات واسعة حتى استطاع إمساكها وإيقافها قبل أن تصعد أولى درجات السُلم، استدارت بجسد متشنج وعيون تصرخ بالغضب بسبب طريقته في الإمساك بها، قال ببساطة ونبرة خافتة:

-اهدي أنا يزن.

نظرت له وكأنه أبله بسبب محاولته تهدئتها، ثم قالت بصوت مشحون بالضيق والسخرية معًا:

- المفروض إن أنا كده اهدى يعني؟! اسمك مهدأ فعلاً.

رفع حاجبيه من سخريتها الواضحة وقرر استفزازها بمواجهتها التي تجاهد في الفرار منها:

-هتغاضى عن تريقتك، بس عايز أعرف أنتي صح كده لما تتجاهليني؟!

ظلت ممسكة بعصا التجاهل، وردت بعتاب وهي تضم ذراعيها أسفل صدرها:

-يا أستاذ يزن مش عيب تيجي ورايا كده!

رمقها باستهجان واضح والتقت عيناه بعينيها، التي انتقلت بحرية في كل مكان إلا النظر إليه:

-أستاذ يزن؟! مش ملاحظة إنها مش في محلها يا.... يا أنسة سيرا.

تحفظت بملامح باردة وهي تجيبه بابتسامة سمجة، عكس مشاعرها التي كانت تتراقص بعنفوان نظرًا لملاحقته لها، فنما لديها شعور بالسعادة حين أحست ببوادر تحقيق مرادها:

-ليه مش في محلها، بالعكس حفظ الألقاب مفيش أحلى منه!

سخر منها بصوت خشن مقصود وعيناه تنضحان بالضيق بسبب مراوغتها:

-ألقاب؟! وده بعد أيه بقى؟!

تظاهرت بالملل وزفرت بعبوس، مردفة:

-أنت ليه محسسني أني حبيبتك وبتهرب منك! ما تفوق يا يزن.

عقد ذراعيه أمامه مثلها وكأنه يمتهن نفس طريقتها، ورد بوضوح ممزوج بغرور، الذي أحيانًا يزعجها:

-أولاً أنتي لو حبيبتي ما تقدريش تتهربي مني، لإن القرب مني جنة والبعد عني جحيم، ثانيًا أنا فايق أوي يا سيرا وعارف أنا بعمل أيه، ثالثًا يزن طالعة من بوقك عسل، شفتي حفظ الألقاب مالوش مكان ما بينا ازاي، كان عندي حق صح؟

تمردت بعنفوان أنثوي وهي تشيح بيدها بأسلوب نافر:

-حق في أيه بالظبط!، اصل أنا جالي كرشة نفس من كم الغرور اللي أنت بتتكلم بيه؟! وحقيقي ماعرفش أنا واقفة بتناقش معاك في أيه؟ ما تخليك صريح معايا ودوغري عشان نرتاح.

اقترب خطوة منها، ونظر في عينيها مباشرةً، وبصوت هامس يحمل نبرة التحدي قال:

-حلو لعبة أنك مش فاهمة حاجة وغبية و....

أوقفته حين ردت عليه بتحدٍ وعناد ساخر:

-شتيمة كمان وهصوت والم عليك البرج واتهمك باتهامات تهدد سمعتك!

اتسعت ابتسامته وهو يفتح ذراعيه مرحبًا بأي تهمة تلصقها به في سبيل الاقتراب منها والسبر في أغوارها أكثر بعد أن نجحت في استفزازه:

-دي حاجة تسعدني على فكرة! 

رمشت بأهدابها وهي تنظر له بحماقة:

-هو أيه ده؟!

رد برعونة وابتسامة سمجة تعلو شفتيه، مقتربًا خطوة أخرى غير عابئ بنظراتها المستنكرة لاقترابه الواضح منها:

-أكون متهم معاكي في حاجات تهدد سمعتي.

أنهى كلامه بغمزة من طرف عينه، فقست ملامحها وهي ترمقه بإعجاب ساخر في آنٍ واحد:

-لا بقى ده أنت بايع القضية!

نجحت في إبعاده عن مراده، لكن سرعان ما أدرك خطتها الخبيثة حين أحس ببوادر هروبها، عاد مرة أخرى وصوب نحو مرماها بهدف واضح، حين أمسك بمرفقها في حركة استغربها حين خرجت منه بعفوية لم يقصدها:

-ماتصلتيش امبارح ليه تفهميني الموقف السخيف اللي عملتيه فيا!

دفعت يده بقسوة رغم توترها البادي على وجهها وحذرته بلهجة واضحة، وكأنها لم تأبه لانفعاله البادي على وجهه هو الآخر من طريقتها الحادة معه:

-ايدك لو فكرت تلمسني هقطعهالك، وبعدين موقف سخيف أيه! هو أنا لما أروح مع أهلي سينما دي حاجة ضرتك في أيه معلش!!

رفع أحد حاجبيه بتحدٍ، وأمسك بها كالفأر حين نصب له مصيدة، تساءل بقسوة:

-اه يعني قاصدة الحركة دي؟!

أشارت إلى نفسها ببراءة، فتحولت نبرتها فجأة إلى الاستعطاف:

-أنا؟!

ثم عادت بسرعة تبرر وكأنها قطة تستعطف صاحبها:

-أبدًا، كل الحكاية إن أنا اتدبست انهم يجوا معايا، فمعرفتش اسيطر على الموقف بس مالحقتش افهمك عشان ماتروحش!

لم تؤثر طريقتها فيه، فرد بتهكم طفيف:

-معقولة الفريق القومي ده كله كان عايز يروح معاكي!

ألصقت عنوةً ابتسامة ظريفة فوق شفتيها وهي تجيب بعناد:

-اصل احنا أسرة مترابطة شوية، وبعدين دي حاجة ماتخصكش!

احتدت نبرته قليلًا وهو يواجهها، ملقيًا كافة اللوم على عاتقها بسبب ما حدث بالأمس:

-بس اللي يخصني إنك أقل تقدير ليا تفهميني، أو مثلاً يا شيخة تقفي تتطمني عليا بعد ما كنت بتخانق علشانك!

ردت بحماقة يقبع خلفها ضحكة كبيرة، لو أخرجتها لظهر تهاونها معه:

-إيه ده انت اتخانقت علشاني!

رفع حاجبيه من طريقتها المستفزة معه، وزادت نبرته الساخرة خشونة:

-لا علشاني أنا، أصلهم كانوا بيعاكسوني أنا!

حجمت من ابتسامتها، وعيناها مضيئتان مستمتعتان بتلاعبها به:

-طيب بعد كده ماتمشيش في أماكن ضلمة لوحدك، حافظ على نفسك.

استدارت بخفة لتصعد الدرج هربًا من حصاره، إلا أنه رفض وأسرع بخطوتين، فتبدلت أماكنهما:

-ماتستعبطيش، احنا لسه مخلصناش كلامنا، أنا قولتلك إني عايز نخرج مع بعض واتكلم معاكي، يعني الموضوع مخلصش.

قبضت كفيها بقوة تكتم غضبها من استسهاله في التعامل معها، لكنها أظهرت عكس ذلك؛ بدت هادئة، وشفتيها تحملان ابتسامة صغيرة، بينما انسدل ستار الغموض على عينيها:

-تمام مفيش أي مشكلة، ممكن نتقابل يوم الجمعة تمام.

انكمشت ملامحه بقلق وهو ينظر إليها بتمعن:

-انتي بساطتك وانتي بتديني الميعاد مش مطمنلها!

همست بنعومة بالغة، متقنة البراءة ببراعة أثرت على تفكيره:

-ليه بس ده أنا حتى طيبة اوي.

نظر في عمق عينيها اللامعتين، وخفض صوته، فحملت نبرته نغمة رجولية هينة داعبت فؤادها المتأهب لأي حركة تصدر منه، متعطشًا لأي كلمة تروي جفافه:

-بس عينك بتقول عكس كده.

توترت قليلاً، لكنها تمالكت نفسها أمام حصاره:

-عـ...عيني.

استغل ارتباك صوتها وعينيها المهزوزتين، ودفعه ذلك إلى مخاطبتها بلطف وحنان ممزوج بنكهة خاصة يعرفها وحده:

-اه عينك بتقول الغاز بحاول افكها، انتي مش الشخصية البسيطة اللي بتحاولي تبينها!

كادت تنهار أسوارها أمامه، لكنها اختبأت خلف سور الحنق قائلة بانفعال:

-قصدك إن أنا معقدة، ماسمحلكش!

لم يتخلَ عن أسلوبه الملتوي في سلب لب الفتيات، معتقدًا أنه حتى وإن عافرت، فحتمًا ستعلن استسلامها، فسألها بمكر:

-انتي عايزة أيه بالظبط؟!

زفرت بضيق، وشعرت بالاختناق من ضغطه عليها:

-عايزة اطلع شغلي عشان هاترفد.

اتسعت ابتسامته، وظهرت "غمازة" في وجنته لأول مرة لاحظتها، فهتف بمزاح:

-يا ريت وأنا هشغلك في ثواني عندي في الأجانص.

تهكمت بصوتها وملامحها الحانقة، وأرسلت رسائل الغضب لاعتماده أسلوب التأخير:

-هعمل زومبا للعربيات عندك ولا أيه مش فاهمة!

وبعدما ألقت مزحتها الساخرة، شعرت بقرب قدوم أحدهم من الطابق الثاني، فدفعت "يزن" بقوة فجأة حتى كاد يختل توازنه، ورفعت نبرتها عمدًا:

-انت عايز مني أيه! سيبني في حالي، لو سمحت أنا مش بتاعت كده، لو قربت مني تاني، هديك ألم على وشك يسمع في ودانك الحلوة دي!

اتكأ "يزن" بصعوبة على الحائط بجانبه، متعجبًا من أسلوبها المفاجئ، لكن عندما ظهر الحاج "أحمد" يهبط الدرج، اعتدل "يزن" في وقفته وبلع كلماته المندفعة التي كانت على طرف لسانه، هبط الدرج برأس مرفوع وجسد متشنج، متجاهلًا نظرات الحاج "أحمد" الذي بدا عليه الاستنكار الناري.

عندما غادر "يزن" عن أنظار الحاج "أحمد"، التفت الأخير إلى "سيرا"، التي كانت تستعد لصعود الدرج، فأوقفها بعصاه وقال مستفهمًا:

-اللي اسمه يزن ده عايز منك أيه؟

انسحبت الدماء من عروقها وهي تنظر إليه، محاولة إيجاد طريقة للهرب من غضب صاحب البرج، الذي كان واضحًا عليه، فأجاب بالنيابة عنها:

-أنا وصل لي أنه بيحاول يوصلك، بس أنتي مش مدياله فرصة.

هزت رأسها إيجابًا واكتفت بالصمت، فقال بحزم وضيق:

-خلاص يا بنتي اطلعي انتي، وأنا هحط له حد.

-شـ شكرًا.

همست بارتباك واضح وصعدت الدرج بسرعة لتختفي عن أنظار الحاج "أحمد"، الذي بدا مستاءً وغاضبًا، ولم تعلم أنه نوى الذهاب إلى "سليم الشعراوي" ليشتكي له تصرفات أخيه الماجنة من وجهة نظره.

بينما دخل "يزن" معرضه، كان الضيق يتفاقم بجنون داخله بعد تصرفها معه، حتى لو كانت تريد الحفاظ على سمعتها، كان أمامها ألف طريقة وطريقة للخروج من ذلك المأزق، متناسيًا أنه من وضعهما في ذلك الوضع الحرج بتتبعه لها وعرقلته إياها، أمسك هاتفه وأرسل لها رسالة نصية يعاتبها فيها:

"مكنش حلو أبدًا إنك تتكلمي بالطريقة دي وتبيني إني بجري وراكي، ووداني الحلوة اللي هتنزلي عليها بقلم، أنا قبلها هكون كاسر إيدك القمر يا قمر."

أغلق الهاتف وألقاه فوق مكتبه، مقررًا التركيز في عمله، ونوى ألا يظهر أمامها مجددًا، مقررًا دفن أمر سيرا برمته في طي النسيان، ولكن هاتفه أضاء برسالة، فقرأ محتواها وتفاجأ من جرأتها المستفزة في الرد عليه:

"زعلان ليه؟ ما أنت بتجري ورايا فعلاً."

كانت رسالتها بمثابة صفعة قوية هبطت فوق وجهه، ولأول مرة، تجرأت فتاة عليه وتلاعبت به كما تشاء، بينما هو كالأبله يركض خلفها!
فتوعد لها في سره، مقررًا رد الصفعة في أقرب وقت.

                            ****
فرك "نوح" جبينه بقوة، والإرهاق ترك آثارًا واضحة على وجهه الشاحب، أبعد يده عن وجهه وتابع دخول "حسناء" بابتسامتها المشرقة وهي تقدم له فنجان قهوة ساخن، نظر إلى الفنجان بتعجب، فأجابت برقة:

-أنا حسيت إنك محتاج قهوة.

رد باقتضاب، وهو يركز ببصره على حاسوبه الآلي:

-شكرًا، في حالات كتيرة برة.

أجابت بمهنية وتركيز شديد، ولكن ابتسامتها لم تترك ثغرها الوردي:

-لا في كام واحدة بس، بس في حالات انتظار على اتصال مننا.

رفع بصره إليها ورد بإرهاق وضيق مكتوم:

-لا ماتتصليش على حد، أنا فاصل النهاردة.

استندت على طرف المكتب بيدها وهي تردف برقتها، مبرزة اهتمامها به دون خجل:

-لا الصراحة بقى انت بقالك كام يوم فاصل.

رفع أحد حاجبيه وارتسم على شفتيه شبح ابتسامة مستنكرة:

-ده انتي مركزة بقى؟!

لم تخجل من نظراته، وتهكمه المبطن بكلماته، وأردفت بجرأة جذبت اهتمامه:

-وإن ماركزتش مع حضرتك، هركز مع مين، ده شغلي.

ترك قلمه وهو يستند بظهره على كرسيه، 
متسائلاً باستنكار ملحوظ وشبح ابتسامة إعجاب ظهر على شفتيه:

-شغلك؟!

هزت رأسها إيجابًا، وقالت بنعومة بالغة ونظرة إعجاب لم يخطئها "نوح":

-ايوة دوري إن اهتم بيك وبكل طلباتك ده في نطاق شغلي، زي ما حسيت إنك محتاج فنجان قهوة عملتهولك من غير ما تطلب.

ابتسم ابتسامة صغيرة، ناظرًا إليها بغموض أربكها قليلاً وهو يسألها:

-انتي مخطوبة يا حسناء؟!

اتسعت ابتسامتها عندما شعرت بقرب مرادها، فردت بحماس ظهر جليًا بنبرتها:

-لا ولا مرتبطة، بتسأل ليه يا دكتور؟!

-عادي، مجرد سؤال عادي.

هز كتفيه بلا مبالاة أحبطت شعلة حماسها، وهو يعود لمتابعة حاسوبه، ولكن صوت جلبة في الخارج أثار حفيظته وانتباهه، فنهض وتحرك ناحية الباب وخلفه حسناء، فتح الباب فوجد النساء المتواجدات في العيادة يقفن في حالة ارتباك، فمرر بصره بينهن بعدم فهم، حتى قالت إحداهن بإحراج:

-معلش يا دكتور، ابني كسر الحنفية اللي في الحمام، والدنيا متبهدلة جوه.

خطى خطواته نحو دورة المياه وهو يأمر حسناء:

-اتصلي على أي سباك بسرعة.

دخل "نوح" دورة المياه فوجد اندفاع المياه عاليًا، فحاول إغلاقها للوصول إلى محبس المياه المتواجد بجانبها، وعندما أنهى مهمته ابتلت معظم ثيابه ووجهه وشعره، وقف ينثر المياه عنه بضيق، حتى دخلت حسناء تهتف بلهفة:

-اتصلت على واحد وجاي حالاً.

أنهت كلامها بشهقة أنثوية خافتة وهي تمرر بصرها عليه، مقتربة منه غير عابئة بأي شيء سوى التقرب منه، فقالت بنعومة وخوف مقصود:

-يا خبر يا دكتور، انت كده هتبرد، معاك هدوم هنا اجبهالك تغير.

ابتعد خطوة للخلف بسبب اقترابها الشديد منه، وهتف بنفس نبرته الحانقة:

-لا مفيش.

تلكأت في سؤال داعب طرف لسانها، لكنها أفصحت عنه:

-طيب في حد في البيت نتصل عليهم، يبعتولك لبس.

-لا، أنا هنزل اروح أغير وخلاص.

كاد أن يخطو للأمام ولكنها منعته وعرضت عليه مساعدتها:

-طيب لو تحب أروح أنا البيت عندك، اجيبلك لبس، أصل مش هينفع تخرج برة كده، أنا خايفة عليك تاخد برد.

تأفف بضيق من هيئته وابتلال ملابسه، ففكر قليلاً قبل أن يأمرها بوجوم:

-روحي يا حسناء، روحي بسرعة، خدي المفاتيح من المكتب وخلي عم فتحي السواق يروح معاكي وهقولكم تجيبولي كام حاجة من هناك.

                            ***
وبالفعل، ذهبت "حسناء" مع السائق، لكنها منعته من الصعود معها رغم تنبيهات "نوح" لها بضرورة صعوده معها إلى الشقة، أخرجت المفتاح وأخذت نفسًا عميقًا قبل أن تدخل إلى الشقة، ثم مررت بصرها سريعًا لتتأكد من خلوها.

ابتسمت ابتسامة جانبية ساخرة، ممتزجة ببعض الحقد على "يسر"، ناعتة إياها بالحمقاء لتركها ذلك الغنى الفاحش وافتعال المشاكل مع زوجها، فلو كانت مكانها لفعلت له الأهوال!

فهمست بحقد وقهر:

-النعمة بتيجي في إيد اللي ما يستحقهاش!

دخلت إلى غرفة النوم وبدأت تبحث بها حتى اصطدمت بوجود ثياب "يسر"، فهمست مجددًا بغيظ:

-دول لسه ما طلقوش!

انتظرت قليلًا تفكر بخبث، حتى لاح في ذهنها فكرة خبيثة، دخلت إلى دورة المياه، وخلعت قطعة ثياب داخلية وألقتها في صندوق الثياب الموضوع بجانب "الغسالة"، وابتسامة ماكرة تحتل ثغرها.

بعدها خرجت سريعًا لتنهي احتياجات "نوح" بعجلة من أمرها، ثم نزلت إلى السائق تبتسم له ابتسامة واسعة.

-اتأخرت يا عم فتحي.

-لا لا خالص، بلا بينا أصل زمان دكتور نوح على أخره.

                               ****
مساءً.

تابع "يزن" طاجن البامية الذي ينتقل بأريحية على طاولة السفرة، فأمسك به فجأة وأردف بنبرة يملؤها الغيظ موجهًا لـ "شمس" المصدومة منه:

-ياستي ماتحطيش لسليم بامية، حطي لي أنا.

زفر "زيدان" بقوة وهو يجذب الطاجن منه بعناد متعمد:

-هات الطاجن ده يا عم، احنا مدقناش حاجة بسببك.

توقف الطعام في حلق "يزن"، فسعل بقوة حتى غاص وجهه في إحمرار قانٍ من شدة سعاله، ثم قال بغيظ:

-يخربيتك هموت يا ابني، عينك مدورة وراشقة في أكلي، ما تخليك في طبقك.

وضع "زيدان" الطاجن أمام "سليم" مرة أخرى، وهو يردد بشراسة طفولية:

-ما انت واخد السفرة كلها لحسابك يا بارد، واحنا ولا كأننا موجودين.

جذبته "مليكة" التي كانت جالسة بجانبه وهمست له بعتاب:

-خلاص يا زيدان، هبقى اعملك بامية.

تدخل "يزن" برجاء وهو يمازح "مليكة" التي توسعت عيناها عندما استطاع سماع همسها:

-واعزميني يا مليكة، عشان ربنا يباركلك.

صدح صوت "منال" وهي توجه حديثها لـ "سليم" المتلاعب بملعقته في صحنه، ويبدو عليه الشرود:

-مالك يا سليم، مابتاكلش ليه؟!

رفع عينيه يخصها بابتسامة مقتضبة وهو يقول بنبرة شبة متحشرجة:

-باكل، تسلم ايدك.

تركت "منال" ملعقتها وسألته بقلق، بينما انتبه الجميع لهما:

-لا شكلك متضايق من حاجة، انت اتضايقت عشان فاجئتكم وقولتلكم تتعشوا معايا النهاردة.

سارعت "شمس" بقولها الممتن وبسمتها الصافية:

-لا أبدًا، مفاجئة حلوة يا ماما، ابقي كرريها.

كشر "يزن" وجهه وهو يردف بتنبيه حاد مصطنعًا الجدية:

-بس يوم البامية يا ماما متعزميش حد، خليها على قدنا.

لكزته والدته وهي تقول بعتاب، وفي ذات الوقت تضغط على شفتيها:

-بطل هزار يا يزن، اخواتك يفهموك غلط.

انفكت عقدة لسان "سليم"، واسترسل بقوله الصلد وعيناه ترسل شرارات السخرية الموجهة لـ "يزن" وحده:

-يبطل ليه!، هو مش فالح غير في الهزار.

امتعض وجه "يزن" ورد باقتضاب يحمل رجاءً طفيفًا قبل أن ينظر في طعامه ويبدي اهتمامه به:

-يا سليم أنا جعان، بلاش الكلام اللي يسد النفس ده.

القى "سليم" بملعقته في غيظ من برود أخيه المعتاد، ورد بعصبية طفيفة:

-واللي عملته النهاردة ده اسميه أيه يا محترم؟!

رفع "يزن" بصره إلى موضع الملعقة متعجبًا من رد فعل أخيه الاكبر المندفع، فأجاب بعدم فهم:

-عملت أيه؟، أنا ماعملتش أي حاجة!

حمحمت "شمس" بقوة، لتنهي ذلك الشجار الذي بدأت بوادره في الظهور:

-خلاص يا سليم بعد الاكل ابقى اقعد مع يزن واتكلموا.

انفجر "سليم" بانفعال ضارٍ ، وهو يوجه فوهة غضبه نحو "شمس" المتفاجئة من رد فعله القاسي بحقها:

-أنا مفيش حد يقولي اعمل أيه وماعملش أيه، وطالما هو ماتكسفش من نفسه وماشي يفضحنا في كل مكان، يبقى نخلي الكلام على الملأ.

تدخل "زيدان" لتهدئة الوضع بحذر، قائلاً بنبرة رخيمة رزينة:

-في أيه يا سليم اهدا....

ثم التفت نحو "يزن" يرمقه بغيظ من أفعاله الصبيانية المتكررة:

-هو أنت هببت أيه؟؟

تظاهر "يزن" بالبرود، رغم هجوم شعور بالقلق إلى قلبه بعدما رأى احتدام عيني "سليم":

-والله ما اعرف، اسالوه الجديد عنده!

نهض "سليم" وشرر الغضب يتطاير من عينيه كجمرٍ مشتعل، فطرق بيده فوق الطاولة، لدرجة أن الصحون والملاعق تحركت قليلاً عن مكانها فأصدر عنها صوت جلبة أثار الذعر في نفوسهم:

-احترم نفسك وانت بتكلمني، وطالما الجديد عندي.

نظر إلى "زيدان" ضاغطًا على حروفه بحنق، فبدت نبرته مختنقة من شدة انفعاله:

-اقولك يا زيدان، الباشا كان بيعاكس في بنت شغالة في الجيم اللي في البرج اللي قصاده، والبنت زهقت من مطاردته ليها، وصاحب البرج اشتكالي من أسلوبه وسمعته، وإنه مش سايب البنت في حالها.

نهض "زيدان" من مقعده يدافع عن أخيه ولكن بدت نبرته مهتزة بعض الشيء:

-أيه ياسليم  الراجل ده شكله مأفور، يزن مش لدرجادي يعني.

قبض سليم يديه حتى أبيضت مفاصله، وسأل "يزن" بوضوح شرس، وعيناه تزداد قتامة وغضب:

-كنت واقف جوه البرج ولا لا يا يزن؟ وحاولت توقف البنت غصب عنها كتير ولا لا؟ واوعى تكدب الكاميرات جابتك.

نظر إليه "يزن" بوجه خالٍ من أي تعابير، وكأن حقائق حديثه لم تخدش تفكيره:

-وأنا اكدب ليه!، اه وقفت معاها وجوه البرج ومفيش حد له عندي حاجة.

ظهر صوت سليم حاد كالسيف، وكأن كل كلمة تخرج من معقل تفكيره بغيظ مكبوت:

-لا فيه احنا، اهلك اللي حاطط سمعتنا في الارض من تصرفاتك.

نهضت "شمس" وحاولت امتصاص غضبه، فردت بنبرة مهزوزة بعض الشيء وهي تلمس يده بأصابعها:

-اهدا يا سليم.

نفض يدها بعيدًا عنه، وهو يفقد أعصابه، فارتفعت نبرة صوته أكثر، وتحولت نظرات الجميع نحو "يزن" باتهام: 

-محدش يقولي اهدا، لما اقف زي العيل الصغير واسمع كلام زي السم من الراجل عنه وعن تربيته، ودمي يتحرق.

رفع رأسه، وتقابلت نظراته مع نظرات "سليم" المحتقنة دون خوف، فقال بثبات:

-ودمك يتحرق ليه، هو الكلام عليك ولا عليا!

خطا خطوة إلى الأمام وأشار نحو صدر "يزن" باستشاطة:

-انت اخويا يا غبي، يعني اللي يمسك يمسني، وإن مكنتش واعي على اللي بتعمله في نفسك، أنا اوعيك.

حدق في عيني سليم دون خوف، مبتلعًا إهانته على مضض، فرد بنبرة هادئة جدًا غير مناسبة للأجواء المشحونة:

-أنا مش غبي، وعارف كويس اوي أنا بعمل أيه، والراجل ده أنا هروح له بكرة وهعلمه الادب.

تدخل "زيدان" بغيظ من برود أخيه الأصغر، قائلاً:

-أدب أيه يا ابني، ما تقعد ساكت.

بدا وجهه كصخرة، لا يهتز مهما قيل له، لكنه أجاب بكلمات محتدمة:

-لا مش هسكت، وهو يتكلم عليا ليه ويروح يقول حاجات غلط وهو أصلا مش فاهم حاجة.

-يعني البنت بتتبلى عليك؟!

تساءل "سليم" بجمود وهو ينظر بعمق في عيني "يزن" الذي سارع بإبعاد عينيه مجيبًا بغموض استفز الجميع:

-محدش فاهم الموضوع، يبقى محدش يتكلم ولا حد له دعوة بحياتي.

انفجر بصيحةٍ مدوية، أخرج بها كل ما يعتمل داخله من إحباط وخيبة، وبدأت الكلمات تتدفق منه دون توقف، كأنها سهام تصيب "يزن" بلا رحمة:

-لا لينا، لما الاحظ إن البنت بتحاول تصدك وقدامي في المحل، ولما تتخانق في السينما وهي ماتعبركش وتمشي وتسيبك وصاحب البرج وهو وواحد من المنطقة يقولولي إنك بتتعرضلها كتير وبتحاول تصدك، يبقى لازم افهم إن اخويا خلاص دماغه باظت وهبت منه على الآخر، وافهم إنك مش قادر تصدق إن في بنت بترفضك فبتجري وراها.

دفع يزن الكرسي خلفه بقوة جعلت صوت احتكاكه في الارض يخرس جميع الألسنة بصدمة، وذلك عندما حدق بعينيه اللتين اشتعلتا بنيران الغضب في وجه سليم، فلم يعد قادرًا على تحمل إهانته أمام الجميع، فقال بصوت مزلزل:

-أنا مابجريش وراه حد.

فقد "سليم" السيطرة على نفسه، وصرخ بصوت حاد يحمل تهديدًا ناريًا:

-وطي صوتك وانت بتكلمني، انت بتزعقلي؟!

نهضت "منال" من جلستها تمسك بيد "سليم" المتشنجة من فرط غضبه، ثم التفتت إلى "يزن" تمسك يده هو الأخر برجاء خاص:

-خلاص يا سليم اهدا عشان خاطري، وانت يا ابني روح للصاحب البرج ده وكلمه بالادب وفهمه مثلاً إن في مصلحة بتقضيلها وخلاص.

أبعد يد والدته بهدوء ونبرته الخشنة تزداد شراسة وتحدٍ:

-مايتفلق، اقسم بالله ما ارضى اعبره، ده راجل حشري اصلاً.

استُنفدت طاقة "زيدان" فرد بنزق وضيق:

-ومنظر اخوك ومنظرنا عاجبك يعني!، انت اتجننت يا ابني.

تهكم "سليم" بنبرته الخشنة الصلدة وهو يشير نحو نفسه:

-لا عادي يا زيدان، عادي اخوه الكبير يتهزء بسبب اسلوبه اللي زي الزفت.

عادت "منال" تتدخل برجاء أكثر قوة:

-يزن اسمع كلام اخوك زيدان، وماتتعرضش للبنت دي تاني، وروح للراجل...

قاطعها "سليم" بحدة وهو يركز ببصره على "يزن" الذي كان متأهبًا لقرارات سليم، معلنًا بوادر عصيانه بعينيه الرافضتين لكل كلمة "سليم" يتفوه بها:

-لا مش هيروح، أنا خلصت الحوار، وقولتله إن هو كان بيطلب منها رقم أبوها عشان عايز يتقدملها، والراجل اقتنع وسكت.

لم يعقب على حديث "سليم" واكتفى بإلقاء نظرة عدم رضا، ثم توجه نحو باب الشقة، إلا أن "سليم" أوقفه مستنكرًا رد فعله:

-انت رايح فين، هو أنا خلصت كلام؟

استدار "يزن" إليه يقابل استنكاره الطفيف بنبرة هجومية حادة تحمل استنكارًا لاذعًا:

-انت مش لسه قايل إنك خلصت الحوار!

-خلصته معاه بس مش خلصته معاك.

تلون وجه "يزن" بحمرة غاضبة، وهو يخرج شحنات غضبه المكتوم في صورة اندفاعية تحمل شراسة ممزوجة بالسخرية:

-وأيه المفروض يحصل، افتح ايدي تضربني ولا تمدني على رجلي عشان اتعلم الادب!

اقترب منه "سليم" والشر يقطر من كلماته المتوعدة:

-لا العقاب ده سهل بس انت كبرت على الضرب، مش أنا آخر مرة قايلك لو غلطت أنا هتصرف في حياتك بالطريقة اللي هتعجبني!

صمت "يزن" عن قصد ولم يُجِب بأي شيء منتظرًا استكمال "سليم" كلماته التي استنبطها بفطنته، لذا ظهر على جانب فمه بسمة ساخرة:

-انا جبت اسم ابو البنت واخدت منه معاد وهنروح وتتقدملها.

أظهر "يزن" اعتراضه في صورة ضحكة ساخرة تحمل رفضًا قاطعًا، بينما نظر الجميع لبعضهم متعجبين من تطور الأحداث السريع:

-نعم!

تناثرت شظايا كلمات "سليم" في وجه "يزن" على مرأى ومسمع الجميع:

-اللي سمعته وده قراري ومفيش رجوع فيه، طالما مشيت وراها وبتحاول تتعرضلها يبقى تشرب نتيجة تصرفاتك.

صب "يزن" جام غضبه في صورة كلمات مستنكرة منسوجة بخيوط التحدي القوية:

-اشرب! طيب ما سهل اوي اقولك مش هعمل كده، واللي عايز تعمله اعمله واقلب الترابيزة في ثانية!

حاول "سليم" كبح طوفان غضبه، ولكنه فشل بعد تمرد أخيه الأصغر عليه كطير أبى الانصياع لباقي السرب، فحلق بعيدًا متجاهلاً بشاعة قراراته المتهورة: 

-وانا سهل اوي اكسر الترابيزة فوق دماغك، لو ما نفذتش اللي قولت عليه، البت دي هتخطبها يعني هتخطبها أنا مش هطلع عيل قدام الراجل فاهم ولا لأ.

أشاح "يزن" بيده في لا مبالاة مقصودة وتحرك للأمام، متجاهلاً نظرات الجميع إليه، فرد بعدم رضا وغيظ:

-لا مش فاهم ولا عايز افهم.

حاول "زيدن" إيقافه عندما اعترض طريقه عدة مرات ولكنه فشل: 

-يزن، خد انت يا ابني، انت مجنون، اقف كلمنا.

-اوعى من وشي.

وضع "سليم" يده في جيب سرواله، وهو يلقي بأوامره التي استفزت "يزن" كثيرًا:

-سيبه، في الآخر اللي قولته هيتنفذ.

وقبل أن يغلق "يزن" باب الشقة خلفه، اندفع بانزعاج تام يلقي ببدايات رفضه للأمر برمته: 

-على جثتي يا سليم، أنا مش لعبة في ايدك، ولو عايز تطلع قد كلمتك، روح اخطبها انت.

وضع "زيدان" يده فوق وجهه عندما شهقت "شمس" بصدمة من رد فعله:

-يا حيوان!

رفع "سليم" رأسه وكأن العالم بأسره يقف تحت قدميه، وعيناه ثابتتان على باب الشقة لا تزيغان أبدًا، هتف بتحدٍ قاسٍ:

-اقسم بالله ما في حد هيتجوزها غيرك يا يزن، وهنشوف كلام مين فينا هيمشي. 
نقطة تحول: إما أن تكون المؤثر الحقيقي في حياتك، أو تظل تابعًا لقرارات الآخرين!

ظل "يزن" يجوب الطرقات بسيارته وعقله شاردًا فيما حدث الليلة، ولأول مرة، يشعر بضجيج عارم يخترق كيانه، فلم يستطع تمييز ما يريده وسبب غضبه.

إهانة "سليم" له أمام عائلته كانت السبب الرئيسي في كسر خاطره، أوقف سيارته في طريقٍ هادئ وأرجع رأسه للخلف، غارقًا في تفكير عميق في حديث سليم الليلة وقراراته المصيرية التي أصدرها وكأنه الحاكم الفعلي في حياة الآخرين.

عاد برأسه إلى الزجاج بجانبه وشرد بـ"سيرا" لدرجة أن صورتها تجسدت أمامه على زجاج سيارته، حرك رأسه نفيًا، رافضًا ما تؤول إليه أفكاره في الفترة الأخيرة منذ معرفته بها، لقد تبدلت حياته كليًا وأصبح تابعًا لها، منتظرًا كالشحاذ أن تمنحه الفرصة ليتعرف عليها أكثر.

مط شفتيه بضيق، مجاهدًا التفكير في أمر ينجو به من قرارات "سليم" الصارمة، والتي يعلم جيدًا أنه سيظل يحارب حتى يخضع له، وهذا لن يحدث! فإن تعلق الأمر بقلبه وحياته، فلا تهاون ولا خضوع.

ارتفع رنين هاتفه باستمرار، فنظر بجانبه بضيق، حتى وجد اسم "أبلة حكمت" يتلألأ في وسط الشاشة، رفع الهاتف وأجاب على الفور.

-الو.

-ازيك يا يزن اخبارك؟

ابتسم بلطف لهذه المرأة والتي تنافس أختها في غرابتها:

-الحمد لله بخير.

-بقولك، أنا عشمانة فيك، تيجي بكرة تقابلني أنا والحاج صافي جوزي، أصل في عربية واحد صاحبه عايز يدبسه فيها وهو مُصر يشتريها وأنا عايزاك تشوفها وتقولنا رأيك.

صمت قليلاً وهو يحرك رأسه يمينًا ويسارًا بيأس، ولكنه أجاب بهدوء ولطف:

-بصي هو أنا ماليش في الجو ده، بس تمام هاجي عشان خاطرك!

-والله أنا قولت ما ليا غير يزن، تسلم، خلاص هخلي سيرا اختي تبعتلك العنوان على الواتس، عشان أنا ماليش في الحوارات دي.

فرك وجهه بيده عندما ذكرت اسمها، الذي يحاول جاهدًا نسيانه، فيبدو أن الحياة تصر على جمعهما معًا.

-تمام، مع السلامة.

أغلق الهاتف والقاه جانبًا، ثم قاد السيارة مرة أخرى وظل يجوب بلا هدف، مقررًا عدم العودة للمنزل الليلة.
                                   ****
في منزل "سيرا"

عادت "سيرا" من الخارج مرهقة، والنوم يداعب جفنيها بعد إرهاق طويل في عملها، ثم التقت بفاطمة وذهبتا للتسوق في إحدى المولات الشهيرة حتى عادت تجر قدميها كالعجوز، وكل ما تتمناه هو رؤية فراشها والاستمتاع بحمام ساخن ونومة هنيئة بعيدة عن ضجيج الصغار المستمر حتى آذان الفجر!

استطاعت الفرار من التجمع العائلي في الصالة متحججة بحاجتها للنوم، وما إن دخلت غرفتها حتى وجدت ابن أختها يغفو فوق فراشها في سبات عميق، زمت شفتيها بضيق لوجوده نظرًا لصغر حجم الفراش، ولكنها لم ترد إيقاظه، فقررت أن تأخذ ثيابها وتأخذ حمامًا دافئًا يريح جسدها، لكنها وجدت دورة المياه مشغولة، فطرقت على الباب عدة مرات حتى ظهر صوت ابنة أختها "كريمة" تقول بصوت خفيض ومتألم:

-معلش يا خالتو، أنا بطني واجعني اوي، مش عارفة اخرج.

-خلاص يا حبيبة خالتو براحتك، بس اوعي تنسي زي كل مرة وتنامي في الحمام.

قالتها "سيرا" بتهكم طفيف، ثم جرت قدميها بإحباط نحو غرفتها، وأبدلت ثيابها وذهبت بجانب الصغير لتستلقي بجانبه، لكنها شعرت بأن الفراش مبتل ورائحة شاذة تفوح منه، أبعدت الغطاء حتى وجدت ما لم تتمناه أبدًا، الصغير نائم باستغراق لدرجة أنه قضى حاجته على الفراش ولم يشعر!

كانت صدمتها كبيرة، نابعة من إرهاق تغلغل في كل خلايا جسدها، إلى جانب اقتحام دائم لخصوصيتها، بداية من فراشها إلى ثيابها إلى أبسط الأشياء التي أصبحت مباحة للجميع، نادت على والدتها بصوت مختنق حتى جاءت إليها باستفهام، فلم تتفوه بحرف وأشارت نحو الصغير بغضب مكتوم، ظهر على ملامحها وعينيها التي بدأت الدموع تتجمع بهما، فوضعت والدتها يدها على فمها قائلة:

-يالهوي مين نيم بودي على سريرك!

رأت والدتها الدموع المتجمعة في مقلتيها، فمسحت على كتفيها قائلة بحنو:

-معلش يا سيرا تلاقي الواد اللي نام منه لنفسه أو شاهندا مالقتش مكان جوه في اوضتها نيمته هنا، حقك عليا، أنا هغسلك المرتبة واظبطهالك واحطهالك في الشمس تتشمس هتبقى فلة.

انفجرت باكية بتعب وحزن خالط صوتها:

-أنا راجعة تعبانة وكنت نفسي ارتاح شوية، هانام فين والاوض كلها مشغولة ومينفعش انام في الصالة وانتوا قاعدين فيها واوضة عبود وقاسم كفاية عليهم، أنام على الارض!

احتضنتها والدتها بحب، متفهمة أن تلك الدموع نابعة من ضغط نفسي تعاني منه ابنتها الصغرى نظرًا لاقتحام خصوصيتها المستمر:

-معلش حقك عليا، اخواتك يا حبيبتي ولازم نستحملهم، يعني نسيبهم في ظروفهم الصعبة دي ومانقفش جنبهم، ما هو بكرة لما تتجوزي لازم نقف جنبك بردو وده واجبنا...

قاطعتها "سيرا" باختناق وهي تقول ببكاء:

-لا مش عايزة اتجوز، أنا مش عايزة اتجوز وابقى كده.

عضت والدتها على شفتيها بعتاب وهي تردف بصوت خفيض كي لا يسمعها أحد:

-ماتقوليش كده لاحسن حد من اخواتك يسمعك ويزعلوا منك، هما مش ذنبهم يا حبيبتي إن الدنيا زنقت معاهم حبتين، واخواتك بنات أصول عايشين على الحلوة والمرة مع اجوازاتهم واحنا دورنا اننا نساعدهم، هو انتي متضايقة إن اخواتك قاعدين معانا في البيت؟!

-مش متضايقة يا ماما ده بيتهم بردو، بس أنا مش عارفة اخد راحتي في أي حاجة، وزي ما انتي شايفة ابسط حاجة بعد يوم طويل في الشغل ارجع الاقي السرير كده!

ونظرت إلى فراشها بحسرة، فردت والدتها بضيق ممزوج بالعتاب:

-انتي اللي عايزة تشتغلي، بابكي قالك اقعدي وهو يديلك مصروفك وانتي اللي قولتي لا.

رفعت "سيرا" عينيها باستنكار، ظهر أيضًا في صوتها:

-ازاي يا ماما وانا شايفة بعيني الضغط اللي عليكوا انتي وبابا والمصاريف الكتيرة، أنا كمان هبقى عبأ عليكوا، كفاية اللي انتوا فيه.

وقبل أن تتفوه والدتها بحرف آخر، نطقت بصوت مجهد تختصر عليها أي محاولات لإقناعها بشيء هي لن تقتنع به، طالما سيظل الوضع كما هو عليه!

-دلوقتي أنا هموت وأنام هعمل أيه؟

-انزلي نامي عند حكمت، وانا هتصلك عليها.

فتحت عينيها بصعوبة تجاهد ستائر النوم المسدلة على جفنيها، فقالت بنبرة خاملة:

-ماشي قوليلها بقى، أصل أنا احتمال أنام على السلم من كتر التعب.

-طيب انزليلها وانا هفهمها الوضع!

                             ***
فتحت "حكمت" باب شقتها لسيرا التي كانت تقف مغمضة عينيها من شدة تعبها، فأدخلتها وهي تقول بتبرم:

-انتي يا بت مازعقتيش لشاهندا ليه وهي تنيم ابنها على سريرك ليه؟

توقفت "سيرا" وهي تقول بتعجب:

-هزعقلها يا أبلة، شاهندا أكبر مني وبعدين ده عيل صغير أكيد مش دريان بنفسه.

-امال تاكلي في نفسك يا عبيطة وتفضلي تعيطي زي الهبلة، امك حكت لي، الصبح يطلع بس وأنا هديهم كلمتين الهوانم اللي قاعدين عند أبوهم ومسهلين الدنيا لجوازاتهم.

وضعت "سيرا" يدها فوق صدرها تردف برجاء:

-لا يا أبلة بلاش عشان مايزعلوش وفي الآخر بابا هيزعل منك، وهيقولوا إن أنا اشتكيت.

توسعت أعين "حكمت" باستنكار:

-انتي عايزاني اكتم في نفسي زيك، لا ده أنا هموت فيها، أنا اقول اللي أنا عايزاه واللي يحصل يحصل ياختي.

حسنًا، المشاكل قادمة لا محالة، وهي الآن ترحب بأي شيء في سبيل أن تقتنص نومه هنيئة ينعم به جسدها المرهق.

-ماشي يا أبلة اللي انتي شايفاه، انام فين عشان تعبانة؟

سارت معها "حكمت" صوب إحدى الغرف وهي تثرثر كعادتها وابتسامة واسعة تحتل ثغرها:

-جايلك عريس.

جلست "سيرا" على الفراش وهي تشير نحو نفسها بعدم اهتمام:

-أنا!

جلست "أبلة حكمت" بجانبها، وهي تردف بحماس: 

-اه عارفة فايق جارنا، اخته كلمتني وهتموت عليكي وأنا قولت لبابا.

توسعت عينيها بصدمة بالغة، فزحف الحنق لصوتها:

-أيه، ليه كده يا أبلة، هو أنا مش قولتلك إن أنا مش عايزاه!

عقدت "أبلة حكمت" ما بين حاجبيها بضيق وأبرزت عدم اهتمامها برأي سيرا رغم أنها صاحبة الشأن:

-اسكتي يا بت انتي هبلة ولا فاهمة فين مصلحتك.

رمشت "سيرا" بعدم فهم مستهجنة بكل قوتها:

-مصلحتي تبقى مع فايق ازاي؟! ده واحد مدمن خمرة يا أبلة!

أشارت "أبلة حكمت" بلا مبالاة مقتنعة برأيها:

-أنا مابصدقش طالما ماشوفتش بعنيا.

فركت "سيرا" وجهها ضيق وهي تتلفظ بحروفها الحانقة:

-وهتشوفي ازاي يا ابلة الحاجات دي بتتعرف عن طريق الشباب وجوز فريال، ابيه "كمال" قالي....

قاطعتها "حكمت" بتجاهل وهي تصر على رأيها برعونة، وهذا ما استفز "سيرا":

-لا بقولك أيه أنا مابعتمدش الكلام من جوز فريال، أنا بعتمد إن الواد شاريكي وهيموت عليكي واخته قالتلي الشبكة اللي هي عايزاها والشقة والفرش كمان هتعوزي أيه تاني! وانا هبقى افهم بابا يطلب مهر عالي...

-يا أبلة ده كله مايهمنيش، هعمل بيهم لما يكون بجد  مدمن؟!

هدأت نبرة "حكمت" وحاولت التحدث بلين علها تقنعها وتتم الزيجة المناسبة من وجهة نظرها:

-يا بت ده طيش شباب وهيروح لحاله اول ما يتجوز، أنا اعرف ناس كتير كانت كده وحالهم اتعدلت.

برز سلاح الرفض بعيني "سيرا" وهي تقول بإصرار:

-لا يا أبلة انا استحالة اوافق على فايق ده.

ضيقت "حكمت" عينيها بخبث وهي تسألها بنبرة غامضة:

-في حد في حياتك؟!

بلعت "سيرا" ريقها وأردفت ببرود ظاهري، تخفي داخلها إعجابها بيزن المتزايد لدرجة أن فؤادها فقد السيطرة على دقاته كلما قيل اسمه، أو قابلها لمجرد الصدفة:

-أنا لا خالص، أنا مابفكرش في الحاجات دي.

ابتسمت "حكمت" بمكر وهي ترواغها: 

-اهو اللي بيقول مابيفكرش ده بيبقى بيفكر، المهم الرأي الاول والأخير اصلاً لبابا، بصي بقى عشان عايزاكي تعلميني ابعت العنوان لحد على الواتس.

كتمت "سيرا" اعتراضها وقالت برجاء:

-طيب ممكن بكرة، هموت وانام.

صاحت "أبلة حكمت" باعتراض توسعت لأجله عيني "سيرا" التي كانت تمسك بقنينة المياه بجانبها وتتجرع منها القليل:

-لا طبعا حالاً، ماينفعش اتأخر على يزن.

وعندما تفوهت باسم "يزن" اندفعت المياه من فم سيرا اندفاعًا قويًا يصاحبه شهقة قوية أدت إلى سعالها، فقالت "حكمت" باشمئزاز:

-الله يقرفك، شرقتي ولا أيه؟!

مسحت "سيرا" فمها وهي تحاول تنظيم أنفاسها المختنقة، فظهر صوتها متحشرج وهي تسأل بهدوء زائف:

-سيبك مني أنا، المهم يزن مين؟!

ضربتها "حكمت" فوق ساقها بخفة وهي تبتسم باتساع:

-يزن الشعراوي، أيه نسيته؟!

-وده انساه ازاي بس، طيب هو انتي عايزاه في أيه؟

قالت معظم حديثها بنبرة خافتة للغاية، ثم رفعت نبرتها تسأل بفضول يقطر منه القلق، فأجابت "حكمت" بخبث وحاولت تغيير مجرى الحديث:

-لا صافي منبه عليا ماعرفش حد.

ضيقت "سيرا" عينيها تحاول التركيز بملامح "حكمت" التي أخفتها سريعًا، فقالت بدهاء:

-لا انتي اللي مش عايزة حد يعرف مش أبيه صافي.

عادت "حكمت" تضربها بخفة فوق كتفها قائلة بحنق ونفاد صبر:

-وانتي مالك يا حشرية، هتعرفيني ولا لا؟!

-هعرفك بس تحكيلي وأنا والله ما هقول لحد خالص.

تبخر النوم من عيني "سيرا" واستيقظ العقل بتأهب وكأنه على وشك خوض اختبار صعب، فانتبهت جميع حواسها وهي تستمع لحديث اختها الكبرى التي حتمًا ستصيبها بجلطة ذات مرة من تصرفاتها الحمقاء!                 
                            ****
أغلقت "شمس" باب شقتها خلفها وبحثت بعينيها عن "سليم"، الذي اختفى فجأة بعد ذهاب "يزن"، رافضًا تدخلهم، حتى "منال" التزمت الصمت واكتفت بالبكاء المصحوب بخوفٍ على أصغر أبنائها، لعلمها أن صفاته تحمل جزءًا كبيرًا من التهور، فالعناد المرسوم بعينيه وهو يقف يجابه "سليم" دفعهم للتأكد من أنه لن يخضع بسهولة لقرارات "سليم".

ظلت تبحث عنه حتى وجدته في غرفة الصغيرة "قمر"، يحرك فراشها الصغير بلطف، وصوت الموسيقى الهادئة يصدح في الأجواء، مستغلاً هالة الهدوء الطاغية على غرفتها لينفض عنه الشحنات السلبية المتملكة منه منذ شجاره مع "يزن".

زمت شفتيها بضيق وهي تحرك رأسها بيأس، وقالت بنبرة منسوجة بخيوط الغيظ الثقيلة:

-سليم لو سمحت أنا عايزاك.

التفت إليها سريعًا وأشار إليها بالصمت كي لا تستيقظ طفلته، فرفعت "شمس" أحد حاجبيها بتحدٍ سافر لم يعجبها تصرفه، ولكنه لم يعِرها أي انتباه واستكمل تحريك فراش الصغيرة بلطف حتى تأكد أنها غرقت في سبات عميق، ترك الغرفة وخرج يبحث عنها، فوجدها تجلس على مضض في الصالة تنتظره، وفور رؤيتها له، قالت بضيق محتدم ظهر أيضًا في عينيها، التي قرأ فيهما عدم رضاها على تصرفه الليلة:

-يزن لغاية دلوقتي مارجعش يا سليم، وماما منهارة من العياط تحت.

هز كتفيه ببرود متعمد يخفي غضبه من تصرفات أخيه:

-هيرجع هيروح فين يعني!

لم تستطع "شمس" التحكم في ذاتها أكثر من ذلك، فانفجرت قائلة بغيظ شديد تحكم من نبرتها وملامح وجهها التي كانت على وشك الانفجار:

-سليم أنا مش عاجبني....

قاطعها بنبرة صلدة صارمة، وعيناه تشتد ظلمة وقسوة:

-شمس وانتي من امتى بتراجعيني في اللي بعمله!

رفعت حاجبيها معًا ولم تخشَ نبرته، فرفعت رأسها بتحدٍ وهي تواجهه:

-لا براجعك بس لما بتكون بتتصرف غلط.

انكمشت ملامحه لجرأتها معه في الحديث، فتحرك صوب غرفته وهو يقول بحنق ونبرة صوته ارتفعت رغمًا عنه:

-غلط ولا صح، أنا اللي شايفه مناسب هعمله ومش هستنى رأي حد.

كانت تعرف تمام المعرفة أن زوجها لن يقتنع بذلك الأسلوب، لذا هدأت قليلاً وذهبت نحوه تمسك بيديه، مستخدمة أساليبها الناعمة ودفء نبرتها المغوية وهي تقول:

-سليم الدنيا اخد وعطا، خلينا نتكلم.

أبعد يدها عنه بانزعاج واضح، لقد طفح الكيل به منذ الصباح عندما طل عليه الحاج "أحمد" وحديثه القاسي عن "يزن" مرورًا بما حدث الليلة مع أخيه الذي لم ولن يتوانى عن تصرفاته الحمقاء وسيظل يتهاون بما حوله في سبيل إرضاء رغباته وأهوائه.

-وأنا مش عايز اسمع كلام من حد يا شمس، محدش كان معايا وأنا بسمع كلام زي السم من الراجل صاحب البرج عن أسلوب يزن وشخصيته، أنا حذرته كتير وقولتله خد بالك من تصرفاتك، انت مش صغير، وهو ولا على باله، ماشي ورا بنت باين عليها مجتش معاه سكة، أنا مش هستنى لما يحصل مصيبة، لا يقف عند حده،  ويشرب نتيجة تصرفاته، ويعرف إن بنات الناس مش لعبة.

زفرت بضيق قبل أن تبرز اقتناعها بحديثه فقالت بهدوء:

-معاك، بس يزن راجل مش بنت عشان تغصبه على جواز.

-لا لما يكون مش مؤهل يتحكم في تصرفاته وحياته، يبقى أنا لازم اتدخل.

-بس...

ورغم هدوء نبرتها وصفاء عينيها وتخليهما عن التحدي المعلن منذ بداية بحثها عنه، إلا أنه لم يعد يتحمل الجدال أكثر من ذلك، لذا قاطعها بنبرة مختنقة وملامح وجهه عادت تدخل في كنف الجمود والقسوة:

-كفاية ومش هستحمل نقاش اكتر من كده.

لا شك أنها شعرت بالضيق من محاولاته لإسكاتها وعدم تدخلها في شأن "يزن"، ولكن الضيق الأكبر كان منه أنه عاد لـ"سليم" القديم بطباعه الحادة وجمود خصاله، وهذا لن تتحمله كثيرًا، فانفجرت به قبل أن تتركه وتذهب لمواساة "منال" الباكية:

-تمام براحتك، بس عايزة اقولك بردو إن تصرفك معاه تحت كان غلط في غلط واحرجته جامد قدامنا.

ثم تركته دون أن تعيره الانتباه، ودون أن تستأذنه حتى، وكأنها تعاقبه باختفائها عن أنظاره، وهو كان في أمس الحاجة لعناقها وينعم بدفء حنانها لتزول عنه متاعب اليوم بمواقفه السيئة، فهي وحدها مَن تملك مفاتيح نعيم جنانها، لكنها أغلقت أبوابها في وجهه وطردته خارجها!
                       
                                *****
في اليوم التالي..

رفعت "حكمت" زجاجة معطر للجو برائحة الياسمين ونثرتها في أرجاء السيارة بغزارة، مما جعل "صافي" زوجها يسعل بشدة، فقال بضيق:

-جرى أيه يا حكمت، ده كله معطر، هتموتينا.

تأففت بضيق وهي تقول بحنق:

-العربية دي ريحتها وحشة، وبعدين يزن أكيد هيدخل يقعد فيها يقول عليك أيه انت وصاحبك معفنين!

انكمشت ملامح "صافي" بغضب واخشوشنت نبرته وهو يزجرها:

-ماتحسني الفاظك يا حكمت في أيه!

رفعت أحد حاجبيها بتحد وعدم رضا من نبرته:

-صـــــــافـــي!

أشاح بيده بلا مبالاة وهو يتمتم بغيظ:

-خلاص سكتنا.

وقبل أن يتحرك بالسيارة، وجدا "سيرا" تفتح باب السيارة الخلفي وتدخل وعلى وجهها ابتسامة كبيرة مصطنعة:

-ازيكم، الحمد لله لحقتكم.

نظر "صافي" إلى زوجته يسأل باهتمام:

-أيه ده هي سيرا جاية معانا؟!

التفتت "حكمت" إلى أختها تردف بانفعال وغيظ:

-انتي مين قالك تيجي معانا؟

توسعت عيناها ثم رمشت ببراءة وهي تجيب:

-انتي يا ابلة!

رفعت "حكمت" حاجبيها باستنكار ثم قالت:

-والله ما نطقتها!

غمزت "سيرا" بطرف عينيها وهي تصر على قولها:

-يا ابلة بليل وانتي بتحكي لي على العربية.

انفجرت "حكمت" باستشاطة:

-يا بت انتي بتغمزي ليه؟، أنا مابخبيش على صافي جوزي حاجة.

شعرت "سيرا" بالإحراج من نظرات زوج اختها إليها، ففكرت سريعًا وقالت باندفاع:

-يا ابلة أنا قولت آجي معاكم عشان لو يزن ده قالكم حاجة مش فاهمينها افهمكم أنا، وماتبنوش قدامه انكم نص كم.

اخشوشنت نبرة "صافي" بضيق وهو يعاتبها:

-إيه نص كم دي، ماتحسني الفاظك يا سيرا.

رمشت بعينيها تعلن أسفها برقة:

-أسفة يا أبيه.

ثم التفت إلى "اختها" التي كانت ترمقها بشك أثار قلق "سيرا" فاستكملت خطتها:

-وبعدين يا ابلة، أنا كنت عايزاكي تيجي معايا بعد المشوار ده، نشتري هدوم ليا ذوقك بيعجبني وكمان أنا بيتضحك عليا في الأسعار.

لم تصبها سهام الشك المصوبة من "حكمت"، واستعادت السيطرة على موقفها خاصةً عندما قالت "حكمت" بحماس:

-اه إذا كان كده ماشي، يلا بينا يا صافي، عشان مانتأخرش على يزن زمانه راح.

همست بداخلها وهي تضغط على هاتفها وفي ذات الوقت مغمضة عينيها بقوة:

-يا رب يا ميروح.

ثم رفعت هاتفها وقرأت رسالتها التي أرسلتها له صباحًا تعتذر عن مجيء "أبلة حكمت" في المعاد المحدد بينهما نظرًا لظروف خارجة عن إرادتها، ولكنه لم يرد ولم يريح خاطرها المشغول بأمر هذا اللقاء.

قضى "صافي" وقتًا ليس بطويل حتى وصل إلى المكان المقرر مقابلتهم فيه، نظرت "سيرا" سريعًا حولها لم تجده وهي لا تزال في السيارة، فاستمعت لصوت "حكمت" وهي تنزل من السيارة:

-يلا انزلي يا سيرا.

هبطت هي الأخرى والتزمت الصمت وعيناها تفر في المكان كله بإمعان وداخلها بدأ يشعر براحة كبيرة لعدم مجيئه، فاستمعت لقول "حكمت" الحانق:

-هو يزن ده كله مجاش!

-مش قولتلك يا أبلة من الاول، ده هو بيضحك عليكي، وتلاقي ابوه وامه هما اللي فاتحين المعرض ده تلاقيه ولا بيفهم في العربيات ولا نيلة!

حمدت الله كثيرًا ووضعت يدها على قلبها باطمئنان وراحة ولكن راحتها لم تدم طويلاً وذلك عندما صدح صوت من خلفها:

-اللي مابيفهمش وصل يا جماعة!

استدارت سريعًا كمَن لسعها عقرب، وتوسعت عيناها فتفوهت بغيظ:

-انت جيت ازاي!

ضربتها "حكمت" في كتفها بخفة وهي تضغط على شفتيها السفلى وعيناها تصدر التنبيهات الصارمة:

-هو ايه اللي جه ازاي انتي عبيطة، اسكتي بقى.

ثم أشارت بفخر نحو "يزن"، وكأنها تقدم وزيرًا أو رئيس جمهورية، "فحكمت" "وصافي" يسعدان بعلاقتهما مع معارف أثرياء، فيشعران بالفخر والاعتزاز، معتقدين أن تلك العلاقات ستفتح لهما آفاقًا جديدة لكسب الأموال وتعزيز مكانتهما المادية.

-اعرفك يا يزن على الحاج صافي جوزي.

صافحه "يزن" بحبور شديد وبدآ يتعرفان على بعضهما البعض، فكان ليزن جاذبية خاصة يملكها يستطيع كسب اهتمام وتقدير من حوله، بينما هي كانت تقف بتوتر شديد وهي تتابع حديثهما باهتمام، واكتشفت فيه جانبًا جديدًا يتسم بالجدية المفرطة طالما كان الأمر يخص عمله، واستطاع بدهائه إقناع "صافي" بأن تلك السيارة لن تليق به وإمكانياتها قليلة على شخصية مثله، وأن معرضه مفتوح له في أي وقت، فقرر "صافي" أن يشتري سيارة منه، مقتنعًا بحديثه هو و"حكمت" التي كانت تحرك رأسها بإيجاب على كل كلمة يتفوه بها "يزن".

فمالت حكمت على زوجها وهي تقول بثقة:

-شوفت يا صافي، قولتلك صاحبك ده معفن ماصدقتنيش!

-طيب اقوله أيه يا حكمت، ده أنا وعدته اشتريها ومديهالي بقالي اسبوع.

قالها "صافي" بحيرة، فأوقفته بيدها وسألت يزن بمكر:

-بقولك يا يزن، هي العربية دي تسوى كام؟

مط "يزن" شفتيه وهو يقيمها بجدية:

-يعني ٣٥٠ الف بالكتير.

رفعت أحد حاجبيها وابتسامة ماكرة تحتل ثغرها وهي تجذب "صافي" من ذراعه مشيرة إلي يزن وسيرا بالانتظار:

-استنوني ثانية.

ثم التفت إلى صافي تدفعه للتحرك بعيدًا عنهما وهي تقول بإصرار:

-اتصل على صاحبك وافتح الاسبيكر.

وما إن ابتعدا حتى قال يزن بابتسامة محركًا رأسه بيأس:

-اختك هتخسف بسعر العربية الارض!

عقدت حاجبيها بضيق عندما شعرت منه بسخرية مبطنة منه:

-قصدك أيه يعني؟!

أشار إليها بالهدوء متعجبًا من نبرتها التي تحولت وأصبحت أكثر حدة صوتها وكأنها على وشك الشجار معه:

-ماقصديش، اهدي في أيه؟

رفعت أنفها بغرور وهي تقول بترفع محاولة الحفاظ على كرامة عائلتها المعبثرة هنا وهناك بسبب تصرفات حكمت المتناقضة:

-على فكرة بقى ابلة حكمت أخر حاجة همها الفلوس، بس هي مابتحبش يتضحك عليها.

تلونت ابتسامته بتهكم وهو يقول:

-غريبة مع إن ده مكنش كلامك عليها!

ازداد انعقاد حاجبيها وارتفعت نبرتها قليلاً بحدة وهي تخرج حروفها الغاضبة المهددة:

-قصدك أيه؟، والله انادي عليها واقولها إنك بتشتم عليها.

اقترب خطوة متسائلاً بشك وعيناه تجولان فوق ملامحها المتوترة:

-مش هتصدقك هي واثقة فيا، وبعدين انتي مالك مُصرة تبوظي العلاقة ما بينا ليه؟ وفي كل مرة بشوف ابلة حكمت بتنطي فجأة ليه؟!

جاهدت إخفاء توترها عندما لمس محاولاتها الفاشلة لهدم لقاءاته مع أختها:

-دي اختي يعني وارد اكون معاها!

ثبت بصره عليها وأردف بنبرة قوية وقد تغيرت ملامحه الممازحة دومًا لأخرى جادة تحوي غموضًا مربكًا:

-خليكي واضحة يا سيرا، احيانًا الوضوح بيكون حلو.

عقدت ذراعيها أمامها وهي تسأل بنبرة مستنكرة:

-وانا اكون واضحة مع واحد ماعرفوش ليه؟!

هز رأسه موافقًا على رأيها، ولكنه حاول الضغط عليها أكثر لتكشف ستائر الظلام المسدلة على عينيها:

-عندك حق، بس يعني اظن اللي ما بينا...

توسعت عيناها بتعجب ساخر ثم ضحكت بتهكم طفيف وهي تقول بنبرة جافة:

-نعم؟ هو أيه اللي ما بينا يا يزن! مفيش أي حاجة على فكرة، احنا مجرد اتنين اغراب عن بعض، وبتجمعنا الصدف مش اكتر.

لم يهتز بل ألقى بسؤاله الحاد في ساحة مشاعرها المضطربة:

-انتي عايزة أيه بالظبط؟!

هزت كتفيها بلا مبالاة ظاهرية، وإمارات البرود تحتل ملامحها التي كادت تهتز وتظهر له مدى إعجابها به: 

-مش عايزة أي حاجة، ويا ريت يكون ما بينا حدود أكتر من كده.

لم يبعد عيناه عن عينيها المرتبكتين، فقال بهدوء مصاحب بسمة جانبية ساخرة:

-بس عينك بتقول غير كده!

ضحكت بسخرية وهي تضرب كفًا بآخر، قائلة:

-تاني هيقولي عيني، هو انت معاك ماجستير في لغة العيون ولا أيه مش فاهمة حقيقي!

شعر بالسأم قليلاً من عدم وضوحها، ولم يدرك أنها في النهاية فتاة ولن تصرح له عن مشاعرها بسهولة، مثل باقي الفتيات اللاتي تعرف عليهن:

-بعدين هتفهمي، وهنشوف كلام مين فينا صح!

مطت شفتيها بملل تعمدته وهي تردف ببرود:

-أنا ماقولتش أي كلام انت اللي بتقول وبس.

شعر بالضيق منها ومن تصرفاتها غير الواضحة معه، ولم يعرف لماذا هي تحديدًا يصر عقله على زجها دائمًا في محيط أفكاره، ومهما حاول إخراجها يعود فاشلاً أمام الصدف التي تجمعهما، متجاهلاً أنه أحيانًا هو يدور حولها كالنحلة منتظرًا نصب خليته.

عادت "حكمت" ونبرة الانتصار تقطر من صوتها:

-خلصت العربية على ٢٠٠ الف، اصله مزنوق في قرشين فهيموت ويبعها هشتريها أنا كاستثمار.

نظر "يزن" إلى سيرا التي تلون وجهها باحمرار قاني 
من شدة إحراجها، فابتسم وهو يوجه حديثه لحكمت السعيدة بانتصارها:

-مفيش في شطارتك، أستاذة ورئيسة قسم، احنا نقعد ونتعلم منك.

ازداد اعتزازها بنفسها وهي تنظر إليه بسعادة:

-أنا مكدبتش لما قولت عليك بتفهم.

اغتاظت "سيرا" ففقدت السيطرة على نفسها وخرجت نبرتها صلدة:

-ابلة أنا همشي عشان ورايا شغل.

-مش كان ورانا مشوار...

قاطعتها "سيرا" وهي تهم بالتحرك وتغادر موقعهم الذي أصبح أكثر اختناقًا:

-بعدين يا أبلة بعدين، ومبروك على العربية، سلام يا أبية صافي.

ولم تعر ليزن أي انتباه، متعمدة إحراجه ولكنه لم يغضب وقد توقعها تصرفها الطفولي من وجهة نظره، ووضع يده في جيب سرواله بتسلية وهو يعود لحكمت مقررًا التعرف عليها أكثر ومن خلال ثرثرتهما سيتعرف عن شخصية سيرا التي كانت لا تزال غامضة وتثير اهتمامه بها!

                                 ****
خرج "يزن" من عيادة "نوح"، صديقه، وتوجه نحو سيارته بعد أن قضى بعض الوقت معه، ساردًا عليه ما حدث وأبلغه بقراره الاختفاء عن الأنظار ليحسم قراره ويؤنب ضمير "سليم" على أسلوبه معه، فلم يعد الفتى الصغير الذي يقف ويتلقى توبيخه ولا يستطيع الدفاع عن نفسه؛ فقد تغيرت مجريات الأمور وأصبح شابًا ناضجًا يستطيع السيطرة على حياته وتسيير أموره كيفما يشاء.

وها هو قد غاب يومًا آخر عن الأنظار، مغلقًا هاتفه، ولم يذهب إلى معرضه، ولم يحاول الاتصال بأحد لمعرفة إن كانت عائلته تبحث عنه أم لا؛ فلم يعد الأمر برمته يهمه.

وقبل أن يقود سيارته، وجد بابها يفتح ويدخل "زيدان"، جالسًا بالمقعد المجاور له.

-انت فاكر كده يعني إن أنا مش هعرف اجيبك!

زفر "يزن" بضيق وهو يرمقه بنظرة حادة:

-بقولك أيه سيبني في حالي، أنا مش طايق نفسي.

هدأ "زيدان" قليلاً محاولاً امتصاص غضبه والذي يبدو أنه لم يهدأ:

-‏ومش طايق نفسك ليه، اهدا وروق وكل حاجة هتتحل.

ضيق "يزن" عينيه وهو يتسائل باستنكار لاذع:

-‏انت جايب البرود ده منين؟!

اخشوشنت نبرة "زيدان" محاولاً السيطرة على نفسه كي لا ينفجر به:

-‏لم لسانك عشان نشوفلك حل.

ارتفعت نبرة يزن بالمقابل وقال بغيظ ناري كتمه داخله ولم يعد لديه القدرة على السيطرة على نفسه:

-‏وانت شايف فيها حل، سليم متعمد يعمل كده قداكم عشان يحطني قدام سياسة الأمر الواقع، بس على مين والله ما هيحصل.

رمقه زيدان بنظرة غامضة تحوي داخلها تسلية أخفاها سريعًا:

-‏ماتحلفش بس!

لمعت عيناه بوميض العناد وهو يقول:

-‏قصدك أيه، إن هو هينفذ كلامه، طيب اقعد واتفرج.

زفر زيدان بهدوء قبل أن يفسر حديثه بوضوح أكثر:

-‏يزن هي مش حرب، وانت عارف أكتر واحد إن سليم مابيتاخدش بالطريقة دي!

عاد يزن بجسده لينظر أمامه وهو يقول بتحدٍ وبرود: 

-‏لا ماعرفش، لغاية حياتي ومستقبلي وماعرفش حد.

زم زيدان شفتيه بضيق وهو يلفت انتباه أخيه المتهور:

-‏الوضع مش مستحمل عند منك.

احتدت نبرة يزن وهو يعود برأسه ينظر إليه:

-‏انت جاي تناقشني في أيه؟

-‏أنا مش جاي اناقشك، بس هو يعني لما تختفي يوم أنت كده فاكر إن سليم مايعرفش يوصلك، وبعدين أنا الصراحة مستغربك ومش فاهمك.

ثبت يزن بصره على زيدان دون أن يتفوه بأي كلمة، فاستكمل زيدان حديثه بوضوح وصراحة فجة كعادته:

-‏ايوه ماتبصليش، ياعم مش دي البت اللي خلتني اسيب شغلي واجاي انقذ صاحبتها، وكنت محموق لها اوي.

قبض "يزن" يده فوق المقود وشعر بتعريته أمام إخوته، فازداد غيظه منه، فلم تجرؤ فتاة على قلب حياته هكذا مثلما فعلت هي:

-‏وانت عرفت ازاي انها نفس البنت؟

-الحاج أحمد باعت لسليم فيديوهات من كاميرات المراقبة وانت بتتعرض للبنت دي كتير واخرهم لما كنت معاها جوه البرج وبتمسك ايدها غصب عنها.

وصل غضبه إلى ذروته وصاح بنبرة مستشيطة:

-‏أيه الجنان ده الراجل ده عايز يتربى ويتعلم الادب.

انزعج زيدان من تهوره وقال بهدوء ظاهري:

-‏اقعد بس واسكت مش وقته الكلام ده أساسًا، دلوقتي هتعمل أيه مع سليم؟!

-‏مش هعمل ولا عايز اعمل، تصدق بالله أنا مخنوق ونفسي اختفي من الدنيا كلها ومحدش يعرف لي طريق.

أخرج يزن حقيقة ما يعتمل داخله، وصمت مرة واحدة وهو ينظر نحو الزجاج شاردًا بحياته التي تعقدت،فشعر باختناق وكأن هناك حبالاً غليظة تلتف حول رقبته، بينما "زيدان" كان يفكر هو أيضًا في حل تلك المعضلة، فصاح باعتقاده علنًا:

-تصدق هي فكرة كويسة، يمكن سليم يهدا ويرجع عن اللي بيفكر فيه.

سأل يزن بعدم فهم وقد بدت نبرته أكثر اهتمامًا:

-‏مش فاهم قصدك؟

أجاب "زيدان" وهو يفسر له حديثه:

-‏قصدي إنك تختفي فترة من قدامه خالص.

لان عقله الجامد وقد أعجبه فكرة "زيدان" ومنها يسعى لصفاء ذهنه ليخرج سيرا من تفكيره: 

-وهروح فين عندك مكان؟، سليم عارف كل الامكان اللي بروحها.

فكر زيدان قليلاً قبل أن تلمع عيناه بوميض غامض وابتسامة جانبية احتلت ثغره:

-إلا مكان واحد بس ماعرفش انت هتتحمل تقعد فيه؟!

انعقد حاجبا "يزن" ففسر الآخر حديثه بهدوء يخفي خلفه تسلية كبيرة:

-‏يعني اقصد مفيهوش رفاهيات ومكان بعيد.
 
تنهد "يزن" بقلة حيلة وعجز سيطر عليه:

-‏ياعم أي حاجة، أنا اقسم بالله زاهد كل حاجة في الدنيا، ومش عايز غير إن أنا افصل بجد، بس انت مش هتقول لسليم على مكاني؟!

-خالص، انت مجنون؟ أنا جاي عشان أساعدك وأقف جنبك، استنى هكلم الراجل.

قالها زيدان بنبرة يغمرها الحماس، ثم رفع هاتفه وأجرى اتصالاً بشخص ما:

-ألو، إزيك يا عباس؟ أنا تمام، بقولك، عارف الشقة اللي كنت جايبها لي عندكم في الأقصر؟!

صمت قليلاً يستمع لرد الآخر، ثم قال بابتسامة واسعة وهو ينظر ليزن بطرف عينه:

‏-لا لا، أول شقة، أيوه، متأكد بقولك، بس نضفهالي، وهبعت لك أخويا هيقعد فيها كام يوم.

 استمع لرد "عباس" الذي سأل باستفهام:

-المسكونة يا باشا؟

-أيوه يا عم، بقولك، انجز بقى.

 أغلق "زيدان" الاتصال، ثم التفت إلى "يزن" وأردف بابتسامة واسعة ونبرة صوته مغمورة في نهر من الغموض:

-ده أنت هتفصل فصلان، هتتبسط أوي، عمرك رحت الأقصر قبل كده؟
                                 **** 
بعد مرور عدة ساعات.

هبط "يزن" من سيارة الأجرة التي أوصلته إلى العنوان المنشود، فوجد "عباس" في انتظاره، فمد يده بحبور وصافحه:

-ازيك يا عم عباس، أنا يزن أخو زيدان.

رحب "عباس" به بترحاب شديد: 

-‏اهلاً اهلاً يا يزن باشا، والله نورت البلد كلها.

-‏ربنا يخليك، بس هو أيه ده مفيش حد ليه كده في المنطقة احنا لسه يعني الساعة ١٠.

التفت "يزن" حوله وهو يمرر بصره على البنايات وعلى المنطقة الساكنة وخلوها من المارة، فقال "عباس" بهدوء يتخلله بعض الارتباك:

-‏البلد هنا هادية يا باشا، والناس بتنام من المغرب بس أنا ببقى صاحي على طول لو عايز أي حاجة.

فرك "يزن" وجهه بارهاق فلم يحظَ بنوم مريح منذ يومين، فقال بصوت واهن:

-‏أنا مش عايز حاجة غير إنك توديني الشقة اللي هقعد فيها، عشان أنا فاصل ومش قادر.

نظر "عباس" خلف يزن نظرة متوترة نحو البناية الساكنة والمظلمة، قائلاً وهو يشير نحو البناية:

-‏اه المسافة بعيدة بردو، يلا بينا العمارة اهي والشقة في الدور التاني.

سار "يزن" بجانب "عباس" يسأله من باب الفضول:

-‏في حد ساكن في العمارة دي؟؟

توقف "عباس" وقد ظهر الارتباك عليه، مردفًا:

-‏ها؟

تعجب "يزن" من رد فعل "عباس" فاستنكر بنبرته سريعًا معقبًا عليه:

-‏هو أيه اللي ها، في حد ساكن؟!

أصاب "عباس" نوبة سعال شديدة ولم يستطع السيطرة على نفسه، فمد إليه يزن زجاجة المياه خاصته:

-‏مالك اهدا، معايا ميه خد اشرب.

وضع "عباس" يده فوق صدره وقد بدت نبرته متحشرجة:

-‏شكرا يا باشا، تعال اطلع يلا.

صعد "يزن" معه ووصلا إلى الشقة المنشودة، فسلم إليه "عباس" مفتاح الشقة وغادر سريعًا تحت نظرات "يزن" المتعجبة، ولكن إرهاقه لم يجعله يفكر بارتباك "عباس" الغريب. 
فتح باب الشقة وأغلقه خلفه ناظرًا إليها نظرة سريعة ليقيمها، فكانت حالتها لا بأس بها، وأثاثها قديم نوعًا ما، ولكن لن يهم، فاختفاؤه ليومين ليس إلا!

وضع المفاتيح فوق طاولة صغيرة بجانب باب الشقة، ثم توجه نحو الغرفة الوحيدة الموجودة بالشقة وكانت أمامه على بعد مسافة قصيرة، دخلها وأغلق الباب خلفه، ولم يلاحظ أن باب الشقة قد أعيد فتحه!

أبدل ثيابه بثياب منزلية مريحة وقرر الخلود إلى النوم، مستغلاً حالة الإرهاق المسيطرة عليه كي لا يفكر بشيء يؤرق تفكيره.

وبالفعل، لم يأخذ وقتًا طويلًا وغرق في سبات عميق ولم ينتبه إلى باب الغرفة الذي قد أعيد فتحه هو الآخر.

                             ****
"قوليلي يا خاينة ليه الشيطان وزك"

ظلت تلك الجملة تتكرر مصاحبة لصوت موسيقى عالٍ اخترق أحلامه وأيقظ "يزن" من نومه، ففرق جفنيه بصعوبة وحاول التركيز لمعرفة مصدر تلك الموسيقى، حتى أدرك أنها تأتي من الشرفة الموجودة بالغرفة والمطلة على الحديقة الخلفية للبناية.

تحرك يزن بإرهاق وعلى وجهه علامات الانزعاج من تلك الموسيقى الصاخبة، ففتح الشرفة وبحث بعينيه حتى وجد رجلاً يجلس أسفل الشرفة في الحديقة ويدخن تبغًا وصوت المسجل بجانبه.

-لو سمحت، يا عم، يا عم أنت.

ظل يكرر حديثه عدة مرات حتى رفع الرجل وجهه إليه، فابتسم يزن ابتسامة مقتضبة:

-يا عم احنا الساعة ٢ بليل، ونايمين، معلش وطي أحزانك... قصدي وطي الأغاني شوية!

احتدت ملامح الرجل وقست ملامحه المتسمة بالشر الدفين، فقرر "يزن" الولوج إلى الداخل واقتصار الشر البادي عليه، في النهاية هو مجرد ساكن جديد ولن يزعج ساكني البناية، فهمس بضيق:

-طب براحة، في أيه!

وقبل أن يدخل، وجد بالشرفة المجاورة له، والتي يبدو أنها تابعة للشقة المجاورة، سيدة تقف هي وصغيرتها وتنظران إلى الأسفل نحو الرجل، ثم حولتا نظراتهما نحوه، فابتسم إليهما وقال:

-مساء الخير، برضو مش عارفين تناموا زيي؟

لم يتحدثا وظلا ينظران إليه بضيق حتى شعر يزن بالإحراج الشديد ودخل وهو يتمتم:

-عالم غريبة، أقسم بالله!

أغلق باب الشرفة خلفه ولكنه صدم من باب الغرفة المفتوح، فتحرك نحو الباب ليغلقه، ولكن صدمته الكبرى كانت بباب الشقة المفتوح على مصراعيه! 
تحرك "يزن" بحذرٍ شديد نحو باب الشقة، ينظر حوله وخلفه وفي الرواق خارج الشقة يمينًا ويسارًا، فلم يجد أحدًا، ولكنه لاحظ المفتاح الذي فتح به باب الشقة موجودًا في الباب، رفع حاجبيه معًا باندهاشٍ بالغ، ومد يده وأخرجه من الباب وهو يهمس لنفسه بتَيَه:

-هو أنا مش كنت قفلت الباب وحطيت المفتاح على الترابيزة!

رمش عدة مرات بتفكير، وفي النهاية استنجد أنه ربما قد نسي إغلاق باب الشقة من فرط إرهاقه، هز رأسه بيأسٍ وكاد يتحرك للداخل ليغلق الباب خلفه، إلا أنه سمع صوت صراخٍ يأتي من الشقة المجاورة له، وسيدة تبكي بانهيارٍ ويصاحب بكاءها صوت رجلٍ غاضب، فزفر بحنقٍ شديد وهو يهمس بحقد:

-ربنا ينتقم منك يا زيدان!

دخل وأغلق الباب خلفه بإحكامٍ ثم ذهب نحو الفراش، يُلقي بجسده المرهق عليه ويغطُّ في نومٍ عميق.

مرت ساعة كاملة عليه ولم يشعر بشيء إطلاقًا، أما بالأسفل أمام البناية، فكان يقف "عباس" يراقب الوضع، ومعه "زيدان" على الهاتف:

-لا يا باشا لسه فوق، متأكد.

-معقول، اطلع اطمن عليه!

حرك "عباس" رأسه برفضٍ قاطع وهو يقول:

-لا يا باشا ماتفقناش على كده لامؤاخذة، أنا لا يمكن اطلع أبدًا دلوقتي.

-يا بني آدم خد حد معاك واطلع شوفوه.

رفع "عباس" رأسه نحو البناية ووجد إحدى نوافذ الشقق المهجورة الإضاءة تُفتح بها وخيالٌ أسود كبير يتحرك بعشوائية، فجحظت عيناه بخوف وهو يتمتم:

-بسم الله الرحمن الرحيم، بدأوا، بدأوا.

رفع "عباس" طرف جلبابه الأسود ووضعه في فمه وركض بأقصى سرعة لديه، مغلقًا الاتصال في وجه "زيدان"، بينما "يزن" كان يغطُّ في نومٍ عميق وأحلامٍ متقلبة ما بين سليم أخيه وسيرا وبعض الكوابيس المزعجة، ولم يشعر بأي شيء يحدث حوله، لا من أصوات تحريك الأثاث، ولا من النوافذ التي تُفتح وتُغلق، ولا حتى من رائحة الطعام التي بدأت تفوح في الأجواء!

                              ****
سطعت أشعة الشمس من رحم الظلام لتنثر في الأجواء حيوية وبركة، وقفت "يسر" أمام المرآة، تنظر نظرة أخيرة على ثيابها قبل أن تهم بالخروج من غرفتها، فقابلتها والدتها التي نظرت إليها باستفهام:

-رايحة فين على الصبح يا يسر؟

-رايحة شقتي...

صمتت "يسر" لوهلة وكادت تعود لوصلة نحيبها حينما عادت مرارة القهر تتوغل داخلها، عندما أدركت أن حياتها انهارت وأصبح الانفصال وشيك اللحظة!

-رايحة الشقة، اجيب هدومي وهدوم لينا، وشوية حاجات ليا.

زمت "أمل" شفتيها بضيق من تدهور حياة ابنتها الوحيدة، فلم يبقَ بيدها شيء لتفعله، فقد كُتبت سطور الوحدة والآلام في مجلد ابنتها المهترئ.

-أبوكي يعرف؟

هزت "يسر" رأسها نفيًا ثم قالت بهدوء:

-لو قولتله هيقولي لا واجبلك غيرهم، بس دي حاجاتي الشخصية ومحتاجها، فهروح بسرعة وارجع قبل ما يرجع على الغدا.

حركت "أمل" رأسها باستسلام، ثم قالت بتنبيه حاد:

-طيب اوعي تتأخري، عشان أبوكي اليومين دول مطلع زرابينه علينا.

تنهدت "يسر" باستسلام ثم تحركت صوب باب الشقة، إلا أن سؤال والدتها أوقفها:

-مفيش حد من أهل نوح كلمك؟

التفتت إليها "يسر" تردف بلا مبالاة:

-لا، ودي حاجة متوقعة منهم، هما مش يهم إلا مصلحتهم وبس!

وضعت "أمل" كفًا فوق الآخر وهي تقول بضيق:

-والله ما فيهم إلا نوح!

صوبت نظراتها النارية نحو والدتها التي تقهقرت سريعًا نحو المطبخ:

-أنا رايحة اعمل فطار للينا.

زفرت "يسر" بضيق ثم خرجت تجر ساقيها دون ذرة طاقة، وعلى وجهها إمارات الحزن، وعيناها تحمل انكسارًا لن تستطيع الأيام إصلاحه.

بعد مرور عدة دقائق، وصلت "يسر" أمام شقتها، جذبت أنفاسًا عميقة قبل أن تمد يدها وتفتح باب الشقة بالمفتاح، مررت بصرها بحزن دفين على شقتها التي اختارت كل قطعة أثاث بنفسها، وحمل كل ركن في الشقة ذكرياتها التي من الصعب نسيانها.

أسدلت عيناها دموع الفراق والأسى، وهي تتلمس الأثاث بيدها تودعه للمرة الأخيرة، ثم تحركت صوب غرفتها، لكنها وجدت "نوح" يرقد غافيًا فوق الفراش في نوم عميق بنفس ثياب عمله، وحذائه لا يزال يرتديه، تحركت بخطوات هادئة نحو الفراش فوجدت ملامحه مرهقة للغاية، ومن شدة استغراقه في النوم لم يشعر بها.

أغلقت عينيها بقوة تمنع نفسها الضعيفة المتهاونة مما تسعى إليه، فلا مجال للعودة، ولا مكان للحب بقلبها، فقد أحرق مشاعرها في مرجل الخيانة، يبدو أن قلبه تعلق بأخرى غيرها، فلم يعد لديها مكانٌ في فؤاده الذي ودت اقتلاعه بيدها من فرط قهرها واعتصاره بين يديها بغل.

فتحت عينيها الباكية ومدت طرف أصابعها تمسح دموعها، فحتى وإن كان الانكسار يطغى بطوفانه عليها، لن تُظهره مجددًا، تحركت صوب خزانتها وجذبت بعض المتعلقات الشخصية والثياب ووضعتها في حقيبة كبيرة، ثم تحركت بخفة نحو سراحتها تضع أشيائها واحدة تلو الأخرى في الحقيبة وبين حين وآخر تنظر للخلف حيث يرقد "نوح" فوق الفراش.

وما إن انتهت حتى ذهبت صوب دورة المياه، جذبت بعض الأشياء الخاصة من أحد الأدراج ولكن جذب انتباهها سلة الثياب وبما تحويه، قطعة ثياب داخلية غريبة لم تكن لها إطلاقًا!

رمشت عدة مرات بعدم استيعاب وهي تقلبها بين يديها بعدم فهم وصدمة بالغة، وأبواق الخيانة تتعالى في ذهنها الذي استوعب وقاحته!

قبضت بغل شديد على قطعة الثياب وتحركت صوب "نوح" الغافي تجذبه من تلابيب ثيابه بصراخ حاد، فبدت كالمجنونة وهي تصيح به:

-قوم يا بيه، قوم يا دكتور يا محترم، محترم أيه وأنت ماتعرفش أي حاجة عن الاحترام.

سعل "نوح" بخفة وهو يفرق جفنيه سريعًا بعدم فهم، لوجود "يسر" أمامه، ممسكة بثيابه الأمامية بقبضتيها وعيناها تفصحان عن جنون عميق ينذر بقتله:

-خاين، خاين، كنت استنى لما تطلقني يا بجح، بتخوني في بيتي، بيتي، يا حيـ....

وضع يده فوق شفتيها يمنع سبابها وهو يقول بتيه، رغم أن نبرته كانت خشنة وحادة:

-خيانة أيه، وبيت أيه، أنتي شايفني نايم وجنبي واحدة، ما أنا متنيل نايم بهدومي اهو.

-وده أيه؟!

صرخت عاليًا وهي تشير نحو قطعة الثياب، مستكملة بنبرة مجروحة أوشكت على البكاء:

-دي مش بتاعتي، بتاعت مين يا نوح؟! رد عليا، يا أخي أنت أيه حجر، همك مصلحتك ونفسك وبس يا خاين.

ثم ألقتها في وجهه واعتدلت في وقفتها وهي ترمقه بنظرة اشمئزاز وكره انبثق من مقلتيها، وقبل أن تغادر وقفت بشموخ تردف بقوة نبعت من جراحها المستمرة في النزف:

-أنا بكرهك، بكرهك يا نوح.

استفاق "نوح" أخيرًا من صدمته ونهض خلفها محاولًا إيقافها، وهو يقول بصدق واهتمام بالغ ليبرئ نفسه:

-اقسم بالله ما أعرف دي أيه، أنا لسه جاي الشقة الفجر من وقت ما انتي مشيتي وأنا مدخلتهاش صدقيني.

أبعدت يده التي حاولت إيقافها بانزعاج واضح، فهمست ببكاء:

-ابعد عن وشي، حسبي الله ونعم الوكيل فيك يا أخي على قهرتي ووجع قلبي.

ثم تقدمت خطوة للأمام وأمسكت بمقبض باب الشقة، فكانت نظراتها الزائغة تفضح الألم الذي لا تستطيع كلماتها أن تصفه بعد أن اكتشفت خيانته، فسمعته يدافع عن نفسه:

-أنا عمري ما اعمل حاجة اغضب بيها ربنا، وحقيقي أنا ماعرفش أيه ده! ويمكن تكون بتاعتك ومتهيألك...

قاطعته بصراخ وكأن خناجر العالم بأسره تغرز في فؤادها الملكوم:

-مش بتاعتي، وماتحاولش تبرر في النهاية أنت مجرد واحد خاين، هستنى منك إيه تاني!

ثم غادرت الشقة، فوقف مكانه ينظر لأثرها بصدمة بالغة، جلس على مقعد في زاوية ما في الصالة، يحاول لملمة شتات نفسه المبعثرة، مفكرًا بحيرة، عاجزًا عن اتخاذ أي خطوة، بينما كانت الصدمة تسري في جسده كتيار كهربائي!
                                 ****
استيقظ "يزن" بكسل شديد، وحاول التركيز عندما وصل إليه صوت طرق عالٍ على باب الشقة، نهض ببطء وتحرك صوب الباب ليفتحه، فوجد "عباس" يقف مرتبكًا، وما أن رآه حتى ابتسم ابتسامة مهتزة:

-انت كويس يا باشا؟!

مد يده ليعيد خصلات شعره المبعثرة إلى الخلف وهو يقول بصوت يحمل بحة النوم:

-اه يا....

نسي اسمه، فتفهم الآخر الأمر ووضع يده على صدره، قائلًا:

-محسوبك عباس يا باشا.

-معلش لما ببقى صاحي مابركزش.

قالها يزن بهدوء يطغى على إحراجه، حتى تولى عباس مهمة التحدث سريعًا وكأنه يريد أن يلقي ما في جعبته ويهرب:

-زيدان باشا اتصل عليك ياما، ابقى كلمه، عايز حاجة يا باشا، سلام أنا ماشي.

-استنى بس، عايزك تجبلي شوية طلبات، عيش جبنة شاي او قهوة أي حاجة.

توسعت عينا "عباس" بصدمة بالغة وهو يردف مستنكرًا:

-هو أنت قاعد يا باشا ومطول؟!

رفع "يزن" حاجبيه ساخرًا من الصدمة التي تتجلى على وجه "عباس":

-امال هروح فين؟! مافهمتش قصدك!

-آآ اقصد يعني، كنت مفكر إن الشقة كإمنها قديمة مش هتعجبك.

حاول "عباس" تدارك نفسه كي لا يخطئ أمام "يزن" الذي لا يعلم شيئًا عن تلك الشقة، وذلك بأمر من "زيدان"، وفي ذات الوقت كان الإيجار الذي دفعه "زيدان" في تلك الشقة سيعود عليه بمبلغ مالي كبير من صاحب البناية، الذي اتفق معه أنه لو نجح في تأجير شقة من شقق البناية، سيكافئه بمبلغ كبير، وهو في أمس الحاجة للمال، لذا سيصمت وينتظر هروب "يزن" بمفرده دون تدخل!

-لا هي كويسة، بس يا عباس وانت نازل نبه على الراجل اللي في الدور الاول مايشغلش أغاني بليل يا عم، ويا ريته بيشغل أغاني حلوة.

قالها يزن بضيق كلما تذكر نظرة الرجل إليه، فلاحظ اندهاش "عباس" وهو يهمس لنفسه:

-راجل!

-اه اللي تحت بيشغلها في الجنينة اللي وراه وبيعلي على الآخر، أنا مرضتش اهزئه وسكت عشان بس قاعد يومين مش أكتر.

أكد يزن حديثه، فلاحظ نظرات الاندهاش تسيطر على "عباس"، فعاد وقال بتأكيد آخر:

-ياعم لو مش مصدقني، اسأل الست اللي قاعدة في الشقة دي، هي كمان صحيت هي وبنتها.

هنا توسعت عينا "عباس" بخوف وهو ينظر حيث يشير "يزن" بيده، فقال بلهجة سريعة، وحروفه تتداخل مع بعضها:

-اه اه ، مصدقك، حاضر، سلام.

ثم وضع طرف جلبابه في فمه وفر راكضًا، تاركًا "يزن" في حالة ذهول من تصرفه، لكنه دخل وأغلق باب الشقة خلفه، واتجه نحو دورة المياه مقررًا أخذ حمام دافئ يجدد به نشاطه، وما إن دخل دورة المياه وفتح الصنبور حتى لم يجد الماء، زفر بحنق وتحرك ليغادر، لكنه استمع إلى صوت الماء يتدفق من الصنبور.

ابتسم بلطف وهو يهمس بحماس:

-الحمد لله المياه جت.

اقترب من الصنبور وهو يخلع سترته العلوية، لكنه وجد الماء قد انقطع مجددًا، مط شفتيه بضيق وارتدى ثيابه مرة أخرى، ثم جاء يغادر إلا أن صوت الماء جذبه، فرفع أحد حاجبيه واقترب خطوة، إلا أن صوت الماء انقطع ثانيةً، حرك رأسه نحو الباب، فأعيدت المياه مرة أخرى، وعاد برأسه نحو الصنبور، قطعت المياه مجددًا، فقال بنزق:

-طيب والله ما أنا مستحمي!!

أغلق الصنبور وخرج من دورة المياه، يمسك هاتفه فوجد اتصالات عديدة من "زيدان"، فأجرى اتصالًا به، وما إن جاءه صوته، قال بضيق:

-أيه يا عم الشقة الغربية دي!

انتظر "زيدان" قليلاً قبل أن يسأل بحذر:

-مالها في أيه؟

-الميه قاطعة فيها يا عم!

قالها "يزن" وهو يجلس فوق الأريكة ويمسك بريموت التلفاز الذي يبدو عليه أنه قديم، ففتحه، لكنه لم يجد إشارة، واستمع إلى صوت زيدان المتعجب:

-بس؟

-ومفيش تلفزيون كمان إيه القرف ده!

-بس؟

القى "يزن" الريموت جانبه وقال بضيق:

-هو أيه اللي بس، قولتلي مفيش رفاهيات ماشي، بس مش للدرجادي، كلم لي عباس يحاول يتصرف في الميه اللي بتروح وبتيجي دي، أنا كل ما اكلمه يقعد يستغرب، راجل عجيب!

-يزن، هو أنت استحميت؟

سأل "زيدان" بحذر، فتعجب يزن وأجاب:

-لا لسه، حاولت بس ماعرفتش من الميه!

اختفى صوت زيدان نهائيًا حتى عاد يزن يسأله باستنكار:

-في أيه يا زيدان؟

عاد صوت "زيدان" يخترق مسامع "يزن" الذي نهض وقرر العودة إلى الغرفة ليجلب الحاسب الآلي الخاص به، ولم يلاحظ تحريك الريموت من الأريكة إلى مكانه فوق الطاولة.

-سليم، مبهدل الدنيا عشان مختفي.

-خليه كده أحسن، يمكن يحس باللي بيعمله فيا، أنا هقفل عشان اشوف حل في الميه دي، هموت واستحمى.

-طـ طيب، ما تقفلش ستارة الحمام.

توقف "يزن" قبل أن يفتح باب دورة المياه وسأله بعدم فهم:

-نعم! في أيه يا زيدان!!

-لا أنا بكلم واحد عندي في القسم.

-انتوا عندكوا ستاير في حمامات القسم؟!

تسائل يزن مستنكرًا، فقال زيدان بحنق طفيف:

-اه احنا قسم شرطة قالب على اوتيل، انت مالك يا عم، اقفل يلا سلام.

أغلق "يزن" الهاتف وألقاه فوق فراشه، وقبل أن يدخل إلى دورة المياه، استمع إلى طرق على الباب، فتوجه نحو باب الشقة شاعرًا بالنقم الشديد على الطارق، وما أن فتح الباب، لم يجد أحدًا سوى بضع حقائب بلاستيكية موضوعة أمام الباب، هبط بجذعه وتأكد منها، حتى وجد الأشياء التي طلبها من "عباس"، حمل الحقائب متعجبًا من عدم وجود ذلك الرجل غريب الأطوار، وقبل أن يدخل وجد باب الشقة التي أمامه يفتح وتخرج منه الفتاة الصغيرة، ترتدي فستانًا أبيض قصيرًا وتلعب بكرة صفراء وبيدها دمية مشوهة، ألقى "يزن" بسمة صغيرة نحوها، وتحرك ليدخل إلا أنها ألقت الكرة نحوه، فابتسم إليها وأعادها نحوها، قائلًا:

-إزيك، أنا أسمي يزن، اسمك إيه؟!

لم تجبه بل كررت نفس الفعل وألقت الكرة نحوه، فكرر هو أيضًا ما فعله وأعادها نحوها، قائلًا:

-عايزة تلعبي؟

هزت رأسها إيجابًا في صمت، وظلت تكرر نفس اللعب حتى وجد والدتها تخرج وتأخذها من يدها وتدخلها مرة أخرى إلى الشقة، وقبل أن تغلق باب شقتها، ألقت نحوه نظرة نارية، رفع "يزن" حاجبيه مندهشًا منها، ولكنه لم يعطِ للأمر أهمية، ودخل هو الآخر إلى الشقة، مغلقًا خلفه الباب بقدمه، وما إن تحرك خطوة للأمام حتى استمع إلى اندفاع شيء ما بباب الشقة، فالتفت برأسه للخلف ووقف ثانيتين مفكرًا قبل أن يفتحه مرة أخرى ووجد الكرة أمام الباب، اعتقد أن الصغيرة هي مَن ألقتها نحو الباب واختبأت داخل شقتها، فابتسم بشقاوة وهو يحمل الكرة ويدخلها معه، هامسًا بتحدٍ:

-ابقي لفي عليها بقى، والله ما أنتي واخدها!

ألقى الكرة على الأرض وذهب صوب المطبخ ليصنع لنفسه إفطارًا بسيطًا مع كوب شاي ساخن، مقررًا أن يجلس في الشرفة المطلة على الحديقة الخلفية، يتابع آخر حسابات معرضه من على حاسوبه الآلي.

                            ****
دخل "زيدان" المحل الرئيسي لعائلة الشعراوي، وجميع العمال يلقون عليه التحية، حتى وقف أمام مكتب "سليم"، وخلع نظارته الشمسية ووضعها أمامه على المكتب وهو يجلس، قائلًا:

-خير يا سليم طلبتني ليه؟

-يزن فين؟!

تساءل سليم مباشرة دون أن يرحب به، وبدا على وجهه علامات الاستياء، فتظاهر "زيدان" بعدم الفهم، مشيرًا نحو نفسه بتهكم:

-وأنا مالي، ما أنا بدور عليه معاك!

أمسك "سليم" قلمه وطرق به عدة مرات فوق مكتبه قبل أن يرفع بصره نحو "زيدان"، وتحدث بنبرة شبه حادة حاول تحجيمها في ظل اشتداد ظلمة عيني "زيدان":

-عارف أيه اكتر حاجة بتقفلني من الشخص اللي قدامي؟ هو أنه يعاملني على أساس إن أنا غبي.

مالت شفتي "زيدان" ببسمة جانبية، قبل أن يقول بتروٍ يُحسد عليه:

-ما عاش ولا كان اللي يعاملك كده يا سليم باشا!

خرجت نبرة سليم عن طوعه، فظهرت أكثر حدة وحنقًا أمام برود أخيه الظاهر:

-زيدان، بلاش لف ودوران، أنت أكيد عايز مصلحة أخوك!

لا زالت طريقته في الحديث تتسم بالرصانة، والتي لم تكن أبدًا في طباعه، فهو بارع في الهجوم وفظاظة لسانه، ولكن يبدو أن سمة الهدوء والرزانة اكتسبها مؤخرًا ليتكيف مع تقلبات سليم:

-عايز أكيد بس مش بالطريقة دي يا سليم، يزن مش صغير، ومينفعش معاه سياسة الأمر الواقع.

مالت رأس "سليم" إلى الجانب الآخر وهو يقول بسخرية مقصودة:

-وأيه كمان؟!

زم "زيدان" شفتيه بضيق، فاخشوشنت نبرته رغماً عنه وهو يلقي بتهديداته في لهجة آمرة لم تعجب سليم بتاتًا:

-ماتتريقش يا سليم، متعاملناش وكأننا كلنا مابنفهمش وانت بس اللي بتفهم!

-اممم يعني أنا طلعت زفت في الآخر؟!

قست ملامحه وغاص صوته في بحور الغضب والاستنكار، لتضرب أمواجه العاتية عقل "زيدان" الذي تراجع سريعًا وهو يبرر بتريث:

-لا طبعًا، أنا ماقولتش كده، بس يعني أحيانًا الكبير بيغلط، ومفيش حد معصوم من الغلط.

استند بمرفقيه على مكتبه وتساءل في سخرية خشنة:

-وأنا غلطت في أيه؟!

تنهد "زيدان" بقوة قبل أن يجيب بهدوء أوشكت قارورته على النفاد:

-في معاملتك معاه، سليم يزن مش صغير، وعقله ده يوزن بلد، طيب انت عارف أنا فاهم كويس اوي ليه يزن مش عايز ياخد خطوة جد في حياته.

-ليه؟!

تساءل سليم برفق، دفع أخيه ليوضح وجهه نظره بأريحية:

-عشان لو اخدها هيضطر يمنع نفسه عن البنات كلهم، وهيحترم البنت اللي هتكون في حياته، على قد ما هو لعبي وبتاع بنات، بس لما هيتجوز هيبقى حد تاني.

أشار على نفسه بتهكم طفيف وبسمة انتصار احتلت محياه:

-يعني أنا قراري صح، والمفروض أنه يتجوز ويتلم.

عاتبه "زيدان" بلطف، وهو يلقي بحلوله خارج ذهنه المشتعل بضراوة من أسلوب سليم المبطن بالسخرية:

-بس مش بالزعيق وصيغة الأمر، اتكلم معاه واقنعه مثلاً إن ده عشان سمعة البنت، أو مثلاً عشان سمعته أنه هو بيجري ورا واحدة كرفاله، صدقني هيلين وهيجي معاك.

انفجر "سليم" غاضبًا، فكانت كلماته قاسية وعيناه تخفي اهتزازًا حاول دومًا أن يخفيه كي لا تفضح مشاعره نحو إخوته، طالما كان جافًا وشحيح المشاعر معهما:

-زيدان ماتلمونيش على عصبيتي معاه، أنتوا الاتنين حتة مني وعيالي مش مجرد اخواتي، اللي يمسكوا يمسني، أنا عايزكم تبقوا احسن مني، ومفيش حاجة تمس سمعتكم ولا تقل منكم، لما الراجل ده جه هنا وقعد يزعق ويهلفط بالكلام على تربية اخوك واسلوبه اللي زي الزفت، أنا ماستحملتش، محدش فيكم يلومني لما اتدخل في حياتكم فاهم ولا لا.

حاول "زيدان" امتصاص غضبه، وخاصة بعدما لاحظ العمال في المحل انفعاله، فقال بهدوء ولطف ألصقه بحديثه:

-تمام فاهم اهدا، أنا ماقولتش حاجة، أنا بس بوضحلك شخصية اخوك، عشان تعرف تتعامل معاه، وبعدين أنا معاك يعني في أي حاجة تخص مصلحته.

-أنا فاهم كل واحد فيكم على أيه، واخوك مش هيتلم إلا بالطريقة دي، عشان كده قولي مكانه فين؟

زفر زيدان باستسلام وهو يقول بحيرة:

-هقولك، بس يعني هتعمل أيه؟

أجاب سليم باقتضاب:

-هروح له اتكلم معاه، ومش هسيبه إلا لما يوافق على اللي أنا قولته.

انكمشت ملامح زيدان بعدم فهم وترقب:

-تروح له ازاي مش فاهم!

استنكر "سليم" بقوة وهو يرمق أخيه بشك:

-هو إيه اللي مش فاهم، يزن فين؟!

جف حلق "زيدان" مما آل إليه تفكيره، فقال بحذر:

-في الاقصر، الحوار ده سفر وهتتعب، استنى هو هيجي بعد يومين.

أعلن سليم رفضه لفكرة أخيه، مصرًا على رأيه كعادته:

-لا الموضوع مش مستحمل، أمك مش مبطلة عياط، واخاف يجرالها حاجة وترجع تقولي بسببك، احجز لي تذكرة طيران على اول رحلة طالعة للاقصر، واحجز لي في الاوتيل اللي هو نازل فيه.

تفهم "زيدان" ما يرمي إليه "سليم"، وذلك عندما اتهمه بكل غباء بأنه السبب في وفاة والدهما، تجاهل حديثه لعلمه بمدى خطئه حينها، ويبدو أن أخيه لم يستطع النسيان أو مسامحته، فرد بنزق ظهر بوضوح على ملامحه التي تشربت من الغضب ما يكفيها:

-لا ما هو مش نازل في اوتيل، في شقة.

-طيب ابعتلي عنوانها.

انتظر "زيدان" ثوانٍ قبل أن يتساءل بقلق مما سيحدث إن ذهب "سليم" بالفعل لتلك الشقة، لم يكن خائفًا عليه من الجن أو العفاريت، بل كان مشفقًا عليهم من ردود أفعاله، كل مخاوفه تتلخص فيما سيحدث عندما يعودان هو و"يزن":

-سليم انت بجد هتروح، ما تقعد وتستناه احسن!

نهض "سليم" صادرًا أوامره، والصرامة تتصدر عناوين ملامحه، فأشفق "زيدان" على أخيه الأصغر عندما يحاصره "سليم" تحت وطأته:

-لا لازم اروح له، يلا انجز احجز لي تذكرة، أنا عايزه بليل يتفاجئ بيا، ما أشوف اخرتها معاه.
                            ****

جلست "يسر" في غرفتها ولم تعرف كم من الوقت مر وهي على نفس تلك الحالة، لقد أخذت من طرف الفراش مكانًا لها، وظلت بنفس ثيابها، ونفس صدمتها، وملامحها التي ازدادت شحوبًا، أما عيناها فكانت تحمل انكسارًا نابعًا من قلب مهترئ وشجن مشاعرها المطعونة بنصل الخيانة.

انهارت أمانيها وحياتها تحت قدميها، وأحاطها الحزن كغيمة سوداء وهي تنظر أمامها في الفراغ، ورغم أن الغرفة كانت مضيئة، إلا أنها شعرت بسواد شديد يحجب عنها أي نور.

آهات عديدة متألمة قاومت حلقها الجاف لتخرج بحرقة، لو سمعها أحد لأشفق عليها حتى قساة القلوب.

ومع آخر دمعة هبطت فوق خدها، قررت قرارًا لا رجعة فيه لعله يكون طوق النجاة للحفاظ على ما تبقى من روحها.

نهضت بعجز تغلغل في كيانها وخرجت من غرفتها، متجاهلة نظرات والدتها المستفهمة ونداءات ابنتها، دخلت غرفة والدها، الذي كان جالسًا فوق فراشه يقرأ في مصحفه كعادته كل ليلة:

-بابا.

همست بها بنبرة مجروحة اخترقت قلب والدها قبل مسامعه، رفع عينيه يتساءل في صمت مقلق، فأجابت بنبرة جافة تحمل حدة انتقام لاذع:

-نوح مش هيطلقني بسهولة، أنا عايزة اخلعه.

كانت تخبر والدها بقرارها وهي تشعر بقلبها الذي تحطم إلى آلاف الشظايا، فحمحم والدها بقوة قبل أن يسألها بشك:

-وده ليه؟ أنا قولتلك هخليه يطلقك غصب عنه!

كانت عيناها تحملان خيبة أمل لا يمكن وصفها، فقالت بنبرة صلدة:

-بس أنا عايزة اشرده واجرح كرامته، ومفيش حاجة هتوجعه غير إن أنا اخلعه.

كان من الواضح أنها تعيش في حالة ضياع، أشفق عليها والدها، فرد برزانة:

-طيب سيبيني، اتصرف بمعرفتي ولو محصلش وطلقك هعملك اللي انتي عايزاه.

-لا.

قالتها قولًا واحدًا، بقسوة حملت كل الجراح التي تسبب بها نوح في فؤادها، باتت وكأنها فقدت جزءًا من نفسها، عندما دخلت في دوامة الحزن والخذلان بسبب أفعاله، استكملت دون أن يرمش لها جفن:

-أنا مش هستنى تاني، لو سمحت نفذلي اللي أنا عايزاه، نوح لازم يتربى على اللي عمله فيا، وحتى لو كنت وافقت من الاول، هو ماقدرنيش وباع وخان، كان معيشني في جحيم الخوف، خليه يعيش فيه شوية ويخاف على سمعته وسط معجبينه وصحابه واهله، لما يعرفوا إن أنا خلعته.

ساد الصمت بينهما لفترة قليلة وكان أبلغ من أي كلمات يمكن أن تُقال، حتى قطع والدها لحظات السكون عندما حسم رأيه وقال:

-هكلم المحامي وارفعلك عليه قضية.
                          ****
ليلاً...

لم يحظَ "يزن" بحمام دافئ، فظل طوال اليوم يعافر مع المياه التي تأتي وتختفي في نفس الثانية، صنع "يزن" لنفسه كوب قهوة ووضعه فوق الطاولة بجانب الفراش، ثم التفت ليجلب حاسوبه، لكنه انتفض فجأة حينما سمع صوت تكسير خلفه، فاستدار سريعًا بكامل جسده، ووقع بصره على الكوب المتهشم إلى عدة قطع على الأرض، فرفع حاجبيه بتعجب.

-وقع إزاي ده؟!

التفت حوله يبحث عن قطعة قماش ليمسح آثار القهوة في كل مكان، إلا أنه أثناء بحثه سمع صوت التلفاز الذي اشتغل في الصالة، تجمد للحظات مكانه، ثم تحرك نحو باب الغرفة الموارب وفتحه على مصراعيه، ليجد التلفاز مضاءً وثابتًا على إحدى القنوات التي كانت تعرض فيلمًا مصريًا قديمًا!

وأثناء تسمره كالأبله، سمع صوت موسيقى يأتي من الأسفل، يبدو أن جاره ثقيل الدم بدأ وصلته في سماع أغنيته التي لم يفصلها أبدًا بالأمس.

تحرك لا إراديًا نحو الشرفة وفتحها، ثم وقف ينظر للأسفل حيث مكان جلوس الرجل، في نفس المكان وبنفس الوضعية، ونفس الأغنية تصدح في الأجواء بجانب دخان تبغه الكثيف.

"قوليلي يا خاينة ليه الشيطان وزك" 

لم يستفق إلا عندما رفع الرجل بصره فجأة ورمقه بنظرات شيطانية متوعدة، وكأنه سلب شرور العالم ووضعها في عينيه المظلمتين، توتر يزن قليلًا منه، وعاد بجسده للخلف وقرر الدخول، وما إن التفت، وجد نفس الرجل يقف خلفه وابتسامة مخيفة تحتل ثغره الداكن، فخرج من يزن سباب نابي لم يستطع منعه من هول صدمته، حيث تجمدت أطرافه وفقد عقله التركيز، فأصبحت أفكاره التي تصرخ بالهروب مشوشة وهو يقف فاغرًا فمه في حالة ذهول شديدة، أغمض عينيه وفتحهما عدة مرات حتى اختفى الرجل من أمامه، وهنا تيقن أنه ليس بإنسان، بل إنه... جن، وهنا اشتعلت حواس يزن بالخوف والفرار السريع.

دخل إلى الغرفة التي وجد بابها مغلقًا، تيبست أطرافه ونظر حوله بقلق، حتى بدأت الإضاءة تلعب دورها في زجه إلى غياهب الخوف، وذلك عندما حل الظلام على الغرفة وفي نفس الثانية أعيدت الإضاءة مرة أخرى، لم ينتظر كثيرًا وفتح باب الغرفة بقوة، لدرجة أن مقبض الباب خُلع في يده من شدة قوته، نظر إلى المقبض بتعجب، ثم ألقاه من يده فصدر عنه صوت قوي، وأثناء ركضه، لمح المطبخ الذي أطفأ إضاءته بنفسه قبل أن يدخل الغرفة، فإذا بالإضاءة به مشتعلة ورائحة شهية تأتي منه!

لم ينتظر كثيرًا وفتح باب الشقة حتى تفاجأ بوجود "سليم" أمامه، رافعًا يده ويبدو أنه كاد يطرق الباب، إلا أن عقله لم يستوعب مجيء سليم خلفه، فاعتقد أنه جن متمثل في أخيه، فدفعه بعيدًا بقوة وكاد يفر من أمامه حافيًا وبثيابه البيتية، إلا أن سليم أوقفه ونهره بصوت غاضب:

-بتعمل أيه يا مجنون، اقف عندك.

حاول يزن جذب يده من قبضة سليم وهو يقول بصوت مرتفع:

-اعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الارض ولا في السماء وهو السميع العليم.

استنكر "سليم" بخشونة وهو يقبض أكثر على يده:

-انت شفت عفريت يا يزن، عيب أنا أخوك الكبير، احترم نفسك.

انهار عقل "يزن" بعد ما عاشه، فقال بقوة زائفة لعل ذلك الجان ينصرف عنه:

-بص لا تأذيني ولا أأذيك، انصرف.

-يا حيوان بتقول لاخوك الكبير انصرف، ادخل يلا خلينا نتكلم، وقدر إن أنا جاي من سفر عشان خاطرك، وبلاش الهزار البايخ ده.

ابتلع "يزن" ريقه بصعوبة وهو يدقق في سليم بحذر قبل أن يقول بارتباك جلي على نبرته:

-سليم، يلا بينا من هنا، الشقة دي...

قاطعه صوت باب الشقة الذي فتح وظهرت السيدة وهي طفلتها وقد وضح عليهما الغضب، فاعتذر سليم بهدوء وحرج:

-معلش يا مدام، ازعجناكم.

ثم جذب "يزن" التائه خلفه بقوة إلى داخل الشقة، وأغلق الباب خلفه، وهو يقول بنبرة معاتبة:

-مش هتبطل يا يزن حركاتك دي، الجيران طلعوا اهم.

نظر يزن حوله بريبة، منتظرًا ظهور الجن مجددًا، فظل يتمتم ببعض الآية القرآنية وترك سليم يتفحص الشقة حتى وصل إلى الغرفة فوقف على أعاتبها، وهو يقول ساخرًا:

-يا رايق، وكمان عملتلك قهوة، وسايبنا هناك بندور عليك زي المجانين.

لم يعقب يزن بل تحرك بخطوات ثقيلة نحو الغرفة، ووقف بجانب سليم، وما إن وقعت عيناه على كوب القهوة الذي لم يُكسر وموضوعًا فوق الطاولة وكأن شيئًا لم يحدث، حتى جحظت عيناه وأمسك بيد سليم، يقول برجاء:

-يلا من هنا يا سليم بسرعة.

أبعد "سليم" يده بقوة بعيدًا عنه وهو يقول بنزق:

-لا هتقعد وهتسمع أنا عايزاك في أيه، ولازم تسمع كلامي وتحترمني، ابوك لو كان عايش كان قالك اسمع كلام اخوك.

-يا عم هتجوزها، والله هتجوزها، لو عايزاني اتجوز اربعة هعمل كده، بس يلا من هنا.

-هو أيه اللي يلا من هنا، في أيه مالك مش على بعضك ليه!

قالها سليم باستنكار ناري وهو يرمق يزن الذي تصنم فجأة وكأنه تمثال وعيناه مثبتتان على شيء خلفه، فالتفت "سليم" خلفه ونظر إلى حيث ينظر "يزن" 
لم يجد أحد، فقال بشك وهو يهز "يزن":

-مالك يا يزن، بتبص على أيه!

سبة أخرى خرجت منه وهو يبتعد للخلف وهو يردف بتوتر وخوف:

-هو أنت كمان مش شايفه، اعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ده واقف وراك على طول.

أشار إلى حيث يقف سليم، وهنا أدرك خطورة الموقف، وذلك عندما شعر بأنفاس خلفه وتحديدًا بجانب أذنه، لا شك أن الدماء تسربت من أوردته، لكنه ظل ثابتًا وهو يحرك عينيه يمينًا لينظر خلفه، لمح "خيال" أسود يتحرك بالمطبخ الذي كان على يمينه، وصوت أنثوي يصدح عاليًا:

-أنا خلصت الأكل يا حبيبي.

ثم خرجت هرة سوداء مخيفة من المطبخ تركض بسرعة البرق نحو سليم، الذي ابتعد في اللحظة المناسبة، انتبه لصوت يزن وهو يصيح:

-يلا يا سليم من هنا.

تحرك سريعًا مع يزن، الذي فتح باب الشقة، وكان سليم خلفه، قبل أن يهبطا أولى درجات السلم، وجدا كرة صفراء تضرب بقوة رأس سليم، التفت خلفه، فوجد الفتاة الصغيرة تقف وتبتسم ابتسامة مخيفة، والدماء تسيل من أنفها، وفستانها الأبيض الذي كان نظيفًا ملطخ بالدماء، فنظر يزن إلى سليم المصدوم، وهو يهمس بتيه ويشير نحوها:

-هي البت مالها...

ظهرت والدتها من العدم، وشعرها مشعث للغاية وسكين مغروس في صدرها، وآثار ضرب قوية على وجهها، ونفس ابتسامة صغيرتها تحتل وجهها هي أيضًا، همس يزن لسليم بارتباك وخوف:

-هماا.....هماااا....هما عفاريت بردو.

فجأة، فتحت أبواب شقق العمارة وأغلقت بقوة، والإضاءة انطفأت واشتعلت، وصوت صراخ وصياح متداخل وصوت طلق أعيرة نارية، وكأنهما في فيلم سينمائي، لم يعرفا كيف ركضا وخرجا من تلك البناية بسرعة الصاروخ، حتى وجدا رجلاً يعبر الطريق، فأوقفه يزن وصوته قد بح من هول ما رآه:

-لو سمحت هي العمارة دي مالها!

نظر الرجل ليزن الذي وجده حافي القدمين، وسليم الواقف بجانبه صامتًا ولكن ملامحه مهزوزة:

-انت طالع منها!!

-اه، كنت قاعد هنا...

أجاب يزن ولم يكمل حديثه، إلا أن الرجل ركض سريعًا وهو يصيح برعب:

-العفاريت طلعت علينا يا بلد، الحقونا.
                                ****
مع شروق الشمس، هدأ "يزن" قليلاً وعادت أنفاسه المضطربة تنتظم بعد أن صنع له عباس كوب عصير مثلج، وقرأ عليه بعض الآيات القرآنية، وبجانبه، كان سليم يجري اتصالاً بزيدان للمرة التي لا يعلم عددها، ليوبخه عما فعله بهما، بعدما اكتشفا من عباس أنه كان على علم بالعمارة المسكونة.

-واقسم بالله ما هسيبه، الكلب.

-أنا قطعت الخلف بسببه.

قالها يزن بحسرة، فابتسم عباس وظل صامتًا حتى سأله يزن بريبة:

-قولتلي العمارة كلها مسكونة، يعني أنا كنت بتعامل مع عفاريت.

-يا باشا ده انت جاحد انت قدرت تنام فيها ليلة كاملة غيرك مقدرش.

قالها "عباس" بجدية، إلا أن يزن قال:

-الله اعلم يا عباس كانوا بيعملوا فيا أيه وانا نايم، الله اعلم، اقعد ساكت، المهم حاجتي أنا عايزاها.

-هجبهالك بس الصبح والرجل تدب في المنطقة واخد كام راجل معايا وادخل اجبهالك.

وضع "يزن" يده فوق رأسه وشعر بصداع فتاك برأسه:

-لسه هستنى، أنا عايز امشي من هنا.

رفع عيناه فنظر إلى سليم الذي ترك الهاتف ويبدو أنه كان سيتحدث بشيء إلا أن يزن اوقفه قائلاً:

-هتجوزها لو عايزاني اتجوز ابوها هعمل كده، بس نمشي من هنا 
تسربت أشعة الشمس الذهبية ببطء عبر الأفق، معلنة عن يوم جديد، فتح "زيدان" عينيه بكسل شديد، ومد ذراعيه للأمام وهو يتثاءب، ثم اعتدل بجسده العلوي وضغط على زر الإضاءة الخافتة بجانبه، ألقى بصره بجانبه فلم يجد "مليكة"، فتعجب وجلس على الفراش، فتح فمه لينادي عليها، لكنه صُدم مما رآه، فقال بذعر تجسد على ملامحه:

-أيه ده سلام قولاً من رب رحيم، ازاي دخلتوا هنا!

كان "سليم" و"يزن" يجلسان في آخر الغرفة بهدوء شديد، وكأنهما رجلا مافيا ينتظران استيقاظه لقتله، وعندما أعلن صدمته بوقاحة، نهض "يزن" من مكانه، وخطى خطوات ثقيلة وهو يبتسم بشر، ثم انحنى بجذعه العلوي نحو "زيدان" المصدوم قائلاً بهمس حاد:

-‏أيه رأيك في المفاجأة السوده دي، ده أنا هبقى عملك الأسود من هنا ورايح.

ثم جلس يزن على ركبتيه وأمسك بـ زيدان من تلاتيب سترته القطنية، فدفعه بعيدًا عنه بانزعاج:

-‏اوعى يا عم من على السرير، وبعدين انت جيت امتى وازاي محدش قالي إنكوا جيتوا!

كور "يزن" يديه معلنًا استعداده لخوض معركة المصارعة المعتادة بينهما، وهو يردف بسخرية:

-عشان كلهم باعوك، محدش يالا خاف عليك مننا حتى مراتك باعتك في ثانية!

دفعه "زيدان" مرة أخرى بعيدًا عنه وهو يشير إلى "سليم" بعتاب:

-‏شايف قلة أدبه يا سليم، أنا ساكت له بس عشان انت قاعد وموجود.

نهض "سليم" هو الآخر وقطع صمته الطويل، مفصحًا عن وجهه المستنكر والغاضب، واقترب حتى حاصر "زيدان" من الجهة الأخرى، فبدا كفريسة بين أسدين عملاقين:

-بتودينا في عمارة من اولها لأخرها مسكونة يا زيدان؟

رسم "زيدان" علامات الاندهاش والبراءة الزائفة على وجهه، وقال بنبرة متعجبة:

-أنا! محصلش، مسكونة مسكونة ازاي؟!

ضربه "يزن" فوق كتفه بقوة وهو يتلفظ بكلمات نارية محملة بأعيرة الغضب مما فعله به ذلك الفظ:

-‏استعبط يالا، عباس قالنا كل حاجة، عايز تخلص مننا يا زيدان، ليه حارقينك في أيه؟!

أشاح "زيدان" يده بلا مبالاة، شاعرًا بالإحراج منهما، لكنه أظهر عكس ذلك:

-‏يا عم اوعي حارقين مين، ده جزاتي عشان وقفت جنبك، والله يا سليم اللي بتعمله وهتعمله فيه حلال.

شمر "يزن" عن ساعديه، ونهض فوق الفراش بطوله الفارع، وقال بتوعد وانتقام تدلى من نبرته الحادة:

-‏ده اللي انا هعمله فيك هو الحلال.

ثم هبط فجأة بجسده نحو "زيدان" الذي تحمل وزن "يزن" بصعوبة حتى احمر وجهه، حاول دفعه، لكن الآخر أمسك بوسادة ووضعها فوق وجهه، دارت المعركة بينهما، وابتعد "سليم" عنهما سريعًا كي لا يحظى بلكمة في وجهه، خاصةً أنهما كانا أشبه بثورين في حلبة مصارعة، وكان للفراش نصيب حيث انكسر من شدة عراكهما، وفي ظل محاولات "سليم" البائسة لإسكاتهما، لم ينتبها إليه، فطرأت فكرة في عقل نفذها على الفور وقال بنبرة عالية يغمرها الخوف وهو يشير خلف "يزن":

-يزن البت وامها وراك.

انتفض "يزن" برعب ونظر خلفه، لم يجد شيئًا، استمع إلى ضحكات "سليم" و"زيدان" معًا، وأدرك مزحة "سليم"، فزفر بحنق وقال:

-يا جدعان واقسم بالله انتوا كده بتضيعوا مستقبلي.

اخشوشنت نبرة سليم عن قصد وهو يبوخه:

-‏ما أنت مش راضي تسمع كلامي وتبعد عن الهمجي ده، واديك كسرت السرير.

رفع "زيدان" أحد حاجبيه باستنكار وهو ينظر إلى "يزن":

-‏هو شتمني؟!

-‏اه يا بارد يا....عارف لو سليم مش واقف كنت سمعتك قاموس شتايم انما أيه عنب يستاهل دماغك السم دي.

-طب اوعى، وبعدين بذمتكوا مش فصلتوا شوية المفروض تشكروني.

هز "يزن" رأسه وهو يجلس على طرف الفراش السليم، متهكمًا على حاله:

-‏فصلنا؟! احنا فعلاً فصلنا وبقينا خارج نطاق الخدمة بسببك.

جلس "سليم" هو الآخر على مقعد بجوار الفراش، مقررًا فتح الموضوع، فقال ببسمة جانبية ساخرة تحوي في طياتها غموضًا وألغازًا أثارت القلق في نفس "يزن":

-‏تصدق يا زيدان عندك حق، يزن فعلاً فصل وعمل إعادة تدوير لمخه وقرر أنه يسمع كلامي وهيخطب البنت اللي كانت كرفاله!

رفع "يزن" رأسه بشموخ رافضًا أن تهان كرامته وكبرياؤه، وقال بضيق طفيف:

-‏أيه يا سليم كرفاله دي، محصلش ولا عمرها هتحصل.

-‏ياعم اقعد ساكت وخلي الطابق مستور، ما انت اتفضحت والدنيا كلها عرفت هنا في البيت وعندك في الشغل والمنطقة والناس كلها!

ألقى "زيدان" كلماته بعناية وحرص لتغرز كالأشواك في عقل "يزن"، متأكدًا أن عناده المتأصل في شخصيته سيتزعزع قليلاً من أجل تجميل صورته المنهارة، فوجده يقول بسخرية عكست توترًا في عينيه:

-يا سلام ومين عرف الناس دي كلها!

تلاعب "زيدان" بحاجبيه قاصدًا إثارة استفزازه أكثر، مبتسمًا بمكر:

-اه يعني البت كرفالك فعلاً، طيب يا يزن مجتش اخدت من عصير خبرتنا أنا وسليم ليه؟!

أشاح "يزن" بوجهه ببرود وهو يتمتم بنبرة ثقيلة، فلم يكن يعترف بهزيمته، فكبرياؤه كان يرفض حتى مجرد التفكير في التراجع:

-هو انتوا عندكوا عصير اصلاً، وبعدين ماتهزروش سليم أنا قراري ماتغيريش.

لم يكن "سليم" بحاجة إلى الصراخ مثل المرة السابقة، فقد كان يعرف أن الهدوء والثقة الآن هما السلاح الأقوى لإقناع "يزن" بما يريد، لذا قال بتريث:

-‏المرة دي مفيهاش هزار ولا حتى تفكير، أنا كلمت ابو البنت واتفقت إن أنا هنروحلهم يوم الجمعة.

صاح "يزن" مستنكرًا وهو ينظر إلى "زيدان" مستنجدًا به:

-‏نعم؟!

تدخل "زيدان" بقوله الهادئ، والذي رغم لطف نبرته إلا أنه حمل وقاحة صدمت "يزن":

-‏يزن عايز الصح، اولاً انت اتفضحت ولازم الموضوع يتلم.

زمجر "يزن" باستنكار ورد بوقاحة غير قادر على تحجيم لسانه:

-‏ليه مسكتوني معاها في شقة، أيه يا جماعة متأفوروش!

خلق "سليم" البيئة المثالية التي تجعل من المستحيل على أخيه رفض ما يقترحه، وكأنه لا يملك خيارًا آخر:

-‏متنساش إن أنا قولت للحاج أحمد أنك بتحاول توصل لأبوها عشان تخطبها...

قاطعه "يزن" بحنق وقد نفد صبره، وهو يحاول الحفاظ على حياته التي يريد "سليم" رسمها كيفما يشاء، بينما هو يصبح كاللعبة في يده:

-‏يا دي الحاج أحمد، ماتخلونيش اقتل الراجل ده.

كان "سليم" يعرف متى يتحدث ومتى يصمت، حتى قرر قطع صمته، متحدثًا بمزيج من المنطق والعاطفة، استطاع أن يصوغ حججه بطريقة تجعل من الصعب على أي شخص أن يرفضها:

-‏الموضوع له أبعاد كتيرة يا يزن، أولاً إنك لازم تستقر وحياتك تجرب فيها حاجات جديدة ومش هتيجي غير بالجواز وأنك تبني عيلة، وتاني حاجة أنا قولتلك أحيانًا  تصرفاتك ممكن نتيجتها متكنش تعجبك وفعلاً اللي قولته حصل، ومتنساش إن الموضوع دخل في بنت، طيب الحاج أحمد مقتنع إن البنت مؤدبة غيره مش هيكون مقتنع لإن حضرتك وقعت مع واحد مابيتبلش في بوقه فوله والاخبار زمانها منتشرة وانت لو ماخدتش خطوة بجد البنت دي هتتطرد من شغلها بسبب القيل والقال، ومش ذنبها إنها مش جاية معاك سكة ومش معجبة بيك! فكر ورد عليا ويا ريت تكون راجل وتتحمل مسئولية شوية.

غادر "سليم" ولم يعطِ له فرصة للرد، فبدأ "يزن" يميل إلى آرائه، لكنه أظهر عكس ذلك بعناده واعتراضه الممزوج باستنكار لاذع:

-هو أنا من امتى ماكنتش راجل معاه في كلامي!

تنهد "زيدان" بقوة وهو يستند بظهره إلى الفراش، متحدثًا بهدوء ماكر، متلاعبًا بأفكار "يزن" المتخبطة، مستغلاً التناقض المنسوج في عينيه الحائرتين:

-فكك من الكلام ده كله، انت خسران أيه اخطبها شهر ولا اتنين ولا تلاته وبعدها قوله مش مرتاح وفركش، واهو بردو تكون اتعرفت عليها طالما هي مزحلقالك كده.

احتدت ملامح يزن وهو يردف بنبرة متوعدة:

-‏تصدق بالله أنا هخطبها مخصوص عشان اوريك ازاي هي معجبة بيا ومبسوطة بيا عشان نظرة الشماتة اللي في عينك دي!

-ياعم ده جزاتي إن بقولك على الخلاصة وتخلص ازاي من سليم لإنه مش هيسيبك، سليم اخوك لو مانفذش اللي في دماغه هتبقى سواد على دماغنا قبلك!

فرك وجهه بقوة وهو يشعر بالحيرة، فقد انقسم إلى جزئين، جزء يصارع ويثور رافضًا لرأي "سليم" من الأساس، فتلك حياته وهو أدرى بها، وآخر يخضع لرأي "زيدان"، خاصةً أن تلك الجامحة، سليطة اللسان، متقلبة الأهواء، لم يرسُ بعد في مرساها، فلِمَ لا يخوض التجربة؟

-‏سليم عايز يعدلني بالعافية، وأنا لو مكنتش مقتنع عمري ما هكون زي ماهو عايز.

تنهد "زيدان" بقوة قبل أن ينهض من الفراش، ثم قال بهدوء رزين تعجب له "يزن" كثيرًا:

-‏بس متنساش أن هو بيحبك وبيخاف عليك، واكتر حاجة زعلته هو كلام الحاج أحمد عنك يا يزن، فهو عايز يثبتله إنك عكس كده، فهمت.

زم شفتيه بضيق حاد قبل أن يقول باعتراض:

-‏من امتى سليم بيهمه كلام الناس؟!

توقف زيدان قبل أن يدخل إلى دورة المياه وهو يحمل منشفته فوق كتفه:

-‏لغاية عندي وعندك ويمكن عندك انت كمان اكتر بيهمه جدًا كلام الناس، اخوك عايزك تبقى واجهة مشرفة.

لانت ملامحه المنزعجة إلى استنكار طفيف وهو يشير نحو نفسه:

-‏وانا واجهة أيه يعني دلوقتي؟!

تظاهر زيدان بالتفكير قليلاً قبل أن تتسع ابتسامته ويردف بوقاحة معتادة منه:

-‏الصراحة أكيد  واجهة تعر!، يلا البيت بيتك يا يزون أنا داخل اخد شاور.

ودخل سريعًا قبل أن يلقي "يزن" في وجهه وسادة كبيرة، معطيًا لسانه حرية التعبير بشتائمه القذرة، منهياً اعتراضاته:

-يزون في عينك يا زيدان، والله ما أنا سايبك.

                                 ****
خرجت "سيرا" سريعًا من غرفتها تحمل حقيبتها بعدما تأخرت اليوم على عملها، ولكن أوقفها أخواها "عبود" و"قاسم" التوأمان، وهما يبتسمان برجاء، فتفهمت "سيرا" مقصدهما كعادتهما معها.

-والله يا شباب المستقبل أنا ما معايا الا على قد الموصلات الشهر ده، ابقو تعالوا الشهر اللي جاي!

التفوا حولها وقال "قاسم" ذو البحة الغليظة التي لا تتناسب مع رجائه:

-سوسو، احنا عايزين بس خمسين جنية، ورانا اشتراك ماتش ضروري وعايزين نروح.

تولى "عبود" ذو البحة الأضعف والجسد الأصغر والملامح الضعيفة عن توأمه:

-مستقبلنا في ايدك الحلوة دي.

ثم وضع قبلة فوق يدها، وتولى الآخر اليد الأخرى وأغرقها بالقبلات، حتى أبعدتهما "سيرا" بحنق وهي تقول بشك:

-طالما جاينلي يبقى بابا مانع عنكوا المصاريف، يا ترى ليه؟!

اندحرت ملامح "قاسم" الخشنة إلى براءة زائفة تحت نظرات أختهم المستنكرة:

-كانت مجرد خناقة مع شوية عيال ملهمش لزمة، وبابا شافنا وحلف ليعاقبنا، طيب يعاقب واحد، أبدًا احنا الاتنين.

زمت شفتيها بضيق من أفعالهما المتهورة، خاصة أنهما في مرحلة مراهقة ويصعب التحكم بهما، وفي أثناء انشغالها، تحاول جاهدة أن تتقرب منهما وتنصحهما، إلا أنهما يتظاهران دومًا بتقبل رأيها ويفعلان عكسه!

أخرجت نقودًا من جيبها ووضعتها بين قبضتيهما قائلة بتهديد صارم:

-أول وآخر مرة تتخانقوا المرة الجاية ممكن يحصلكم حاجة، فاهمين!

أومأ الاثنان برأسيهما في خضوع تام، وعندما فتحت قبضتها التقطا النقود وفرّا خارج المنزل سريعًا، تحت نداءات "أبلة حكمت"، وما أن وصلت "سيرا" إليها، حتى سمعتها تقول:

-يا ماما ركزي شوية مع جوز البهايم دول، صافي بيقولي عاملين مصايب مع المنطقة كلها.

وما إن التفتت حتى رأت "سيرا" تقف خلفها مباشرة، فنظرت لها بشك:

-انتي اديتهم فلوس يا سيرا؟!

أشارت سيرا نحو نفسها باستنكار، متحدثة بجدية:

-أنا! أنا يا ابلة اديهم استحالة، أنا ماشية بمبدئك في الحياة! السلف تلف والرد خسارة!

أمسكتها "حكمت" من كتفيها قائلة بفخر، وابتسامتها تظهر بوضوح، وهي نادرًا ما تحتل ثغرها المقتضب دومًا:

-ايوه يا بت شاطرة، إن كنت على البير اصرف بتدبير.

-الله يا ابلة، الله على أمثالك اللي بتخليني كل يوم متأكدة إن بمشي ورا الشخص الصح.

توقفا عن الحديث عندما خرج والد "سيرا" من غرفته، مناديًا عليها:

-سيرا عايزك.

نظرت في ساعتها فوجدت نفسها متأخرة ما يقرب من نصف ساعة عن عملها، فقالت بحذر ونبرة مهذبة للغاية:

-دلوقتي يا بابا؟!

-اه معلش، حتى لو هأخرك عن شغلك، في حاجة ضرورية.

اضطربت معدتها مما هيأه عقلها البائس، ونظرت إلى أختها الكبرى التي كانت تنظر لوالدها بفضول كاد يقتلها، وقبل أن تتحرك "سيرا" وجدتها تسبقها وتدخل الغرفة عنوة تحت نظرات والدها المستهجنة:

-أيه يا بابا هتطردني ولا أيه!

أفسح والدها لها المجال وهو يشير للداخل بنبرة غير راضية، لكنها تجاهلت اعتراضاته وجلست فوق أريكة صغيرة، وبجانبها جلست "سيرا" بقلق ما أن يفاتحها والدها بشأن تقدم "فايق" إليها!

وقد صدق حدسها عندما قال بهدوء مثبتًا بصره عليها:

-في عريس جايلك.

توهجت ملامحها المرتبكة لغضب مستنكر وهي توطئ عتابها لأختها دفعة واحدة:

-عريس؟! انتي قولتي لبابا يا ابلة بردو.

تنقلت نظرات والدهما بينهما وهو يقول بحيرة:

-قالتلي على أيه؟!

زمت "سيرا" شفتيها وشعرت بانقباض صدرها لدرجة أنها أحست ببوادر البكاء تقف على حافة جفنيها:

-على فايق يا بابا، أنا مش عاوزاه.

-لا فايق أيه، أنا كمان ماعجبنيش الموضوع، يوم ما تتجوزي تتجوزي جوازة حلوة انتي آخر العنقود في البنات ومعنديش أعز ولا أغلى منك.

هنا زاد فضول "حكمت" إلى الضعف من بداية الأمر، وهي تعرف أن الموضوع لا يخص "فايق"، فوالدها أبدى رفضه حتى بعد محاولاتها المستميتة لإقناعه، فتدخلت بحماس:

-مين يا بابا العريس، قولنا وفرحنا.

تبسم والدها برفق وهو يكشف جزءًا عما يحويه داخل جعبته:

-واحد عيلته كويسة اوووي اوووي، لو عرفتيه اظن أنك هتتبسطي وبوزك ده مش هيبقى موجود.

وأشار بإصبعه نحو "سيرا"، التي تابعت في صمت مستشيط ظهر في مقلتيها، خاصة عندما تدخلت "حكمت" للمرة الثانية، لم تستطع كبح رغبتها في استكشاف هوية الشخص المتقدم لأختها، حيث كان فضولها يتزايد مع كل لحظة تمر، فقالت بنزق طفيف:

-مين يا بابا شوقتنا!

أرضى والدها فضولها دفعة واحدة عندما أفصح عنه بلمحة إعجاب أنارت عينيه وعبرت عن مدى سعادته:

-يزن الشعراوي، اخوه الكبير اللي اسمه سليم كلمني واتفق يجيوا عندنا يوم الجمعة هنا في البيت.

توسعت عينا "حكمت" بصدمة وسعادة في آن واحد، فنهضت تصيح بنبرة عالية، وعيناها تلمعان بحماس مفرط:

-أيه يزن، مبروك يا سيرا، مبروووووك يا حبيبتي، ده انا هوزع شربات على المنطقة كلها.

حاول والدها تهدئتها قائلاً برصانة متأصلة فيه رغم ابتسامته المضيئة على وجهه منذ أن كشف عن هوية العريس:

-اهدي يا حكمت داري على شمعتك تقيد يا بنتي، نتفق بس وبعدها اعملي اللي انتي عايزاه، بس المهم انتي كنت قولتي لام فايق إن أنا رافض!

 توقف قطار سعادتها قليلاً في محطة القلق، وذلك لأنها لم تخبر والدة "فايق" برفض والدها، حيث كانت مقتنعة بأنها ستحاول إقناعه، لقد خالفت أوامر والدها كعادتها، لكنها لم تُبدِ للأمر أهمية، ففرحة نسب "يزن" لعائلتها أكبر من "فايق" ووالدته بكثير، فقررت أنهما ستخبرانهما فيما بعد، وحاولت الافلات من مصيدة والدها إليها، وذلك عندما رأت شرود أختها الغريب، فسألتها بقلق وشك صارم:

-آآه اه اكيد، مالك يا بت يا سيرا مسهمة كده ليه؟!

هزتها حكمت برفق فقالت سيرا بتيه واضح عليها:

-ها..

رفعت "حكمت" أحد حاجبيها بريبة وهي تقول:

-ها أيه مالك يا بت! 

ابتلعت "سيرا" لعابها بتوتر، وهي تجيب بصدق بان بعدستيها:

-أصل اتفاجئت مفيش أي مقدمات أنه هيجي ويتقدم، ليه الموضوع فجأة قلب كده.

تدخل والدها بحكمته يبرر بتعجب لاستنكارها المضيء بمقلتيها:

-الراجل كلم اخوه وحس بمشاعر ناحيتك وحب يدخل البيت من بابه، بالعكس المفروض تفرحي.

لم تترك لها "حكمت" مجالاً للتحدث مع والدها وإفراغ شحنة القلق داخلها من سرعة تطور الأمور بينها وبين "يزن"، وحتى إن كان فؤادها قد اضطربت أوردته لأول مرة من أجله، وشعرت بضجيج مشاعرها وتخبطها كلما فكرت به أو تذكرته، إلا أن سرعة تهيئة الأمور لما تتمناه تقلقها وتثير الارتباك في أعماقها، استمعت لصوت "حكمت" في الصالة وهي تصيح بعائلتها رغم اعتراض والدها بالتزام الهدوء:

-سيرا هتتخطب يا بنات، هتتخطب لواحد حلو اوووي وجوازة سقع.

هز والدها رأسه بضيق ويأس من تصرفها، قائلاً بهمس حانق:

-ربنا يسامحك يا حكمت، يا بنتي اهدي.

أبعدت يد والدها عنها وهي تقول بحماس وسعادة حقيقية تسربت إليهم جميعًا، فوقفت "سيرا" تنظر إلى سعادتهم على أعتاب غرفة والدها:

-اهدا أيه يا بابا، تعالوا يا بنات، تعالي يا ماما، هاحكيلكم على عريس سيرا، أيه طول بعرض، و عنده معرض عربيات كلها فظيعة بتشوفوها في الافلام.

وظلت تخبرها عما تعرفه عن "يزن" وعن عمل عائلته، وبما تملكه عائلة "الشعراوي" من محلات لتجارة الذهب، كما أخبرها "يزن" ذات مرة، فانتفضوا جميعًا بفرحة عارمة وتوجهوا نحوها يقبلونها بحب وحماس، فقالت "شاهندا" وهي تقبلها في خديها بحب:

-الف مبروووك يا سيرا، أنا هاين عليا اطلع في البلكونة وازغرط.

ابتسمت بتوتر، وقد شعرت بالفعل ببوادر السعادة، ومال عقلها إلى حديث والدها، خاصة أنها لم تنصاع لمحاولات "يزن" للتعرف عليها، وظلت ترواغه حتى هرع صريعًا لها وأعلن استسلامه، فقالت بمزاح طفيف:

-أيه يا جماعة هو أنا كنت بايرة ولا أيه!

تدخلت "كريمة"، الأخت الأخرى، وهي تقول بعتاب وتمسك فوق كتفيها برفق وحنو بالغ:

-لا يا حبيبتي طبعًا ده انتي ست البنات كلهم، بس ابلة حكمت بتقول إنها جوازة حلوة وعريس غني ومبسوط.

تلقت "سيرا" التهاني والمباركات من عائلتها واحدًا تلو الآخر على هذا الإنجاز العظيم من وجهة نظرهم، ورأت بعينيها سعادة والديها، التي لم ترها مع أي عريس تقدم لها من قبل، خرجت من بؤرة التيه التي دخلتها، وأدركت الآن نجاح خطتها في الإيقاع بـ "يزن" في شباكها، ولأول مرة، تضحك لها الحياة وتفتح ذراعيها لتحتضنها داخل جنان الحب والسعادة.
                             *****
دخلت "سهام"، أخت "فايق"، إلى غرفته باندفاع قوي، وهي تطلق زغاريد مصرية وسعادة كبيرة تحتل وجهها المستدير، قالت بنبرة مرتفعة، محركة الغافي فوق فراشه بقوة لإيقاظه، بعدما أصبح نومه ثقيلًا جدًا، بعد عدة محاولات، فرق جفنيه بصعوبة بالغة، حتى أنه حاول رفع رأسه وفشل، فالخمر لا تزال آثاره في عقله، وأصبحت رؤيته مشوشة وهو يرى أخته تقف بالقرب منه.

-فايق، قوم، قوم يا حبيبي الف مبروك.

خرجت حروفه الثقيلة بأعجوبة وهو يقول:

-في أيه؟!

مالت نحوه وحاجباها يتلاعبان بمزاح، مقررة إخباره بأسعد خبر في حياته:

-في زغاريط جاية من بيت سيرا، باين ابوها وافق.

أخيرًا نجح في الاعتدال، وحاول التظاهر بالتركيز كي لا يُكشف أمره أمام أخته وعائلته، فقال بعدم تصديق ونبرة مندهشة:

-بجد؟!

أكدت برأسها في حماس وهي تجلس بجانبه:

-اه والله، يا فرحتنا بيك يا حبيبي.

حمحم بخشونة وهو يؤكد عليها، وكأنه يؤكد على عقله غير المصدق لتلك الأخبار، فبسبب معاملتها الجافة وأسلوبها النافر مؤخرًا، رسم في خياله صورًا عديدة للرفض، لكنه لم يمل أو يكل حتى تصبح زوجته ويكسر أنفها المتعالي عليه:

-يعني كده هنروحلهم يوم الجمعة.

-اه، ابلة حكمت كانت قايلة لماما إن لو ابوها وافق هتسمعوا الجواب بنفسكم من الزغاريط، وبعدين يا حبيبي هما يلاقوا احسن منك فين؟ ده انت سيد الناس، وماما كانت متفقة معاها على يوم الجمعة.

ارتاح قلبه وعقله في آن واحد، واعتقد أنها ليست مجرد خدعة منها لتوقعه في شباكها كأي فتاة تراه وتعجب به، لكنه كان يأخذهن لمجرد التسلية، أما هي، فقد كانت ومضة الإعجاب التي تحولت إلى مشاعر سكنت قلبه بلا استئذان، لن ينسى سعادته عندما جاءت "سهام" إليه راكضة تخبره بكلام "فاطمة"، التي استطاعت إيقاعها به، وعن مدى إعجاب "سيرا" به:

-طيب كويس، سيبني أنام بقى عشان جاي متأخر امبارح وتعبان.

مسدت "سهام" فوق رأسه بسعادة وتركته يعود لنومه مجددًا، بينما هي ذهبت إلى والدتها ليتفقا على جميع الأشياء التي سيأخذونها معهم يوم الجمعة.

-نام يا عريس، نام نوم الهنا والسعادة.

                             ****
فرقت جفنيها بألم تجلى بوضوح على ملامحها الشاحبة، عندما هاجمها كابوس آخر ينخر في روحها البائسة، مستغلاً ضعفها وأوجاعها.

فهمست لنفسها بألم واضح: "وما شأن تلك الكوابيس بي؟ ألا ترأف بفؤادي المكسور، وبذلك الشرخ العميق في صدري المكلوم، وبعقلي الذي أصبح مهترئًا بسبب طعنات الغدر والخيانة! آه من مذاقها المر العلقمي!"

انتفضت بفزع عندما طرق والدها باب غرفتها عدة طرقات عنيفة، ثم دخل يهتف بنبرة معاتبة:

-يسر، قومي انتي نايمة بتعملي أيه ده كله؟!

جلست على الفراش وهي ترتب خصلات شعرها، قائلة بإحراج من نظرات والدها الغاضبة:

-هعمل أيه يا بابا يعني؟!

جلس والدها مقابلها وهو يردد بنبرة هادئة، ولكن الضيق سيطر عليها:

-تعملي كتير اوي، انتي لسه في بداية حياتك، هتقضيها نوم على السرير واكتئاب.

أبعدت بصرها عنه وهي تمتم بنبرة منكسرة، شاعرة بالعجز الشديد أمام ضغوطات والديها لتخرج من بؤرة الاكتئاب تلك، وكأنها تملك عصا سحرية تسيطر من خلالها على أوجاعها المتزايدة من غدر وخذلان وحزن وغضب، مزيج يصعب التحكم به وهي في أضعف حالاتها، فالخيانة شيء مرير يعجز العقل عن تقبلها، وينهار القلب كجبل وتد انهار!

-يعني هي فترة وان شاء الله هبقى احسن.

رفع "فاضل" أحد حاجبيه وهو يتمتم بضيق وحسرة:

-يا فرحة نوح فيكي لو شافك بالمنظر ده!

رفعت عينيها تهتف بحقد دفين:

-نوح مابقاش فاضيلي، ربنا يسامحه.

ضرب "فاضل" كفًا بآخر بعدم رضا وهو يقول بنبرة حادة:

-او ياخده ماتفرقش، وبعدين انتي لما قولتيلي ارفع قضية خلع وعايزة انتقم منه، قولت يا فاضل بنتك طلعت بتفهم، وهتتخطاه بسرعة.

تنهدت بعمق قبل أن تقول بثبات حاولت التحكم به، لتقنع والدها أن الأمر بينها وبين نوح منتهٍ:

-بابا ماتقلقش أنا مش هرجع لنوح تاني!

احتدت ملامح والدها بغضب وهو يهدد بشراسة ضمنية:

-انتي لو رجعتي له هديكي بالجزمة، أنا ماقصدش كده طبعا.

رمشت بأهدابها بقلق وشك وهي تقول:

-امال؟

كانت التنهيدة هذه المرة من نصيب والدها، الذي هدأ من حدة نبرته وهتف بغموض ولمحة انتقام استشعرتها يسر أيضًا من خلال عينيه، التي سردت لها كم الوعود التي كانت نصيب نوح فقط:

-اللي اقصده إنك تعلميه الادب ويحس إن كان معاه جوهرة وضاعت من ايديه، وبعدين الراجل مننا لو حس إن الست هتموت عليه بيستكبر وبيشوف نفسه، أما بقى لو حس إن الست منفضاله هيفضل يلف ويدور حوالين نفسه زي النحلة.

ورغم حديث والدها ووضوحه إلا أنها قالت بحماقة:

-ما أنا هاخلعه.

نهض والدها وهو يبرز عدم اهتمامه برأيها، راسمًا علامات الاشمئزاز فوق وجهه:

-مش كفاية، انتي تقومي تستحمي كده ريحتك ظهرت.

ورغم انزعاجه، إلا أنها ضحكت بشدة وكأنه ألقى عليها مزحة طريفة، فتساءلت عن لمحة السرور التي دخلت صدرها المظلم بكآبة لن تتخلَ عنها بسهولة، استمعت لرأي والدها وهو ينظر لملامحها بحب أبوي وابتسامة شعارها الرضا:

-شوفتي لما ضحكتي وشك نور ازاي، وبقيتي حلوة زي ما كنتي زمان، نهايته، يلا قومي عشان تيجي معايا عشان محضرلك مفاجأة تجنن.

-مفاجأة أيه؟!

نهضت من على الفراش، وهي تسأله بحماس أطفأت شعلته عندما قال والدها بوعد شرس:

-أنا وانتي هنبقى عمله الاسود، هنرازيه في حياته وكله بما يرضي الله، واثقة في أبوكي؟

أجابت سريعًا بثقة وصدق:

-طبعًا.

-طيب يلا بينا وهاتي بنتك معانا.

                           ****

كانت "فاطمة" تجلس فوق مقعد صغير أمام سراحتها وتنظر في المرآة، متخيلة البطل المكتوب في السيناريو المرسل لها عن طريق الإنترنت، ولكن دخول سيرا المفاجئ أفزعها وهي تقول ببسمة واسعة:

-فاطمة، الحقيني هموت من الفرحة، قلبي هيقف.

نهضت "فاطمة" وهي تسأل بانزعاج من دخولها الهجومي، فقطعت عليها أدائها التمثيلي:

-‏في أيه!

دارت سيرا حول نفسها بسعادة بالغة وهي تردد:

-‏متقدملي عريس ومش أي عريس، احلى عريس.

عقدت فاطمة ذراعيها أمامها وهي تنظر لفرحتها باستياء متعجبة من تغيير صديقتها بهذا الشكل بين ليلة وضحاها:

-‏أيه يا سيرا هو انتي كنتي بايرة وأنا ماعرفش، إيه الفرحة دي كلها!

توقفت "سيرا" عن دورانها وهي تقول ببطء مدروس ونظرات متلاعبة سعيدة بترقب فاطمة للإفصاح عن هوية العريس:

-‏أنا فرحانة عشان اللي اعجبت بيه ودخل قلبي وعقلي هو اللي اتقدم لي واخوه الكبير كلم بابا!

انتظرت "فاطمة" ثوانٍ تفكر بهما حتى صاحت بانفعال:

-‏ماتقوليش يزن الشعراوي!

هزت سيرا رأسها إيجابًا ولا زالت ابتسامتها الواسعة تزيدها إشراقًا وحيوية مبهجة:

-‏اه.

احتضنتها فاطمة بفرحة عارمة صادقة:

-‏يا حبيبتي الف مبروك، أنا فرحانة اوي.

دارت سيرا حول نفسها مرة ثانية، ثم توقفت أمام المرآة تنظر لصورة صديقتها المنعكسة أمامها وهي تقول بغنج ممزوج بنبرة انتصار:

-‏أنا اللي هموت من الفرحة وطايرة من السعادة، شوفتي بقى نتيجة اللي عملته اهو جه واتقدم رسمي  فهمي نظمي.

هزت فاطمة رأسها بيأس منها ومن أفكارها العجيبة، ولكنها لم تحبذ إحباطها فقالت برزانة:

-‏يا ستي ده من حظك وبعدين تلاقيه بس حبك واعجب بيكي.

التفتت حينها سيرا إليها وهي تخرج جزءًا من مكنوناتها التي احتجزتها بعيدًا عن عائلتها، كي لا يفضح أمرها:

-‏يااااه يا فاطمة لما تتمني حد والحد ده يجيلك لغاية عندك، الحمد لله بجد أخيرًا هرتبط باللي كان نفسي أرتبط بيه.

ربتت فاطمة فوق كتفها بحب:

-‏حبيبتي يا سيرا، ربنا يسعدك يا رب.

أشارت سيرا بإصبع السبابة في وجه فاطمة التي استمعت لأوامر صديقتها والتي بان بها مدى سعادتها، فسيرا لم تكن بهذا الشكل إطلاقًا:

-من هنا ليوم الجمعة عايزة اعمل مسكات بقى، بصي حطيلي كل المسكات على وشي، أنا عايزة اليوم ده مفيهوش غلطة.

جذبتها فاطمة خلفها لتجلسا فوق أريكة صغيرة، وهي تسألها بفضول عن رأي أهم فرد في عائلة سيرا بأكملها:

-‏استني بس، ابلة حكمت عرفت؟!

-‏اه طبعا زمانها بتطلع لماما طقم الصيني بتاعها، احنا مصدومين اصلاً عمالة تطلعنا طقم صواني جديد وحاجات تانية!

رفعت فاطمة حاجبيها باندهاش تجلى على ملامحها:

-‏إيه ده ابلة حكمت راضية عن العريس اوي.

أكدت سيرا على حديث صديقتها برأسها وهي تسرد عليها بأريحية أكثر بما يعج في صدرها:

-‏كلهم، كل اخواتي وماما وبابا، ولما اخوه كلمه بابا سأل كام حد وشكر فيهم اوي، ادعيلي بس ربنا يتمم على خير، أصل حاسة في إن حاجة هتكسر قلبي وفرحتي!

-‏ده الشيطان فكك، وركزي في فرحتك.

زفرت سيرا بضيق طفيف فتلك الغصة في حلقها تخنقها وتزيد من توترها:

-‏ماشي، أنا مش رايحة الشغل النهاردة وهختفي اليومين دول عشان أنا الصراحة مكسوفة منه ومش هعرف اقف اتكلم لو ناداني، وكمان صاحب البرج ده بيخضني بنظراته وبيقلقني اووي، لما نقرا فاتحة بقى ابقى اقف معاه واحط صوابعي في عين التخين!

أكدت فاطمة برأسها عندما شعرت أن قرارها هو القرار السليم، وسرعان ما اندمجتا معًا في الأحاديث المرتبطة بليلة يوم الجمعة!

                              ****
بعد مرور عدة ساعات..

توقفت سيارة فاضل أمام البرج الذي يعمل به نوح، فتعجبت "يسر" بشدة والتفتت إلى والدها تسأله:

-أيه ده يا بابا، إحنا وقفنا ليه هنا؟!

أشار والدها إلى المحل القابع أسفل البرج، قائلاً ببسمة مكر:

-شايفة المحل اللي هناك ده؟!

هزت رأسها وهي تركز ببصرها على ذلك المحل، متذكرة عندما أقنع نوح والدها بشرائه:

-مش ده اللي نوح كان قالك عليه لقطة واشتريه!

ربت والدها فوق ساقها وهو يقول بحب ونبرة دافئة احتوت قلبها في لحظة يصعب نسيانها:

-اه، أنا كتبته باسمك، ومن هنا ورايح هتفتحي أي مشروع تحبي تفتحيه.

رمشت بأهدابها بعدم تصديق وسألته بحماقة سيطرت على استيعابها:

-أيه، أنا؟!

هز والدها رأسه مؤكدًا على حديث ابنته بصدق، مقررًا أن نجاة ابنته من بئر الضعف والاكتئاب ستكون على يده، كواجبه دومًا نحوها:

-اه، هو انتي قليلة ولا أيه؟ انتي بنت الحاج فاضل، عايزاني أفتحه معرض للأجهزة الكهربائية عادي، عايزة أي مشروع تاني براحتك، وأنا جاهز من جنيه للألف.

احتضنت والدها وهمست ببكاء ونبرتها يغمرها الامتنان والحب:

-ربنا يخليك ليا يا بابا.

-أنا كلمتلك مهندس ديكور مشهور أوي على النت، واتفقت معاه تتقابلوا وتشوفيه هتوضبيه زي ما انتي عايزاه!

ربت والدها على ظهرها عدة مرات تحت نظرات ابنته المنتظرة اللحظة المناسبة للتدخل وقلب مشهد الحنان الأبوي لآخر عبثي:

-ماما، ممكن أروح لبابا؟!

-ابتعدت يسر عن والدها بحدة وهي توجه نظراتها للصغيرة التي انكمشت خوفًا من اقتضابها:

-لا...

قاطعها والدها هذه المرة معاتبًا، فقال في بداية كلامه استنكار طفيف، ثم استكمل بمكر وابتسامة جانبية ساخرة تحتل وجهه:

-لا ليه؟ روحي يا لينا، بس بسرعة عشان هنمشي.

خرجت الصغيرة سريعًا من السيارة وركضت بسرعة الصاروخ نحو البرج، فأظهرت يسر استياءها واعتراضها:

-بابا، سمحتلها ليه؟!

ضربها والدها بجانب رأسها بأصابعه مشيرًا إليها نحو عقلها بنزق شديد:

-عشان تروح تقوله، مش بقولك هعلمه الأدب؟ افتحي دماغك الجزمة دي!

                                ****
بالأعلى، وتحديدًا داخل عيادة نوح، دخلت حسناء وهي تمسك بيد الصغيرة، تهتف بنبرة يغمرها الدلال والنعومة المفرطة:

-شوفت المفاجأة القمر دي يا دكتور؟

رفع نوح عينيه ليطالع صغيرته التي ما إن رأته حتى ركضت نحوه تحتضنه بحب واشتياق بان في همسها الطفولي:

-بابا، وحشتيني.

أبعدها عنه بعد أن غمرها بأحضانه، ثم مسد فوق جانبي شعرها الناعم وهو يتساءل بدهشة:

-لينا حياتي، جيتي ازاي ومع مين؟!

أجابت برقة:

-مع جدو وماما.

انكمشت ملامحه بتعجب، وحاول استيعاب سبب مجيئهما بطفلته، ولم يلاحظ انقباض يد حسناء بغل وخوف من تدمير خطتها، فسمعته يتساءل:

-وهما فين؟!

-تحت جدو جابلها محل تحت هنا، وأنا هجيلك كل يوم.

انعقد حاجباه بعدم فهم، وظن أن الصغيرة تهذي أو ربما تتخيل أمورًا من نسج خيالها الواسع، فأمسك بكفها وقال:

-تعالي ننزل نشوفهم.

وبالفعل غادر مكتبه مع صغيرته تحت أنظار حسناء المستشيطة بغل وحقد، بينما هو ما إن خرج من بوابة البرج حتى تركت الصغيرة يده وركضت صوب سيارة جدها، وما إن دخلت، انطلق فاضل بأقصى سرعة، تاركًا نوح يتسمر مكانه من تلك الإهانة المتعمدة، فهمس بانفعال مسجون بين قضبان الغضب:

-والله أنا مهزء عشان نزلتلهم!

                            ****

ليلاً...

دخل يزن غرفته بعد قضاء يوم طويل في التنقل بين معرضه وبعض الأمور التجارية المتعلقة بشأن سيارات جديدة سيغزو بها معرضه الفترة المقبلة، متظاهرًا بإلهاء نفسه وسط انشغالاته، إلا أنه كان ينتظر مجيئها اليوم ليتحدث معها، ولكنها خابت آماله ولم تطل بطلتها البهية!

وما أن أشعل يزن إضاءة غرفته حتى أصيب بهلع عندما وجد سليم يجلس في زاوية ما بالغرفة صامتًا:

-يا سليم، فزعتني، أقسم بالله أنا كده بضيع.

-ليه، شوفت عفريت؟!

قالها سليم بنبرة خشنة ولم يتحرك من مكانه، ووضعه المغمور في أنهار الكبرياء والتعالي!

-آه فعلاً شوفت، ومن كتر ما أنا شوفت، بقيت أشك في كل اللي بيكلمني، بقولك كان بيسمع أغنية وبيشرب سجاير، ولا البت دي أنا كنت بلعب معها زي الأهبل وماعرفش إنها عفريته ومقتولة...

قاطعه سليم متأففًا:

-ما بلاش السيرة دي بقى، أنا كده كده هطلع وهسيبك تنام لوحدك!

-ما تخلينيش أتجنن واطلع أنام في حضنك يا عم، أنا اتعاملت مع عفاريت يعني مش باقي على الدنيا!

قالها يزن بارتباك وهو ينظر في أرجاء غرفته متخيلًا شبح الجن يطارده في كل مكان، إلا أن سليم نجح في سلب انتباهه وهو يقول بنبرة عميقة:

-فكرت؟

تنهد يزن بضيق وهو يرفع بصره المحتدم نحو أخيه:

-آه.

-وأيه قرارك؟!

سأل سليم بترقب، فأجاب الآخر بلمحة سخرية:

-على أساس لو قلتلك رافض هتسيبني في حالي! آه يا سليم موافق بس عشان خاطر ما أطلعكش صغير، بس أنا عندي شرط...

لانت ملامح سليم المتهجمة إلى الارتياح ولكن عيني يزن الصارمة وجموده أقلقه قليلاً، فقال:

-شرط إيه؟ 
-شرط أيه؟!

قالها "سليم" بنبرة خشنة تحمل اعتراضًا قويًا، بينما كان "يزن" ينظر إليه بتسلية وهو يعيد ترتيب أوراق اللعبة لصالحه، فقال بهدوء قاتل للأعصاب:

-أنا وافقت وماحبتش أقل منك ولا من قراراتك اللي انت واخدها في حياتي وكأنها حياتك، بس الباقي بقى ده يخصني معلش، وأنت بتتفق متحددش معاد للجواز، دي بتاعتي أنا بقى، أنا أقرر امتى اتجوز وامتى مااتجوزش.

ثوانٍ من الصمت مرت عليهما وهما جالسان يتبادلان النظرات الغامضة والشرسة، حتى قطعها "سليم" بوقوفه المفاجئ وابتسامته البسيطة، مبديًا موافقته بسلاسة أدهشت "يزن":

-بس كده، تمام مفيش أي مشكلة، وبعدين يا يزن نقطة الجواز دي بالذات أنا مقدرش اتدخل فيها، تصبح على خير.

انعقد حاجبا "يزن" من بساطته الغريبة عليه، وابتسامته الغامضة المثيرة لشكوك مريبة تداخلت مع بعضها لدرجة أنها كانت بمثابة شبكة عنكبوتية، سببت له صداعًا شرسًا، دفعه لأن يلقي بجسده للخلف فوق فراشه، ناظرًا إلى سقف الغرفة بشرود، متأملًا التغير المفاجئ الذي طرأ على حياته، غير قادر على تحديد مشاعره وهويتها وما يميل إليه قلبه وعقله، زفر بقوة، وأغمض عينيه مستسلمًا للنوم وأحلامه بصدر رحب، وما إن سقط عقله في فوهة الأحلام حتى سمع صوتًا قويًا يأتي من الطرقة الخارجية، ففتح عينيه على وسعهما بقلق ونهض يتحرك ببطء شديد صوب الباب، وما إن أمسك بالمقبض حتى همس بتوتر شديد:

-بسم الله الرحمن الرحيم، أنا سايبهم في الأقصر!

فتح الباب فتحة صغيرة ونظر من خلالها، لم يجد أحدًا، وما إن هبط ببصره حتى وجد الصغير "أنس" يقف في صمت والإضاءة الخافتة في الطرقة تلعب دورًا مخيفًا على ثباته، حتى قال الصغير بابتسامة واسعة:

-عمو يزن أنا جاي أنام معاك.

-ها؟!

قالها "يزن" بحماقة كبيرة وهو ينظر للصغير الذي يفرك في عينيه وابتسامته لا تزال على وجهه، فقال بتيه أثر على عقله واستيعابه:

-تنام فين؟!

-معاك يا عمو، بابا قالي انزل أنام معاك، عشان انت خايف تنام لوحدك.

هز "يزن" رأسه باستيعاب ففتح الباب للصغير يستقبله في غرفته، مرحبًا به بحفاوة:

-والله يا أنس انت جاي في وقتك، انت من هنا ورايح تنام معايا.

جلس الصغير فوق الفراش وهو يقول بصوت ناعس:

-حاضر، بس أنت ازاي كبير وبتخاف؟

جلس "يزن" بجانبه وهو يحتويه بذراعه، مردفًا بحسرة:

-ما أنت ماشوفتش اللي أنا شوفته، بس هقولك أنا مفتقد الحنان في حياتي اوي يا أنس.

رمش الصغير بعينيه وهو يقاوم النوم، متسائلًا بعدم فهم:

-يعني إيه؟!

فكر "يزن" مليًا قبل أن يقول بأسلوب مبسط وهو يمزح مع الصغير:

-يعني مفيش حد بيطبطب عليا.

تثاءب الصغير وهو يضع كفه الصغير على فمه، ثم قال بتعجب طفيف:

-طيب وصحباتك البنات فين؟!

مط "يزن" شفتيه بضيق وانزعاج حقيقي خرج من عمق مشاعره المتناقضة ولكن نبرته كانت تحمل حسرة على حاله:

-كرهتهم كلهم، عمك خلاص يا أنس راحت عليه!

ربت "أنس" فوق يده برفق وهو يظهر تعاطفه معه من خلال عروضه البسيطة، ظنًا منه أنه يساعد عمه:

-طيب متزعلش، أجيبلك صحابي يصحبوك!

ضيق "يزن" عينيه متسائلًا بمزاح:

-بنات؟!

-اه.

عاد "يزن" يسأله وابتسامة تسلية تحتل وجهه:

-حلوين؟!

أجاب الصغير بلا مبالاة وهو يرقد يستعد للنوم:

-اه، بكرة هبقى أعرفك عليهم.

مسد "يزن" فوق شعره بحنان وحب، ثم داعب طرف أنفه وهو يشاكسه:

-مش خايف ليحبوني أنا ويبطلوا يصاحبوك!

فتح الصغير عينيه يفجر قنابل الثقة والتعالي الموروثة من قبل أبيه، فقال بعنجهية شابهت تعالي والده:

-لا أنا صاحبهم من زمان، أما انت هيصاحبوك عشان خاطري بس!

انكمشت ملامح "يزن" باندهاش وهو يرد باستنكار:

-إيه الرد ده!!، طب راعي حتى إن أنا عمك.

أعطاه الصغير ظهره وألقى أوامره دون أن يبالي بـ "يزن" المصدوم من طريقته:

-نام بقى، عشان لو فضلت تتكلم كتير، أنا مش هنام جنبك تاني، وهخلي بابا هو اللي بينام جنبك...

هز "يزن" رأسه رافضًا ذلك التهديد، فقال برجاء:

-لا أبوك لا، أنت أرحم!

غاص الصغير في نومه وترك "يزن" ينظر إليه بحب، حتى ضيق "يزن" عينيه بشك وهمس:

-أنت يالا أبوك أكيد باعتك تراقبني، لازم أخد بالي!

                                ****
في اليوم التالي...

جلست والدة "فايق" تتابع التلفاز، وبجانبها إحدى جاراتها يتابعان مسلسلهما المفضل، حتى قطعت جارتها مشاهدتهما بقولها الفضولي والحماسي:

-يااختي ما تعرفيش الزغاريط اللي كانت جاية من بيت حسني دي إيه؟!

حركت والدة "فايق" كتفيها بلا مبالاة وهي تخفي نظراتها عنها:

-علمي علمك!

لكزتها جارتها بغيظ وهي تقترب منها:

-يا ولية عليا، ده أنتي عارفة أخبار الحارة كلها!

مطت والدة "فايق" شفتيها بحسرة زائفة:

-ما بقتش يااختي وحياتك!

اقتربت جارتها أكثر وهي تلقي عليها ما سمعته من قبل أطفال عائلة الحاج "حسني" وهم يلعبون أسفل البناية صباحًا:

-طيب هقولك عشان أنتي حبيبتي، أنا سألت العيال الصغار قالوا جاي عريس لسيرا، قولتلهم مين، مارضيوش يقولوا!

حركت بؤبؤ عينيها نحوها وهي تقول بنبرة مقتضبة كي لا تتلفظ بحرف يفسد اتفاقها مع حكمت، التي أصدرت تنبيهاتها بعدم التحدث مطلقًا عن ذلك الموضوع حفاظًا على الخصوصية، وكي لا تصاب أختها بحسد، وخاصة أن حكمت تخشى كثيرًا الحسد:

-والله طيب كويس!

ضيقت الأخرى عينيها بمكر وشك في آن واحد وهي تناظرها، فلم تتحمل والدة "فايق" خداعها أكثر من ذلك، فقالت بنبرة شبه منفعلة وهي تعلن استسلامها:

-طيب هقولك بس اوعي تقولي لحد، العريس ده يبقى فايق ابني، اسمالله عليه وعلى اسمه حبيبي، اتقدم للبت سيرا، وأنا كلمت حكمت، وهي قالتلي هتسمعي الجواب من الزغاريط، وأنا كنت متفقة معاها هنروحلهم يوم الجمعة إن شاء الله، ادعيلنا بقى.

توسعت ابتسامة المرأة سعادة وهي تردف:

-يا ألف نهار أبيض، هما يلاقوا زي فايق فين، ده زينة رجالة المنطقة كلها، بس هما ليه مش عايزين حد يعرف؟!

-يااختي ما أنتي عارفة حكمت بتخاف من الحسد ومابتحبش حد يعرف عنها حاجة، واتفقت معايا على كده.

بررت لها والدة "فايق" بضيق، فقالت الأخرى بفضول:

-وهتاخدوا معاكم إيه يوم الجمعة يا أم فايق؟

رفعت جانب شفتيها باستنكار وهي تقول:

-هناخد إيه يعني، فاكهة يااختي، هقول لفايق ينزل ويجيب كام كيلو من نوعين!

توسعت أعين المرأة بتعجب ساخر، ثم مطت شفتيها بضيق:

-يا ولية فكي الكيس وجيبي تلات أنواع ولا أربعة، ولا طبق حلويات كمان.

شهقت والدة "فايق" باستهجان قوي وهي ترفع أحد حاجبيها باعتراض قوي:

-ليه يااختي، ده حيالله اتفاق، وبعدين لسه الجايات كتير وهنجيب وهنشيل، اهدي شوية يااختي بالله عليكي، أصل المشرحة مش ناقصة قتلة، الواد مفحوت في الفنادق في شرم والغردقة شغل ليل نهار عشان يتجوز، أقوم أنا أبزعقها في هدايا.

زمت جارتها شفتيها بانزعاج واضح وهي تحرك إصبع الإبهام نحو أسنانها، قائلة:

-عليا، ده أنتي جلدة وتخافي تصرفي الجنيه.

-هتتفرجي على المسلسل وأنتي ساكتة ولا تطرقيني من سكات؟ وحسك عينك أسمعك بس بتتكلمي مع واحدة من ستات المنطقة، أنا مش ناقصة وجع دماغ من حكمت، حكمت دي ولية قرشانه وصعبة ومش هخلص منها.

فجرت تهديدها دفعة واحدة في وجه جارتها، فانكمشت الأخرى رغم انزعاجها وهي تؤمي برأسها في استسلام:

-حاضر، حاضر، ولا هفتح بوقي يااختي والله.

                                ****
في صباح يوم الجمعة.

رتبت "يسر" ثيابها في خزانتها الصغيرة وانتهت من وضع أشيائها، وهي تمرر بصرها على زوايا غرفتها التي عادت إليها ولكن هذه المرة بصحبة ابنتها الصغيرة "لينا".

مسحت دموعها المتساقطة وهي تجذب أنفاسًا طويلة، مقررة ألا تبكي مرة ثانية، وتستمع لنصائح والدها، فابنتها تستحق أمًّا أفضل وأقوى مما كانت عليه!

رسمت ابتسامة صغيرة على شفتيها وهي تخرج للخارج لتساعد والدتها، التي ما إن رأتها حتى ابتسمت بحب وقالت:

-يا ألف بركة، والله إنك خرجتي من أوضتك يا يسر.

جلست "يسر" بجانبها وردت بنبرة ضعيفة وهي تنظر إلى صغيرتها التي تشاهد التلفاز في صمت:

-ماما، أنا بفكر أخرج أنا ولينا افسحها شوية.

-وماله يا حبيبتي، البنت تستاهل والله، دي غلبانة وملهاش ذنب.

جذبت "يسر" نفسًا طويلًا قبل أن تنهض وتتحرك لتجلس بجانب صغيرتها، تحتضنها وتهمس لها:

-إيه رأيك نخرج، نقضي اليوم بره؟

لمعت عيناها بوميض السعادة وقد تبدلت حالتها كليًا:

-يا ريت يا مامي، وبابي هيجي معانا؟!

تجمدت "يسر" أمام سؤالها كالصنم، فبدت ملامحها خالية من التعابير، وما إن التفتت نحو والدتها حتى ناظرتها بعدم رضا وعتاب، فرمقتها "يسر" بضيق، لعلمها برأي والدتها الذي لم تعد تأخذه على محمل الجد بعد أن هوت في بئر من الأخطاء بموافقتها على زيجتها من نوح منذ البداية، والسبب هو آراء والدتها التي لم تجنِ منها سوى ثمارها الفاسدة.

عادت بنظرها نحو صغيرتها وقالت بثبات وابتسامة مقتضبة:

-لا يا لينا، أنا وأنتي بس، ها نخرج ولا لا؟

أخمدت شعلة حماسها قليلًا وهي تحرك رأسها بإيماءة، وحجزت أسئلتها عن والدها داخل جدران عقلها الصغير، بدايةً من غيابه المستمر، وإقامتهما في منزل جدها، وتركهما منزلهما الجميل وغرفتها المليئة بالألعاب وبأشيائها المحببة لقلبها.

تجاهلت "يسر" أسئلة ابنتها الصامتة وساعدتها في الجلوس وهي تتجه بها نحو غرفتهما، تبدل ثيابهما بينما هزت "أمل" رأسها بيأس وحسرة:

-ربنا يهديك يا فاضل، ويهديلك الحال يا يسر يا بنتي، وترجعي بيتك تاني.

                               ****
 كان الجميع في منزل "سيرا" على قدم وساق، كل فرد يعرف مهمته ويعمل على إتقانها بأقصى جهد لديه، أما "سيرا" فكانت مصدومة، قلقة، متوترة، ولكن الجزء المسيطر عليها هو سعادتها، فأغمضت عينيها تتمنى أن يمر اليوم مرور الكرام كما تتمنى!

أما في الخارج، فكانت "شاهندا" تقف تتابع "أبلة حكمت" في المطبخ وهي تضع بعض أنواع الفاكهة في حقيبة بلاستيكية سوداء، وهمست لابنها "حودة":

-خد يا حودة، ادي دول لدهب أختك.

نظر "حودة" إلى التفاح الأحمر الشهي وأشار بنهم:

-ماما، حطي تفاحتين كمان ليا.

وضعت "أبلة حكمت" طلبه في الحقيبة وهي تقول بنزق:

-خدهم بقى وانزل على دهب على طول.

لم تتحمل "شاهندا" أكثر من ذلك، فدخلت باندفاع وهجوم أثار حفيظة أختها الكبرى:

-إيه اللي بتعمليه ده يا أبلة؟!

توسعت عينا "حكمت" باستنكار قوي وهي تتخصر:

-بعمل إيه يا أختي؟؟

-بتاخدي من الفاكهة اللي بابا جايبها للضيوف وتنزليها عندك، هو ده ينفع؟!

رفعت "حكمت" أحد حاجبيها بغضب وهي تردف بنبرة مرتفعة غير مبالية بموقفها الحرج:

-اه ينفع يا أختي، هو الحاجات اللي بابا جايبها حلال عليكم وحرام عليا أنا وعيالي؟! أنا زي زيكم يا حبيبتي!

-إنتي مش محتاجة يا أبلة، وتقدري تجيبي ده وأكتر، اللي بتعمليه ده اسمه استخسار على فكرة.

أنهت حديثها الغاضب والهجومي وهي تشير نحو الحقيبة التي يمسكها "حودة"، المتابع لحديثهما باهتمام بالغ وهو يمسك تفاحة صغيرة يقضمها باستمتاع، بينما دخل الجميع بسبب أصواتهما المرتفعة، وأولهم والدتهما التي قالت بقلق:

-في إيه يا بنات، بتتخانقوا ليه؟!

وقبل أن تتحدث "شاهندا"، وجدت "حكمت" تتحدث بانكسار وحزن طغى فجأة على نبرتها التي تغيرت بلمح البصر:

-يعني يا ماما فيها إيه لو دهب بنتي نفسها في حاجة ولقيتها عندكم، قلت أبعتلها، الأستاذة شاهندا تدخل وتزعقلي وماتعملش حساب إني أختها الكبيرة والمفروض تحترمني.

وقفت "كريمة" بجانب "شاهندا" وهي تنظر إلى الحقيبة التي ما زالت في يد "حودة" يتمسك بها بقوة:

-معلش يعني يا أبلة حكمت، إنتي مش محتاجة! وبعدين شاهندا بتتكلم من باب إن في ضيوف جايين النهارده، وبابا جايب حاجات كتير ما شاء الله، لما يمشوا ابقي خدي اللي نفسك فيه!

تبرمت "حكمت" وتحولت تعابير وجهها للانزعاج وهي ترمقها بجرأة:

-هو انتوا عيالكوا يا كريمة بيخلوا حاجة؟ وبعدين إنتوا واقفين تتكلموا في إيه؟ ده بيت أبويا زي زيكم ومن حقي أتصرف زي ما أنا عايزة، ومفيش واحدة فيكم تيجي تقولي حاجة، يلا يا حودة، أنا هنزل، ولما الضيوف ييجوا هبقى أطلع، طالما أنا مش مرغوب فيا.

أوقفتها والدتها بضيق وهي تقول برفق، بينما نظرت إلى ابنتيها بعتاب كي يصمتا:

-يا حبيبتي، لا مرغوب طبعًا، اقعدي وخدي اللي إنتي عايزاه، وبعدين الخير كتير، وأبوكي جايب بزيادة عشانكم كلكم وعشان عيالكم ياكلوا براحتهم ويتبسطوا.

-ربنا يخليكي يا ماما، أنا هقعد طبعًا عشان خاطر سيرا حبيبتي أختي اللي مشرفانا بعريسها، يلا هقعد في الصالة وانتوا كملوا تنظيف بقى، خلاص كلها كام ساعة وهيجوا، مش عايزين أي عطلة.

ألقت "حكمت" كلامها الصلد، الذي كان بمثابة قنابل دوت في عقولهن وهن ينظرن إليها، بينما هي تجاهلتهن عن عمد وخرجت إلى الصالة، والتفتت والدتهما إلى بناتها الثلاث "شاهندا" و"كريمة" و"فريال":

معلش يا حبايبي، عدوا اليوم، وبلاش مشاكل عشان خاطر سيرا، بلاش نبوظ فرحتها.

بينما كانت "سيرا" تقف على أعتاب باب غرفتها في آخر المنزل، تراقب الموقف في صمت وعيناها تصرخ بالاستياء منهم جميعًا، فعادت إلى غرفتها محبطة الآمال، متجهمة الوجه، شاردة التفكير.

                               ****
مساءًا...

توقفت سيارة "نوح" أمام أحد المطاعم المشهورة، يراقب "يسر" وابنته الجالسين على طاولة صغيرة بجانب واجهة زجاجية كبيرة، ويأكلان وجبتهما التي طالما أحبتها صغيرته!

أمسك المقود بقوة وهو ينظر لـ "يسر" الجالسة تراقب صغيرتهما في صمت وملامحها ساكنة، شاردة، 
أغمض عينيه وكلمات المحامي الخاص به تدوي في رأسه كالقنابل، متذكرًا كيف اخترقت سمعه بالأمس عندما تلقى منه اتصالاً يفيده بأن زوجته رفعت قضية "خلع"، لم يصدق في بادئ الأمر وشعر بنيران تعصف عقله، وكرامته المحفوظة أصبحت مهزوزة بلا قيمة بعد أن طعنته يسر بسكين الغدر فجأة في ظهره.

فتح عينيه مرة أخرى يطالعها بغضب ناري لو طالها لأحرقها بلهيبه المتفاقم بشراسة، ظل يراقبها في صمت منتظرًا اللحظة الحاسمة لشن هجومه عليها، وما أن بلغه أحد الافراد الذي كلفه بمراقبتها بخروجها مع طفلتها حتى تولى هو مهمة مراقبتها، وما أن رآها وحدها في إحدى المرات التي تركتها بها طفلتها حتى كاد يتهور ويركض نحوها يصرخ بها ولكن ما أن عادت ابنتها إليها حتى كتم صرخته وتجمدت داخل صدره، وتحولت إلى سيل من الغضب المتفجر!

ولكن الفرصة يبدو أنها ستذهب هباءً دون أن يحادثها وخاصةً أنها يبدو على وشك مغادرة المطعم، زفر بضيق وهو يلقي بصبره في حاوية الانتظار، فلم يعد يتحمل أكثر من ذلك، وترك سيارته متوجهًا نحوها بخطوات واسعة حتى وصل أمامها ووجه حديثه إلى صغيرته التي احتضنته ما أن رأته:

-روحي يا حبيبتي على العربية بتاعتي هناك أهي، لغاية ما أكلم مامي ثواني.

أخفت "يسر" اندهاشها ببراعة لوجوده أمامها، وتظاهرت بوجه جامد، بارد يستحقه تمامًا، أما عيناها  فتنظران إلى الفراغ كأنما تستجدي من عالم آخر القوة لتقف أمامه ثابتة، وفور ذهاب الصغيرة، التفت إليها وعيناه مليئتان بالدهشة والاحتجاج، وجسده يرتجف من شدة الانفعال، فنطق بصوت متقطع، كأنما يحاول فهم ما لا يمكن فهمه:

-ازاي قدرتي تعملي كده، ترفعي قضية خلع عليا أنا يا يسر !!

عقدت ذراعيها ببرود فاجأه وهي تواجه نظراته الحارقة بأخرى ثلجية قاسية:

-هو وصلك! طيب والله كويس، زعلان ليه يا دكتور ما ده اللي تستحقه طالما مش راضي تطلقني!

انتفض قلبه، كأنها طعنة بخنجر مسموم، لم يتوقع يومًا أن يصل إلى هذه اللحظة معها، فقال بضيق محتدم:

-اللي بتعمليه ده مش صح، وأخرته مش حلوة ليكي يا يسر، وبلاش تركبي دماغك، انتي مش هتعلميني الأدب.

أبدت استنكارها ثم نطقت كلماتها بهدوء، لكن بهدوء يحمل في طياته الكثير من الألم:

-اعلمك الأدب! هو انت فاضي أصلاً عشان تتعلمه، الله يكون في عونك، تعبان في شغلك، وفي نزواتك!!

تقدم نحوها خطوة قاصدًا إثارة توترها، فحدق في عينيها اللتين تهربان من نظراته، محاولًا العثور على بقايا حبهما ليتشبث بها ويضغط عليها كما كان يفعل قديمًا، ولكنه لم يجد إلا صمتها وغمامة سوداء أسدلتها على عينيها اللتين أصبحتا مخيفتين له، وكان ذلك كفيلاً بإشعال النار في صدره أكثر، فقال:

-انتي روحتي رفعتي قضية خلع عشان اوهام في دماغك مش اكتر، أنا قولتلك لو عايز اعمل حاجة هعملها بالحلال، مش هعصي ربنا، أنا عارف الحلال والحرام كويس.

مالت شفتيها جانبًا بسخرية، وحرقة تشعر بآلامها في حلقها وهي تقول بهدوء كمَن يجر سيفًا من غمده:

-والله كويس اوي، وربنا مقالش تعاملني بالمعروف، ولا تعرف اللي ليك بس، مقالش تعامل مراتك بالحسنى، طالما انت متدين كده، في حاجات في الدين كتير تقدر تقرا فيها يمكن تخليك احسن من كده!

بدأ الغضب يتحول إلى يأس، وأخذت الكلمات تتساقط من فمه متقطعة، بين شهيق وزفير ثقيل، فكان يحاول استيعاب تغييرها وجمودها الموجع وكأنها ترسل إليه بسرعة تخطيها له، لم يكن هذا متوقعًا أبدًا منها، ولم يكن مستعدًا لمواجهة حقيقة كهذه، فقال بقوة وهو يعلن مليكته لها:

-أنا مش جاي أناقشك في شخصيتي، أنا جاي اقولك إن أنا مش هطلقك يا يسر واعلى ما خيلك اركبيه.

ظل صامتة لبضع لحظات، قبل أن ترفع رأسها وتنظر إليه، محاولةً العثور على أي أثر للندم في عينيه، لكنها لم تجد سوى آلامها المتجسدة طوال فترة زواجهما في عينيه الصارخة بعناد قاسٍ، فتلفظت حروفها بصوت ناعم مليء باللامبالاة، وكأنها تتحدث عن الطقس، قاصدة إهانته:

-انت فعلاً مش هتطلقني بإرادتك، عشان كده أنا هخلعك، هخلعك يا نوح سامع، وهيبقى اسمك من هنا ورايح نوح المخلوع.

ثم تركته وخطت خطوات سريعة كي تهرب من نظراته التي كادت تسحقها بغضب وغل، وأخذت ابنتها من سيارته واوقفت سيارة أجرة سريعًا واستقلتها هي وابنتها تاركة إياه ينظر إلى أثرها بصدمة بالغة من جرأتها في الحديث معه، وتحديها الذي أشعل مشاعره في مرجل العناد، فتوعد لها بنظراته الشرسة، معلنًا بداية حربه معها، فمَن سيسقط سريعًا ويستسلم للآخر في معركة من الصعب حسم أي الطرفين أقوى؟ فكلا الطرفين يعانيان من اهتزاز نفسي، يصعب علاج آثاره حتى لو تظاهرا بعكس ذلك!

                              ****
دقّت الساعة الثامنة والنصف... ووصلت عائلة "سليم الشعراوي" بأكملها إلى أسفل البناية التي تسكن بها "سيرا"، ساعد زيدان والدته في النزول من السيارة، فقامت بتقييم المنطقة بعينيها اللتين ظهر بهما الانزعاج من وضع المنطقة التي تسكن بها العروس، ثم انتقلت بنظراتها نحو البناية، والتي كانت من المباني القديمة لكنها حافظت على قوامها، بعد ذلك، نقلت بصرها إلى "سليم" الذي كان يساعد "شمس" في النزول مع ابنتها "قمر"، وصلت سيارة يزن أخيرًا، وكأنه تعمد التأخير لاستفزاز سليم، ولكن الآخر كانت تجري في دمه أنهار ثلجية باردة، وابتسامته السعيدة أثارت استفزاز يزن، أغلق يزن سيارته بعد أن حمل صندوق حلوى باهظ الثمن، وورود اختارتها شمس بنفسها:

-يا ابني انت ليه أصريت على البنت دي، يعني....

قاطعها سليم بحسم وهو ينهي أي اعتراضات كادت تبديها:

-مالوش لزمة الكلام ده، الناس مش ببيوتهم ولا عندهم أيه، الناس بقيمتهم، والناس دي محترمة، أنا مش هدخل أخويا أي عيلة وخلاص.

قالها سليم عن قناعة نابعة من معرفته بعائلة سيرا، وذلك بعدما كلف أحد الأشخاص بمعرفة أدق التفاصيل عنها وعن عائلتها، وعندما أخبره الشخص المكلف بالمهمة بتفاصيل عديدة عنها وعن عائلتها وعن والدها الذي يتحمل مسؤولية بناته حتى بعد زواجهن، ازداد احترام سليم لهم، عائلة بسيطة تحافظ على تقاليدها وعاداتها، والفتاة تحمل سمعة طيبة، لم يمسها سوء، والجميع يشهد لها باحترامها، وما أعجبه أنها مكافحة، لم تكن كفتيات الجيل الحالي بدلالهن المفرط، أخوه يحتاج إلى هذه البيئة لتساعده في التغيير الذي يتمناه له الجميع.

-لا، يلا نمشي من هنا يا ماما، أنا أمي مش راضية عن الجوازة دي، وأنا رضا الأم أهم عندي من رضا الأخ.

فأشار إلى والدته برأسه وهو يقول برجاء زائف:

-يلا يا ماما.

-يلا يا عريس الغفلة، اطلع الناس مستنينا، بص فوق كده.

قالها زيدان بسخرية، ثم رفع بصره إلى الأعلى ليجد جميع النوافذ ممتلئة بأشخاص لا يعرفهم، فقال بتيه مستنكر:

-مين دول؟!

لكنه تلقى ابتسامات عديدة منهم جميعًا، فاضطر إلى رسم ابتسامة منمقة على وجهه وهو يشير إليهم جميعًا، فبدا كنجم سينمائي يلتقي بمعجبيه في مشهد شبه هزلي!

صعدوا جميعًا إلى الطابق الذي تسكن فيه سيرا، ووجدوا عائلة "سيرا" في استقبالهم، تلقى "يزن" استقبالًا خاصًا جدًا من عائلتها، وخاصةً أخواتها الفتيات اللواتي كن يقيمهن وظهرت سعادتهن عليهن، فتبسم إليهن يزن وبدأ في التعرف عليهن، وشعر بالتيه من الجمع المنشود أمامه من عائلتها وكثرة الأطفال المنتشرين هنا وهناك.

لن ينكر أبدًا أن هناك مشاعر خاصة ومميزة داعبت فؤاده وهو ينتظر خروجها، وكأنهما حبيبان منذ زمن بعيد... ولكنه خرج من لذة أحاسيسه الغريبة على صوت "أبلة حكمت" بجانبه وهي تقول:

-سيرا هتيجي كمان شوية.

تجمدت ملامحه للحظات عندما أدرك بلاهته، فقد ظهر إليها أنه يبحث عنها أو ينتظر خروجها على أحر من الجمر، فانتقل ببصره إلى الجميع فردًا فردًا ليتأكد أن فضيحته كانت في محيط أنظار حكمت فقط، لكنه وجد الجميع في خضم لحظات التعارف، فحمد الله في سره، ثم مال عليها وهمس بإعجاب وهو يشاكسها:

-سيرا أيه بس، قوليلي أيه الشياكة دي كلها!

ظهرت علامات الانبهار على وجهها وهي تشير نحو نفسها:

-بجد تسلم ده من ذوقك، وبعدين ده من براند غالي اوي بس مش فاكرة اسمه أيه، وبعدين الشياكة اللي بجد هتخرج دلوقتي.

ثم لكزته في ذراعه وغمزت له بطرف عينيها، وهي تقدم له قطعة "جاتو" وتبدي إصرارها ليأكلها، وفي ظل محاولاته لرفضها، خرجت سيرا بفستان ناعم قماشته أرجوانية اللون، يتوسط خصرها حزام جلدي أسود اللون، وحجاب من نفس اللون، وحذاء ذو كعب عالٍ من درجتي الفستان والحزام، كانت رقيقة جدًا بوجهها شبه الخالي من المساحيق تقريبًا، حيث اعتمدت على براءة ملامحها، ولم تضع إلا القليل بناءً على محاولات عديدة من قبل أخواتها الفتيات.

تقدمت بخطوات واثقة وهي تبعد نظراتها بعيدًا عنه هو تحديدًا، فلم تصدق حتى الآن أنه تقدم لخطبتها بهذه السرعة، قامت بمصافحة عائلته الذين أبدوا سعادتهم بها، حتى منال، التي كانت معترضة في بادئ الأمر، وجدت نفسها سعيدة وراضية، خاصة عندما رأت سيرا.

جلست سيرا بجانب شمس ومليكة، وما أن رفعت بصرها حتى اصطدمت بنظرات يزن إليها بثبات وجرأة أدهشتها وأربكتها منه، فتلقائيًا فركت كفيها ببعضهما وظهر توترها، خاصة عندما رأت ابتسامته التي ما زالت تشبه تلك الابتسامة اللعوب المشاكسة، وكأنه لا يعرف سواها، أليس من المفترض أن تنم ابتسامته عن سعادته بها، وليست تلك التي تستفزها كثيرًا؟!

انتبهت إلى حديث "سليم" الذي يبدو أنه كان يتحدث منذ فترة قصيرة، وبسبب شرودها في تفسير إمارات وجه يزن لم تنتبه إليه، فانتبهت إلى قول سليم الذي أنهى حديثه به:

-وزي ما قولتلك احنا يشرفنا أكيد إننا نخطب سيرا ليزن أخويا، يزن شقته جاهزة وكل حاجة موجودة ومتوفرة والشبكة اللي انتوا تطلبوها والمهر كمان اللي تحبوه، ويا ريت يكون الجواز بعد خمس شهور  بالكتير وده طلب يزن.

ترك يزن وجه سيرا الذي كان يتأمل تفسيره، وتجمدت أطرافه عندما استمع إلى قول سليم الأخير، فحول بصره نحو أخيه الذي تجاهله واستمر في مناقشة والد سيرا الذي أبدى اعتراضه البسيط على سرعة الزواج، فقال سليم:

-يا حاج حسني شقة يزن جاهزة وكل حاجة موجودة ليه التأخير مش كده يا يزن؟!

تحولت نظرات الجميع إلى يزن الذي لم يستطع إخفاء دهشته من تصرف سليم، لقد ألقى بشرطه عرض البحر، ولم يهمه غضب يزن إطلاقًا، وفعل ما يريده دون أن يعيره انتباهًا، فشعر يزن وكأن الأرض ابتلعته ولم يتمكن من استيعاب ما يجري، حتى انتبه إلى تدخل الحاج "صافي" بقوله:

-يا حاج حسني، الراجل جاهز من كله يبقى خير البر عاجله.

-يا جماعة أنا بقول يعني لو مدة الخطوبة سنة والعرسان يفهموا بعض أكتر ودي مدة كافية يعرفوا فيها بعض ويقدروا يحكموا ويشوفوا هيقدروا يكملوا مع بعض ولا لا.

تدخلت "حكمت" باندفاع أثار ضيق والدها منها:

-طبعًا يا بابا، هيكونوا متفهمين، دول لايقين على بعض اوي.

ثم مالت على يزن تتمتم ببعض كلماتها الحانقة التي  استفزت ملامح الاستنكار على وجهه:

-ما تتكلم يا اخويا انت واكل سد الحنك!

حمحم يزن قبل أن يقول بنبرة مهذبة منمقة وهو ينظر إلى سليم بتحدٍ واضح:

-أنا مقدرش أزعل الحاج حسني، اللي هو عايزه هيمشي، سنة اتنين براحتك خالص.

لم يعلم "يزن" أن كلماته المبطنة بالتحدي والعناد الموجه لسليم ستنقلب عليه، حيث قال والد سيرا وهو ينظر إلى سليم:

-وأنا مقدرش ازعلك يا استاذ سليم، ٥ شهور مفيش مشكلة.

كادت ضحكة قوية تخرج من فم زيدان، الذي تابع ما يحدث في صمت تجلى على وجهه الذي ظهر عليه تسليته بالوضع، حتى ارتفعت نبرة سليم وهو يتسم بانتصار، بينما يزن غرق في أنهار الغضب والسخط.

-يلا نقرا الفاتحة وبعد إذنك أنا جايب معايا دبلتين للعرسان يلبسوها لغاية ما يقرروا معاد الشبكة امتى.

حسنًا، سيفقد وعيه الآن مما يحدث له، حتى والدها أبدى موافقته ببساطة لم يتقبلها يزن، حيث كان يتمنى أي شيء يعرقل تلك الليلة، ولكن أمنياته ذهبت في مهب الريح عندما انتهى الجميع من قراءة الفاتحة التي لم يقرأها هو من الأساس، وفجأة وجد نفسه جالسًا على الأريكة الكبيرة الموجودة في منتصف الصالة، وبجانبه سيرا، وشمس تجلس بجانبها تقدم صندوقًا مغلفًا بالقطيفة المخملية وبه خاتم ذهبي ذو فصوص بيضاء وآخر فضي، وللعجب أنهما بنفس مقاس أصابعهما!

علت الزغاريد والمباركات والتهاني عليهما جميعًا، حتى سيرا كانت صدمتها تشبه صدمته وعجزه، فلم تعلم أتتقبل التهاني والمباركات، أم تعلن سخطها على سرعة مجريات الأمور دون إبداء رأيها، أم تتقبل شعور السعادة الطارق على أبواب قلبها!

دق جرس الباب وانتبه الجميع على صوت "حودة" ابن "حكمت" وهو يقول:

-ماما، ام عمو فايق وعمو فايق وأخته سهام واقفين على الباب برة.

شلت حركة حكمت تقريبًا، فكانت الصدمة أكبر من استيعابها، وكأن الزمن توقف مرة واحدة، فخبر وجودهما كان بمثابة الضربة القاضية!

تحركت ببصرها نحو والدها الذي ظهر على وجهه ألوان الطيف، وأدرك فداحة ما أوقعته به ابنته الآن، فأين المفر من ذلك المأزق؟

نهضت حكمت تجر ساقيها جرًا حتى وصلت إليهم، ورأت ابتسامة والدة "فايق" الواسعة وهي تقول بعتاب:

-أيه يا حكمت مابترديش على التليفون ليه، بس الحمد لله أنا جيت في معادي اهو، ادخل يا فايق، ادخلي يا سهام.

ثم قدمت والدته حقائب الفاكهة إليها، فأمسكتها حكمت وهي لا تزال على نفس صدمتها، دخلوا جميعًا ونظروا إلى الجمع الموجود، حتى وقف "حودة" يقول بحماقة طفولية بحتة:

-خالتوا سيرا اتخطبت لده.

وأشار على يزن الجالس بحانب سيرا التي بدأ الدم يختفي تقريبًا من عروقها من هول الصدمة فبدت متسمرة وكأن هناك عاصفة برق ضربتها، فأكمل الصغير بحماس:

-معاه عربية حلوة اوي تحت، شوفتها يا عمو فايق.

وهنا فقد "حسني" وعيه من فرط غضبه وكتمانه انفعاله داخله، فبدا وجهه كقطعة قماش حمراء، ومن خلفه سقطت حكمت مغشيةً عليها من فرط الإحراج الذي كانت السبب به، فعلى ما يبدو أن تلك الليلة السعيدة انتهت بكارثة! 
لقد أضرمت نيران الغيرة داخله، ولم يهدأ حتى هذه اللحظة رغم مرور عدة ساعات على إهانته كالأبلة، وهو يراها تتم خطبتها على شخص غيره، تسارعت أنفاسه بجنون، وكأن الدنيا بأسرها تتحالف ضده لاستفزازه.

استمع إلى والدته التي كانت تجلس تراقب ثورانه وهياجه، وهو يتخبط هنا وهناك في أرجاء الشقة، بينما سهام أخته، كانت تتحرك خلفه محاولة تهدئته:

-ماشي يا حكمت، أنا تعملي فيا كده، أنا تديني الصابونة أنا وابني!

التفتت سهام إليها تقول بنبرة انفعالية يملؤها الغيظ:

-واقسم بالله يا ماما حكمت دي لو مربتيهاش، يبقى نتساهل كل اللي احنا فيه.

فركت كفيها في ساقيها وأنفاسها تخرج من فوهة بركانها الثائر وهي تردف بنبرة انتقامية:

-اقوم انزلها ارنها علقة، واديها قلمين في وسط المنطقة.

لم يستطع فايق الاحتمال والصمت فقال بنبرة متوعدة، غليظة وقاسية:

-والله ما أنا سايبها، وهتجوزها غصب عنها، أنا مايتقلش بيا أبدًا أبدًا، أنا اتهانت كرامتي يامااااا.

نهضت والدته، وهي تتوهج غضبًا وكرهًا، فبدت بوادر الانتقام تختلط بشراسة ملامحها لدرجة أنها قالت بنبرة مستنكرة ساخطة:

-ولا عاش ولا كان اللي يقل بكرامتك يا حبيبي، والله لمعرفاهم قيمتهم ولاد حسني في المنطقة كلها، استنوا عليا!!

                                ****

دخلت "دهب" وهي تحمل كوبًا من عصير الليمون المثلج إلى غرفة "حكمت"، التي كانت جالسة فوق فراشها تقضم أظافرها بتوتر، وعيناها مثبتتان على نقطة ما في الفراغ، وعقلها يسبح في بحر الشرود، باحثًا عن مخرج من ظلمة أفعالها عندما يواجهها والدها بفعلتها الحمقاء!

لم تعرف كيف سقطت فاقدة الوعي بعد رؤيتها لوالدها، وعندما عادت إلى وعيها وجدت نفسها في غرفتها وابنتها بجانبها.

-بابا طلع فوق يا ماما يطمن على جدو.

قدمت لها دهب الكوب الذي أخذته "حكمت" سريعًا، وارتشفت منه القليل، ثم قالت بهدوء يتخلله بعض الارتباك:

-جدك فاق؟!

-ايوه، قولتلك جابوا دكتور وقال أنه كان ممكن يجيله جلطة بس الحمد لله ومنع عنه الانفعال، انتي يا ماما أيه اللي عملتيه ده؟؟

قالتها "دهب" بعتاب استفز والدتها كثيرًا حتى كادت أن توبخها، ولكن صوت "حودة" ابنها بالخارج، وهو يستقبل إخوتها ويدلهما على مكان وجود والدته، جعلها تضع الكوب بجانبها وتسقط برأسها على ظهر فراشها، ممتثلة للتعب والإرهاق، رفعت "دهب" أحد حاجبيها على والدتها التي تخشى تلك المواجهة!

اندفعت كلٌّ من "شاهندا" و"كريمة" و"فريال" إلى الداخل بوجوه شرسة وعيون تصرخ بالغضب، وفور دخولهن قالت "كريمة" بهجوم ناري:

-قومي يا أبلة، الدكتور قالنا إنك كويسة وزي الفل!

رفعت يدها تشير بإصبع السبابة بنفي، وصوتها يكاد يخرج من حلقها، بينما عيناها كانتا زائغتين مرهقتين:

-لا يا كريمة، أنا تعبانة خالص خالص.

عقدت "شاهندا" ذراعيها وهي تنظر لها باندهاش ساخر جلي على ملامحها:

-مالك يا أبلة، الف سلامة، طمنينا؟!

وضعت "حكمت" يدها فوق قلبها وهي تقول بوهن ونبرة استعطافية:

-قلبي يا بت يا شاهندا، هيقف، آه وصيتكوا ولادي ربوهم.

تقدمت "فريال" منها وهي تجلس على طرف الفراش، متصنعة التعاطف والحزن لحالتها:

-لا لا يا أبلة اوعي تسيبنا، احنا مانعرفش نعيش من غيرك، مين بس يجلطنا، ويفضحنا، وينكد علينا في أهم لحظات حياتنا!

لم تتحمل "حكمت" حديثها كثيرًا، فثارت بجنون وهي تشهق بصوت عالٍ ونبرة تخالف تلك الواهنة المرهقة التي كانت تتحدث بها:

-مين أيه يا اختي ؟! ماتعشيش الدور يا فريال، عشان ماجبش الشبشب واربيكي.

اقتربت الثلاثة منها وأصبحن قريبات جدًا، فابتعدت بجسدها للخلف وهي تنظر إليهن بملامحهن المحتقنة بالشر:

-أيوه بقى، اظهري على حقيقتك، وقوليلنا عملتي كده في سيرا ليه؟

قالتها "كريمة" بنبرة مغمورة بالغيظ، فردت "حكمت" باستنكار حذر:

-لمي لسانك يا كريمة أحسنلك، وأنا عملت أيه؟ أنا ماعملتش أي حاجة خالص!

رفعت "فريال" أحد حاجبيها باستنكار مماثل وهي تقول بسخرية:

-امال نسمي اللي عملتيه ده أيه؟! سسبنس ولا أيه بالظبط؟! ده أنتي كنتي قاصدة تبوظي فرحتها.

توسعت عينا حكمت بصدمة وهي تقول بنبرة معاتبة صادقة:

-أنا قاصدة أبوظ فرحة سيرا! اخص عليكوا يا اخواتي، هو أنا عدوتكوا!

وهبطت دمعتان من عينيها، فابتعدن قليلاً وهن ينظرن إلى بعضهن بتيه، ولكن الأسرع في الخروج من حالة التيبس تلك كانت "شاهندا"، التي قالت بضيق محتدم:

-امال اللي حصل فوق ده أيه؟!

-هو أيه اللي حصل؟!

رمشت بأهدابها في براءة زائفة لا تليق بملامح وجهها الحادة، والتي تميل للمكر والمصائب دومًا، فقلن الثلاثة بصوت واحد:

-أبلة!!!!

زمت شفتيها بضيق وهي تقول بصوت خافت، وكأنها تخشى أن يسمعها أحد، والاستعطاف يغزو صوتها كالمسجون الذي يرجو قاضيه للإفراج عنه:

-البت دهب بنتي الغلبانة دي، فوزية أم فايق ليها أخت مدرسة مع البت دهب في المدرسة فكنت طالبة منها توصي عليها وتغششها، فقولت في عقل بالي يا بت يا حكمت لو قولتي لفوزية الملوية إن بابا رفض ابنها هتزعل وتتقمص وتتلوي أكتر عليا والبت تسقط، فشغلت دماغي وقولت اسكت ومردش عليها وبعد ما سيرا يتقري فتحتها والبت تكون امتحنت بعد بكرة ابقى اقولها.

ظللن ينظرن إليها في صمت وكأنهن يستكشفن مدى صدقها، فقرأت في عيونهن عدم التصديق، رفعت إصبع السبابة تقسم بصدق على ما قالته:

-والله ده اللي كان في نيتي، بس في حاجة صغيرة قد كده تانية.

صمتت قليلاً قبل أن تقر باعترافها، فبدت كطفلة مشاكسة كثيرة المصائب وهي تسرد سرها الثاني:

-يعني كنت داخلة في جمعية معها وهاخد الاسم الاول بعد بكرة كنت عايزة اخده واضمن الاسم وبعد كده ابقى اقولها بس ده سبب مش مهم خالص، البت دهب الاهم.

لوت "فريال" شفتيها بسخرية وهي تقول بسخط:

-اقطع دراعي إن ما كان ده السبب الاهم، يا أبلة حرام عليكي هو انتي ناقصك جمعيات ولا فلوس، وبعدين ما تسقط دهب ولا تتزفت معلش يعني يا دهب.

التفتت إلى "دهب" تلقي بفظاظتها في وجهها، فوضعت الأخرى كفها فوق صدرها وهي تبتسم بتهكم:

-لا عادي يا خالتو خدي راحتك.

ثم التفتت "فريال" تستكمل في نزق:

-يا أبلة ده بابا ضغطه ارتفع وكان هيجراله حاجة من كسفته قدام أهل عريس سيرا وقدام عريسها نفسه ومستحملش واغمى عليه.

-أنتي فاكرة إني مش حاسة، أنا بجد بجد متضايقة المرة دي اوي من نفسي.

قالتها حكمت بانزعاج، حتى قطعت كلامها وهي تسأل بفضول:

-هو انتوا قولتوا أيه لأهل يزن؟!

-مقولناش حاجة، لما حصل اللي حصل اتلبخنا فيكوا وأبيه صافي اخد طنط فوزية وعيالها برة وفهمهم الوضع ومشاهم، ولما بابا فاق وبقى كويس أهل يزن مشيوا من غير مايفهموا في أيه، وشكل سيرا الغلبانة هي اللي هتدبس وتفهم يزن.

أخبرتها "شاهندا" بما حدث في استياء ظهر في نظراتها الموجهة إليها باتهام شرس.

انتفضن جميعًا عندما سمعن طرقًا عاليًا على الباب، وكأن باب الشقة سيكسر في يد الطارق، كانت "حكمت" أول مَن تحركت سريعًا لتوبخ الطارق، وما إن رأت "فوزية" والدة "فايق"، تقف أمامها وملامحها تنذر بشر، متخصرة ومتخذة وضعية الهجوم، حتى تسرب إلى "حكمت" نفحة من الانفعال، وقالت بصوت شرس:

-جرى أيه يا فوزية، ما تكسري باب الشقة علينا أحسن!

مررت فوزية بصرها من أعلاها لأسفلها وهي تتهكم بصوتها المرتفع:

-ما أنتي قردة اهو امال لما شوفتينا وقعتي ليه يا حكمت....

لم تترك حكمت للأخرى مجالًا للكلام وبترت حديثها، بقولها الذي كان يتدفق كالسيل، وكلماتها تتشابك بتوتر لا يُخطئه أحد:

-شوفت عزرائيل ياختي، ما أنا لازم لما اشوفك اطب ساكتة، دخلتك دخلة الهباب والزفت على دماغك.

رفعت فوزية أحد حاجبيها بعدم تصديق وهي تصيح باستنكار لاذع:

-ماكنش ده لسانك معايا يا حكمت مصلحة، اتغيرتي لما جه عريس لاختك غني يا اختي، فرحانين بعربيته!!

تشدقت "حكمت" ساخرة وهي تنظر لها متعمدة إهانتها:

-هو عنده عربية بس، ده عنده اسطول عربيات، واه ياختي فرحانين.

تدخلت "كريمة" لتهدئة الوضع وخاصة أن أصواتهما كانت عالية جدًا لدرجة أن باب شقة والدها صدر عنه صوت وبدأت أصوات أقدامهم بالأعلى تهرول على الدرج:

-اهدي يا طنط فوزية، هو حصل سوء تفاهم بس، وأكيد أبلة حكمت مكنش قصدها.

-لا يا اختي بعد أيه، بعد ما كسرتوا بنفس ابني، يا عالم يا ناقصة!!

كانت عبارتها لاذعة وكأنها أعيرة نارية تقذف من فمها السليط، وعندما رأت "حكمت" سيرا تقف بالأعلى هي ووالدتها وباقي أفراد العائلة شعرت بتأنيب ضمير وخاصة عندما لمحت عبرات الحزن والحسرة تتجسد في  عيني سيرا.

فلم تشعر بنفسها وهي تحول انفعالها الداخلي كله في وجه فوزية التي تلقت جمل نارية تحمل في طياتها سخرية جارح:

-معلش يا اختي قوليلي هنراضيه ونجبله عروسة لعبة.

شهقت "فوزية" بقوة وهي تتخصر وتصيح بأعلى نبرة لديها:

-بتتريقي يا حكمت، ده أنا ابني زينة الرجالة يا حلووووة، هو كان راضي باختك، دي مكنتش عاجباه وأنا اللي اتحايلت عليه لغاية ما رضي.

-ده مين ده اللي مش راضي باختي، انتي هتتهبلي يا ولية، ابنك اللي بيشرب الخمرة مش راضي باختي أناااا عشنا وشفنااااا....

احتجت فوزية على قولها بثوران قوي:

-أنا ابني بيشرب أيه؟! ده أنا ابني مابيحطش السيجارة في بوقه يا حكمت!

-هيحطها ليه وهو بيشرب خمرة، ما الخمرة لامؤاخذة مكيفاه، ما تقوليلها يا سيرا، رفضتيه ليه، عشان ياختي سمعة ابنك اللي مش ولابد!

تبادلت الاثنتان الكلمات القاسية، حتى باتت عباراتهما أشبه بسكاكين حادة تخترق الهواء، وعندما ذكرت حكمت اسمها وأشارت إليها للتحدث، وضعت سيرا يدها فوق وجهها بعدم رضا من تصرفات أختها المتهورة.

صعدت لأعلى تاركة الشجار اللفظي الذي تحول إلى شجار بالأيدي، وانتهى سريعًا بسبب تدخل أفراد العائلة من الرجال والنساء حتى هبط "حسني" بمساعدة صافي وقال بصوت رخيم إلى فوزية التي أمسكتها كريمة بقوة:

-أنا بعتذرلك يا حاجة فوزية عن اللي حصل، وأنا بنتي هعرف اتصرف معاها، هو حصل سوء تفاهم، واحنا جيران وأهل ومش حاجة زي دي اللي هتوقعنا في مشاكل.

لم تتقبل "فوزية" حديثه ودفعت كريمة بعيدًا عنها، وهي تقول بنبرة ساخطة تحمل كرة وحقد مخيف:

-لا يا حسني أحنا ولا جيران ولا أهل، حسبي الله ونعم الوكيل فيكوا عشان بناتك يطلعوا كلام على ابني عشان يبرروا انتوا ليه وافقتوا على العريس الغني، بس يا حبيبي مش كل حاجة الفلوس، بكرة يصبح بنتك بعلقة ويمسيها بعلقة يا ناس ميملاش عينها غير التراب!

حاولت "حكمت" الابتعاد عن قبضتي شاهندا وفريال وهي تقول بانفعال:

-سيبوني عليها الولية القرشانة دي أكلها بلساني.

غادرت "فوزية" بعد أن القت ما في جعبتها، بينما التفت حسني إلى حكمت قائلاً بصوت جهور:

-أنا مش مسامحك على اللي عملتيه فينا، ولسانك مايخاطبش لساني.

مد يده إلى "طارق"  زوج كريمة الذي ساعده سريعًا في الصعود، وتسلل الجميع من حولها فنظرت إلى صافي تقول بنبرة شبه باكية:

-صافي....

أشاح بيده في وجهها وهتف بنبرة يغمرها اللا مبالاة منها:

-يا شيخة هو انتي خليتي فيها صافي، روحي نامي.

وقفت "حكمت" وحدها بعدما فر الجميع من حولها، وصدى صوت والدها وهو يلقي بكلامه، يتردد في عقلها كضجيج لا يهدأ، فكان أثره قاسيًا عليها، مخترقًا صميم قلبها، لامت نفسها على ما فعلته، متمنية أن يعود بها الزمن لتستمع لرأي والدها منذ البداية.

تنهدت بقوة وهي تفكر بحزن، لم تكن بحاجة لعقاب والدها، فقد كان تأنيب ضميرها كافيًا لتشعر وكأنها تغرق في بحر من الندم.

                              ****

دخلت "سيرا" غرفتها وهي تبكي في صمت على فساد ليلتها، نظرت إلى ساعتها متمنية أن يمر هذا اليوم الثقيل بكل ما يحمله من خيبات ستظل راسخة في عقلها طيلة حياتها.

كم كانت تتمنى أن تُخلد هذه الليلة في ذاكرتها بلحظات معبقة بالسعادة والبهجة، إلا أن رياح القدر عصفت بأمانيها، لن تنسى أبدًا نظرات عائلة يزن الممتلئة بالشك حتى آخرها، والتي حفرت في عقلها ذكرى سوداء لن تُمحى.

أمسكت هاتفها وقررت أن تجري اتصالًا به لتخبره بكل ما حدث، إلا أنها ترددت وشعرت بخزي شديد بسبب الموقف الذي وضعتها فيه تصرفات أبلة حكمت الحمقاء!

ألقت الهاتف جانبًا وأغلقت عينيها، آملة أن تحظى بلحظات من السلام تهدئ بها ذاتها المنهارة، كي تتحلى بالقوة عندما تحادثه، لكن القدر أبى أن يمنحها مرادها، إذ ارتفع رنين هاتفها فجأة، ووجدت اسمه يتلألأ وسط الشاشة، ابتلعت لعابها بصعوبة وهي تعتدل في جلستها لتجيب، لكن صوتها خرج مهزوزًا للغاية، وكانت متأكدة أنه التقط ذلك سريعًا، وحتمًا ارتسمت على شفتيه ابتسامة جانبية ساخرة:

-ألو.

-بابكي عامل أيه دلوقتي؟

سؤال بسيط، لكنه يحمل في باطنه الكثير من الأسئلة الأخرى التي تدور حول مهزلة تلك الليلة، فأجابت بإيجاز:

-الحمد لله كويس.

مرت بينهما دقائق من الصمت، هي لم تُجدِ اختيار الكلمات التي ستبدأ بها حديثها، وهو بالتأكيد يتلاعب بأعصابها بصمته الذي أثار الريبة داخلها، فقالت بتوتر بالغ:

-على فكرة أنا كنت هتصل بيك دلوقتي عشان اوضحلك اللي حصل.

-لو مش عايزة تحكي دلوقتي عادي.

لم تتوقع رده الذي أثلج نيران توترها، فزفرت بهدوء وكأنها تطلق أنفاسها المرتبكة خارجها، ثم قالت بصوت ناعم حمل طيفًا من الحزن الذي افتطنه سريعًا:

-اللي جم دول يبقوا جيرانا وكانوا طالبين ايدي لفايق ابنهم وكلموا أبلة حكمت تقول لبابا بس بابا رفض الموضوع وقال لأبلة حكمت تبلغهم برفضه، بس...

صمتت لثوانٍ تأخذ أنفاسًا باردة تستكمل بها حديثها:

-بس أبلة تقريبا نسيت ومبلغتهمش، وتقريبا كانت متفقة معاهم يجوا النهاردة وحصل اللي حصل.

مرت دقيقة كاملة دون أن يعقب على حديثها، فانقبض ما بين حاجبيها بعدم فهم، حتى استمعت إلى صوته وهو يضحك، ثم عقّب:

-أبلة حكمت دي ملهاش حل.

-يزن.

قالتها بنعومة فائقة، لدرجة أنه رد سريعًا بنبرة غلفها الاهتمام والإعجاب:

-نعم؟

همست بصوت مغمور بالإحراج والحزن:

-أنا محرجة جدًا من اللي حصل ومكنتش اتمنى إن يوم ما العيلتين يتعرفوا يبقى بالشكل ده.

-عادي ماتتحرجيش، محصلش حاجة لكل ده، وبعدين أنا هفهمهم اللي حصل.

-شكرًا.

قالتها بابتسامة وهي تزيح همًا ثقيلًا عن قلبها بسبب تفهمه للوضع، لكنها سرعان ما استشاطت انزعاجًا عندما سمعته يقول:

-وبعدين ماتخفيش اوي كده، مش هسيبك، هكون رؤوف بيكي واكمل الخطوبة.

اندثرت نبرتها الناعمة بين طيات الاستنكار وهي تقول:

-أنا مش خايفة على فكرة، ومايهمنيش، في فرق بين الاحراج والخوف.

ترددت ضحكته الساخرة مجددًا في أذنها، ثم عقّب بصوت مشاكس:

-طيب عيني في عينك كده؟ يا بنتي أنا عارف إن أنا عريس لقطة.

للحظات، تناست مهزلة الليلة، واندمجت معه في مشاكسته بتهكمها القوي:

-يا سلام!! مغرور اوي، أنا عايزة اعرف شايف نفسك ليه؟!

حمحم بصوت قوي ليجذب انتباهها بالكامل، ثم واجهها بجرأة لم تتوقعها منه وهو يقول:

-يمكن عشان شوفت فرحتك النهاردة بيا لما جيت وخطبتك.

ردت سريعًا بتهور وهجوم وكأنها تبعد تهمة عنها:

-محصلش أنا مكنتش فرحانة خالص.

أصر على كشف خباياها بقوله الماكر:

-والضحكة الي كانت من الودن دي للودن دي أيه؟!

رفعت أحد حاجبيها بضيق طفيف منه، لكنها سرعان ما سخرت بنبرة شبه حادة مقصودة:

-جرافيك، أكيد يعني تهيؤات، ده أنا كنت مبوزة واقول يا رب الليلة تعدي بسرعة.

تعالت ضحكاته المستفزة، وهو يحاصرها مجددًا بين جدران إعجابه بها، ليجعلها تعترف بما يتمناه كثيرًا، فقط ليؤكد لنفسه أنهن جميعًا واحد، لا فرق بينهن:

-اه كان نفسك أهلي يمشوا، عشان اقعد معاكي يا لئيمة، بس يا حرام بقى جه العريس...اسمه أيه؟!

أجابت باسمه بدلال متعمد ونعومة ماكرة تسللت إلى نبرتها، فأعطتها صدى مميزًا جدًا:

-فايق.

تجاهل تحول نبرتها المفاجئ، واستكمل مشاكسته لها:

-اه فايق جه بوظلك الليلة.

تعمدت أن تطلق تنهيدة صغيرة، وقد مال صوتها للحزن وهي تخبره، فحمدت الله كثيرًا أن هذه مجرد محادثة هاتفية، فلو كان أمامها، لقرأ تعابير وجهها المتلاعبة، واكتشف حماقتها:

-طب انت عارف أنا فايق صعبان عليا اوي.

تطايرت نبرته المشاكسة في مهب رياح خشنة مستنكرة، وهو يردد سريعًا:

-نعم؟!

لمست التغيير الذي طرأ عليه لمجرد أنها نجحت بالفعل في إثارة نزعة الرجل الشرقي داخله، فاستكملت برقة حزينة:

-اه بتكلم جد، يعني لما يشوفني وأنا بتخطب لغيره أكيد هيزعل.

لمعت سخريته الغليظة وهو يقول:

-مش عايزة نجيبله ورد ونقدم له اعتذار.

-لا أنا هبقى اكلمه وافهمه الموضوع، هو يستحق كده.

أغلق الاتصال في وجهها كرد بسيط على حماقتها المتعمدة، وفور ذلك، نظرت إلى الهاتف باندهاش من وقاحته في التعامل معها، رغم أنها كانت تمازحه ليس إلا، رمشت عدة مرات بعدم استيعاب، ثم تمتمت بذهول:

-ده قفل في وشي، قفل في وشي، طيب والله ما أنا معبراه.

                              ****
أغلق يزن الاتصال في وجهها، مستمتعًا بمشاكستها بطريقته هو، وليس بتلك الحماقة التي تصر على إثارة غيرته، كونه رجلًا شرقيًا لا يسمح بتلك المهازل في الحديث!
فرك خصلات شعره وهو يقرر الذهاب إلى سليم للتحدث معه بشأن الورطة التي افتعلها عن عمد، متعمدًا الإخلال باتفاقهما بكل جرأة، مما استفزه كثيرًا، ولكن ما إن حرك باب غرفته حتى اختل توازن كلٍّ من شمس ومليكة للأمام بقوة، فتراجع للخلف بصدمة وهو يحاول استيعاب وجودهما:

-إيه ده! بسم الله الرحمن الرحيم! يا جماعة، بلاش تخضوني كده، أنا راجل على باب الله، أقسم بالله، يعني في ثانية هتلاقوني واقع منكم في الأرض بفرفر!

اعتدلتا في وقفتهما وظلتا صامتتين، تنظران إليه بحرج شديد، وعيون متسعة مليئة بالفضول، فقال بشك:

-إيه؟! انتوا ساكتين كده ليه؟! انتوا عفاريت؟!

تساءل بسخرية حذرة، حتى قطعت مليكة حبل صمتها بقوة وهي تردد متهكمة:

-يزن، الشقة أثرت عليك خالص!

رمقها بسخرية مماثلة وهو يردد بحماقة:

-أصلًا إنتي وجوزك عايشين وبتتعايشوا إزاي؟! أقطع دراعي من هنا إن ما كنتوا ولاد خالة العفاريت اللي هناك!

تدخلت شمس أخيرًا في الحوار، وهي تندفع بفضول:

-سيبك من السيرة دي، وقولنا الأهم كلمت العروسة؟!

ضيق عينيه وهو يشير بإصبعه السبابة في وجهها، قائلًا بتهكم طفيف:

-شامم ريحة فضول يا أم أنس، بس للأسف، لا!

اندفعت مليكة دون تريث، وهي تقول بضيق:

-إيه ده! بطل كذب! إحنا سامعينك وإنت بتكلمها!

اتسعت عيناه بصدمة امتثلها ببراعة، ثم تساءل مستنكرًا:

-إنتوا كنتوا بتلمعوا الأوكر؟!

هزت رأسها سريعًا نافية التهمة عنهما بنبرة متوترة سيطرت على أدائها وهي تحاول إقناعه:

-لا والله! أبدًا!.

لكزتها شمس وهي تكز على أسنانها بغيظ محتدم:

-لا والله إيه؟! ما إنتي اعترفتي مع أول قلم! إنتي مرات ظابط إنتي؟!

قهقه يزن ببساطة وهو يقول باستهزاء:

-لا، ما هو زيدان مش ظابط الأداء معاها!

اصطنعت شمس الضحك، ثم قالت بفضول نسج خيوطه بكافة تفاصيلها:

-هاهاها! مضطرين نضحك! هااا... قولنا بقى اللي حصل هناك! سيرا قالت لك إيه؟!"

انكمشت ملامحه وهو يتساءل بتهكم، بينما كانت عيناه موجهتين إلى مليكة، التي سرعان ما انبثقت إمارات الاستنكار على وجهها:

-من إمتى وإنتي فضولية كده يا شمس؟!

رمشت مليكة ببراءة وهي تحاول استيعاب حديث يزن المبطن، حتى قالت بنبرة مندفعة، محاولة تبرئة نفسها:

-والله أنا كنت قاعدة في حالي، قالتلي تعالي نقوم نطمن على يزن!

مال جانب ثغره بابتسامة ساخرة وهو يقول:

-فيكوا الخير!

عقدت شمس ذراعيها أمامها، وعادت إلى نفس سؤالها، ولكن هذه المرة بنبرة تحمل غموضًا خاصًا:

-يعني مش هتقولنا في إيه؟!

التزم الصمت أمام نظراتهما، ولم يفصح عن تعابير وجهه التي كانت مبهمة، لكن نبع جزء خاص بالاستمتاع وهو يتسلى بفضولهما الأحمق:

-خلاص، براحتك! وأنا مش هقولك سليم قرر يعمل إيه بعد اللي حصل ده!

انعقد حاجباه وهو يتساءل بعدم تصديق:

-إيه؟! هيفركش؟!

وضعت أسس الجدية في تعابيرها التي بدت صارمة وتحوي شيئًا بالفعل قد حدث، فقالت:

-قول الأول!

تنهد باستسلام وهو يخبرهما بتيه ملحوظ، محاولًا تذكر كلمات مهرته التي كانت تتغنى بحزنها على ذلك العريس المرفوض:

-مفيش! الحكاية كلها لعبكة! يعني ده جارهم وعايز يخطبها، ولما لقاني اتصدم! والسبب أبلة حكمت..."

قاطعته مليكة وهي توجه كلماتها إلى شمس بضيق:

-مش أنا قلتلك يا شمس؟! أكيد الست دي السبب هي أصلًا باين عليها قرشانة!

مطت شمس شفتيها، وأكدت برأسها على حديثها، ثم قالت بحماس حاولت تحجيمه:

-كمل يا يزن!

تنهد يزن، وعاد إلى الحكاية التي سردتها له سيرا، وما إن انتهى حتى قال بحذر وشك:

-ها! سليم ناوي على إيه؟!

هزت كتفيها بلا مبالاة، ونبرتها تتلاعب به كمثل ملامحها التي أفصحت عن مشاكستها:

-مفيش حاجة! كنت بضحك عليك! قالي روحي اسألي يزن باباها عامل إيه دلوقتي بس!

اتسعت عيناه دهشة، وعبر بصوت ساخر:

-والله؟! هي بقت كده؟!

عقبت مليكة سريعًا بابتسامة انتصار وهي تجذب شمس خلفها:

ألف مبروك يا يزن! عقبال فرحك، هتبسطلك أوي!

رفع أحد حاجبيه وهو يردد بغيظ متهكم خلفهما، إلا أن الاثنتين تجاهلتاه وفرتا هاربتين منه:

-ليه؟! كنت باير يا مليكة؟!

ظهر زيدان بجسده العريض وطوله الذي يقلّ قليلًا عن يزن، فأوقفه قائلًا باستفهام:

-إيه؟ خد خد ماشي بتزعّق ليه كده؟!

زفر بضيق وهو يبحث بعينيه في الصالة عن سليم:

-يا عم! ولا بزعق ولا نيلة! فين سليم أخوك؟!

أجاب زيدان بفضول وقد أدرك نية يزن المتهورة في معاتبة سليم الذي لا يُعاتب أبدًا من أجل سلامة الجميع:

-فوق، ليه؟!

انبثقت الكلمات من فم يزن بتهور وغيظ:

-أنا متفق معاه على حاجة، رايح يخلف ويقولهم ٥ شهور ليه؟!

التزم زيدان الصمت أثناء استرسال يزن لسبب غضبه، وفور انتهائه قال زيدان بهدوء رزين ونظرة ماكرة توجس منها يزن:

-وانت رايح تتخانق معاه؟! ده مش بعيد يجوزهالك بكرة لو عاندت! بطل جنان وخليك لعيب! هو يجيلك كده، تعالى أنت كده! هو يظبط حاجة للجواز، أنت تفركشها!

عبر يزن عن توجسه من مكر زيدان الذي لا نهاية له:

-مش عارف بس مش مطمنلك! الطيبة الزايدة دي مقلقاني!

ابتسم بحماقة وهو يقول بنبرة خافتة جعلت رأس يزن يدنو إليه، فبدا وكأنهما يتآمران على أحد:

-أنت المفروض تقلق من حاجة واحدة بس!

صمت يزن، وظهر القلق في عينيه، حتى أفصح زيدان عن اعتقاده ورؤيته الثاقبة لعائلة سيرا:

-الولية اللي اسمها حكمت دي! خد بالك منها! مش سهلة! أنا حاسس لو جوازتك ما نفعتش من أختها، هتتجوزك هي!"

ربّت يزن على كتفه وهو يقول بنبرة باردة، وبدا غير مقتنع بحديثه عن حكمت، فمن وجهة نظره، الشخص الذي يستحق القلق من شخصيته هو سيرا، التي تبدو غير واضحة بالمرة، أما الاقتناع الآخر، فقد نبع من نصائح زيدان حول كيفية التعامل مع سليم، خاصة أنه يشعر بعناد أخيه الأكبر، وكأن تلك الخطبة أصبحت حربًا، والفوز فيها هو النجاة منها.

لذلك، هدأ نفسه قليلًا، وقرر ألا يتعامل بتهور مع سليم، الذي لا ينبغي التعامل معه بحماقة، بل يجب عليه التروي والتصرف بذكاء للخروج من المصائد التي نصبها له، وكأن يزن المسكين عالق وسط فخ محكم!

                               *****
في اليوم التالي..

غادرت سيرا من منزلها وتجاهلت عن عمد وجود أبلة حكمت أمام باب شقتها، فهي لن تغفر لها تلك الفضائح والتي لن تكف والدة فايق على نثرها هنا وهناك!

وكان التجاهل الثاني من نصيب فايق نفسه، حيث رأته يقف مستندًا على إحدى السيارات القديمة في المنطقة، مصوبًا بصره على باب منزلهما، ورغم أنها ارتعشت من الغل المرسوم على وجهه، إلا أنها قررت تجاهله، معتقدة بأن لن يستطع أن يفعل لها شيء!

ولكن عندما خطت بخطوات سريعة نحو الشارع الرئيسي وجدته يهم خلفها، لذا أسرعت وقد ساعدها جسدها الرياضي في الفرار منه، استقلت "الأتوبيس" الكبير وهو الطريقة التي تحبذها للوصول إلى مقر عملها.

وبعد مرور عدة دقائق..قد وصلت بالفعل للشارع المؤدي إلى عملها والذي يقع في آخره البرج الذي تعمل فيه، وأيضًا معرض يزن، وهنا انشقت ابتسامة كبيرة على وجهها ورأت الحلقة الذهبية في إصبعها، متعجبة من تدابير القدر، فبين ليلة وضحاها أصبحت خطيبته.

وقبل أن تصل إلى البرج وجدت من يتعمد إيقافها وذلك عندما قبض فوق كتفها، فالتفتت سريعًا وبحقيبتها وضربته في وجهه، فاندفع فايق للخلف خطوتان، ثم قال بغضب:

-إيه الغشامة دي؟

رفعت أحد حاجبيها مستهجنة منه وهي تردد بصوت خشن لا يناسب رقتها المعتادة:

-أنا ممكن كمان أديك بالجزمة لو فكرت تعمل الحركة دي تاني.

ابتسم ساخرًا وهو يشملها من أعلاها لأسفلها، فقال بوقاحة وقد اختلف وجهه كليًا عما كانت معتادة عليه:

-ده الحلوة ليها لسان وده من امتى من وقتي لما اتخطبتي للواد النياتي ده.

شهقت بسخرية وهو تشير إليه بتحذير قاسٍ:

-ده مين ده اللي نياتي يا تونكيز انت، ده باشا ابن باشا، انت مش شايف عضلاته، ده لو اتكلم بس يطيرك من مكانك.

-يطيرني ليه سوبر هيرو وأنا معرفش.

-بص أنا مهما اتكلم عنه، أنت مش هتقدر تفهم، لأن حجم عقلك يا فايق اللي الخمرة لحسته، مايستوعبش ناس نضيقة.

-انتي بتقولي إيه يا بنت الـ *****، يا بنت الـ*****، يا *******.

وأمسكها من مرفيقها محاولاً التعدي عليها بالضرب لكن....
                                ****
قبل قليل...

تمم يزن تفقد السيارات الجديدة في معرضه مع موظفيه، وكان منهمكًا جدًا في إملاء مواصفاتها عليهم، أو ربما يتظاهر بذلك، كي لا ينتبه إلى لحظة وصولها، شاعرًا ببعض التخبط في مشاعره، فهناك جزء منه يدفعه إلى التوقف وانتظارها ليتحدث معها في أي شيء متبعًا شرارة الفضول للتعرف على شخصيتها التي لا تزال غير واضحة له، بينما يدعوه جزء آخر إلى التريث والتجاهل بعدما أدرك مؤخرًا خطورة تلك المهرة الجامحة على كيانه!

ولكن فجأة، لفت نظره تسلل أحد الموظفين إلى الخارج ومتابعة شيء ما باهتمام، فوقف خلفه يهمس إليه وكأنه ضبطه متلبسًا:

-واقف كده ليه يا حلو وسايب الشغل؟

التفت إليه الموظف محرجًا وهو يجيب:

-أصل في خناقة دايرة هناك بين البنت الكابتن بتاعة الجيم وواحد غريب عن المنطقة.

سرت انتفاضة قوية في جسده وهو ينظر إلى الاتجاه ذاته، وما أن رآها تتشاجر مع شخص لم يتبين ملامحه بعد وذلك لإنها كانت تنهال عليه ضربًا بحقيبتها، حتى ثار عقله بجنون عندما رأى ذلك الوقح يحاول لمس والامساك بها.

دفع الموظف من أمامه، وركض بأقصى سرعته في ظل وقوف المارة الذين اكتفوا بالمشاهدة فقط، وكأن الشهامة قد بُترت من جذورها لديهم!!

وما إن وصل إليها حتى أمسكها من كتفيها بإحكام، فاستدارت إليه وعيناها مغرورقتان بالدموع وعلامة صفعة قوية مرتسمة على وجهها!

لم يدعِ يزن البطولة يومًا، ولكن عندما رأى بكاءها، ويد ذلك الوقح الآثمة تمس كرامتها، حينها سيدعي البطولة وسيكون درعها وسيفها، فمنذ اللحظة التي وضع خاتمه في إصبعها أصبحت كرامتها خطًا أحمر لا يسمح بتجاوزه.

فنظر إليها نظرة كانت كفيلة بإخبارها بأمر هام جعلها تتنحي جانبًا، فلم تكن نظرته نابعة من شهامته فحسب، بل من كونها أصبحت حياته، وذلك سبب كافٍ ليجعله حص*نها الأول والأخير!. 
مين ده؟ 

قالها يزن بنبرة غاضبة، محملة بنيران الغيرة، عندما لاحظ نظرات ذلك الشخص، والذي بدا عليه أنه نفس الشخص الذي رآه يوم الجمعة، ماذا كان يُدعى؟ ... حسنًا، "فايق"، فتذكر على الفور نعومة صوتها وهي تتلفظ باسمه عندما أغلق الاتصال في وجهها!

كانت سيرا تقف خلفه، متخذة منه سدًا منيعًا تحتمي به، بعدما استنزفت طاقتها في ضرب فايق بحقيبتها بكل غل، عندما تجرأ وأمسك بذراعيها بوقاحة لم تتحملها، فقالت بحقد وكره موجهين إلى فايق، الذي كاد يلتهمها بنظراته:

-واحد متطفل، معندوش كرامة.

-متطفل مين يا ****، يا بنت الـ ****

غلى الدم في عروقه عندما سمع وقاحتها المتعمدة، فتلفظ بشتائم قذرة، كان رد فعل يزن عليها عبارة عن لكمات متتعدة مصوبة إليه في عدة اتجاهات، حتى تراجع إلى الخلف محاولاً التحكم في نفسه بعد مباغتة يزن له، فسمعه يقول بصوت جهوري حانق،  كاد يلتهم الأخضر واليابس بأنفاسه الحارة الغاضبة ونظراته النارية:

-لو ماحترمتش نفسك هعلمك الأدب يا ابن الـ ***، فوق واعرف بتكلم مين!

مسح فايق قطرات الدم بجانب فمه الناتجة عن اللكمات التي تلقاها بعنف، ثم ابتسم بخبث وهو ينظر إلى سيرا متجاهلاً وجود يزن بقصد وبرود تعجب له الآخر بشدة:

-مبسوطة وهو بيضربني عشانك، واقسم بالله هوريكي النجوم في عز الضهر وما هسيبك.

رفع يزن حاجبيه معًا وهو يرمقه بسخرية لاذعة:

-هو أنا شفاف بالنسبالك ولا أيه؟!

فاقترب خطوة من فايق الذي تراجع للخلف، وهمس بنبرة ساخطة يغمرها الشر:

-فكك يالا من منظري والجو اللي أنا فيه ده، ده أنا صايع وجايبها من تحت اووي، آخر إنذار ليك ومن بعدها وربي وما أعبد، أنا اللي هوريك النجوم في عز الضهر، أنا قرصتي والقبر.

فقد فايق أعصابه وضرب يزن في صدره عدة مرات بقوة، متلفظًا بحنق وغيرة حارقة:

-قرصة مين يا حبيبي، ده أنا هعلمها الأدب على الحركة اللي عملتها معايا، بقى تسيبني أنا وتوافق عليك أنت!

ابتسم يزن ساخرًا ومال برأسه جانبًا وهو يقول بنبرة قوية خافتة وصلت إلى أعمق نقطة في عقل فايق، فأشعلت نيران استفزازه:

-انت يالا مش شايف الفرق ولا أعمى ولا نظامك أيه، عرفني عشان أعرف اتعامل معاك، أصل الفرق واضح ما بيني وبينك، وبعدين....

هنا ربت يزن بقوة على وجنتي فايق واستكمل باشمئزاز:

-وبعدين الفرق ده أنت ازاي مش شايفه!
ويلا من هنا، عشان ماتكلش علقة تحلف بيها عمرك كله!!

فتح فايق ذراعيه وقال بصوت جهوري مستفز:

-يلا والجدع اللي يكمل للآخر.

لم ينتظر يزن كثيرًا، بل انهال عليه بالشتائم التي تعجبت منها سيرا، خاصة عندما رأته يتشاجر مع فائق بجنون، حينها اكتشفت فيه جانبًا همجيًا وعدوانيًا، فبدا وكأنه فتوة خرج من القرن الماضي!

تجمهر المارة من حولهم، وتعلقت عيناها بيزن الذي كان بارعًا في تسديد لكماته وكأنه ملاكم محترف، ولكن شعور بالخوف الذي سيطر عليها جعلها تقف جانبًا، واضعة يدها فوق فمها وعيناها امتلأتا بالدموع، فحمدت الله كثيرًا عندما تدخل بعض الأشخاص وأبعدوهما عن بعضهما ولم تشعر بنفسها إلا ويزن يمسكها من مرفقها يجذبها خلفه بقوة.

وفجأة اختفى فايق من الشجار، وتسلل المارة إلى أعمالهم، وبقيت وحيدة في مواجهة يزن في مكتبه ذي الواجهات الزجاجية الكبيرة.

انتفض جسدها عندما سمعته يصرخ بنبرة حارقة، وعيناه تنذران بالشر، فبدت ملامحه غريبة غير تلك التي تحفظها عن ظهر قلب!

-أنا عايز أعرف في أيه بينك وبين الواد ده؟!

رفعت وجهها تطالعه باستنكار مهزوز عندما أدركت مقصده:

-يعني أيه؟ هيكون بيني وبينه أيه!!

توقف عن حركته الهوجاء في مكتبه، مما شتت انتباهها عدة مرات، فقال باستنكار مماثل:

-ماتستعبطيش يا سيرا، اللي أنا شوفته بره ده اسميه أيه؟!

ظلت على نفس جلستها، تنظر إليه وتجيب بهدوء، على عكس الحرارة المنبعثة من نيرانه الحارقة، التي وصلت إليها رغم وجود مسافة بينهما، فقد كانت في آخر الغرفة، بينما هو في أولها:

-تسميه خناقة مع واحد مش محترم حاول يتعرض ليا وأنا وقفته عند حده بس!

بساطتها استفزته لدرجة أنه اختصر المسافات بينهما ووقف أمامها، يطالعها من الأعلى، فرفعت رأسها إليه بعدم فهم، وهو يقول بغيظ:

-الواد ده محروق منك عشان اتخطبتي ليا، الحوار ده فيه حاجة مش مفهومة، حرقته مش طبيعية!!

نهضت فجأة دون أن تحسب في حسبانها قرب المسافة بينهما، فاصطدمت به ووقعت للخلف على الأريكة، لكنها تداركت إحراجها بقولها الغاضب، وإصبع السبابة يشير إليه بتحذير قاسٍ:

-لا بقولك أيه، أنا ماسمحلكش، ومش معنى إنك خطيبي إنك تتعدى حدودك معايا في الكلام، أنا لا يمكن اسمح بتلميحات زي دي.

ثبت بصره عليها باستهجان وهو يقول بنبرة أهدأ وأقل انفعالاً:

-تلميحات أيه؟، طيب...

صمت للحظة يستجمع أنفاسه وتركيزه، ثم عقد ذراعيه أمامه متسائلاً بسخرية مبطنة:

-طيب أنتي شايفة أيه؟ وضحيلي يلا!! الواد ده كان بيتخانق معايا علشانك!!! مشي وراكي علشانك، محروق علشانك بردو، وانتي عاملة نفسك مش واخدة بالك!!

-أنا حقيقي ماعرفش في أيه، ومستغربة اللي هو عمله، بس هقولك فايق أصلاً شخص شايف نفسه اوي وفاكر إن كل البنات بتحبه عشان معظم بنات المنطقة عندنا بيحبوه، فمعنى أنه يتقدملي وأنا ارفضه دي حاجة ممكن توجعه.

كان ذلك تحليلًا طرأ برأسها لفهم موقف فايق، الذي بدا غير مفهوم بالنسبة إليها، فسمعته يقول ساخرًا، وهو يعيد خصلات شعره للخلف بترتيب:

-باين بنات المنطقة عندكم مشافوش شباب قبل كده!!

شعرت بمغزاه المبطن عن نفسه ووسامته، فعقدت ما بين حاجبيها بغيظ، مشددة على صوتها الحاد:

-ماتشوفش نفسك بس!

رفع حاجبيه معًا باندهاش من تحولها السريع، من قطة وديعة إلى نمرة شرسة لديها أتم الاستعداد للانقضاض عليه، فقال بحيرة ساخرة:

-لا أنا أشوف نفسي براحتي، الدور وبالباقي على اللي كانت عاملة نفسها داركولا وواقفة بتضرب راجل في وسط الشارع!

-انت كنت عايزه يقف يمسكني واقف اتفرج عليه، ده كويس إن أنا مانطتش في كرشه.

قالتها بعنفوان واندفاع شرس، فاقترب منها وعلى وجهه ابتسامة إعجاب ممزوجة بلمحة من الانتصار، عندما نجح في كشف جزء من شخصيتها:

-تنطي في كرشه!! من امتى وانتي بتقولي الكلام الـ "dirty" ده يا بيبي!!

ورغم اقترابه الشديد منها، فرأت لون عينيه الجذاب ووسامة ملامحه الخاطفة للأنفاس بابتسامته الجذابة، إلا أنها حافظت على ثباتها أمامه، وهمست بنبرة شقية:

-لا ده أنا عندي "dirty" اكتر من كده، بس مابطلعوش إلا للناس الغالية واللي تستحق كده فعلاً، زي لو حد مثلاً فكر يجي عليا أو.... مثلاً يقرب مني زي ما أنت مقرب كده!

اتسعت ابتسامته أكثر باستمتاع وهو ينظر إليها بتسلية، هامسًا بإعجاب انبثق في عدستيه اللامعتين:

-اعتبر ده تهديد؟!

هزت رأسها إيجابًا ثم تبعته بهمسة مفعمة بنبران التهديد:

-وهتلاقي رد فعل مش هيعجبك لو مابعدتش عني حالاً يا بيبي.

قهقه بصوته الرجولي الجذاب، مستمتعًا بها وباكتشاف جوانب جديدة من شخصيتها، فبدت له ككهف مظلم مليء بالإثارة، واكتشاف دهاليزه متعة خاصة.

نهضت من مكانها وهي تحمل حقيبتها، التي باتت مُهلكة من قسوة استخدامها، لكنه لاحظ الجروح الصغيرة على يدها، فعبست ملامحه واقترب منها، ممسكًا بيدها على غفلة منها، فسحبت يدها سريعًا بإحراج، قائلة بضيق نابع من فرط خجلها:

-يزن أنا مابحبش كده لو سمحت.

تعجب منها وهو يتساءل بعدم فهم:

-مابتحبيش أيه بالظبط؟!

فركت يدها بتوتر بالغ وهي تجيب:

-يعني إنك تقرب مني فجأة وتمسك إيدي، احنا لسه مخطوبين وبعدين يعني....ده بردوا ميدلكش الحق أنك تعمل كده.

غامت ملامحه تحت ستائر الغموض، وهو ينظر إليها بإمعان شديد زاد من توترها، فأشار برأسه بعد فترة من الصمت، لعبت فوق أعصابها، قائلًا بنبرة رخيمة:

-أنا استغربت من الجروح دي، وكنت هسألك سببها أيه!!

كانت جروحًا صغيرة حية حديثة، ففهمت على الفور ما حدث ليدها، فقالت بخجل وهمس ناعم، يناقض تلك الشراسة التي اختفت فجأة ولم يعد لها أثر:

-وأنا بضرب فايق الحديد اللي في الشنطة عورني بسيطة يعني.

هز رأسه متفهمًا، فتحركت خطوتين نحو الباب دون أن تودعه، أوقفها متسائلاً بتعجب:

-رايحة فين؟

هزت كتفيها بلا مبالاة وهي تجيب:

-رايحة شغلي هكون رايحة فين يعني!

تساءل بخشونة وانعقاد حاجبيه يزداد:

-وليه الشغل ده أصلاً، احنا أصلاً اتخطب....

بترت حديثه بحزم وهي تقول:

-لا جو احنا مخطوبين وانتي مسئولة مني ده مايمشيش معايا، أنا كنت بشتغل من قبل ما أعرفك اصلاً، بشتغل وأنا برفض إن أبويا يديني مصروف يا يزن!!

هز رأسه ساخرًا وهو يقول:

-تمام حقك ماتدخلش في حياتك، طالما انتي لسه مابقتيش على زمتي، لكن لو بقيتي مراتي في يوم من الأيام جو المرأة العاملة ده ماياكلش معايا للأسف!

ماذا يقصد بـ "لو"؟! لماذا يحادثها وكأنها مجرد احتمال في حياته؟ لا يزال غير مفهوم بالنسبة إليها، ولن تصرح بمشاعرها قبل أن تتأكد من حقيقة مشاعره تجاهها، خاصة أنه شخصية متلونة، صعب التكيّف معها.

-لا وقتها نبقى نعمل تصويت ونشوف مين فينا اللي هيكسب، سلام.

أنهت حديثها ببسمة شقيّة، وهي تشاكسه بمجادلته، فمجرد عدم التسليم برأيه يشعل نيران التملك والسيطرة في عينيه، وهذا ما يثير إعجابها به.

                              ***

وقفت يسر بجانب مهندس الديكور مصطفى، الذي اختاره والدها لتجديد المحل الخاص بها، والذي قررت افتتاحه في مجال الإكسسوارات الرجالية والنسائية بمختلف أنواعها، مالت برأسها جانبًا وهي تنظر إلى الحائط بتركيز، متخيلة حديثه عن رؤيته التصويرية له، ثم قالت بنبرة جادة وهي تلتفت إليه:

-بس أنا حاسة لو ورق الحائط اللي زي الحائط الحجري هيبقى أحسن.

رفع مصطفى نظره عن حاسوبه الكبير الذي يحمله بيده وقال برؤية ثاقبة:

-مساحة المحل مش كبيرة وأنا عايز اديكي مساحة ووسع، واللي انتي عايزاه هيضيق المكان.

زفرت بتعب وهي تنظر حولها، باحثة عن مقعد لتجلس عليه، لكنها لم تجد سوى جرادل الدهان المنتشرة في كل مكان، وبعض ألواح الزجاج الكبيرة الموضوعة بجانب الباب، بالإضافة إلى بعض الأدوات المتناثرة في كل الجهات، شعرت بدوار بسيط يجتاح رأسها، نتيجة لنومها المتقطع ليلًا بسبب الكوابيس التي تطاردها، نابعة من حياتها البائسة.

-انتي تعبانة، أجبلك حاجة تشربيها او تاكليها.

ابتسمت إليه برقة وهي تمسك برأسها بتعب حاولت إخفاءه:

-لا شكرًا، ده من قلة النوم بس، أكيد الدوخة دي منها.

أخرج زجاجة المياه الخاصة به وأعطاها لها وهو يبتسم بهدوء:

-اشربي ميه..

أخذت القنينة منه وارتشفت منها القليل علها تستعيد توازنها، فسمعته يقول بهدوء، محاولًا بث الطمأنينة في نفسها:

-متخافيش، شكلك قلقانة وخايفة المحل مايخلصش بسرعة، أنا والله الحاج فاضل لما كلمني سيبت كل اللي في إيدي ونفذت له رغبته، والدك معزته كبيرة عندي.

اتسعت ابتسامتها وهي تستمع إلى حديثه اللبق والمهذب عن والدها، ولم تلاحظ تلك العيون المتربصة بها من مسافة بعيدة داخل المحل، كان يقف واضعًا يده في جيب سرواله، وملامحه مستنفرة، وكأنه يتأهب للانقضاض عليها في أي لحظة، وعندما لاحظت وجوده ومراقبته لها، قررت أن تسترسل في الحديث مع مصطفى أكثر، بل ووصل الأمر إلى تبادل بعض الجمل الفكاهية البسيطة، التي أظهرت ابتسامتها التي افتقدتها منذ زمن...

                             ***
بينما كان نوح واقفًا يتابعها باهتمام بالغ، وهو يرى ابتسامتها الواسعة التي أنارت وجهها وزادته جمالًا وجاذبية خاصة، لم يستطع إخفاء توتره عندما رآها تتحدث مع ذلك الرجل، قبض على يديه بقوة، محاولًا كبح غيرته التي كادت تحرقه من الداخل.

وكلما زادت تلك الابتسامات والضحكات والهمسات بينهما، ازداد لهيب غيرته، نظر إليها نظرة عتاب خفية، فهو لا يحب أن يراها تتعامل بود مع أحد غيره، لكنها تجاهلت ذلك، مما زاد نار غيرته اشتعالًا.

لمعت ضحكتها تحت ضوء الشمس، فبدت مشرقة مبهجة، فتساءل بحيرة، متى امتلكت تلك الابتسامة الآسرة؟ هل كانت تمتلكها بالفعل وهو كان أعمى لدرجة أنه لم يرَها، أم أنها اكتسبتها منذ أن انفصلت عنه، وكأنه كان همًا ثقيلًا وسعدت بإزاحته؟

قرر إنهاء تلك المهزلة التي كانت على مرأى ومسمع الجميع، فخطا بخطوات واسعة، وكأنه يختصر تلك المسافة الحمقاء ليقتنص رأسها اللعين ويهشمه إلى قطع بسبب أفعالها الحمقاء!

فتح الباب الزجاجي بقوة، مما جعل مصطفى يستدير باستهجان ليرى من يجرؤ على هذا الدخول العنيف.

-انت مين يا جدع انت وازاي تدخل كده !!!

انعقد حاجباه بضيق، وعيناه تراقبانها في صمت، وكأنهما تحذران مصطفى، الذي يقترب منها، بأنها ملكه وحده:

-أنا جوزها يا باشا، انت اللي مين؟!

-غريبة ماقولتليش يا يسر يعني إنك متجوزة!

قالها مصطفى بحماقة، إذ لطالما تعامل بأريحية شديدة مع عملائه، فابتسمت إليه بأسف مقصود وهي تقول:

-أنا فعلاً مش متجوزة، أنا خالعاه.

-يــــــــســــــر.

قالها نوح بتحذير قاسٍ أفزعها، لكنها تماسكت أمام نظراته التي كادت تلتهمها، أما مصطفى، فشعر بغرابة الموقف وسوء الوضع، فقرر الاستئذان وهو يوجه حديثه بالكامل إلى يسر:

-طيب أنا هخرج برة واقف شوية اكلم العمال، لو احتاجتي أي حاجة يا يسر ناديني على طول.

هزت رأسها إيجابًا، ممتنة له ولذوقه في التعامل، إلا أنه عندما خطا ووصل إلى الباب الزجاجي، حيث يقف نوح، مد نوح يده وأوقفه، ثم مال عليه هامسًا بتحذير مخيف:

-اسمها مدام يسر، مترفعش الالقاب بعد كده، عشان مرفعش روحك للي خالقها.

استنكر مصطفى بملامحه، لكنه لم يُعقب على هذا الجنون المتجسد في نبرة نوح وعينيه المثقلتين بغيرة أثرت على انفعالاته، فبدا كالمتخبط فاقدًا حسن التصرف.

وما إن خرج مصطفى حتى اقترب منها نوح قائلاً بسخرية وهو يتجول بعينيه بملامحمها:

-فجأة قلبتي، من شوية الضحكة كانت من الودن دي للودن دي، ودلوقتي بوزك شبرين.

مطت شفتيها ببرود وهي تتعمد النظر إليه:

-عشان ببساطة انت متستاهلش إلا كده!!

استنكر بصوته الخشن وهو ينظر إليها من أعلى رأسها إلى أسفلها باستفزاز:

-ده اللي هو أنا جوزك صح؟ لكن الضحك للرجالة الغريبة!!

تلفظت حروفها في تهكم واضح، غير عابئة بنظراته الشرسة:

-جوز مين!! أنا هخلعك.

اقترب خطوة منها وهو يوجه تهديداته بقوة:

-واقسم بالله لو ما بطلتي الكلمة دي، لاخطفك يا يسر  واعلمك الأدب بجد على أسلوبك معايا.

أظهرت استياءها واشمئزازها منه، فقالت:

-بلطجي!! أسلوبك بقى بلطجي أوي يا دكتور، نصيحة حاول تتغير.

لمعت عيناه بشرارة غضب مقتدة وهو يردف بقسوة:

-البلطجة دي ممكن تطلع عليكي لو مابطلتيش ضحك مع الناس الغريبة.

انكمش وجهها باستغراب مقصود، وهي تتلاعب بالكلمات قاصدة استفزازه أكثر، مستمتعة بنيران الغيرة المشتعلة في عينيه، كاشفة عن وجهه الحقيقي الذي كان يحاول إخفاءه طوال أعوام زواجهما:

-وانت عايز تكبت حريتي وفرحتي ليه، أنا دمي خفيف وبحب اضحك، ما أنت انسان غريب اوي الصراحة!!

ضيق عينيه باستنكار وهتف بنبرة لاذعة:

-من امتى وأنت عندك الحس الفكاهي عالي يا يسر، كنتي ماري منيب وأنا ماعرفش!!

نجح في إثارة غضبها، فقالت بنبرة يغمرها الغل والضيق منه:

-والله أنا طول عمري كده بس انت بقى اعمى القلب والبصيرة ويلا من هنا عشان ماناديش الرجالة اللي برة دي واقولهم بيتهجم عليا، أنا خايفة عليك لاحسن تتضرب!

رفع أحد حاجبيه باستنكار وهو يهز رأسه عدة مرات، متمتمًا ببعض الكلمات الخافتة والحادة:

-والله، اممم عندك حق !!

وما إن خرج من المحل، حتى وقف أمامه، وحمل عصًا حديدية، ثم بضربة قوية هشم بها واجهة المحل الزجاجية، فتناثر الزجاج في كل مكان، مُحدثًا صوتًا قويًا ومزعجًا جذب أنظار الجميع.

تجمدت في مكانها كالصنم من هول الصدمة، رفعت رأسها عن الزجاج المكسور لتنظر إليه، فرأت معالم وجهه المخيفة، فبدا كالمضطرب نفسيًا وهو يحدق بها، ثم ألقى العصا من يده ببساطة، بينما الجميع ينظر إليه بتعجب.

اقترب من إحدى حوائط المحل، ونفخ ذرات الغبار بهدوء، ثم نفض يده وكأنه لم يفعل شيئًا كارثيًا الآن، تصرفان متناقضان؛ أحدهما في غاية الجنون والانفعال، والآخر هادئ وبارد، وكلاهما خرجا في اللحظة ذاتها، ثم حول نظره إليها، واحتلت ابتسامته الشريرة والانتقامية وجهه.

أشار إليها مودعًا، ثم صعد إلى عيادته، بينما كانت تنظر إليه بصدمة كبيرة بعد كل هذا العبث الذي فعله في المكان!

                              ****

حملت أبلة حكمت الحقائب البلاستيكية العديدة بإرهاق وهي تسير في أحد شوارع المنطقة وبجانبها إحدي جاراتها، التي ظلت تثرثر معها، لكن أبلة حكمت كانت في وادٍ آخر، وادٍ تحلم فيه بمصالحة والدها وسيرا، شاعرةً بالحزن الشديد لأول مرة بعد فعلتها الحمقاء، انتبهت إلى يد جارتها التي لكزتها بخفة وهي تخفض صوتها بتعجب:

-أيه يا حكمت، أنتي مش واخدة بالك ولا أيه؟!

أبطأت حكمت مشيتها فقالت بتعجب مماثل:

-لا في أيه؟!

أشارت جارتها برأسها للخلف وهي تهمس:

-فوزية بتلسن عليكي انتي واختك بالكلام لمؤاخذة!!

ارتفع حاجبا حكمت بتحد، والتفتت برأسها للخلف، فوجدت فوزية تجلس مع عدة سيدات تنظر إليها بحدة ووقاحة وهي تبتسم بسخرية ثم قالت للسيدات:

-لا ياختي مش زعلانة ده فايق ابني ربنا نجده والله من العيلة الـ ***** دي.

-والله ده أحسنلك يا أم فايق، ابنك يستاهل حد أحسن وأنضف يا اختي.

قالتها إحدى السيدات الجالسات بجانب فوزية وقد بدا الحقد واضحًا في عينيها، بسبب خلاف سابق مع حكمت، فقالت فوزية بتهكم:

-طبعًا، ده فايق باشا، أنا كان دماغي فين ياختي وأنا بتحايل عليه يخطبها، دي واحدة ماشية على حل شعرها......

اقتربت حكمت منها ولا تزال تحمل الحقائب، فقالت بخفوت يملأه الشر:

-هي مين دي يا فوزية اللي ماشية على حل شعرها؟!

رفعت فوزية رأسها ونظرت إليها بتحد وحدة:

-سيرا أختك ياختي، مش انتوا لامؤاخذة دخلتوا العريس في السر المنطقة عشان خايفين من فضيحتها معاه.

اتسعت ابتسامة حكمت وهي تنظر إليها بدهشة ساخرة، قائلة:

-والله!!

ثم وبكل ما أوتيت من قوة، رفعت الحقائب عاليًا وهبطت بها بقوة فوق رأس فوزية التي أصابها دوار نتيجة الضربة العنيفة.

-ده أنا هخليكي عبرة لكل واحد يفكر يجيب اسم اختي على لسانه، أنا أختي دي أشرف منكم يا شوية قرشانات ملكمش غير في اللت والعجن.

استدارت السيدات إلى حكمت، وكن على علم مسبق بهذا الشجار، فاستعددن جيدًا لمواجهتها، لكنها باغتتهن وضربت فوزية عدة ضربات بحذائها في وسط الشارع، فصرخت فوزية متوجعة بأنفاس متقطعة:

-اضربوها يا نسوان، اضربوها القادرة دي.

بدأ الشجار اللفظي والجسدي بين حكمت التي كانت بمفردها، وخمس سيدات، ولكن بنيتها الجسدية وطولها الفارع منحاها قوة كافية لتدافع عن نفسها بل إنها التقطت حصاة صغيرة ورمتها بقوة على 
رأس إحدى السيدات، فأصابتها في منتصف رأسها وسال الدم على وجهها..

تجمهر المارة لمراقبة الشجارؤ لكن لم يجرؤ أحد على التدخل، حتى قرر أحد الرجال بالركض سريعًا إلى 
قسم الشرطة القريب ليبلغهم عن الأمر!!
                             ***
توقفت سيرا عن العمل لأخذ قسط من الراحة، فأمسكت بهاتفها تعبث به حتى جاءها اتصال من فريال وهي تبكي:

-الحقي يا سيرا أبلة حكمت في القسم، مقبوض عليها.

تجمدت أطرافها وخفق قلبها، فقالت بهلع:

-ليه في أيه؟!

وصلها صوت بكاء فريال، مصحوبًا ببكاء إحدى أخواتها الأخريات:

-عشان اتخانقت مع فوزية وشوية ستات كانوا بيتكلموا عليكي، وعملتلهم إصابات، واحنا مش عارفين نلم الموضوع.

حملت حقيبتها خلف ظهرها، مستعدة للخروج، فتساءلت سريعًا بقلق:

-في قسم أيه؟

-اللي جنب البيت.

خرجت سيرا مسرعة، والقلق مرسوم على وجهها، بينما أسوأ التخيلات تضرب عقلها، فشعرت بالذنب تجاه أختها الكبرى.

لم تعلم متى تسرب هذا الضعف إلى أوصالها، لكنها بدت متخبطة، غير قادرة على السير خطوة أخرى، وكأن أطرافها تيبست عمدًا، انساب الدمع من عينيها وهي تتخيل مصير أختها الكبرى في السجن بسببها.

وصلت أسفل البرج، فوقفت في منتصف الطريق، تائهة لا تدري أي الخيارات أفضل للوصول إلى أختها بسرعة، لم تجد أمامها سوى شخص واحد تلجأ إليه، الشخص الذي كان دائمًا بجانبها في أزماتها.

فاقتربت من معرضه وهي على هيئتها الضعيفة الباكية، ثم قالت بصوت مرتجف ضعيف، بينما تراه يقف مع إحدى السيدات، على ما يبدو يحاول إقناعها بشراء السيارة:

-يـــزن.

نبرتها وحدها كانت كفيلة باختراق مسامعه، بل كيانه بأكمله، التفت سريعًا ينظر إليها بقلق عارم، جعله يترك السيدة وفرصة بيع السيارة، ويتوجه نحوها متعجبًا وقلقًا:

-مالك في أيه، بتعيطي ليه كده؟

همست ببكاء ونبرة متقطعة: 

-أبلة حكمت مقبوض عليها بسببي.

انعقد حاجباه بعدم فهم، لكن دموعها المنسابة والحزن الطاغي على ملامحها لامس فؤاده، شعر بمشاعر خاصة ومميزة نحوها، لدرجة أنه ترك كل شيء خلفه دون مبرر، وأخذها معه متجهًا إلى سيارته، تحت أنظار جميع العاملين الذين بدت على وجوههم علامات الدهشة.

فـ يزن، الذي لم يترك من قبل فتاة صاروخية فائقة الجمال مثل تلك التي كانت تقف مذهولة من تصرفه، تخلى عن كل شيء من أجل سيرا، الفتاة التي لم تكن الأجمل، لكنها كانت الأهم.

ركبا السيارة معًا، وانطلق نحو وجهته، ألا وهي قسم الشرطة الذي تحتجز فيه حكمت، أجرى عدة اتصالات بـ زيدان، طالبًا منه التدخل لإنهاء الأمر، بينما هي تقوقعت على نفسها، تبكي بحرقة.

أبعد يدها عن وجهها وهو يتابع الطريق قائلاً...

-أنا عايز أعرف انتي بتعيطي ليه؟

همست بنبرة متقطعة من بين شهقاتها:

-عشان أبلة اتسجنت بسببي، احنا عمرنا ما دخلنا قسم شرطة، وأبلة حكمت هتتبهدل بسببي هي بابا والعيلة كلها.

جذب منديلاً من جيبه وأعطاها إياها قائلاً بحنو:

-مفيش سجن ولا حاجة من دي، زيدان هيخلص الموضوع وممكن كمان قبل ما نوصل، متخافيش يا بيبي.

تعمد استفزازها كي تخرج من حالتها الضعيفة التي لم يعتد عليها، فهمست من بين شهقاتها وعبوسها:

-ماتقوليش يا بيبي، أنا بكره الكلمة دي.

-هقولها لو فضلتي تعيطي، واحتمال احضنك كمان لو مسكتيش.

نظرت إليه بصدمة من جرأته، فابتسم ابتسامة شقية وقال:

-خدي بالك أنا مابستحملش حد يعيط قدامي، وبالذات بقى لو كان أنتي، فأول تصرف بيجي في دماغي إني أحضن أي حد بيعيط.

-انت قليل الأدب.

قالتها ببكاء وهي تشير إليه، فاتسعت ابتسامته أكثر بتسلية:

-خلاص اخبطي دماغك في الإزاز ماتزعليش نفسك!!

-أنت بتقول أيه؟!

قالتها باندهاش، فنظر إليها بخبث:

-ما هو يا تخبطي دماغك في الإزاز يا احضنك اختاري، واظن الاختيار التاني اريح ليا وليكي يا بيبي.

-يــــزن.

قالتها بصرامة مهزوزة، وعندما وصلا أمام القسم، هبطا معًا من السيارة، ليجدا فوزية، والدة فايق تمسك برأسها وهي تهبط درج القسم، وبجانبها محاميها وبعض النسوة اللاتي كنَّ في الشجار.

نظرت فوزية إلى سيرا ويزن معًا بكره وحقد:

-حسبي الله ونعم الوكيل، ناس معاها واسطة وناس غلابة حقهم بيضيع.

مال عليها محاميها وهو يهمس بعدم رضا:

-حق أيه؟! انتوا اللي بادئين والكاميرات جايباكم وبعدين انتوا مخرشمين الست، احمدي ربنا إن المحضر اتقفل على كده.

وجهت نظراتها الحاقدة إليه، وهي تهمس بغل:

-ما تسكت يا أخويا انت معانا ولا معاهم، والله شكلك محامي مرتشي!!

حرك يزن سيرا بلطف للأمام كي لا تستمع إلى حديث تلك السيدة، واكتفى بالنظر إلى فوزية بغضب ووعيد.

قبل أن تدخل سيرا إلى القسم، وجدت أبلة حكمت تخرج وهي تستند على زوجها صافي، والإرهاق يبدو واضحًا على وجهها، وبجانبها والدها الذي ما إن رأى يزن حتى ابتسم إليه وقال:

-شكرًا يا يزن، وقفتكم معانا دي لا يمكن أنساها.

-عيب احنا أهل، المهم انتي كويسة يا أبلة حكمت.

رفعت إصبع السبابة في وجهه قائلة بوهن:

-لا خالص، ولاد الجزمة نزلوا فوقي لما حاسة إن جالي ارتجاج.

-خدها يا صافي لاقرب مستشفى اطمن عليها.

قالها والدها بعدم رضا وهو ينظر إليها، بينما هي كانت تخفي وجهها داخل صدر زوجها.

أما سيرا، فقالت بأسف وحزن لما حدث لوجه أختها، حيث توسدت الكدمات معظم ملامحها:

-الف سلامة عليكي يا أبلة، معلش.

تدخل يزن لإنهاء وقفتهم فقال:

-طيب يلا يا جماعة نروح المستشفى نطمن عليها.

-الف سلامة عليكي يا أبلة.

اندفعت فريال ومن خلفها كريمة، ثم شاهندا وأزواجهن، فقال والدهن بضيق:

-انتوا أيه اللي جايبكم، ما قولتلكم الموضوع خلص.

قالت كريمة بعتاب وهي تربت فوق كتف حكمت:

-ازاي بس يا بابا، كنا لازم نطمن على أبلة حكمت.

-اه خدوني يا بنات على المستشفى، دماغي هتموتني.

وضعت حكمت يدها فوق رأسها بإرهاق وتعب ظهر بوضوح على وجهها، فتحرك الجميع معها، عدا والدهم حسني، الذي قرر العودة إلى المنزل.

                                ***
بعد مرور عدة ساعات

كانت حكمت تجري فحوصاتها وتحاليل للاطمئنان على حالتها الصحية، بينما كان الجميع ينتظرها بالخارج، شعرت سيرا بالإرهاق، ولاحظ يزن ذلك، فمال عليها هامسًا:

-قومي ننزل اجبلك قهوة أو عصير عشان تفوقي.

تدخلت فريال التي كانت تجلس بالقرب منهما ويبدو أن همس يزن وصل إليها:

-روحي يا سيرا، شكلك تعبانة، خدها يا يزن، قومي يلا.

دفعتها فريال للنهوض، فتحركت سيرا رغمًا عنها والاندهاش يملأ وجهها، متعجبة من تصرف أختها، لكنها لملمت شتات نفسها وتحركت مع يزن الذي طلب المصعد وما إن أتى حتى استقلا معًا.

وقفت في آخر المصعد الكبير تنظر إليه وهو يقترب منها بهدوء مستغلاً ارتباكها ثم همس بنبرة مشاغبة:

-بيبي ما تعيطي.

همست بغل وهي تتمتم:

-الله يقطع بيبي وسنينها...

ثم ارتفعت نبرتها وهي تقول بتعجب:

-أعيط ليه؟!

مال برأسه جانبًا، محاصرًا إياها بذراعيه، مستندًا بهما على حائط المصعد خلفها، ليبقيها داخل دائرته دون أن يمسها:

-عشان أحضنك.

وقح!! تلك الكلمة هبت فجأة برأسها، كرياح عاصفة تجتاح كيانها، فثارت بغضب مكتوم:

-طيب ما تجرب تخبط دماغك في الإزاز ده!!

ابتسم بمكر وإعجاب، فأكملت هي بغيظ مكتوم:

-أصل أنا عندي حلين مالهمش تالت، يا تخبط دماغك فيه، يا إما أصوت والم عليك المستشفى كلها، واقولهم متتتتتحررررش، وشوف بقى هيعملوا فيك أيه!!

-طيب والدبلة اللي في إيدك، دي محلها أيه من الإعراب؟!

-محلها الباسكت يا يزن، لو مابطلتش حركاتك دي، ابعد احسنلك، قولتلك قبل كده أنا مبحبش تقرب مني بالشكل ده.

ابتعد للخلف، واضعًا ذراعيه في جيب سرواله، قائلاً بحنق طفيف:

-مالكيش في الطيب نصيب.

-ده الطيب ده "dirty" اوي يا بيبي، سي يووو...

قالتها وهي تخرج من المصعد، ثم غادرت إلى باب المشفى مسرعة، مقررة الخروج سريعًا، ليقف هو مكانه، يراقبها مندهشًا، وعلى وجهه ابتسامة حمقاء، من جرأتها في تركه وحيدًا كالأبله، وتغادر كطاووسة صغيرة!!

                             ***
ليلاً، في تمام الساعة الثامنة مساءً
ارتفع رنين هاتف يسر بينما كانت تقف وسط العمال، الذين يحاولون لملمة الزجاج المبعثر في كل مكان، بعد أن تسبب كسره في فوضى عارمة داخل المحل.

كان غضبها قد بلغ ذروته بسبب أفعال نوح المتهورة، التي باتت تتسم بالعدوانية بعض الشيء، في بادئ الأمر، تجاهلت الاتصالات المتكررة من والدتها، لكنها مع استمرارها، أجابت بضيق:

-أيوه يا ماما؟!

استمعت إلى صوت نحيب والدتها، وهي تقول بخوف:

-لينا ضاعت يا يسر، مش لاقياها... اختفت وملهاش أثر!

                                 ***
بينما كان الوضع في منزل سيرا، وتحديدًا في غرفتها، كانت في أوج سعادتها بعودة حورية، صديقتها، من سفرها اليوم، وأول ما فعلته حورية بعد عودتها هو زيارة سيرا في منزلها.

جلستا معًا على فراش سيرا، فقالت حورية بعتاب وهي تنظر إلى الخاتم الذي يتوسط إصبع سيرا:

-اتخطبتي من غير ما تعرفيني؟!

شعرت سيرا بالإحراج وقالت بنبرة أبرزت بها صدقها: 

-والله يا حور الحوار كله جه بسرعة ده لسه لابسين الدبل يوم الجمعة، وبعدين انتي كنتي مسافرة.

ضحكت حورية بفرحة وهي تقبلها في وجنتها بحب:

-مبروك يا حبيبتي، ومين سعيد الحظ؟!

-يزن الشعراوي، اكيد عارفاه.

قالتها سيرا ببسمة خجولة وهي تهبط ببصرها، لكن صمت حورية الطويل جعلها ترفع عينيها لتقابل الصدمة المرسومة على وجه صديقتها:

-في أيه يا حورية؟!

ابتلعت حورية لعابها بتوتر، ظهر جليًا في عينيها، ثم قالت بخفوت متقطع:

-وليه ماتصلتيش عليا الاول وقولتيلي؟!

-مكنتش عارفة اوصلك، في أيه يا حورية؟! هو فيه حاجة؟!

قالتها سيرا بارتباك، فأكملت حورية أسئلتها بحذر:

-هو انتوا اتعرفتوا على بعض قبل ما تتخطبوا، قصدي حاول يكلمك وانتي اتجاوبتي...

قاطعتها سيرا وهي تقول بصدق:

-لا والله هو حاول وأنا صديته كذا مرة وبعدها اتفاجئت أنه جاي يخطبني وخطبني في أيه قلقتيني؟! هو بيشرب مخدارت؟!

-لا، بس الأسوء، بتاع بنات يا سيرا وبيتسلى بالبنات زي ما بيتسلى باللب السوبر كده، وأنا متأكدة انه ماعرفش يوصلك دخلك من الطريقة دي.

وقفت سيرا من مكانها بصدمة وقالت بحزن:

-قصدك أنه بيتسلى بيا؟

-طبعا ده وش، يا بنتي انا عارفة الكلام ده من مرات أخوه، يعني أكيد مش هتكذب.

امتلأت عيناها بالدموع وهي تنظر إلى دبلتها في إصبعها بحسرة، وشرخ أصاب فؤادها المسكين، فانكسر شيء في داخلها، شيء لن يعود كما كان.

كانت تحسبه قدرها الجميل، لكنها تكتشف الآن، أنه لم يكن سوى درسٍ قاسٍ.

أيُعقل أن يتحول حلمها من أن تكون أميرة في قصته، إلى مجرد اسم في قائمة مغامراته العابرة؟! 
كانت سيرا تسير في الطريق المؤدي إلى منزلها بعقل شارد وملامح حزينة، وكأن الخبر الذي عرفته من حورية قد سرق منها القدرة على الفرح، كانت تظن أن الحكاية ستنتهي بسعادة، لكنها اكتشفت أنها لم تكن بطلتها أبدًا.

اقتربت من منزلها، وعندما دخلت إلى المدخل الواسع المؤدي إلى الدرج، وجدت فاطمة صديقتها أمامها، فتكشرت فاطمة بضيق وهي تقول:

-كنتي فين يا ست سيرا؟!

رفعت سيرا عينيها لتقابل وجه صديقتها الغاضب، وما إن التقت أعينهما، حتى انهارت باكية، فبدت هشة وضعيفة، على غير عادتها، فقد كانت دائمًا قوية، تدير أمورها بعزم ورزانة.

-مالك يا بت يا سيرا؟ يخربيتك خضتيني!!

جلست على أقرب درجة أمامها وظلت تبكي في صمت، حتى احتضنتها فاطمة بحب وربتت على رأسها قائلة بحنان:

-يا بنتي في إيه؟ وكنتي فين؟

همست بنبرة مبحوحة، وكأنها كانت تبكي طوال الطريق:

-عند حورية.

انعقد حاجبا فاطمة بقلق، وسألت بنبرة جامدة:

-عملت فيكي إيه بوز الإخص دي!

مسحت سيرا دموعها، وقررت أن تفرغ ما في صدرها المثقل بمشاعر متناقضة كادت تزهق روحها:

-لما عرفت إن أنا اتخطبت ليزن اتصدمت، وزعلت إن أنا مقولتلهاش...

قاطعتها فاطمة وهي تنظر إليها بشك مقتضب:

-ليه كانت حاطة عينيها على يزن؟!

زفرت سيرا بضيق وهي تجيب:

-حورية بتحب غيث خطيبها يا فاطمة وانتي عارفة كده، الموضوع أكبر من كده أصلاً، حاجة مكنتش اتخيلها، ومكنتش اتخيل اسيب يزن عشانها.

اقتربت فاطمة منها أكثر، وسألت بحيرة:

-تسيبي يزن؟ إيه طلع ابن امه؟

هزت سيرا رأسها نفيًا في صمت، فتابعت فاطمة سؤالها:

-طلع بخيل؟ بس ميبانش عليه!

عادت تهز رأسها نفيًا، فزفرت فاطمة بقوة وهي تقول:

-امال إيه، إيه جو السسبنس ده، انتي غلبتي المسلسلات التركية!

عادت سيرا تبكي وهي تقول بحزن:

-بتاع بنات يا فاطمة، بيتسلى بالبنات زي ما بيتسلى باللب كده، فاطمة قالتلي كده وهي واثقة، أكيد السافل حاول معاها وهي صدّته، وعارفة بقى مين اللي قالها كل بلاويه مرات أخوه زيدان، يعني الكلام موثوق منه اوووي.

وضعت فاطمة يدها فوق فمها بصدمة ثم همست بتعجب:

-بس ميبانش عليه خالص؟!

-لا كان باين بس أنا اللي كنت مغفلة وحمارة وفاكرة قال إيه أنه أُعجب بيا زي ما أنا اعجبت بيه، كان عقلي فين بس! لسانه الحلو وطريقته معايا ومحاولاته إننا نخرج مع بعض، كلها محاولات ماتصدرش إلا عن واحد قليل الادب زيه.

توترت فاطمة من حديث سيرا الغاضب، وخاصةً أنها تعلم أنها تكره ثلاث صفات في الرجل اولها زير النساء، ثانيها "ابن امه"، ثالثها البخل! 

-طيب وهتعملي إيه؟

-وهي دي فيها سؤال، طبعًا هفركش الخطوبة.

همست فاطمة بحزن واندهاش:

-يعني مش هتكملي؟

نظرت إليها سيرا باستنكار وهي تقول:

-طبعًا لا، انتي مجنونة، أنا ماستحملش كده على نفسي أبدًا.

رمشت فاطمة عدة مرات بعينيها الحزينتين، حزنًا على ضياع فرصة ذهبية من يد صديقتها، التي سأمت من العيش في "سوق الجمعة"، حيث شقة والدها التي لطالما أرادت الخروج منها.

-طيب ما يمكن يا سيرا هو فعلاً حبك عشان كده هو اتقدملك رسمي دونًا عن البنات كلهم؟

-لا يا فاطمة، حورية قالتلي هو أكيد ماعرفش يوصلك وحاول يدخل لي من الطريقة دي.

-الله يخربيت حورية على اليوم اللي جت فيه، ما كانت متنيلة في فرح قرايبها واحنا مرتاحين منها ياستي ومن قرفها.

نهضت سيرا بنزق وهي توجه عتابها لفاطمة:

-متضايقة منها عشان بتحبني وخايفة على مصلحتي يا فاطمة؟ لا طبعًا حورية مش غلطانة، حورية صاحبتي بجد!

حزنت فاطمة قائلة وهي تنهض بالمقابل:

-وأنا كيس جوافة يعني يا سيرا، أنا مش هعاتبك بس عشان انتي متضايقة وزعلانة دلوقتي!

كتمت سيرا غضبها بقدر الإمكان، عندما شعرت بحبال غليظة تلتف حول عنقها، تزيد من اختناقها، فقالت بصوت متحشرج:

-متزعليش مني يا فاطمة، بس أنا مخنوقة دلوقتي.

ربتت فاطمة على كتفها وقالت بتفهم:

-عادي، أنا هروح عشان أتاخرت على ماما، بكرة هبقى اجيلك سلام.

ودعتها سيرا، وأكملت صعودها الدرج، وهي تمسح دموعها جيدًا قبل أن يلاحظها أحد، فقد قررت أن تخبرهم برغبتها في إنهاء خطبتها من يزن، التي لم يمر عليها سوى يومين دون إفشاء أي سبب من أسبابها.

وعندما وصلت إلى شقة أبلة حكمت، وقبل أن تضع قدمها على الدرجة الأخيرة، بحثت في حقيبتها عن مرآة صغيرة، لتتأكد من خلو وجهها من آثار الدموع، إلا أن صوتًا أفزعها وجعلها تفقد اتزانها، وتعود للخلف بصدمة:

-كنتي فين ده كله؟

تراجعت سيرا للخلف بقوة، فكادت تسقط على الدرج، إلا أنه كان أسرع، واحتضن خصرها الصغير بذراعيه القويتين، فنهرها بنبرة قلقة:

-حاسبي يا سيرا.

لم تتخيل قط وجوده في منزلها في هذا الوقت، لذا اختل توازنها، ولكن قربه الشديد منها، وتلامس جسديهما غير المقصود، جعلاها تدفعه للخلف بقوة وهي تنهره بنبرة غليظة:

-يزن، أنا مبحبش حد يتعدى حدوده معايا أبدًا.

رفع أحد حاجبيه وهو يرمقها باستنكار:

-يعني كنت اسيبك تقعي على ضهرك وتتكسري!

انكمشت ملامحها بغضب وهي تقول:

-اه ومتلمسنيش.

ثبت بصره عليها لثوانٍ، فلاحظ شيئًا جديدًا طرأ على ملامحها وهي تحادثه، شيئًا مثل… مثل النفور، فقال بحرج لم يكن معهودًا عليه إطلاقًا:

-أنا مكنتش اقصد أكيد، أنا خوفت عليكي، وبعدين لو قصدك على هزاري معاكي الصبح فأنتي أكيد عارفة أنه هزار!

هندمت حجابها وهي تقول بضيق:

-حتى ده مابحبوش!

-طيب اهدي هي مش حرب على فكرة، الكلام اخد وعطا، وبعدين ماتكلمنيش تاني بنرفزة، مابحبش البنت اللي خلقها ضيق!

عقدت ذراعيها أمامها، وهي تنظر إليه بنظرات غامضة، ثم قالت بنبرة متهكمة:

-ما شاء الله شكلك اتعاملت مع بنات كتير!

-بعدد شعر راسك.

قالها ببسمة ساخرة جانبية، هذه المرة حقًا استفزتها، فقالت باستهجان ناري:

-ده انت جريء اوي، وبتقولها عادي كده مش خايف؟

-خايف!!! سيرا فوقي يا ماما أنا راجل، مش عيل توتو، وبعدين ما اقولها عادي تحبي امسكها في ميكرفون واقولها، ما انتي غريبة جدًا.

كزت فوق أسنانها بغيظ، وقالت بنبرة مكتومة من فرط غضبها:

-وأنا يعني عادي اجي اقولك إن أنا بتعامل مع رجالة بعدد شعر راسك؟!

-لا انتي تاخدي على دماغك لو قولتي كده، فوقي وركزي واعرفي الفرق بين الراجل والست، عشان تعرفي تكلميني ازاي، ومتحاوليش تحطي راسك براسي عشان انتي اللي هتزعلي في الآخر!

حسنًا، تلك فرصة ذهبية لإلقاء الخاتم في وجهه، ولا مانع من ضربة قوية بحقيبتها فوق رأسه، لتنتهي تلك الحكاية قبل بدايتها!

ولكن خروج أبلة حكمت قطع عليها أمانيها، التي كادت تتحقق الآن، قائلة بنبرتها السعيدة، والتي بالتأكيد كانت نابعة من وجود يزن في منزلها:

-بتعملوا إيه قطاقيط الغرام على السلم، ادخلوا يلا أنا حطيت الأكل!

الآن فهمت سيرا لماذا يوجد يزن في منزلها، والسبب أصبح واضحًا… أبلة حكمت، قاهرة أحزانها ومفرقة أحلامها! فسمعته يقول بضيق:

-لا أنا شبعت وماشي.

توسعت عيناها باندهاش:

-يوه! شبعت قبل ما احط الاكل!! ده اللي هو ازاي بقى؟

نظر إلى سيرا نظرة شبه غاضبة وهو يردّد بجرأة:

-لا ما هي سيرا سددت نفسي، سلام.

شهقت أبلة حكمت بقوة وهي تمسك بذراعه قائلة بإصرار رهيب:

-والله ما يحصل أبدًا يا يزن، امال العزومة دي كلها على مين، ده أنا عملتلك طاجن بامية باللحمة مخصوص عشانك، لو مش انت والله ما كنت هعبرهم واعملهم حاجة، قدر إن أنا خرجت من المستشفى وعملت الاكل!

حاول يزن أن يفتح فمه ليصرح برفضه، إلا أنها رفضت وأصرت أكثر وهي تجذبه للداخل:

-ادخل يلا بابا وصافي مستنينك، ادخل.

دخل بالفعل بعد إصرارها، فهو لم يشعر حقًا برغبته في الأكل بعد مشاجرته مع سيرا، تلك المتقلّبة المزاج.

بينما سيرا كانت ستتحرك للصعود، هربًا من أبلة حكمت، إلا أنها تلقت ضربة فوق رأسها، فالتفتت بغضب:

-عملتي أيه يا مقصوفة الرقبة يا قليلة الادب في خطيبك.

-ماتضربنيش يا ابلة، أنا مش عيلة صغيرة.

قالتها سيرا بعبوس، فقالت أبلة حكمت بصرامة، وقد عادت إلى شخصيتها المتحكمة:

-شكلك عكيتي الدنيا معاه، بس حسابك معايا بعدين، ادخلي يلا جوه، عشان الاكل هيبرد.

-مش عايزة، بالهنا انتوا.

-والله يا سيرا لو ما تعدلتي لاظبطك أنا بمعرفتي، وبعدين بقولك إيه بابا جوه ومصدقت إنه راضي عليا، ماتبوظيش علينا فرحتنا، ادخلي.

دفعتها أبلة حكمت إلى الداخل بقوة، فتلقت سيرا تنبيهاتها الصارمة بوجه مستنكر وعابس، دخلت وهي تلقي سلامها على والدها، وقبلت يديه أمام نظرات يزن المراقبة، ثم أشارت إلى صافي وقالت بخفوت:

-ازيك يا أبيه؟

-الحمد لله يا سرسورة، قومي اعملي عصير المانجة ليزن عشان بيحب يشربه مع الاكل.

نظرت إلى يزن وهي ترمقه بنظرات غامضة، متسائلة باستنكار:

-بتحب عصير المانجة مع الأكل؟

وضع ساقًا فوق الأخرى، قائلًا بهدوء أثار استفزازها:

-اه، اعمليه بسرعة بقى!

أشارت نحو عينيها، قائلة برقة مفتعلة:

-من العين دي قبل العين دي!

ثم كادت تتوجه نحو المطبخ، إلا أن دهب خرجت وهي تحمل كوب العصير، قائلة بنعومة:

-أنا عملته ليزن، متتعبيش نفسك يا خالتو.

همست سيرا بغيظ منها، لأنها أفسدت عليها خطتها في الانتقام منه:

-يا فرحة أمك بيكي يا حبيبتي.

التقط يزن الكوب وهو يتوجه نحو طاولة السفرة، مرتشفًا القليل من العصير، ثم قال لدهب:

-تحفة تسلم ايدك يا دودو، حقيقي لو خالتك اللي كانت عملته مكنتش هحبه كده.

اندفعت دهب بحماقة وهي تبتسم فخرًا بنفسها:

-خالتو أصلاً ما بتعرفش تدخل المطبخ، ولا بتعرف تعمل أكل ولا أي حاجة.

رمقها جدها بضيق، وحرك رأسه بيأس، فحفيدته نسخة مصغرة من والدتها الحمقاء، التي تعشق التفاخر بنفسها على حساب الآخرين، بينما سيرا لم تهتم، وجلست بالقرب من يزن، متعمدة لمس كوب العصير بخفة، فأسقطته على ثياب يزن بأكملها، فوضعت يدها على فمها بصدمة زائفة:

-يا نهار ابيض وقع ازاي ده؟!

رفع يزن نظراته المستشيطة وهو يرمقها بغيظ:

-معرفش وقع ازاي!! 

-قوم معايا، قوم ادخل الحمام.

كادت دهب تتحرك معهما بلهفة، إلا أن سيرا أوقفتها بنظرة واحدة حادة:

-اقعدي مكانك وماتتعبش نفسك.

ثم نهض صافي قائلاً:

-هجبلك لبس من عندي.

بينما والد سيرا جلس يأنب دهب على كلامها، مقررًا تهذيبها هو وحكمت، التي قرصتها في فخذها:

-بتطيري العريس من خالتك يا حيوانة.

أما في الممر، وتحديدًا قرب دورة المياه، همس يزن لسيرا متوعدًا:

-والله ما هعديها الحركة دي يا سيرا!

توقفت وهي ترسم على وجهها البراءة:

-حركة إيه يا يزن؟!

-وقعتي العصير عليا عشان ضايقتك، شغل عيال صغيرة يعني!!

رمشت بأهدابها، قائلة برقة لم يتقبلها يزن، وجعلته ممتعضًا منها:

-ظلمتني يا يزون، بقى أنا هعمل كده، أنا هدخل اظبطلك الميه.

-والله!

دخلت نحو الحوض وفتحت الصنبور، وهي تنظر إليه ببراءة، بينما هو كان منشغلًا بإزاحة بقايا العصير عنه، فسمعها تقول برقة:

-تعال يا يزون ادخل لغاية ما اجبلك الهدوم من أبيه!

دخل يزن، وخرجت هي، فأغلق الباب وخلع قميصه الباهظ الثمن، ومد يده أسفل المياه، ولكن سرعان ما انتفض عندما وجدها ساخنة جدًا، لدرجة أنها كادت تصيبه بحروق، فهمس بغيظ:

-يا بنت الـ..... آه، ايدي.

أبعد يده وظل يتفحصها، فكانت حمراء جدًا، فأغمض عينيه بوجع، لأنه كان مغفلًا وأنزلها كاملةً أسفل المياه، ثم سارع بتحويلها إلى الباردة، شاعرًا ببعض الراحة!

أما سيرا، فنظرت إلى الثياب التي جلبها صافي، والتي كانت عبارة عن سروال وقميص أزرق بخطوط بيضاء، فقالت بضيق:

-لا يا أبيه الهدوم دي ماتنفعش، اقولك هات جلابية حلوة كده من جلبياتك الحلوة دي الفخمة!

-تصدقي صح، ماشي استني.

ذهب لثوانٍ، ثم أتى بواحدة، ونظرة الفخر بعينيه وهو يقول:

-دي من السعودية يعني غالية بس متغلاش على خطيبك.

تفحصتها سيرا وهي تقول بمكر:

-امال شكلها من الصعيد ليه؟

توتر صافي وهو يقول:

-القماشة من السعودية بس هي تقفيل صعيدي، مش عاجبكي، اجبلك اللي من الكويت استني.

قاطعته سيرا، قائلة بابتسامة صغيرة:

-لا لا دي تحفة، سيب بتاعة الكويت لمرة تانية.

-ماشي اديهاله وأنا هروح اساعد حكمت وخلصوا بقى في العزومة اللي مش باينلها اول من آخر دي.

ذهب صافي نحو المطبخ، الذي كان في الجهة الأخرى، بينما هي وقفت تفكر كيف لها أن تطرق الباب وتقدم ذلك الجلباب، حتى رأت حودة يلعب بالكرة أمامها، وفجأة ألقى الكرة في وجهها بسرعة البرق، فأمسكت رأسها، قائلة:

-اه يا حودة يا كلب.

-معلش يا خالتو، مكنتش اقصد اجييها فيكي!

قالها ببراءة زائفة، فردت بغيظ:

-ده على أساس إنها أول مرة، ده أنت مبهدلنا يا أخي، عاملنا احنا المرمى، المهم خد الهدوم واديها لعمو يزن جوه واطلع اجري ماشي.

ابتسم بخبث قائلاً:

-عشان عيب ابص على حد.

-اسمالله عليك، ابلة حكمت عرفت تربي.

همست بها في سرها بسخرية، فوجدت حودة يقترب منها يهمس برجاء:

-ممكن أخد العيال ونركب على عربية عمو يزن يا خالتو.

لمعت ابتسامتها الماكرة وهي تقول:

-يا روح خالتو خد راحتك، اعتبر العربية عربيتك.

تهلل وجهه، وقرر تنفيذ طلب سيرا أولًا بحماس، ثم تجميع أصدقائه للهو فوق سيارة يزن الباهظة الثمن.

عادت سيرا إلى مكانها، وفتحت هاتفها، وفعلت وضعية التصوير في خباثة، منتظرة خروج يزن الذي طال لدرجة أنهم جميعًا شعروا بالقلق، وما إن خرج حتى انتابتهم نوبة ضحك خافتة، ما عدا هي التي علت ضحكتها، بعد أن التقطت له صورتين.

فاليزن كان عبارة عن أضحوكة بجلباب قصير قليلًا، بسبب فرق الطول بينه وبين صافي، حتى أكمام الجلباب كانت قصيرة! عبس بوجهه وهو يرمقها بانتقام ساخر:

-مالقتش يا حج صافي حاجة اقصر كده تجيبها.

لكزت حكمت صافي في كتفه، قائلة بعتاب، في ظل محاولاتها كتم ضحكتها:

-اخس عليك يا صافي، ثواني يا يزن هجبلك أنا هدوم.

-ومرهم حروق عشان خاطري، في حد ابن حلال كان مظبط الميه على الساخن.

هنا صدح صوت سيرا وهي تنظر إليه باستهجان:

-اتحرقت!! الف سلامة.

همس يزن في سره بقهر وهو ينظر ليده التي تألمه:

-الله يحرقك، والله ما أنا سايبك.

تحرك يزن خلف حكمت التي جلبت له جلباب آخر طويل ومناسب إليه، فبدا وكأنه تاجر فاكهة في أحد الأسواق الشعبية.

همس بحسرة وهو ينظر للطعام الذي لن يستمتع به وهو في ذلك الحال:

-حسبي الله ونعم الوكيل، مش هعرف آكل البامية بنفس.

وقبل أن يضع في فمه قطعة لحم وجد دهب تصرخ وهي تقول:

-الحقي يا ماما! حودة والعيال كلهم على عربية يزن، وفي عيال تانية زَقوا عليها طماطم.

بلع يزن الطعام بصعوبة، واتسعت عيناه قهرًا، متمتمًا بخوف:

-المِرسيدس دي بتاعت سليم!!

مالت عليه سيرا تهمس بمكر:

-وصاحب أجانص قد الدنيا وانت بتشحت عربية اخوك الكبير؟ اخص مكنتش اعرف عنك كده!

رمقها بسخرية وانزعاج من تلك الشماتة المتجسدة في عينيها:

-تعرفي إيه أنا الـ BM بتاعتي في التوكيل بظبط كام حاجة فيها. 

-طيب انت لو منزلتش حالاً ولحقت عربية اخوك، احتمال يعملوا عليها عصير فراولة وصينية بطاطس باللحمة.

ود لو يمتلك القدرة على جلب رأسها اللعين ووضعه في صحن الشوربة الساخن، ليتخلص منها ومن محاولاتها المستميتة لاستفزازه، استأذن دون أن يُكمل طعامه، تاركًا عائلة سيرا تشعر بالحزن والإحراج، بينما كانت هي تشعر براحة كبيرة لاقتناص ثأرها منه.
                                 ***
صعدت يسر بخطوات سريعة لتصل إلى عيادة نوح، وكانت ملامح وجهها متهجمة، ودقات قلبها تتسارع بجنون، دخلت إلى العيادة وجسدها يتشنج بقوة، واقتربت من باب غرفة نوح، إلا أن حسناء اعترضتها بقوة وهي تقول بنبرة لبقة وابتسامة أثارت جنون يسر:

-دكتور نوح مش فاضي دلوقتي يا مدام.

وفي لمح البصر، جذبت "يسر" "حسناء" من خصلات شعرها، وأرجعت رأسها للخلف بقوة، وهي تهمس بنبرة خانقة يفوح منها فحيح مخيف:

-أنا عفاريت الدنيا بتتنطط في وشي، بلاش أنتي تكوني ضحيتي، انتي مش قدي.

تعمدت حسناء الصراخ والتألم من قبضة يسر القوية، فتجمهر المتواجدون حولهما، وحاولوا إبعاد يسر، إلا أنها زادت من قبضتها، خرج نوح متذمرًا، وما إن رأى الوضع أمامه حتى اقترب من يسر محاولًا جذبها، لكنها دفعته بقوة وقالت بنبرة غاضبة متوهجة:

-عايــزك يا دكتور.

دفعت حسناء بقوة وهي ترمقها باشمئزاز، فبكت حسناء وهي تمسك برأسها متألمة، قائلة بصوت باكٍ:

-والله يا دكتور، كل اللي قولته ليها إنك مش فاضي.

فتدخلت سيدة تشهد مع حسناء:

-الصراحة الست اللي دخلت دي متوحشة، هجمت عليها الاول.

-خلاص يا جماعة، حصل خير، وانتي يا حسناء أنا هصرفلك تعويض عن الاذى ده.

صدح صوت "يسر" بغيظ وصياح أرعب الجميع:

-نـــــــــــــوح.

التفت نوح ينظر إلى الغرفة الموجودة بها، شاعرًا بالإحراج الشديد من المتواجدين، فقالت إحدى السيدات بعدم رضا:

-ربنا يعينك يابني على اللي انت فيه!

ابتسم نوح لها مقتضبًا، ثم دخل سريعًا إلى الغرفة باندهاش، مغلقًا الباب خلفه بقوة:

-في إيه؟ انتي إزاي تدخلي كده، وإيه اللي عملتيه في حسناء ده؟

اقتربت منه وعلى وجهها علامات الانفعال، فبدت شرسة كنمرة قررت أخيرًا الهجوم على سائر قطيعها:

-بنـــتــــي فـــيـــــن يــــا نــــوح؟

نظر إليها مستنكرًا وسأل بعدم فهم:

-مالها لينا؟

ضمت شفتيها بغيظ، ثم نظرت إليه بغموض أربكه، وفي لحظة، انقضت عليه بجنون، تقبض فوق ملابسه، وهي تهمس بغل وقهر:

-أنا ممكن أعديلك أي حاجة غير إنك تقهر قلبي على لينا يا نوح.

فقد أعصابه وأصابه التوتر وهو يسألها بحنق:

-مالها لينا ما تنطقي!

وكأنها لم ترَ صدق ملامحه، فانعزلت في سجون الانتقام، لدرجة أن أنفاسها الملتهبة لفحت برودة وجهه المتخوف مما قد يكون أصاب ابنته بمكروه:

-بتمثل عليا وانت خاطف البت مني، أنا بقولك اهو لو بنتي مارجعتش أنا هعمل....

دفعها عنه بقوة وهو يصيح فيها بجنون، وعدم التصديق ينبثق من عينيه المذعورتين:

-إيه؟ لينا مخطوفة؟ ازاي وامتى وفين، انطقي!

أصابها الحيرة عندما لمحت توتره وذعره المتجسد على ملامحه، فتبسمت بتهكم، وعبراتها تنسال فوق صفحات وجهها:

-انت عايز تفهمني إنك ماتعرفش حاجة؟

خرجت نبرته مذبوحة حانقةؤ منفعلة:

-أنا فعلاً ماعرفش عن بنتي حاجة، وكنت فاكر إنها مع أم واخدة بالها منها، بس طلعتي أم مهملة....

-ماسمحلكش، أنا عمري ما كنت مهملة.

صرخت بها بألم وقهر، عندما مال ميزان الاتهام نحوها وصارت مذنبة، فقطع صراخها صوت رنين هاتفها، وعندما رأت اسم والدها، أجابت بلهفة:

-إيه يا بابا لقيتوها؟

-لا، بس انتي فين؟

ارتسمت ملامح الإحباط على وجهها وهي تقول بصوت مهزوز:

-عند نوح.

-تعالي حالاً.

أغلق الاتصال في وجهها، فزفرت بقوة وهي تبكي قلقًا بانهيار، لم يكن في وسعها سوى البكاء، بكاء أمٍّ كُسِرَ قلبها، فصار نزيفًا صامتًا يقتات على روحها في كل لحظة يمر فيها الوقت دون صغيرتها.

-أنا عايز افهم في إيه، بنتي فين؟

رفعت عينيها تطالعه بصمت وعجز، لكن عقلها لا يزال يفرض تخيلاته بأنه السبب في اختطاف صغيرتهما ليعاقبها على فعلتها، فتحركت من أمامه، ودموعها تحفر أخاديد الألم، وصوتها المبحوح يتوسل إليه:

-عشان خاطري يا نوح، قولي بنتي فين؟ وانت لو عايزني ارجعلك معنديش مشكلة، بس قولي هي فين؟

-انتي مجنونة أنا عمري ما اعمل كده أبدًا، ده بنتي وانتي مراتي مهما مشاكلنا زادت عمري ما أدخل لينا بينا، أنا عايز أعرف إيه اللي حصل!!

لم تشعر به وبما يتعمل داخله، فكان هناك قيد من نار يلتف حول قلبه، يشده حتى يكاد يتمزق خوفًا على ابنته الوحيدة، فانهارت وهي تقول:

-ماما سابتها تنزل تشتري من السوبر ماركت اللي تحت زي كل يوم، وبعدها مطلعتش على طول، ماما قلقت عليها نزلت سألت البواب مالقتهوش أصلاً فضلت تدور في الشوارع ملقتهاش، والراجل بتاع السوبر ماركت قال إنها هي اشترت فعلاً ومشيت ناحية العمارة بس محدش يعرف إيه اللي حصل، والبواب طلع كان في السوق وسايب العمارة من ساعتين.

أول شيء خطر على خاطر نوح، الذي أصابته رجفة هلع ووغز مستمر في قلبه:

-والكاميرات يا يسر؟

-ماعرفش سيبت بابا يتصرف، وجيتلك.

ضغط فوق أسنانه بغيظ وهو يقول بنبرة معاتبة، تحمل نيران الهجر والبعد:

-جيتي عشان شكيتي فيا إن أنا السبب صح!

أخفضت بصرها أرضًا بخجل، فقال بنبرة مقهورة:

-حقيقي أنا كل يوم بتصدم فيكي، ومش متخيل انتي ازاي ماتعرفنيش كده.

ألقى قنابله المدوية، وجذب متعلقاته، ثم جذبها خلفه رغمًا عنها، خرج من الغرفة، وتوجه نحو الباب الرئيسي، فصاحت إحدى السيدات بتأفف:

-كده مايرضيش ربنا يا دكتور احنا ملطعوين من العصر، وانت ماشي بسهولة كده!

التفت إليها نوح وحدجها بغضب، وهو يقول بنبرة يغمرها الغل من الصدمات التي يمر بها:

-أنا بنتي مخطوفة، مش ماشي بمزاجي، ده ظرف غصب عني.

ثم نظر إلى حسناء التي كانت متوترة من نظرات يسر:

-رجعي فلوس كل الموجودين.

ثم غادر وبيده يسر التي كادت تتعثر عدة مرات من شدة وقع خطواته الواسعة والقوية!
                              ***

كانت سيرا جالسة في غرفتها وسط عتمة أفكارها، تتلاعب بها الحيرة كريشة في مهب الريح، هل تستمر في خطبتها لرجل لا يعرف الولاء لقلب واحد؟! فصدح صوت داخلها يصرخ "لن يتغير!" وبعد حيرة طويلة، قررت اتخاذ قرارها بالابتعاد عنه بقلب شجاع.

دخلت كريمة وهي تبتسم ابتسامة عريضة، ممسكة بسترة بها ترتر لامع، لونها أزرق، قائلة:

-سيرا البلوزة دي حلوة ولا اشوف حاجة تاني لخطوبتك.

ابتسمت بحزن وهي تقول بصوت متحشرج:

-ما تتعبيش نفسك يا كريمة خلاص الموضوع خلص.

رفعت كريمة أحد حاجبيها باندهاش واقتربت بقلق:

-معلش يعني؟ ده اللي هو ازاي؟ هو إيه اللي خلص!!

تنهدت سيرا بعمق وهي تقول بنبرة حاولت أن تبدو عادية:

-يعني أنا هفركش الخطوبة، مابقتش عايزة يزن خلاص.

هزت كريمة رأسها عدة مرات في محاولة لاستيعاب حديث سيرا، لكنها بدت حمقاء وهي تستمع إليها، فقالت:

-مابقتيش عايزة مين يا سيرا؟!

-يزن يا كريمة، مش مناسب ليا، وكفاية كلام عشان خاطري عندي صداع وعايزة أنام.

أومأت كريمة برأسها عدة مرات وهمست ببلاهة:

-اه وماله، وماله، نامي يا حبيبتي.

أغلقت الأضواء خلفها وخرجت من الغرفة، وفور خروجها، أراحت سيرا جسدها فوق الفراش وقررت النوم بعدما انتهى انتقامها من يزن، إذ نشرت له صورة بجلباب قصير من حساب وهمي باسم حركي، وفعلت خاصية الإشارة، ولم تكتفِ بذلك، بل وضعت صورًا مضحكة لفنانين مصريين، فيما يسمى بـ"الميمز"، ساخرةً منه على الملأ، مكتفيةً بذلك العقاب.

ثم همست بحقد لم تولده تجاه رجل من قبل:

-اشرب يا قاهر قلوب العذارى، بقى كنت عايز تتسلى بيا، فاكرني من البنات السيكي ميكي!!

فجأة، فُتحت الإنارة، وحدث هجوم مفاجئ مخيف من قِبَل أخوات سيرا، وعلى رأسهن أبلة حكمت ووالدتها بنفسها!!

جلست سيرا فوق الفراش بقلق، وهي تعيد ظهرها للخلف بخوف عندما رأتهن يقتربن منها وكأنهن ينوين قتلها، وأول من تحدثت كانت أبلة حكمت، التي تولت دفة الهجوم:

-إيه الكلام اللي قولتيه ده يا مقصوفة الرقبة لكريمة!!

رفعت سيرا إصبع السبابة في وجه أختها الكبرى قائلةً بتحذير صارم:

-أبلة ماسمحلكيش لو سمحتي!

-ولما اعضهولك مش هتزعلي!!

أنزلت سيرا إصبعها سريعًا خوفًا من تهديد أبلة حكمت الشرس، لكنها وجدت وجهها يتوجه نحو فريال، التي كانت على الجانب الأيمن، بابتسامة ناعمة، لكنها هذه المرة كانت شائكة ومخيفة:

-عايزة تفركشي خطوبتك من يزن ليه يا حبيبتي، قولي متخافيش!

شعرت بضغط قوي من قبل عائلتها، وراية الرفض لقرارها حلقت عاليًا، فانفجرت ببكاء حاد وهي تقول:

-أنا حرة مش عايزة اكمل مع حد، محدش يغصبني على حاجة!

أبعدت أبلة حكمت كريمة، التي كانت على جانبها الأيسر، واحتضنت سيرا بحنو وهي تردد بنبرة هادئة:

-ليه قوليلنا واقنعينا، يمكن نقتنع ويمكن لا، احنا بردو عارفين مصلحتك يا سيروو، احنا عندنا خبرة عنك...

قاطعتها سيرا بحنق وسط بكائها، قائلةً:

-طلع بتاع بنات يا أبلة، بيتسلى بيهم زي ما بيتسلى باللب السوبر كده!

ساد صمت ثقيل، وكأن صوت صرصور الحقل صدح عاليًا عندما رأت وجوههن مبهمة، وكأنها تتفوه بأمر تافه لا يستدعي كل تلك الدموع!

وأول من تدخلت كانت والدتها، قائلةً بنبرة رزينة:

-مين اللي قالك يا حبيبتي؟، هو لحق خانك ده انتوا لسه مخطوبين امبارح!

مسحت سيرا دموعها المنهمرة وهي تقول:

-لا مخانيش دي واحدة صاحبتي اللي قالتلي كده.

صفقت ابلة حكمت عاليًا وهي تقول بضيق وغل:

-هي أكيد البت فاطمة، البت دي أصلاً حقودة وبتغير منك عشان انتي جميلة واتخطبتي لعريس لُقطة، بتكرهك فيه يا غبية عشان تشقطه منك.

رفعت سيرا حاجبيها مندهشةً من ذلك الهجوم، فقالت بضيق:

-لا يا أبلة مش فاطمة، دي حورية.

عادت لتصفق من جديد وقالت بنفس النبرة المغلولة:

-أنا قولت بردو الكلام ده مايطلعش إلا من واحدة حربوئة زي الزفتة حورية، والله انتي مالكيش صحاب جدعة إلا البت فاطمة، محترمة وطيبة وبتحبلك الخير.

اندهشت شاهندا من تحولها السريع، فقالت:

-يا أبلة ده انتي لسه شاتمة في فاطمة حالاً من ثانية!!

كتمت غيظها وهي تقول بترفع:

-سمعت غلط اسم فاطمة قريب من حورية، ثم إن....

التفتت إلى سيرا وقالت بضيق، موجهةً دفة العتاب إليها:

-هو انتي يا سيرا أي حد يقولك كلمتين على شريك حياتك تصدقيه، وتهدي حياتك، مش تشوفي وتجربي الاول.

-أنا حياتي مش تجربة يا أبلة، أنا يا اختار صح من الأول يا إما ماختارش، وبعدين ده فيه اكتر صفة بكرهها في الرجالة، انتي عارفة يعني إيه بتاع بنات، يعني قلبه قلب بطيخ في بذر كتير.

-بس بيترمي ولا لأ.

قالتها كريمة معقبةً سريعًا، فقالت سيرا بنزق:

-طيب ما أنا هبقى بذرة بردو بتترمي.

-يا حبيبتي ان شاء يقلب خوخ ماتزعليش نفسك واديله فرصة.

قالتها والدتها بهدوء وهي تربت على وجه ابنتها، فبكت سيرا مجددًا عندما شعرت أنهن جميعًا ضدها:

-يا ماما هو الحوار حوار فاكهة، الحوار حوار مستقبل وحياة.

زمت حكمت شفتيها بضيق وهي تضرب كفًا بآخر:

-أما انتي عقلك خايب بصحيح، يعني لو نفترض هو بتاع بنات مع إني مش مصدقة الواد كُمل وحاجة آخر آلاجة، وكان عايش فترة شباب زي ما كل الناس بتعيشها، بس في الآخر قرر يستقر واختارك انتي دونًا عن البنات كلهم، وعايز يكمل حياته معاكي بإرادته، فين الغلط؟!

-في شباب مابتتسلاش بالبنات يا ابلة، في شباب محترمة.

عبست كريمة وهي تقول:

-مفيش الكلام ده يا سيرا، انتي عايشة في قصص وخيالات؛

-على رأيك يا كريمة، ده الواد حودة ابني بيكلم خمس بنات صحابه في المدرسة.

زفرت سيرا بغيظ وهي تعيد خصلات شعرها للخلف قائلةً:

-انتوا مايهمكوش الا انتوا عايزينه، عريس حلو وغني مابتبصوش بقى في عيوب إيه!!

هنا تدخلت والدتها بضيق وهي تردد:

-ما كل الناس يا بنتي فيها عيوب ومميزات، هو في حد كامل، الكامل لله وحده!

-وأنا مش عايزة يا ماما، أنا حرة، مش عايزة، أنا اللي هعيش وهكمل حياتي معاه، أنا اللي قلبي هيوجعني.

-والله انتي قاطعة أرزاق، يا بت بطلي نبر بقى.

قالتها حكمت بغيظ، فعقبت شاهندا بهدوء رزين:

-طيب فكري تاني يا سيرا، يمكن تغيري رأيك.

صاحت حكمت بنبرة حادة:

-لا طبعًا تفكر إيه!!

أشرن إليها بحدة وهمسن في صوت واحد:

-بابا يا أبلة!

فأخفضت حكمت صوتها بانفعال مكتوم وهي تقول:

-مفيش تفكير، انتي عايزة تشمتي فينا فوزية الملوية وابنها المدمن؟! وبعدين بابا فرحان فرحة مشفناهاش قبل كده! وعمال يخطط برة يعزم مين ومايعزمش مين، ويجبلك إيه، يهون عليكي يا جاحدة تكسري فرحته عشان شوية تفاهات مالهاش لزمة.

فأكملت فريال، مؤكدة على حديث أختها بإصرار:

-بابا أصلاً تعبان وقلبه مابقاش متحمل، وممكن يزعل ويكتم في قلبه بسببك، بابا فرحان بالنسب يا سيرا، وفرحان بيكي وعايز يطمن عليكي زينا، والصراحة يزن وعيلته كويسين وماتنكريش الناس فرحانة بيكي، وهو كمان أظن أنه جدع معاكي والراجل ماسابناش خالص وفضل معانا لغاية ما جينا هنا.

فتحت سيرا فمها لتعارضهن، إلا أن دخول حودة، جالب المصائب، وهو يتنفس سريعًا، قاطع حديثهن:

-الحقووووووا، جدو وقع في الشارع اغمى عليه، وخالو قاسم و خالو عبود اتقبض عليهم. 
تركت "سيرا" والدها في المستشفى مع والدتها وأخواتها، وانطلقت نحو قسم الشرطة الذي يُحتجز فيه شقيقاها التوأم "عبود" و"قاسم"، بعد أن افتعلا شجارًا مع "فايق"، حين حاولا الأخذ بثأر شقيقتهما الكبرى "أبلة حكمت" وسيرا، فقد علما أن فايق ينشر إشاعات مغرضة عن سيرا، فاشتعلت في قلبيهما نيران الغضب، وتصرفا بتهور، كسر أحدهما يد فايق، بينما تسبب الآخر بكدمات في وجهه، بعد أن نصبوا له مع أصدقائهم الطائشين كمينًا عند دخوله الحي، فانهالوا عليه بالضرب المبرح حتى وصل الأمر إلى قسم الشرطة.

مسحت سيرا دموعها، وقد غمرها الخوف على والدها الذي فقد وعيه، كانت الجلطة على بُعد بضع إنشات من جسده، وقد حذرهم الطبيب للمرة الأخيرة بالحفاظ على صحته وتجنب إرهاقه بأمور قد تفوق قدرته على التحمل.

وصلت سيرا إلى القسم برفقة "أبلة حكمت" وزوجها "صافي"، وقبل أن يدخلا، قالت حكمت بضيق من سيرا المتشبثة برأيها:

-يا بنتي اتصلي على خطيبك خليه يكلم اخوه، ينقذ اخواتك، اخوه واصل اوي وهيخلص الموضوع.

هزت سيرا رأسها نفيًا بعناد:

-لا يا أبلة، كفاية لغاية كده، مش كل مصيبة هجري اعرفه بيها، وبعدين أنا قولتلك....

قطعت حديثها عندما قبضت حكمت على مرفقها بشراسة، وجرتها نحو الحائط الحجري الكبير، فاستندت سيرا بظهرها عليه وهي تنظر إلى حكمت برعب، فكانت عينا حكمت تشتعلان غضبًا:

-بصي بقى وحطي الكلمتين دول في ودانك، لو على الكلام الاهبل اللي قولتيه فانسيه خالص عشان محدش هيوافق فينا، لو انتي عبيطة ومش عارفة مصلحتك فين؟، احنا نعرفهالك كويس!، ولو ابوكي مش فارق معاكي قهرته، أحنا يفرق معانا ونخاف على صحته اللي عماله تتدهور والله اعلم ممكن يجراله إيه تاني! مستعدة تعيشي بذنب ابوكي العمر كله يا سيرا؟

تدخل صافي بصوته العميق، محاولًا تهدئة الوضع:

-اهدي يا حكمت، ان شاء الله سيرا هتعقل وهتعرف مصلحتها فين ومصلحة اخواتها اللي مرمين في الحجز دول!

ردت سيرا بنبرة يغمرها الغيظ:

-أنا مش هكلم حد، لو عايزة تكلميه انتي كلميه!

دفعت أختها عنها وتحركت نحو الداخل، لكنها توقفت فجأة عندما رأت "زيدان" أمامها، تجمدت أطرافها، وغاص وجهها في الإحراج عندما اقترب منها بلهفة وسألها:

-مالك؟ إيه اللي جابك هنا؟ 

مدت حكمت يدها لتصافحه بابتسامة عريضة:

-أهلاً أهلاً أنا حكمت اخت سيرا، فاكرني؟

صافحها زيدان باقتضاب، وتحولت لهفته إلى فتور:

-اه أكيد فاكرك!

ابتسمت حكمت بغرور أثار دهشة سيرا وصافي معًا:

-أنا كنت عارفة، مفيش حد يشوفني إلا ولازم اسيب له بصمة يفتكرني بيها على طول.

رفع زيدان حاجبيه باعتراض على ثقتها المفرطة، لكنه استمع إليها وهي تتحول بنبرتها إلى الاستعطاف:

-كويس إنك موجود، عبود وقاسم اخواتي مقبوض عليهم في مشكلة كبيرة، ضاربين واحد جارنا وأمه الله يجحمها اللي كنت متخانقة معاها وانت خلصت الحوار عملت بلاغ في أخواتي!

كورت سيرا يديها، محاولةً كبح جماح غضبها المتصاعد، خاصةً عندما رأت أختها تتودد لزيدان، لكنها سرعان ما غادرتهما، ووقفت في زاوية بعيدة تبكي بصمت، كان الشعور الذي يسيطر عليها أشبه بفوضى عارمة لا تستطيع ترتيبها، أغمضت عينيها بقهر، وهي تفكر في الذهاب إلى "فايق" بالمستشفى لطلب مسامحته والتنازل عن البلاغ، لكن كبرياءها منعها، بالإضافة إلى خوفها من رؤيته بعد تصرفاته الأخيرة ونظراته المريبة!!

شعرت بلمسة حانية على ذراعها، وصوت يخترق سكونها كالسهام، فتحت عينيها لترى "يزن" يقف أمامها بلهفة وقلق:

-بتعملي إيه هنا، وواقفة بتعيطي ليه بالشكل ده؟!

همست بتوتر:

-آآ.. أنا...كنت جاية مع أبلة وأبيه عشان....

انعقد حاجباه بقوة وهو يتأمل توترها ومحاولاتها الضعيفة لاستجماع قواها، أمسك بكفيها بين قبضتيه القويتين والكبيرتين مقارنةً بحجم يديها الصغيرتين، وقبض عليهما بحنو ولطف محبب إلى قلبها:

-اهدي واحكيلي في إيه؟ وليه ماتصلتيش بيا اجيلك؟

تساءلت بعينيها شبه الباكيتين، وهمست بنبرة خافتة، متغافلة عن كفيها اللذين كانا بين قبضته المتمسكة بها وكأنه غريق يتشبث بآخر طوق نجاة:

-هو انت إيه اللي  عرفك إن أنا هنا؟  مين قالك؟ زيدان؟

رد بهمس متعجب:

-زيدان؟

لكنه لم يُطل الاستغراب، وشرح سبب وجوده بجمل مختصرة:

-نوح صاحبي هو ومراته جم هنا عشان بنتهم اتخطفت وأنا جيت معاه وبلغت زيدان يجلنا على هنا، انتي هنا ليه؟

شعرت بلمسات حانية من إصبعه تمر فوق كفيها، لمسات داعبت فؤادها وأجبرتها على رفع عينيها إلى بريق عينيه، رأت لونهما الجميل يتلألأ وسط مقلتيه، فكادت تهيم به، إلا أن كلمات "حورية" ضربت رأسها كضربة فارس مغوار أصاب سيفه منتصف رأس عدوه " بيتسلى بالبنات زي ما بيتسلى باللب السوبر كده".

 فجأة، شعرت باشمئزاز يجتاحها، وحاولت سحب يدها بقوة من قبضته، قائلة بانزعاج واضح، يرافقه إحراج من تصرفات عائلتها التي باتت وكأنها تعشق التردد على أقسام الشرطة مؤخرًا:

-عبود وقاسم اتخانقوا مع فايق وهو قدم فيهم بلاغ، فجينا هنا نشوف البلاغ وكلمنا المحامي يجي ورانا.....

لم يكن غبيًا ليدرك أنها تمرر له بين كلماتها المبطنة رسالة مفادها أنها ليست بحاجة إليه، ولن تطلب منه العون، شعر بضيق عميق لتفسيرها الخاطئ لموقفه معها، فهو لم يقف بجانبها من باب المجاملة، بل كان شعوره بالمسؤولية ورغبته الحقيقية في حمايتها هما الدافع الحقيقي!

-وماكلمتنيش ليه؟

هزت كتفيها بلا مبالاة متعمدة، وقالت بهدوء بينما كانت عيناها تفر من محاولات عينيه الغامضتين والمربكتين لاحتجازها:

-يعني شوية ضغط وحوارات محبتش اشغلك معايا!

-يـــزن؟!

كانت "حكمت" تمسك بأخويها "عبود" و"قاسم" بيديها وهي تخرج بهما من القسم. توقفت بدهشة:

-مش معقولة، انتي كلمتيه يا سيرا؟!

تجهمت ملامح "سيرا" ووجهت عتابها إلى شقيقيها اللذين أخفضا رأسيهما بخجل، وكررت:

-لا هو اللي جه لوحده!

وقف "زيدان" بجانب "يزن"، يميل نحوه ويهمس ببعض الكلمات التي أثارت استنكار الأخير، هز "يزن" رأسه تأكيدًا على ما قاله "زيدان"، في صمت أثار دهشة الجميع.

نطقت "سيرا" أولاً، وقالت بقلق:

-في حاجة يا يزن؟ عبود وقاسم هيحصلهم حاجة؟

حرك "زيدان" رأسه نفيًا وأجاب بنبرة جادة:

-لا خالص، اللي ضربوه اتنازل عن البلاغ، بس بعد كده المفروض يمسكوا نفسهم ويتعاملوا بذكاء عن كده.

ابتسمت "سيرا" ابتسامة غير مصدقة:

-بجد فايق اتنازل؟

ردت "حكمت" بدهشة واستنكار:

-اه شوفتي، ابن فوزية الملوية اتنازل!

قالت "سيرا" بسذاجة وهي توجه حديثها لأختها:

-والله فيه الخير، ده أنا كنت هروح له المستشفى واطلب منه.....

تجهم وجه "قاسم" وقال بنبرة غليظة:

-تروحي فين؟ انتي عارفة الحمار ده كان بيقول عليكي إيه؟

تابع "عبود" بنبرة أشد ظلمة تفوح منها الغيرة على أخته:

-ده عيل مالوش أي لزمة، تلاقيه بيكسب بونطة عندك.

ارتبكت "سيرا" منهما وأمرتهما بالصمت بنظراتها المستعرة بالغضب، خاصة أمام "زيدان" و"يزن"، وخصوصًا "زيدان" الذي رمق "يزن" بنظرة غامضة استعصت عليها فك شفراتها.

بينما ظهر على "يزن" توتر شديد وكأنه يقاوم شيئًا ما داخله.

قالت "حكمت" بحدة وهي تدفع أخويها أمامها:

-يلا يا بيه منك له قدامي عشان نروح نطمن على بابا في المستشفى!

أخيرًا، نطق "يزن" بقلق حقيقي:

-هو عم حسني في المستشفى؟!

هزت "حكمت" رأسها إيجابًا وأخبرته كيف تلقى والدها الخبر عندما رأى عبود وقاسم داخل سيارة الشرطة، فسقط مغشيًا عليه، أوضحت أن صحته تتدهور بشكل ملحوظ، وأنهم جميعًا يشعرون بالخوف عليه.

لكن في نهاية حديثها، اشتدت نبرتها حدة، ووجهت نظراتها الملتهبة نحو "سيرا"، التي كانت تقف متجمدةً تحت وطأة تلك النظرات الفاضحة.

-بابا تعبان خالص يا يزن، ادعي له ربنا يشفيه، احنا خايفين عليه خالص، خالص.

زمت "سيرا" شفتيها ونظرت إلى الأرض محاولة إخفاء مشاعرها المضطربة، فأمرت "حكمت" الجميع بالتحرك:

-يلا يا أستاذ منك له!

تحركت "سيرا" بصمت، متجاهلة "يزن" و"زيدان"، كانت تنوي شكر "زيدان" على دعمه لها للمرة التي لم تعد تحصيها، لكنها قررت تأجيل ذلك لوقت آخر،
بينما همس "زيدان" بسخرية:

-امال الباشا مفتحش فيس النهاردة خالص؟!

كان "يزن" يتابع "سيرا" بعينيه، متعجبًا من تصرفها معه، هز رأسه نفيًا، وعقله غارق في التركيز على خطواتها المتسارعة بجانب أخويها وهي تتشاجر معهما.

أخرج "زيدان" هاتفه ووضعه أمام "يزن"، الصورة الساخرة التي تتصدر الفيسبوك كانت له وهو يرتدي الجلباب القصير، فأمسك "يزن" الهاتف بقوة، غير مصدق لما يراه.

قال "زيدان" بانزعاج ساخر:

-مين الاكونت الفيك اللي ناشرلك الصورة دي وكنت فين؟ خطيبتك مش طايقك ليه يا يزن؟ احمد ربنا إن سليم لسه.......

لم يكمل حديثه، إذ تحرك "يزن" بسرعة نحو سيارة "صافي"، فتح الباب حيث كانت "سيرا" تجلس بجواره، وطلب من "حكمت" بلباقة:

-ممكن تسمحيلي انتي والحاج صافي اخلي سيرا معايا بس شوية اخلص مشكلة واحد صاحبي، وبعدها اجيبها وآجي ازور الحج حسني في المستشفى!

رد "قاسم" بخشونة:

-طيب ما تخلص حوارك مع صاحبك وتعالى على المستشفى، هتلاقينا موجودين ماتخافش مش هنهرب.

ابتسم "يزن" ابتسامة تخفي وراءها نيران غضبه، وقال بهدوء مريب:

-في حاجة بيني وبينها يا قاسم وعايز اوريهالها في الطريق!

ردت حكمت بحزم:

-وانت مالك يا واد، هو مش بيستأذن من الناس الكبيرة، اه طبعًا يا حبيبي، انزلي يا سيرا مع خطيبك.

تشبثت "سيرا" بالمقعد، لا تود النزول ولا التحرك معه، ارتبك قلبها من نظراته المريبة تلك، تُرى هل علم بما فعلته؟ أم أنه لا يزال غارقًا في نعيم الجهل؟ وما سر حديثه الكاذب الذي تفوه به؟ هل ينصب لها مصيدة ليحتجزها بها؟

ارتبكت كالجرو الصغير، وهمست بارتباك:

-خليها وقت تاني، أنا عايزة اطمن على بابا!

أمسك بذراعها وحركها للنزول بخفة، دون أن يلاحظ أحد، قائلاً بإصرار ونبرة هادئة ظلت ثابتة:

-لا مش هنتأخر متخافيش، يلا عشان منتأخرش اكتر من كده.

تحمست "حكمت"، وقالت بنبرة تتعمد إظهار الحنق:

-خلاص يا سيرا روحي مع خطيبك ماتزعلهوش، سلام.

ثم أمرت "صافي" الصامت، الذي لم يعنه الأمر، بالتحرك، وبالفعل تحرك بالسيارة، تاركًا إياها في قبضة "يزن"، الذي توقعت أن ينقشع عنه ذلك القناع الغامض، ولكنه نظر إليها بلطف مستذئب وهمس بحنان أثار الشك في عقلها:

-تعالي يا حبيبي هنخلص حوار نوح ومراته ونمشي مع بعض.

نظرت إليه مندهشة من أسلوبه، وكادت تعقب على لفظه كلمة "حبيبي" بتلك النعومة التي تغلغلت في صوته الرجولي الجذاب، إلا أنها صمتت، راحت تتخيل كم مرة نطقها؟ ولكم فتاة؟ فبالتأكيد هن في عينيه بحجم حبات اللب السوبر!

سارت معه كالمغيبة، حتى دخلا إلى القسم، كان "زيدان" بانتظارهما أمام إحدى الغرف الكبيرة، متعجبًا من عودة "سيرا" مرة أخرى، ولكن "يزن" سارع بتبرير الأمر:

-هخلص مع يزن ونروح نطمن على باباها، في جديد جوه مع نوح؟؟

هز "زيدان" رأسه نفيًا، وقال بتنهيدة عميقة:

-للأسف لا، لسه متوصلوش لحاجة، البنت اتخطفت على ماكنة صيني مش عليها لوحة، والشارع كله مفيهوش كاميرات إلا كاميرا السوبر الماركت واللي كان بعيد بشوية عن مدخل العمارة والبنت اتخطفت من قدام العمارة، والعيال اللي كانوا راكبين ملثمين!! 
والكاميرا جايبهم من ضهرهم.

قال "يزن" بضيق:

-والعمل؟

وضع يده في جيب سرواله، بينما رد "زيدان" بجدية:

-متخافش القسم كله مقلوب عشانه، وأنا عملت اتصالاتي أصلاً بكام واحد في المرور، هنجيب العيال دي، وأنا فهمت نوح إن لو حد اتصل عليه أو على جد البنت يبلغني وأنا هتصرف، هما دقيقتين تلاتة وهيخرجوا بس أنا لازم امشي حالاً عشان شغلي.

تفهم "يزن" وقال بامتنان:

-معلش يا زيزو على طول معطلك...

قاطعه "زيدان" باستياء ساخر من أدبه الذي ظهر فجأة بوجود خطيبته المبجلة:

 -قصدك على طول قارفني، ماتعملش نفسك محترم قدام خطيبتك، وماتتصلش عليا تاني، أنا لو اترفدت هيبقى بسببك وبسبب مليكة.

قالها وأشار لـ"سيرا" ملوحًا بالوداع لها، بينما هي حمدت ربها في سرها أنه لم ينطق اسمها وسط سخطه المنصب على "يزن"، الذي كان واقفًا متقبلًا ذلك بصدر رحب وكأنه معتاد على هذا المشهد!

تنهدت بحزن لأمر اختطاف الصغيرة، وقالت بصوت يغلب عليه الحزن الحقيقي:

-كنت سيبني امشي، وانت خليك مع صاحبك، أكيد محتاجك دلوقتي!

مال نحوها وهمس بنفس النبرة المغوية التي أسرت نظراتها المبهوتة:

-وانتي كمان يا حبيبي أكيد محتاجاني.

ضيقت عينيها وكادت تنهره لتفوهه المتعمد بتلك الكلمة، ولكن خروج عدة أشخاص من الغرفة جعلها تصمت وتأخذ خطوة للخلف.

وقف "يزن" في وجه رجل طويل، عريض المنكبين، يحمل وسامة رجولية شرقية، لكن الحزن الطاغي على وجهه كشف لها أنه والد الفتاة المختطفة، بجانبه كانت فتاة تصل إلى كتفيه، تستند عليه بإعياء، وعيونها منتفخة من شدة البكاء، ويدها متكورة بانقباض فوق صدرها المكلوم، وبجانبها رجل يبدو عليه أنه والدها، يمسك بذراعها الآخر.

سمعت "يزن" يقول بنبرة يغلب عليها العجز أمام حزن صديقه:

-ماتقلقش يا نوح ان شاء الله هنلاقيها والعيال دي هتتربى.

تفهم "نوح" مؤازرة صديقه بصمت حزين خيم عليه منذ أن اختطفت ابنته، مال عليه "يزن" وهمس:

-هوصل سيرا عند باباها في المستشفى وهجيلك؟

نظر "نوح" إلى الواقفة خلفه نظرة متعجبة، فبادره "يزن" بحمحمة خشنة:

-خطيبتي.

همس "نوح" أيضًا باستنكار خشن:

-انت خطبت؟!

أغلق "يزن" عينيه كناية عن الإجابة بالإيجاب، ثم قال بسخرية صدمت "نوح":

-خلينا مانركزش في خيبتي ونركز في مصيبتك دلوقتي.

انتبه "نوح" إلى شبه انهيار "يسر"، ومحاولة والدها المستميتة للاهتمام بها، فصوب تركيزه نحوها، ثم استأذن "يزن" وغادر مع عائلة زوجته ومحاميه ومحامي والدها أيضًا.

في تلك اللحظة، صدح صوت "سيرا" من خلفه وهي تقول بضيق وعتاب:

-مكنش له لزوم أبدًا تخليني معاك يا يزن، الموقف كله محرج.

التفت إليها وهو يرمقها بنظرة تحمل تسلية ساخرة تكرهها منه، غمز بعينيه، ثم جرها خلفه عندما قبض على كفها بقوة، مانعًا إياها من أي حركة تهرب من خلالها، فقالت بحنق طفيف وهي تسير خلفه بسرعة:

-اوعى ايدي، انت واخدني على فين؟

-هنكروز شوية بالعربية يا حبيبي؟

تردد في عقلها صوت الفنان "محمد هنيدي" من إحدى المسرحيات الشهيرة، وهو يقول بجديته الساخرة "الكلمة دي بتعصبني.. خلاص"
حقًا، كلمة "حبيبي" تلك تثير استفزازها، وأشياء أخرى لا تود التركيز عليها حاليًا.
دفعها داخل سيارته برفق، فقالت بتعجب مستنكر:

-يعني إيه نكروز مش فاهمة؟

جلس في مقعده، شغل السيارة، ثم انطلق بها:

-هنلف بيها!

صاحت مستنكرة، وقالت بعصبية:

-نلف إيه، أنا أبويا في المستشفى حضرتك، مش واخد بالك!!!

رمقها بنصف عين، وقال بابتسامة واسعة مستفزة:

-لا واخد بالي، اربطي الحزام ولا تحبي اربطهولك.

رفعت أحد حاجبيها وقالت بعناد لاذع:

-مش هربطه يا يزن.

شعرت بزيادة سرعته حتى كادت تصل إلى حد التهور، كان يقود بيد واحدة والأخرى تستند بإريحية على ساقه، فجأة بدأ يحرك السيارة يمينًا ويسارًا بسرعة جنونية، فمالت نحوه بجسدها رغمًا عنها، وتعلقت بذراعه قائلة بصراخ:

-يـزن بتــعــــمل إيـــه؟!!

نظر إليها وهي تتشبث بذراعه، وقال بنبرة ساخرة مالت إلى الجنون:

-هكون بعمل إيه، بنتحر ومالقتش غيرك يشاركني انتحاري!!!

أعاد حركته بسرعة أكبر وبأسلوب أكثر تحكمًا، فأغلقت عينيها بإحكام وأطلقت صراخها علنًا، ومن بين صرخاتها قالت بتوسل:

-يزن، اقف بطني قلبت بجد، انت بتعمل إيه؟

نظر إليها بتسلية وقال بانزعاج مصطنع:

-العربية شكلها بايظة، بتحدف لوحدها.

عقدت حاجبيها بعدم فهم، وفتحت عينيها لتنظر إلى عجلة القيادة التي يتحكم بها بيد واحدة، فقالت بذعر:

-ماهي لازم تحدف ما انت بتسوق بايد واحدة!!

رفع يده فجأة فأصابها الذعر، وقال:

-يعني ماسوقش وهي هتتعدل!!

أمسكت بعجلة القيادة ظنًا منها أنها تستطيع التحكم بالسيارة، ولكنها تحركت بجنون نحو أقصى اليمين، فصرخت بقوة وهتفت بذعر حقيقي:

-هنموت يخربيتك، الحق...

وفي اللحظة الأخيرة، أمسك "يزن" بعجلة القيادة وأعاد مسار السيارة، بينما ظل محافظًا على سرعتها العالية، جاءت سيارة من الخلف، وأطلق سائقها أبواقًا بطريقة معينة، ثم تقدم عدة أمتار عن سيارة "يزن".

تفاجأت "سيرا" بسماع "يزن" وهو يطلق سيلًا من الشتائم البذيئة تحت أنظارها المندهشة، وقال مخاطبًا السائق الآخر:

-انت بتقولي أنا كده يا ابن الـ ******.

صرخت "سيرا" باندهاش واستنكار:

-انت بتعمل إيه يا قليل الأدب؟ احنا اللي غلطانين كنا هنخبطه.

ظهر على ملامح "يزن" خليط من التسلية والجنون، وكأنه يستمتع بكل هذا الفوضى، بينما "سيرا" بدأت تدرك أن ركوبها معه قد يكون مغامرة غير محسوبة العواقب.

فسمعته يقول بغيظ مكتوم:

-ده شتمني بالكلاكس!!

اتسعت عيناها بدهشة وهي تنظر إليه بعدم فهم، غير مستوعبة سوى رغبته الجامحة في الانتقام، سارعت بوضع حزام الأمان وانتظرت أن تمر مناورات "يزن" المجنونة بسيارته السريعة ذات الإمكانيات المخيفة، تشبثت بيدها بمقبض الباب، بينما كانت السيارة تتحرك كالثعبان، تحاصر سيارة الرجل الذي حاول تفادي "يزن" بشتى الطرق.

أعلن الرجل عجزه عندما توقفت سيارة "يزن" فجأة أمامه، وكأنها سد منيع لا مجال لتجاوزه، أبعد "يزن" حزام الأمان عنه، واتخذ قراره بالنزول، فبادرته "سيرا" بصوت متوجس:

-يزن، انت رايح فين يا مجنون، الراجل معملش حاجة؟

أدار رأسه نحوها، ونظر إليها بعينين تلمعان بجنون مكبوت:

-لو خرجتي من باب العربية، هكسر راسك نصين فاهمة...

تجمدت في مكانها، وظهرت علامات الاستهجان على وجهها، فصرخت بغضب:

-أنا مش جارية عندك......

لكن "يزن" لم يُعرها اهتمامًا، أغلق باب سيارته بقوة حتى اهتزت نوافذها، ثم هبط نحو الرجل الذي نزل بدوره، وبدأت المشاجرة بينهما، تراشق الاتهامات والشتائم البذيئة ملأ الأجواء، بينما التفت السيارات من حولهما، محاولين إيقاف هذا الشجار الذي سرعان ما تحول إلى عراك بالأيدي.

راقبت "سيرا" المشهد من خلف الزجاج بخوف حقيقي، بينما كان "يزن" يتحرك كالثور الهائج، اكتشفت فيه جانبًا جديدًا؛ جنونًا قد يتفاقم ويبتلع كل من حوله.

انتهى الشجار بتدخل بعض المارة، وعاد "يزن" إلى سيارته يتنفس بغضب، وجهه عبارة عن كتلة من اللهيب المقتد، التزمت "سيرا" الصمت، بينما أوقف السيارة على جانب الطريق، وصمت ثقيل خيم عليهما، أثار ريبة "سيرا".

فكرت مليًا في الهروب، ولكن صوت أنفاسه العالية شل حركتها، بدا شخصًا آخر، ليس ذاك الذي عرفته في الأيام السابقة، شخصًا لا يُستهان بغضبه وانفعاله.

كسر الصمت بنبرة باردة، لكنها محملة بالتهديد:

-عارفة لو مكنتش اتخانقت معاه ونفست عن غضبي كان هيبقى غضبي ده كله عليكي!

التفتت إليه بحدة:

-عليا!! ماتهددنيش أنا مابخافش.

ضحك ضحكة جافة، وقالت بسخرية ثقيلة:

-اه ماتبصليش أنا مبخافش يا يزن؟! 

مال نحوها، عيناه تضيقان بنظرة مشبعة بالاتهام، وملامحه تتصلب وكأنه يُحاصرها بحبل من الشك:

-ليه عملتي كده؟!

تراجعت في مقعدها قليلاً، وكأنها تحاول خلق مسافة أمان بينها وبينه، تظاهرت بالبراءة، ملامحها ترتسم عليها دهشة مصطنعة:

-عملت إيه؟

ازداد تقطيب حاجبيه، وكأن أعصابه مشدودة إلى حد الانفجار:

-ماتتستعبطيش!

عقدت ذراعيها أمام صدرها، محاولة الحفاظ على رباطة جأشها، وردت بعناد:

-هستعبط لما اعرف الاول، لو عندك حاجة قولها!

أغمض عينيه لثانية، وكأنه يحاول جمع شتات غضبه قبل أن ينفجر، ثم فتحهما مجددًا، وأطلق سؤاله بنبرة حادة كالسيف:

-ليه نزلتي صورتي كده، قاصدة إيه بالحركة دي؟

لمعت عيناها ببصيص من التحدي، وارتفع حاجباها بدهشة مفتعلة:

-انت زعلت؟! أنا كنت بهزر معاك.

رسمت ابتسامة جانبية على شفتيها، ولكن تلك الابتسامة لم تستطع إخفاء ارتعاشة خفيفة في صوتها.

نظر إليها بعمق، وكأنه يحاول اختراق قناع اللامبالاة الذي ترتديه، قال بنبرة بطيئة، مشبعة بالتهديد:

-انتي جريئة اوي!

تصلبت ملامحها، واستقامت في جلستها، ثم ردت بجرأة مُفتعلة:

-معنديش حاجة اخاف منها!! انت عندك؟

ارتسمت على وجهه ابتسامة باهتة، لم تحمل سوى السخرية المرة، زم شفتيه بغيظ مكتوم، وكأنه يُحاول كبح بركان الغضب في داخله، ثم تحدث بصوت خفيض لكنه ينضح بالجدية:

-هتستفادي إيه لما اتريقتي عليا؟!

-أنا قولتلك كنت بهزر!!

ولكنه لم يُبدِ أي استجابة، ظل يُحدّق بها، وكأن كل كلمة تقولها تزيد من اشتعال النار في صدره، كان الجو بينهما يزداد توترًا، وكأن كل حرف يُقال يُشعل شرارة جديدة في بركة الوقود التي تفصل بينهما.

فتقلصت ملامحه في سخرية مريرة:

-عارفة خوفك وكدبك ده هعتبره أكبر رد اعتبار ليا، مش هعاقبك ولا هضغط عليكي، كفاية أوي محاولتك لتبيسط الوضع، عشان انتي عارفة كويس إنه مش موضوع بسيط ولو واحد غيري كان رأيه هيبقى غير كده وأبسط حاجة كان نهى اللي بينك وبينه...

-وماله انهي احنا فيها، كل واحد يروح لحاله!

ابتسم ابتسامة خافتة ولكنها تحمل بين طياتها تهديدًا لا يُخطئه القلب:

-مش بمزاجك يا سيرا، وأنا عايز وهكمل!

-انت عايز إيه بالظبط؟

اقترب منها بهدوء يشبه العاصفة قبل أن تشتد:

-عايزك تتبسطي للي جاي، جاهزة.

أعاد تشغيل السيارة، لكن "سيرا" صرخت بانفعال:

-يزن ماتسوقش بسرعة.

ألقى عليها نظرة جانبية تحمل مزيجًا من السخرية واللامبالاة:

-كان ممكن تقوليها بأسلوب أهدا وابسط من كده!

تجاهلت حديثه وأمسكت ذراعه، وضعتها بقوة على عجلة القيادة وأمرته بلهجة حازمة:

-سوق بإيدك الاتنين لو سمحت.

رفع حاجبه بدهشة ثم همس بنبرة مثقلة بالتهكم:

-تحبي اطلع رجلي اسوق بيها هي كمان!!

زفرت بغيظ، وعادت إلى مقعدها، تعقد ذراعيها بقوة أمامها، فعاد الصمت يخيم على المكان، لكنه كسره بنبرة آمرة:

-امسحي الصورة ويا ريت الموضوع ده مايتكررش تاني، أنا مبحبش اللي بيتهاون معايا، أنا بضحك اه بهزر، دمي خفيف، بس حرفيًا قلبتي والقبر.

نظرت إليه باندهاش:

-انت مش ملاحظ انك عمال تهددني كتير!!

ابتسم ابتسامة باردة:

-لا أنا بنبهك بس مش أكتر، متستهاونيش بيا يا....

التفتت إليه بزجر طفولي:

-ماتقوليش يا حبيبي دي!!

ضحك بخفة:

-كنت هقول يا سيرا!! بس لو عايزة اقولها عادي خالص معنديش مانع، وعندي حاجات كتير تانية ممكن تبسطك!

تسارعت دقات قلبها، ولاحظت وقوفه أمام المشفى الذي يرقد به والدها، وقبل أن تخرج من السيارة، قالت بتحذير قوي وشرس:

-مش عايزاك تقولي أي حاجة منك، لأني متأكدة إنك قولتها للبنات اللي انت تعرفهم بعدد شعر راسك.

رد عليها بنبرة عميقة تحمل غموضًا:

-ماقولتش لحد يا حبيبي قبل كده، على فكرة!!

اقترب منها ببطء، ينثر جاذبيته الخاطفة في الأجواء المحيطة بهما، فاهتزت وتوترت ملامحها، بينما نبضات قلبها ترتفع بعنف، همس بنبرة رخيمة زعزعت ثباتها:

-ولا استحملت واحدة قبل كده زي ما بستحملك!

-يعني إيه؟

ابتلعت ريقها بصعوبة، وتوردت وجنتاها، فهمست بخجل لم تستطع إخفاءه، اقترب منها أكثر، حتى شعرت بأنفاسه تلامس بشرتها:

-يعني ماتتهوريش تاني، وخلينا نستمتع بخطوبتنا!!

داعبت الكلمات طرف لسانها، كانت على وشك أن تُطلقها وتُنهي الأمر برمته، أن تُخبره برفضها له، وتُعلن رغبتها الصريحة في الانفصال، لكن ثقل نظراته المشتعلة وهي تحاصرها، وتلتهم تفاصيلها بعينيه، قيد لسانها وكبل شجاعتها، حاولت إقناع نفسها بتأجيل القرار، متذرعة بأن الوقت غير مناسب، وأن عليها الانتظار حتى يستعيد والدها صحته.

فجأة، انتفضت جسدها الهش على وقع ضربة قوية على زجاج السيارة بجانبها، صرخة مكتومة ترددت في صدرها قبل أن تلتفت بسرعة، فترى "عبود" يُدخل رأسه إلى داخل السيارة بعد أن أنزل "يزن" الزجاج بحركة سريعة.

قال "عبود" بنبرة تتأرجح بين الدهشة والفضول:

-بتقولوا إيه ده كله؟

انعقد جبين "يزن" بغضب مكتوم، وزفر الهواء من بين شفتيه بضيق، ثم همس بصوت خفيض، لكنه مشحون بالغيظ:

-إخواتك دول ولا مخبرين أمن دولة!

جالت عيناه بين وجه "سيرا" الذي اشتعل بلون الخجل، ووجه "عبود" الذي ارتسمت عليه علامات الاستفهام، كان الموقف مشحونًا، وكأن الهواء بينهما قد تشبع بالكهرباء، ينتظر فقط شرارة صغيرة لتشتعل النيران.

حاولت "سيرا" السيطرة على الموقف، فابتسمت بارتباك وقالت:

-مفيش حاجة يا عبود، كنا بنتكلم عادي.

لكن "عبود" لم يُخدع بسهولة، ضيق عينيه بنظرة متفحصة، ثم عاد يُثبت نظره على "يزن" وكأن بينهما حديثًا غير منطوق.

رفع "يزن" حاجبه باستخفاف، ثم قال ببرود جليدي:

-مالك يا عبود، بتبص كده ليه يا حبيبي؟

ابتسم "عبود" ابتسامة صغيرة، لكنها تحمل وراءها ألف معنى، ثم قال:

-ولا حاجة، بس يعني طولتوا أوي هنا... قولت أجي أشوف في إيه.

ارتفعت وتيرة التنفس لدى "سيرا"، شعرت وكأنها عالقة بين فكي كماشة، طرفاها "يزن" بنظراته المشتعلة، و"عبود" بحدسه المتيقظ.

أطلق "يزن" ضحكة قصيرة، لكنها خلت من المرح، وقال:

-كنا بنتكلم عن شوية حاجات شخصية... مش لازم تعرف كل حاجة يا عبود!

رد "عبود" ببرود مماثل:

-لو الحاجة دي تخص أختي، يبقى لازم أعرف.

ساد الصمت لثوانٍ بدت وكأنها دهور، ثم فجأة تحركت "سيرا" بسرعة وفتحت الباب، قائلة:

-يلا يا عبود، نطمن على بابا.

تابعها "عبود" بعينيه وهي تخرج من السيارة، ثم استدار نحو "يزن" وقال بصوت منخفض لكنه مثقل بالتحذير:

-خليك فاكر إن سيرا مش لوحدها، ولو لمحت حاجة غلط، هتعرف إن أنا وقاسم مش مجرد مخبرين... إحنا بنعرف ناخد حقنا كويس أوي لو حد جه على أختي!

لم ينتظر الرد، أغلق الباب بخفة، وتبع "سيرا" إلى داخل المستشفى.

ظل "يزن" في مكانه، يراقب ابتعادهم من خلال الزجاج الأمامي للسيارة، عض على شفتيه، حتى كاد طعم الدماء يتسلل إلى فمه، اشتعلت في عينيه نار خفية، وكأنها تتوعد بما هو قادم.

كانت المعركة قد بدأت، لكن ساحة الحرب لم تتضح معالمها بعد ومن هم أطرافها!!
                           ***
بعد مرور عدة ساعات..

في منزل والد يسر...

جلس نوح بالخارج، يضع كلتا يديه فوق رأسه، غارقًا في بحرٍ من الهموم، فيما تسرب العجز إلى أوصاله، تلاحقت في ذهنه صورٌ مظلمة، يتخيل صغيرته الرقيقة "لينا" في قبضة أشخاص غرباء، قلوبهم خالية من الرحمة، وأفكاره تشتعل بمشاهد التعذيب والترهيب التي قد تواجهها، بل راح عقله يجرفه إلى ما هو أبعد، إلى أشد الزوايا ظلمةً وإيلامًا.

دون أن يدرك، دفع المقعد الخشبي أمامه بمقدمة ساقه، فانقلب على الأرض مُحدثًا صوتًا مكتومًا، كادت دمعة أن تخونه، أن تنزلق فوق وجنته، لكنه مسحها سريعًا عندما اقتربت منه والدة يسر، قائلة بأسف:

-معلش يابني، أنا السبب....

رفع نوح عينيه الحمراوين إليها، قاطعًا كلماتها بصوت مبحوح يحمل أثقالًا من الانفعالات المكتومة:

-ما تقوليش حاجة يا حجة أمل، ده كان مكتوب...

جلست أمامه، تضع يدها أسفل ذقنها بحزن، عيناها معلقتان بالساعة المعلقة على الحائط، وكأن عقاربها تخطو فوق جمرٍ، تتمنى أن يُسرع الوقت، أن تعود صغيرة العائلة إلى دفء أحضانهم.

فجأة، اخترق صراخ يسر جدران الغرفة، ليُدرك نوح أن انهيارها قد اقترب مجددًا، ولا يعلم كم مرة انهارت في هذا اليوم وحده!

اندفع إلى داخل الغرفة، تحركه غريزته الحامية، ورغبته الجامحة في مساندتها، أغلق الباب خلفه دون وعي، واقترب من فراشها حيث كانت تبكي بصوتٍ عالٍ، تمتمت ببعض الكلمات الخافتة المتداخلة، لم يستطع تمييز شيء منها سوى اسم ابنتهما "لينا".

اقترب منها بحنان، مد يده ليربت على خصلات شعرها، يعيد ترتيبها إلى الخلف وهو يحتضنها أسفل ذراعه:

-اهدي يا يسر، اهدي وحاولي تمسكي أعصابك، عشان البيبي!

لكن... أي طفل يتحدث عنه؟ ذلك الصغير الذي يسكن أحشائها دون أن تشعر به، أهو حي أم لا؟ فالأحزان والمشاكل التي عاشتها في الأيام السابقة أنستها تمامًا أنها حامل! لم تكن تهتم بصحتها، ولم تشعر بأي من أعراض الحمل المعتادة، إلى هذا الحد تناست وتجاوزت مفاجأة حملها، لم تفكر به ولم تشعر بوجوده، حتى أنها لا تعرف في أي شهرٍ هي!

شعرت بيده تلامس بطنها، كان بارزًا قليلاً... أو ربما هكذا خُيل لها، أم أن ضعفها الشديد جعلها لا تُدرك أن هناك حياةً صغيرة تنمو داخل أحشائها؟

-يسر.

رفعت عينيها إليه، مزيج من الذعر والتوجس يكسو ملامحها، همست بصوتٍ متحشرج:

-هو أنا مش هشوفها تاني؟!

أغمض نوح عينيه بقوة، وكأنّه يُصارع وحشًا شرسًا يُحاول اقتلاع كل شيء حوله، لمجرد تخيّله فكرة عدم رؤية "لينا" مجددًا!

-لا طبعًا هترجع، أنا مش هسكت، وهنزل على النت حالاً مكافأة بمبلغ كبير لأي حد شافها أو يدلني على مكانها.

تمتمت بتفكيرٍ مشوش:

-مش ممكن الناس تستغلك ومحدش يكون شافها؟

ردّ نوح بثقة، وعزيمة لا تلين:

-أنا اعمل أي حاجة في سبيل إن بنتي تبقى في حضني تاني، حتى لو بعت اللي ورايا واللي قدامي!

عادت بنظرها إلى السقف، تغرق في شرودها، ثم التفتت إليه بتفكير، تبحث عن أي خيط يقودهم إلى صغيرتهم:

-نوح هو انت ليك أعداء؟

هز رأسه نفيًا، ويداه لا تزالان فوق بطنها، وكأنه يستمد الأمان من ذلك الصغير الذي لا يعي شيئًا، ربما لم يتكون بعد داخل أحشاء:

-لا، ماليش وفي حالي وانتي عارفة كده كويس!!

ترددت قبل أن تُلقي بما يعتمر داخلها، همست بحذر:

-مش...مش ممكن تكون واحدة عايزة تنتقم منك ..

نظر إليها نظرة معاتبة، وكأنها تُلقي كرة الاتهام في ملعبه، رغم أنه لم يُخطئ:

-لما اكون بعشم حد يا يسر، بس أنا قولتلك وبقولهالك المرة الألف أنا معنديش استعداد أبدًا اغضب ربنا، لو عايز حاجة بعملها في النور وعلنًا.

رن هاتفه فجأة، ارتجف قلبه، كان اتصالاً من رقم مجهول، أجاب فورًا واللهفة تحرق صوته، جاءه صوت رجولي متحشرج، بدا وكأنه يُغيّر نبرته عمدًا:

-دكتور نوح؟

-أيوه.

-طيب، بنتك أمانة عندنا، عايزاها تدفع خمسة مليون جنية، مش عايزاها تجار الأعضاء كتير ومحتاجين جثة صغيرة يلعبوا بيها.

شعر نوح وكأن قلبه توقف، وأنفاسه تتسارع كأنها تتسابق مع عقارب الساعة، بين الرجاء والخوف، بين الأمل واليأس، وقف الزمن عند تلك الكلمات التي حطمت ما تبقى من روحه. 
لم يُستدل بعد على مكان المجرم"

آلام مميتة تستوطن عقله وهو يفكر مليًا في إيجاد حل للوصول إلى ابنته، حتى الشرطة لم تنجح في العثور عليها، انتظر بلهفة اتصال الخاطف كي يُخبره بموافقته، مستعدًا لإعطائه المبلغ الذي يطلبه بعد أن قرر بيع شقتين من ممتلكاته وسحب جميع أمواله من البنك، لم يكن المال يعني له شيئًا؛ الأهم هو عودة ابنته سالمة، حتى لو تضاعف المبلغ وعاد هو إلى نقطة الصفر من جديد، لن يهمه كل ذلك أمام نظرة ابنته إليه وصوتها الناعم وهي تخبره كم تحبه!

انزلقت دمعة حارقة من عينيه الذابلتين، بعد أن كره شعور العجز الذي فرض عليه حصاره، وكأن أمر الإفراج عنها أصبح مستحيلًا.

مر يومان قضاهما في الشوارع والطرقات، يتنقل بسيارته هنا وهناك، يستنجد بأي شخص قد يساعده في الوصول إلى ابنته، ثم يعود أدراجه إلى منزل والد "يسر" ليطمئن عليها، بعد أن أصابها انهيار عصبي وأصبحت المهدئات والإبر الوسيلة الوحيدة لتهدئتها.

حاول والد "يسر" كثيرًا مساعدته ودفع نصف المبلغ، إلا أنه رفض رفضًا قاطعًا وأصر على موقفه، لكنه لن ينسى أبدًا محاولته وإلحاحه على المساعدة، على عكس عائلته التي تعاملت مع أمر خطف ابنته وكأنه شيء عادي، اكتفوا فقط بالاتصالات كالغرباء، ولم يتحرك أحد منهم لمساعدته، فشعر بوحدة شديدة تحاصره وكأن كأس الخذلان لا ينتهي.

فرك جبينه بقوة نتيجة للإرهاق الذي يشعر به، فوقف وقال بنبرة منهكة وهو ينظر إلى غرفة "يسر" بحيرة:

-أنا مضطر اروح البيت اغير هدومي، لو حصل حاجة بلغوني.

أومأ الحاج "فاضل" بإيماءة بسيطة، وقال بصوت واهن حزين:

-روح وبردو لو حد كلمك بلغنا.

حرك رأسه إيجابًا وغادر إلى منزله، وأثناء قيادته، وصلته العديد من الرسائل المرسلة من قبل أهله وبعض المعارف، لكنه لم يهتم، حتى باتصالات والدته المتكررة، لم تكن لديه طاقة كافية لتحمل برودهم الجليدي في مصيبته، وهو في محنهم يقف كالسد المنيع!

وصل بعد عدة دقائق إلى بنايته، وتعجب من وجود "حسناء" تقف أسفل البناية تتحدث مع حارسها، أغلق سيارته واقترب منها وهو يقول بقلق:

-حسناء بتعملي إيه هنا؟

التفتت إليه، والقلق واللهفة يمتزجان في ملامح وجهها، لتنسج لوحة معبرة عن مشاعرها المتضاربة:

-دكتور نوح، أخيرًا ظهرت.

ابتعدا عن الحارس الذي بدا عليه الفضول، إلا أن نوح قطع عليه مهمة التنصت وسار بعيدًا، ليقف أمام سيارته، هناك، تحدثت حسناء بصوت حزين، استطاعت بحرفية متقنة أن ترسم إماراته على وجهها:

-ان شاء الله ترجعلك، والله يا دكتور انت واجع قلبي اوي، وليل ونهار بفكر فيك، واتصلت كتير بس انت ماردتش عليا، فقلقتني اكتر، وكنت باجي هنا كل يوم أسال البواب عليك رجعت ولا لا.

كانت تدرك جيدًا أنه لن يُلقي بالًا لما تُخفيه كلماتها بين السطور، وسط دوامة مصيبته الكبرى، لكنها لن تفوت فرصة إظهار وقوفها بجانبه، وإبراز رغبتها الصادقة في مساعدته.

أجابها نوح بصوت خافت، وقد أثقلته الهموم:

-مكنتيش تتعبي نفسك، أنا كنت هرد عليكي، بس لما أكون قادر اتكلم.

رمشت بأهدابها، وسألته بنعومة، ونغمات الشجن تتسلل إلى صوتها:

-لسه بردو مش عارفين توصلوا لحاجة؟

أومأ برأسه بحزن، وبدأ يروي لها ما حدث في اليومين الماضيين، لم يفهم لماذا شعر برغبة في الحديث معها تحديدًا، ربما لأن زوجته، شريكته في المصيبة، كانت غارقة في انهيار نفسي يفقدها التركيز، وربما لشعوره بوحدة قاتلة، رغم وجود يزن ودعمه المتواصل، أو ربما لأنه كان يفتقد حنانًا من نوع خاص، ذلك الحنان الذي كان يرجوه من والدته أو شقيقاته.

كل ما كان يعرفه أنه شعر براحة غريبة وهو يُفرج عن سجون صمته.

-يالهوي تجارة أعضاء إيه!! لا لا لا ان شاء الله لينا ترجعلنا بخير، والشرطة تعرف تجيبهم.

همس بضعف، وقد خفض وجهه إلى الأرض:

-ياريت، أنا عندي استعداد أعمل أي حاجة في سبيل إن إنقذ بنتي.

ساد الصمت بينهما لفترة قصيرة، قبل أن تقطعه هي بنبرة مترددة، وعيناها تتفحصان وجه نوح الذي يموج بأمواج الحزن العاتية:

-أنا عندي فكرة بس مش عارفة أنت هتوافق ولا لا؟!

رفع بصره نحوها، يتعلق بأي أمل، حتى وإن كان واهيًا:

-فكرة إيه؟

مدت يدها بجرأة، تمسك بكفه، وكأنها تحاول أن تأسره بأساليبها الملتوية لتجذب كل انتباهه إليها، شعرت أنه بات يلمس مدى خوفها عليه وعلى مستقبل ابنته.

-اوعدني الاول إنك تفكر ومتأذيش خالي!

أومأ برأسه إيجابًا، وقال بلهفة:

-اوعدك بس قولي.

تنفست بعمق قبل أن تبوح:

-خالي كان زمان له في المشاكل وكده، يعني...من الآخر كان صايع وعارف ناس كتير مجرمين، بس هو اعتزل وتاب الحمد لله، ممكن بقى يساعدك في محنتك عن طريق حبايبه ويقدروا ان شاء الله يوصلوا لبنتك.

توقفت للحظة قبل أن تستطرد:

-بس لو وافقت هتضطر تمشي غير قانوني، والشرطة ماتعرفش عشان خالي ميدخلش في سين وجيم، حابب أنا معاك واخدمك برموش عنيا، مش حابب ولا كأنك سمعت مني حاجة، كل القصد بحاول اساعدك عشان انت حد غالي عليا اوي.

ابتسم نوح ابتسامة باهتة، وقال دون تردد:

-موافق طبعًا، وماتقلقيش مش هتكلم وده وعد، لو بنتي رجعت أنا هعملك أي حاجة انتي عايزاها، يلا بينا. 
                           ****

ذهب نوح برفقة حسناء إلى منطقة شعبية تعج بالحياة والصخب، حيث المنازل المتراصة والطرق الضيقة التي تكاد لا تتسع لسيارة واحدة، أشارت حسناء إلى منزلٍ شبه متهالك بنبرة خجولة، تحمل في طياتها مزيجًا من الحرج والتردد:

-ده بيتي يا دكتور طبعًا مش قد المقام.

أمال نوح رأسه نافيًا بكلمات تحمل الصدق والبساطة:

-ماتقوليش كده، أنا يعني ماتولدتش في بُقي معلقة دهب.

دخلا معًا إلى المنزل، وما إن وطأت أقدامهما عتبة الشقة حتى أبصر نوح سيدةً تخرج مسرعة، تضم إلى صدرها شيئًا صغيرًا، تتمتم بعبارات غامضة، وكأنها تهمس بأسرار لا يُفترض لأحد سماعها.

ارتبكت حسناء، وقالت بحرج بادٍ على ملامحها:

-دي صاحبة امي وجارتنا اتفضل.

تقدمت حسناء بخطوات مترددة، منادية والدتها بصوت حاولت أن تجعله طبيعيًا:

-ماما أنا معايا دكتور نوح.

خرجت من إحدى الغرف سيدة قصيرة القامة، تضع وشاحًا أسود شفافًا على رأسها، وقد كحلت عينيها بإتقان يُخفي وراءه دهاءً غير ظاهر، زينت أنفها بحلقة فضية، وعلى ذقنها وشم صغير أعطاها هيئة غريبة.

لكن ما أزعج نوح حقًا لم يكن مظهرها فحسب، بل الدخان الكثيف الذي ملأ المكان، وبرائحته النفاذة التي ضربت أنفه كالسهم، جعلته يسعل بشدة، محاولًا التقاط أنفاسه التي خانته تحت وطأة الحساسية التي يعاني منها.

قالت الأم بضيق، وهي تنظر إلى ابنتها بعينين لامعاتين بشيء من التوبيخ:

-يا خبر مالك يا دكتور؟

خرج صوت نوح متحشرجًا، وقد بدا عليه الإعياء:

-مفيش عندي حساسية صدر ومابقدرش استحمل الدخان والبخور.

ركضت حسناء نحو النوافذ، فتحتها على عجل، لتتيح للهواء النقي اختراق المكان، معتذرة بخجل:

-اسفة يا دكتور، امي أصلها بتعشق البخور قد عنيها.

ثم اقتربت من والدتها، وهمست بلهجة تحمل في طياتها تحذيرًا واضحًا:

-ماشي يا ماما، ده أنا منبه عليكي، بلاش شعوذة النهاردة.

تأففت الأم باستياء وهمست بصوت خافت:

-دلوقتي بلاش شعوذة!!، ما الشعوذة دي اللي جابته هنا.

رغم أن نوح انتبه لهمسهما، إلا أنها تداركت الأمر سريعًا، وابتسمت له بابتسامة متكلفة، مرحبة بنبرة تحمل زيف الحفاوة:

-يا أهلاً بالباشا نورت المنطقة تمًا.

-اتفضل يا دكتور في الصالون وهتصل على خالي يجي حالاً.

جلس نوح في أقرب مقعد، ورأسه مثقل بالهموم والأفكار المتشابكة، كان عقله يترنح بين الشك واليقين، بين الصواب والخطأ، يعلم جيدًا أن الطريق الذي يسلكه ليس بالأكثر استقامة، لكنه كان مستعدًا للمضي فيه حتى النهاية من أجل ابنته المخطوفة.

حاولت الأم التحدث إليه، لكن إجاباته كانت مقتضبة، تحمل برودًا ناتجًا عن الإرهاق والتفكير المضني، أما حسناء فقد انزوت في المطبخ، تعد الشاي، ويدها تتسلل إلى زجاجة صغيرة، تسكب منها بضع قطرات في الكوب المخصص لنوح، وحولها تحوم نوايا غامضة.

في هذه الأثناء، دلف إلى المنزل خال حسناء، رجل يدعى مرسي، بصوت جهوري يملأ المكان:

-بت يا حسناء أنا جيت.

حين وقع بصره على نوح بثيابه الأنيقة وملامحه المتعبة، حك حنجرته بخشونة قائلاً:

-أهلا يا بيه، معلش يعني أنا متعود ادخل بيت اختي كده.

مد نوح يده لمصافحته، قائلاً بجدية تفوق قدرته على التركيز:

-أنا نوح وبنتي....

قاطعه مرسي بلا تردد، وكأن الحديث عن المصائب جزء من يومياته:

-المخطوفة لامؤاخذة، البت حسناء قالتلي كل حاجة على التليفون...

في تلك اللحظة، خرجت حسناء من المطبخ، تحمل صينية فضية واسعة، عليها أكواب الشاي، وضعتها أمامهم، وما إن مد مرسي يده لالتقاط كوب حتى هتفت بحزم:

-دي بتاعت دكتور نوح يا خالي.

تراجع مرسي على مضض، بينما تحولت نبرة حسناء إلى رقة مبالغ فيها:

-اتفضل يا دكتور، الشاي هيظبطك، وبعدين نحكي لخالي كل حاجة بالتفاصيل ونشوف هيقدر يساعدك ازاي.

التقط نوح الكوب، ورشف منه رغم أنه لم يكن يرغب بشيء سوى الإسراع في الحديث عن ابنته، شرب الشاي وهو يسرد لمرسي تفاصيل الخطف والفدية المطلوبة، لكن مرسي اعترض بنبرة خشنة، وكلماته أشبه بسكين تقطع الهواء:

-يا ولاد الـ***خمسة مليون مرة واحدة.!!! والله يا بيه أنا بطلت المهنة الـ**** دي من زمان، اه يعني عندي عيالي عايز اربيهم وكل شوية داخل السجن لامؤاخذة، بس أخر مرة حلفت ما أنا داخل في حوارات عوء تاني لامؤاخذة، بس عشان خاطر البت حسناء أم ***** أنا موافق وهساعدك وهجبلك قرار العيال دي ولاد الـ**** لامؤاخذة.

كانت حسناء تنظر إليه بحنق، غير قادرة على إخفاء ضيقها من فظاظته، فسألته بنبرة مشوبة بالقلق:

-يعني هتعمل إيه يا خالي؟ طمن الدكتور.

رفع مرسي حاجبيه بتفاخر وقال:

-يا بت أنا اه سيبت المهنة بس ألف واحد يتمنى يخدمني، وكار الخطف ده لامؤاخذة أنا عارفه كله بس الموضوع عايز يوم او اتنين اسأل واشوفلك البت عند كام واحد.

-تمام أنا معاك يا حاج مرسي....

حاول نوح الرد، لكن جفونه أصبحت أثقل من أن ترفع، وصوته خفت حتى تلاشى، في لحظات قليلة، سقط في نوم عميق، كأنما خدرته يد خفية.

-حاج!!! يسمع منك بوقك ربنا، أنا قايم لامؤاخذة القعدة شكلها ناشفة، سلام يا حسناء سلام يا اختي، اشتاتًا اشتوت.

غادر مرسي بصوته الجهور وطوله الفارع، بينما التفتت الأم إلى ابنتها بانزعاج:

-وهتستفادي إيه من كده يا موكوسة؟

مسدت يسر على شعر نوح، وعيناها تلمعان بوميض شيطاني:

-كتير...كتير اوي وهتعرفي لما تليفون يرن.

تحركت الأم عائدة إلى غرفتها المشبعة بالدخان والأسرار، لكن يسر أوقفتها بنبرة حادة:

-حذري أخوكي لو مالمش لسانه وبطل شتايم فيا همرمطه قدام التخين!

توقفت الأم عند الباب، نظرتها تحمل تحديًا عتيقًا:

-ده بدل ما تحمدي ربنا على أنه يوافق يساعدك، وبعدين احنا عيلة لسانا لامؤاخذة زفر وبيحب الشتيمة! يلا اصلهم بينادوني.

غابت الأم خلف الستائر الثقيلة، بينما جلست حسناء قرب نوح النائم، تتربص بتلك اللحظة التي ستغير بها حياتها إلى الأبد.

                              ****

حاول يزن التقرب من سيرا طوال فترة وجودهما في المستشفى بجانب والدها، إلا أنها تهربت منه، منشغلة بعائلتها التي كانت تعم الرواق بحضورها الصاخب، حتى بدأ الأطباء والممرضون يتذمرون من تلك الضوضاء، لكن لا حياة لمن تنادي.

جلس يزن في المنتصف بين الأخوين "عبود" و"قاسم"، وكأنه أسير لا يقوى حتى على النظر إلى سيرا، بانتظار أن يُفرج عنه من هذا الموقف المربك، ولم تلبث لحظة القرار أن حُسمت، عندما لمحوا "فايق" يسير في الرواق بوجهٍ يحمل علامات استنفار، ممزوجة بسخرية مبطنة. 
حينها، كان يزن أول المندفعين، يسارع لحماية سيرا، مانعًا إياها من التقدم، فيما تراجعت الأخيرة خطوتين إلى الخلف، تراقب المشهد السينمائي، وقد تجمعت عائلتها بأكملها لتقف حاجزًا بشريًا في وجه فايق، الذي قال بنبرة ساخرة:

-في إيه يا جماعة اهدوا، أنا مش جاي اتخانق ولا اعمل مشاكل، ده أنا جاي لأجل عيون سيرا.

رد يزن، بنبرة خشنة ووجه تتوهج منه علامات الغضب، ممسكًا بتلابيب قميص فايق ويدفعه بعنف نحو الحائط:

-نعم يا روح أمك.....

للمرة الثانية، يظهر الجانب المخيف من يزن؛ ذاك الذي لا يستطيع كبح جماح انفعالاته، بدا كوحش متهور، وانهال على فايق بسيلٍ من الشتائم القذرة، فيما وقف الحاضرون في صمت، بعضهم يستمتع بالمشهد ويشمت في فايق، والبعض الآخر يخشى تصاعد الأحداث نحو الأسوأ، أما هي "سيرا" فتأرجحت بين وهج السعادة لغيرته الواضحة عليها، وخوفها من انحدار الموقف إلى هاوية لا تُحمد عقباها.

قال فايق ساخرًا، كمن يصب الزيت على النار:

-اهدى يا شجيع السيما ولا هو أي لقطة وخلاص!!

رد يزن بحدة ونبرة صلبة تقطر احتقارًا:

-تعرف يالا عبود وقاسم غلطوا لما سابوك فيك نفس، المفروض اللي زيك يتقطع نفسه من الدنيا!! ده أنا مشوفتش في بجاحتك!

تدخل الحاج صافي، محاولًا احتواء الموقف بهدوئه المعهود، الذي بدا مستفزًا لحكمت التي كانت تتمنى لو يتفاقم الوضع أكثر، ليُشبَع فايق ضربًا من يزن، الذي لن يناله أي عقاب، فهي ترى في شقيقه الضابط رئيس جمهورية، لا يُمس ولا يُعاب!

قال الحاج صافي بنبرة هادئة:

-يا جماعة اهدوا مينفعش كده، الحاج جوه تعبان ولو وصلوا الخبر هيتعب أكتر.

عدل فايق من سترته، متجاهلًا توتر الموقف، وقال بهدوء وهو يثبت نظره على سيرا التي تراجعت أكثر خلف يزن، متوارية عن الأنظار:

-اللي خلاني اتنازل عن المحضر رغم إن عبود وقاسم كانوا هيتأذوا جامد فيها هو الحج حسني لما عرفت إنه هو وقع واهل المنطقة كانوا بيقولوا إنه مات.

شهقت حكمت بعنف، وهي تصيح بصوتٍ عالٍ أزعج الحاضرين:

-ان شالله أنت وأمك وأهلك كلهم يا بارد ياللي معندكش بربع جنية كرامة يا اللي....

قاطعتها كريمة برجاء حار وهي تحاول تهدئتها:

-اهدي يا أبلة أبوس ايدك، اهدي ميستاهلش تتعصبي أصلاً، ده ولا حاجة.

رفع فايق أحد حاجبيه متصنعًا الدهشة، وراح يُمرر كلماته السامة بين الجميع، حتى وصلت لعقل سيرا كصاعقة كهربية، جعلتها تتجمد في مكانها، مشدوهة لا تقوى على الحركة:

-حقيقي أنتوا خسارة فيكم المعروف، بس أنا لسه عند كلمتي واللي عملته ده كله عشان خاطرها، أنا متأكد إنها غيركم وإنكوا غصبتوها على الجوازة دي، 
اللي بينا مكنش مجرد حكاية بسيطة عشان اصدقكم وأكدبها.

ثبت يزن في مكانه، لم يتحرك، ولم يلتفت إلى سيرا، على عكس عائلتها التي انقلبت جميعها تنظر إليها بصدمة وشك قاتل، وفي الحقيقة، لم يتمن فايق شيئًا بقدر ما تمنى أن يفقد يزن هدوءه، وأن تتزعزع ثقته بها، وقد نجح بالفعل في زرع الشك في قلوب عائلتها، لكنه لم يتمكن من خلخلة ثقة يزن، الذي بدا أكثر ثباتًا.

أما هي، فقد كان رد فعلها مشلولًا؛ تشابكت حبال الصدمة حول لسانها، ومنعت عقلها من نطق كلمة، وكان صمتها في نظر الجميع اعترافًا، باستثناء يزن، فهو وحده كان يعلم أنها تعاني من بطء في ردود الأفعال، وقد أدرك ذلك من خلال تعامله الدقيق معها، كانت له قدرة خارقة على قراءة نقاط ضعف وقوة كل فتاة، حتى بات مَلكًا في تفسير أدق مكنوناتها.

أدرك يزن أنها تحاول الانفصال عنه بشتى الطرق، لكنه كان واثقًا أن "تلك الحشرة" كما أسماه في داخله  لن تكون سبب الفراق، السبب في نظره أعمق وأقوى، وهو عازم على كشفه ومحو آثاره بطريقته الخاصة وخلطته السرية، ثم كسب إعجابها... أو ربما حبها، لم يقرر بعد، لكنه في كل الأحوال ينوي الانسحاب لاحقًا من قصرها، فغروره كشاب وسيم قادر على كسب قلوب الفتيات بغمزة، يدفعه لأن يحظى بحب هذه الأميرة المغرورة!

قال قاسم فجأة، بصوتٍ عالٍ كسر الصمت:

-سيرا الكلام ده بجد؟

كانت كلماته أشبه بصفعة، لكنها لم ترد، فقط دموعها تساقطت متتابعة، وقبل أن تنطق، قاطعها يزن بكلماته الحادة:

-قاسم، متديش ودانك لعيل سماوي زي ده، هو باين كده أنت وعبود علمتوا عليه جامد لدرجة إنه جاي يقول أي كلام لامؤاخذة كلام.....

ثم اقترب من فايق، وهمس له ببرود ناري:

-كلام نسوان فاضية !!

ابتلع فايق إهانته وهو يتصنع الابتسام، بينما الغليان ينهش داخله، والكدمات التي تركها عبود وقاسم على وجهه بدت وكأنها تزدهر، تفضح خيبته بينما انسحب من حيث أتى، مكتفيًا بنظرة ساخرة متوعدة، قال على إثرها:

-أنا عارف إن الصدمة تعمل أكتر من كده، الف سلامة على الحاج.

وما إن اختفى فايق عن الرواق حتى التفت يزن إلى "سيرا"، يوجه حديثه للجميع بابتسامة مهذبة، توارت خلفها نبرة حاسمة:

-أنا هروح سيرا عشان شكلها تعبت، حد عايز يروح يا جماعة وجودكم هنا مالوش أي لزمة، بالعكس المستشفى ممكن تعاند وتمنع الزيارة عن الحج.

كان يتحدث بأريحية شديدة، جعلت الحضور يلوذون بالصمت، وكأن كلماته أصابت في مقتل، أما سيرا فكان وقوفها بجانبه، وكأنها تعلن بصمتها موافقتها التامة على حديثه، بل وتؤكد حاجتها الماسة للابتعاد عن دائرة الشكوك التي أحاطت بها، مما قطع الطريق على أي جدال.

قال قاسم بخشونة، محاولًا الاحتفاظ ببعض الهيبة وسط هذا الصمت المفروض:

-احنا هنروح بطريقتنا، خد بعضك انت و...

لكن حكمت التي كانت حتى تلك اللحظة تراقب بصمت، ألقت بحقيبتها فوق رأسه فجأة، ثم انفجرت فيه بعنف طفيف، يحمل بين طياته قهرًا وغضبًا:

-اسكت انت يا قليل الأدب، ده أنا هربيك وهاعلمك الأدب، بتشك في أختك، عشان كلمتين من عيل زي ده.

تأوه قاسم، مستندًا إلى عبود الذي سرعان ما تراجع خوفًا من رد فعل "أبلة حكمت" العنيف:

-اه يا أبلة حاسبي، كنتي هتفتحي دماغي وأنا ورايا ماتش مهم.

التفتت حكمت إلى شقيقاتها الفتيات، تشير إليهن بنظرة آمرة:

-لما تروحوا تلموا كل أطقم الكرة والشرابات والكور كمان عشان اولعها فيهم، عشان السافل اللي لسه شنبه مخططش في وشه يشك في أخته.

قالت فريال محاولة تهدئة الموقف بصوت متردد:

-خلاص يا  أبلة حكمت، صلي على النبي واهدي، قاسم مكنش يقصد.

لكن صافي، بطبيعته الهادئة، تدخل مجددًا، محاولًا تهدئة العاصفة:

-يعني يا حكمت، الموضوع ما يستاهلش...

إلا أن تدخله، على غير المتوقع أثار استياء حكمت التي مالت نحوه قائلة بسخط حقيقي:

-يا أخويا التلاجة اللي نزلت عليك دي كام قدم لامؤاخذة، ولا أنت بتاخد مهدئات يا صافي، ما هو يا شكلك كده يا تجلطني يا تجلطني.

رفع صافي حاجبه مندهشًا من هجومها، لكنه آثر الصمت، مكتفيًا بضربة كف على كف، في استسلام هادئ، ثم ارتفعت نبرة حكمت مرة أخرى آمرة، لا تقبل نقاشًا:

-طول ما بابا في المستشفى الكلمة كلمتي والرأي رأيي، وكلكوا تسمعوا كلامي، ومش عايزة أي اعتراض....

ثم التفتت إلى سيرا، بابتسامة حنونة:

-روحي مع خطيبك يلا، واحنا جايين وراكي.

رفعت حاجبها بحدة، نظرة واحدة منها كانت كفيلة بإسكات الجميع، أما سيرا فاقتربت منها، تحدثها بصوت خفيض، والدموع تتجمع في مقلتيها من جديد:

-هو أنتي فعلا مش شاكة فيا زيهم، ولا بتعملي كده عشان عايزاني اقرب من يزن.

هزت حكمت رأسها بنبرة مزيج من الصدق والواقعية:

-لا طبعًا يا بت أنا أشك فيكي، ما الموضوع كله على يدي، بس أنا كان ليا عتاب عليكي هقوله بعدين، يلا روحي مع خطيبك.

توقفت سيرا وسألتها بفضول حزين:

-عتاب إيه؟!

أجابت حكمت بنبرة ساخرة:

-ممسكتيش جذمتك ليه ونزلتي فوق راسه ضرب؟!، يا بت أنا مش متعودة عليكي ضعيفة كده.

نظرت سيرا إلى غرفة والدها بوجع لا تخطئه العين، ففهمت حكمت على الفور سر صمتها، وسكنت في قلبها غصة من خوف لم تعترف به، فهي الأكثر فهمًا لجموح شخصية سيرا، لكن الحزن هذه المرة كان أقوى من طبعها العنيد.

تركتهم سيرا وسارت بجانب يزن في صمتٍ ثقيل، تسير بخطوات مترددة، لا تدري ما تفعل، هل تشكره على موقفه النبيل، أم تواصل صمتها؟ لكن حبل الصمت انقطع حين فتح يزن باب سيارته لها، فأخفضت صوتها وهمست بحزن:

-شكرًا..

جلست داخل السيارة تحتضن حقيبتها إلى صدرها، في وضعية دفاعية، كأنها تستمد منها دفئًا مفقودًا، لاحظ يزن الأمر، فأشار إليها بغمزة مازحة:

-هي الشنطة دي فيها حاجة مهمة اوي كده.

نظرت إليه بعدم فهم، لكنه استمر بنظرته إلى الحقيبة، ثم سألها برفق:

-مالك يا سيرا؟!

وفجأة انهارت، انفجرت باكية كأنها كانت تقاوم سيلًا جارفًا من الألم، بكاءً يشق القلب، شهقات متتالية وكأن أحدًا يجثم على صدرها ويمنع عنها الهواء،
ارتبك يزن لكنه أخفى قلقه وراء قناعه المعتاد من السخرية:

-شوفي أنا مشكتش في كلامه، بس هتخليني أشك بعياطك ده!!

رفعت وجهها إليه، كأنها طفلة تتوسل الحنان، بصوت مبحوح:

-شكرًا يا يزن، أنا متوقعتش إنك تكون نبيل وشهم كده.

ارتسمت على وجهه ملامح الصدمة، ثم ضحك رغمًا عنه، قائلًا:

-ده مدح ولا ذم؟! أنتي عايزة أيه؟!

أدارت وجهها عنه بإحراج، ثم تمتمت:

-عايزة أروح!!

اتسعت عينيه بدهشة، وقال مستنكرًا:

-بتهربي زي العيال الصغيرة يعني؟!

مسحت دموعها سريعًا، تحاول التماسك، وقالت بسخرية خافتة:

-أنا ههرب ليه، ما أنا قاعدة معاك في العربية اهو.

لينت نبرته، وبدت نظرته أعمق وهو يسألها بلطف:

-أمال ليه العياط ده كله؟ اللي أعرفه عنك إن مستحيل تتأثري بكلام الواد ده!

تنهدت من الأعماق، نظرت إليه بعينين غارقتين بالحيرة:

-وليه مستحيل؟ مفيش حاجة مستحيلة... في أوقات بيبقى سهل الإنسان يتأثر، خصوصًا لو كان ضعيف، ومش قادر ياخد قراراته صح.

انعقد حاجباه، وسألها برفق:

-وانتي ضعيفة دلوقتي؟

هزت رأسها ببطء، بينما انهمرت دموعها مجددًا، ثم نطقت بصوت يكاد يُسمع:

-أنا في أضعف حالاتي... بابا تعبان وحاسة إن ضهري مكسور، حاسة إني تايهة في صحرا كبيرة ملهاش أول من آخر، وكل ما أقول بس هو ده الصح، ألاقي نفسي ضايعة تاني، وكأني بلف في دايرة مبتقفش...

نظر إليها بتمعن، قلبه يضطرب لرؤية هذا الانكسار في مَن اعتاد منها على التمرد والقوة:

-طيب احكيلي، يمكن أقدر أساعدك تاخدي القرار الصح...

هزت رأسها نافية، وقالت بإصرار حزين:

-إنت بالذات ما ينفعش...

أمسك طرف الخيط وسألها بوضوح:

-ليه؟ الموضوع يخصني؟

أجابت مقتضبة وهي تبعد نظرها عنه:

-لا...

رسم علامات التعجب على وجهه وهو يناقشها بهدوء لعله يصل معها إلى حل يرضيها وتفصح عما يجول في خاطرها:

-امال، ليه أنا بالذات ماينفعش طالما بابكي في المستشفى ومن الواضح إن علاقتك بيه قوية، فحاولي تدوري على بديل.

رفعت عينيها المبللتين إليه، ثم همست:

-وهو الأب له بديل يا يزن؟!

سؤالها الموجع، صفعه في أعماقه، احتلت مشاعر الفقد ملامحه، تلك الجراح القديمة التي حاولت الأيام مداواتها، لكنها لم تنجح تمامًا، مرت صور والده في ذهنه كطيف لا يُنسى، ورغم دفء سليم ومحبة زيدان، إلا أن اليُتم له مذاق مر لا يغيب.

وسكن الصمت بينهما، صمت محمل بكل ما لا يُقال، وكل ما لا يمكن قوله، وأعاد تشغيل سيارته متوجهًا إلى منزلها.

                                  ****
ارتفع رنين هاتف "نوح" للمرة الثالثة، بينما جلست "حسناء" على مقربة منه، تتأمله بنظرة مفعمة بالخبث، وابتسامة انتصار ترتسم على شفتيها كمن قبض على فريسة طال انتظارها، كانت تعلم جيدًا مَن المتصل، وكان كل رنين يزيد من لذتها، وكأنها تتغذى على قلق الطرف الآخر.

نظرت إلى الشاشة، ابتسمت بازدراء، ثم قررت أخيرًا أن تُجيب، ليس بدافع الرحمة، بل رغبة في تعميق الوجع، وتثبيت خنجر الشك في قلب زوجته.

وما إن فتحت الخط، حتى جاءها صوت "يسر" باكيًا، متقطعًا، يحمل في نبراته رجاءً يائسًا:

-نوح، أنا قلبي مقبوض أوي وخايفة على لينا، حلمت أحلام وحشة، وكلها قبضت قلبي أكتر ما هو مقبوض...

ردت "حسناء" بنبرة ناعمة، فيها غنج مصطنع ونبرة لئيمة مُتعمدة:

-سلامة قلبك يا مدام...بس للأسف والله نوح في سابع نومه، ومش هيقدر يرد عليكي.

كانت تتلذذ بكل كلمة، تعلم تمامًا ما تصنعه بيسر، وقد جاءها الرد كما توقعت، صوت مصدوم، مزيج من الخوف والدهشة والقلق:

-أنتي مين؟ ونوح فين؟

قالت حسناء، ونبرة النصر تتغلغل في صوتها:

-أنا حسناء، أظن حضرتك تعرفيني كويس... ونوح...

ثم توقفت لحظة، متعمدة ألا تذكر لقبه، لتزيد من حيرتها وتترك المجال لعقل "يسر" ليفسر ما يشاء، ثم تابعت بجملتها القاتلة:

-نوح نايم عندي في البيت... في سابع نومه، مرهق أوي، الصراحة مش هقدر أصحيه... تحبي أبلغه بحاجة مهمة؟ ولا نكتفي بالكوابيس بس؟

قالت كلماتها الأخيرة ببرود قاسٍ، وكأنها تغرس السكين في صدر يسر وتديرها ببطء، بينما كانت ابتسامتها لا تزال عالقة على وجهها، ابتسامة المنتصر حين يشاهد عدوه يتهاوى دون أن يلمسه. 
وصل يزن أمام منزل سيرا بعد أن التزما الصمت، إثر سؤالها الذي أيقظ جراحه القديمة، فغرق في دوامة ذكرياته مع والده، غير أن وجود شخصٍ ما أمام المنزل أيقظه من شروده، وكأنه لمح أخيرًا ما غيّر سيرا، ما جعلها أكثر شراسةً مما كانت عليه سابقًا معه، ارتسمت على شفتيه ابتسامة ساخرة، واستعد لتصفية ذهنه بقليل من العبث.

لم يُعِر سيرا اهتمامًا حين قالت بصوت خفيض موجوع:

-شكرًا يا يزن و...

راقبته لحظاتٍ وهو يطفئ محرك السيارة، ويستعد للنزول، فقالت بسرعة كمن يستدرك أمرًا:

-مالوش لزوم تنزل، أنا...

التفت إليها بجانب وجهه، يسألها بعبثٍ وابتسامة غامضة:

-مش دي حورية؟ لازم أنزل أسلم عليها.

حاولت إيقافه حين أمسكت بيده فجأة، وقد تغيرت نبرتها من الضعف إلى نبرة متمردة مستفزة:

-وليه إن شاء الله!! هو إيه اللي لازم!

تلعثمت قليلًا وهي تحاول إخفاء توترها خلف مظهرٍ هادئ:

-لا، مقصدش... كل اللي أقصده... إإإ... إنها مش بتطقيك بس! أنا خايفة عليك من الإحراج.

رفع حاجبًا متصنعًا الدهشة، متعمدًا إغاظة حورية التي كانت تراقب من بعيد، فابتسم بسخرية:

-وليه ما بتطقنيش؟ هي قالتلك إني عملت فيها حاجة؟ أو أذيتها في حاجة؟

هزت رأسها نفيًا، وقالت بنبرة ضيق مائلة للحيرة:

-لا، مقالتليش حاجة، أنا بس بحس بكده.

غمز بطرف عينيه إليها وهو يشاكسها:

-دي غيرة دي ولا إيه؟!

توردت وجنتاها خجلاً فبدت كمَن يبعد عنها تهمة:

-أنت بتقول إيه!! يلا يلا ننزل.

نزلا معًا، وكان الضعف ظاهرًا على ملامح سيرا، وقد انكسرت نظراتها وكأنها فقدت طاقتها، أما حورية فكانت واقفة تتوهج كالجمرة، على وشك الانفجار، فقالت بغيظٍ ناريٍ أدهش سيرا وأفقدها رد الفعل:

-هو أنتي مش شايفاني واقفة؟ المفروض تنزلي على طول، مش تقعدي تتكلمي معاه وكأني مش موجودة!!!

صمتت سيرا، تتعرقل الكلمات على لسانها، كأنها تُغلق عنها الأبواب، وما زاد الطين بلة أن يزن بدا غير متأثر، لكنه لم يغفل عن رد الإهانة:

-اهدي يا حورية!! ده مش أسلوب تكلمي بيه صاحبتك وهي أبوها في المستشفى تعبان!!

نظرت إليه حورية بغضب محتدم، وقد تبخر آخر خيط من صبرها، فردت بحدة مفرطة:

-وانت مالك أصلاً بتتدخل ليه؟! أما انت غريب!

ضاقت ملامح سيرا بشيءٍ ما رأته في عيني حورية، وكأنها أدركت ولو للحظة أن فاطمة ربما كانت على حق في وصفها لحورية بأنها شخصية قيادية لا تعرف اللين، لذا تصطدم كثيرًا بمَن لا يذعن لها، انتشلها صوت فاطمة من أفكارها، ظهرت أمامهم بقلقٍ مبعثر وإرهاق ظاهر، وقالت:

-روحتلك المستشفى أبلة حكمت قالت إنك مشيتي، فجيت وراكي.

لم تجب سيرا، واكتفت بالنظر إليها بعينين تفيض بالألم، فاقتربت فاطمة غير عابئة بوجود يزن أو حورية، وهمست بخوف حقيقي:

-مالك يا حبيبتي، انتي تعبانة ولا إيه؟

-آه يا فاطمة... يا ريت تاخديها وتطلعيها عشان ترتاح.

قالها يزن وهو يجول بنظره على وجه سيرا المرهق، الحائر، وكأنها فقدت بوصلتها، استجابت فاطمة واحتضنت سيرا من جانبها برفق، وهمست:

-يلا يا حبيبتي، تعالي نطلع.

وأخيرًا نطقت سيرا بجملة جاهدت إخراجها من باب الذوق ليس إلا:

-عن إذنك يا حورية.

ثم صعدت مع فاطمة، غير عابئة بنظرات حورية التي اشتعلت بنيران الإحراج، بعد أن تُركت واقفة كعابرة سبيل.

-مالك يا سيرا؟ انتي تعبانة ولا إيه؟!

قالتها فاطمة بقلق عارم، فأجابتها سيرا بحيرة تامة:

-حورية متضايقة مني!!

انعقد حاجبا فاطمة وهي تساعدها على الصعود، وسألتها بدهشة:

-ليه؟ في حاجة فاتتني؟

-معرفش... بس حسيت إنها متضايقة إني مسمعتش كلامها وفركشت مع يزن!!

قالتها سيرا بصوتٍ مائل لعتاب الذات، كأنها تحاول تبرير برود حورية، وعدم اكتراثها بحالتها المنهكة:

-قصدك يعني هي غيرانة منك؟!

هزت سيرا رأسها نفيًا، وقالت بنبرة ثقيلة شبه حائرة:

-لا، أكيد هي بتحب خطيبها، وبردو بتحبني... بس شكل كلامك عنها كان صح.

تنهدت فاطمة، ثم ربتت فوق كتفها بحنان واضح:

-سيبك منها خالص، المهم انتي يا حبيبتي.

توقفا أمام باب الشقة، فقالت سيرا بتنهيدة مثقلة:

-تعالي ندخل ونتكلم، أنا محتاجة أفضفض.

"أما بالأسفل"

فقد بدأ التوهج يزداد شراسة، خصوصًا حين واجهت حورية يزن بقامتها القصيرة، لكن بجرأة نارية:

-هو أنا مش قولتلك تبعد عن صاحبتي؟!

احتدت عينا يزن بضيق، انعكس في نبرته الحادة كالسوط:

-انتي بتكلميني كده ليه؟! إذا كنت أنا متساهل معاكي فعشان خاطر أختك ومليكة مرات زيدان، غير كده لو اتعديتي حدودك هديكي فوق دماغك.

بدت حورية وكأنها فقدت السيطرة، انفجرت بهجوم حاد:

-احترم نفسك، انت شكلك نسيت نفسك!

اشتعل الغضب في عينيه كشرارةٍ لا تُطفأ، وخرجت كلماته كسياط تلسع مشاعرها:

-انتي اللي نسيتي نفسك، والمفروض تحترمي نفسك ومتتدخليش في أمور غيرك! من تدخل فيما لا يعنيه سمع ما لا يرضيه!

مالت برأسها بسخرية، تتعمد التقليل من شأنه:

-ما شاء الله، مثقف أوي!!

ابتسم ببرود، وخرج تهديده كالسهم من قوس مشدود، يحمل نية صريحة لإشعال فتيل النزاع:

-ماتحاوليش تقللي من اللي قدامك، عشان انتي ماتعرفنيش، ولا تعرفي آخري إيه... فدايمًا خدي احتياطاتك.

ورغم أنها كانت على شفا انفجار، لم تكف عن صب الزيت على النار:

-احتياطات مع واحد بيتسلى بالبنات؟!

ضحك ضحكة باردة، كانت كصفعةٍ على كرامتها، ورد بكلمات مدببة، متعمدًا استفزازها:

-مالكيش فيه!! سامعة ولا لأ؟! ولا تحبي أسمعك بطريقتي؟ واه... في حاجة مهمة جدًا، لو ماخدتيش بالك منها، هطربقها فوق دماغك...سيرا خط أحمر! متحاوليش تيجي جنبها، ولا تقولي كلام عني ممكن تتأذي فيه!

أجابته بنظرات توحي بالاحتقار، فيها من الغضب ما يكفي لإشعال حريق:

-أنت بتحذرني أبعد عن صاحبتي؟! انت اللي المفروض تبعد! انت عكست الآية يا محترم!

كان يزن يتلذذ بإثارة غضبها، كمَن يلعب بالنار، لكنه أصر على إيصال رسالة واضحة:

-المحترم دخل الباب من بيته، واتقدم وخطب، متسلاش بيها، فمش من حقك تقوليلي ابعد عن صاحبتي، لإن...

قاطعته وهي تكاد تنفجر:

-لإن إيه؟؟؟ ها انطق وقول؟! نفسي أعرف أخرك؟!

أصرت على الاستفزاز، فمجرد وجودها أمامه ومحاولاتها حجب سيرا عنه بكل الطرق كان يستفزه كثيرًا، فأراد أن يقطع عليها محاولاتها تلك برد، لعله صريح في ظاهره، ولكن باطنه لم تظهر بعد حقيقته، أو بالأحرى لم يعترف بها لنفسه الحائرة بين مجون إعجاب الفتيات به، وبين حب واضح وصريح يجعله يعترف لصاحبته بأهم اعتراف في تاريخه.

ولكنه لم يدرك أن مجرد تفوهه بذلك القول علنًا ما هو إلا اعتراف واضح وصريح، وقد صدق عليه قلبه، لذا دفع عقله لتصور حورية مجرد عدو يريده أن يبتعد عن سيرا، فوقف لها بالمرصاد، حتى لو وصل به الأمر إلى فعل ما هو أحمق وجنوني، فالأهم هو سيرا في تلك المرحلة!

– امممم... نفسك تعرفي آخري؟ تمام أقولك... صاحبتك دي أنا بحبها، ومعجب بيها، ومفيش بنت خلتني أتخلى عن رأيي في الجواز والخطوبة إلا هي، عشان كده دخلت البيت من بابه.

رفعت حاجبيها باندهاش ساخر، تعقد ذراعيها أمام صدرها:

– وأنا المفروض أصدقك؟!

هز كتفيه بلا مبالاة، ورد بهدوء بارد:

– تصدقي ولا ما تصدقيش، مايهمنيش... أنا عرفتك عشان النار اللي جواكي من ناحيتي تهدى شوية. واه... أنا حقيقي مشفق جدًا على خطيبك، بس اللي متأكد منه إنه عارف يشكمك، عشان كده مكمل معاكي. سلام يا آنسة حورية، وسلامي لأختك، وإن شاء الله أبلغها بنفسي لما أشوفها.

ثم تركها قبل أن تتفوه بكلمة أخرى قد تدفعه إلى جلب شيء ما وضرب رأسها الأحمق به، مكتفيًا بتهديده المبطن إن أصرت على هدم طريق الوصال بينه وبين سيرا، فلم يحتج إلى كثير من الفطنة ليدرك أن هذا التأثير الطاغي الذي طرأ على علاقته بسيرا، وذلك الشد والجذب المستمر، ما هو إلا نتيجة مباشرة لوجود "حورية"! تلك الأفعى الناطقة باسم حقوق المرأة!!
                                 ***

بعد مرور عدة ساعات، تململ نوح في نومه على الأريكة، فشعر بآلام موجعة في سائر جسده، لم يدرك سببها إلا عندما نهض وجلس وهو مغمض العينين، ثم فتح نصفها وهو يتثاءب، لكنه سرعان ما صُدم وانتفض بشراسة ينظر حوله، ثم إلى جسد حسناء الغافية فوق مقعد أمامه، والتي على ما يبدو شعرت به، فقالت بصوت رقيق افتعلت فيه القلق:

-إيه يا دكتور، انت كويس؟!

-أنا نمت هنا إزاي؟! هي الساعة كام؟ إزاي نمت هنا؟!

أسئلة انبثقت من جوف عقله المظلم، يخشى أن يكون قد حدث شيء يخالف معتقداته ومبادئه، بعد أن صور له الشيطان أسوأ التخيلات، إلا أنها أراحته عندما أجابت بهدوء:

-حضرتك مش فاكر إيه اللي حصل؟ ده انت دوخت وتعبت، وجبنالك الدكتور كشف عليك وقال إنك مرهق وتعبان، وكتبلك على أدوية تجيبها.

ثم أعطته ورقة لطبيب مدون عليها اسم نوح وبعض الأدوية والمهدئات بالفعل، وكان هذا من ضمن مخططها الدنيء، رفع بصره إليها عندما استمع إلى تنهيدتها الثقيلة:

-الدكتور قال برضو وارد متكنش فاكر، لو انت بتمر بظروف صعبة وضغوط نفسية، ده أنا بحمد ربنا إنك كنت معايا يا دكتور، كل ما أتخيل إنك لو كنت لوحدك كان هيجرالك إيه!

ابتلع ريقه وهو يجذب هاتفه الموضوع أمامه على الطاولة، ثم سأل بوجوم:

-حد اتصل عليا؟

-آه، مدام يسر، بس معرفش ليه لما قولتلها إنك تعبان ومرهق قفلت في وشي السكة، وسوري يعني... شتمتك.

زفر بغيظ وانفجر بها بحنق شديد:

-وانتي بتردي ليه يا حسناء طيب؟!

كانت تتوقع غضبه بعد أن دست سمومها إليه بطريقتها الثعبانية، إلا أنه فاجأها وأعرب عن قلقه من رد فعل زوجته؛ هل لا يزال يحبها؟ أم يتمنى عودتها إليه؟ لذا قررت أن تنفذ خطتها الثانية، فمالت بوجهها إلى الأسفل تصطنع الحزن، وهي تخفض نبرتها التي تلونت بثياب البكاء الزائفة:

-حقك عليا يا دكتور، مكنتش أعرف إنك هتتضايق مني لما أرد، بس هي اتصلت كتير، خوفت تقولي ليه ماردتش، وخوفت يكون فيه أي خبر عن لينا، حقك عليا، أنا لازم أروح أعتذر للمدام بنفسي.

-لا لا لا، هي كده كده أكيد لا طايقاني ولا طايقاكي، حصل خير، بس أنا ما بحبش حد يتعدى حدوده معايا بس.

جزت فوق أسنانها من فرط غيظها، رغم انعكاس تعابير مناقضة على وجهها، فعادت تشد على الحبل المتراخي بينهما بقولها الماكر:

-خالي كمان اتصل، وقال لي أقولك أبشر، لينا هتبقى في حضنك قريب.

-بجد؟ وصل لحاجة؟!

قالها بسعادة كبيرة، فابتسمت إليه، وعيونها لمعت بإعجاب واضح وصريح أثار حفيظته.

-آه، أنا قولتلك خالي هيقدر يجيبها لك.

لملم أشياءه وقال وهو يتحرك صوب باب الشقة، وقبل أن يغادر، توقف وشكرها:

-شكرًا يا حسناء، وقفتك دي أنا عمري ما هنساها، وهتفضل جميلة في رقبتي.

أمسكت بمقبض الباب وهي تنظر إليه بهيام أفصحت عنه لتوتره:

-أنا مش عايزة أي حاجة، غير إنك تكون بالك رايق ومبسوط، انت غالي عندي أوي يا دكتور.

ارتعشت ابتسامته وهو يحاول التهرب منها، ثم غادر مقررًا الاستعداد لشجار لم يكن مستعدًا له، لا نفسيًا ولا حتى بدنيًا!

أغلقت حسناء باب الشقة، فاستمعت إلى صوت والدتها، التي كانت تقف على أعتاب الردهة الصغيرة تضحك بسخرية وهي تنفث دخانها:

-الواد ده مش سهل، وهتطلعي خسرانة يا بت بطني.

زمت حسناء شفتيها بضيق، ونَهَرت والدتها بوجوم:

-اطلعي منها انتي يا ما، بلاش بوزك بس لحسن تنبري فيها وتبوظي.

اقتربت والدتها محاولة إقناعها بأسلوبها الجاهل، كما تُقنِع الجهلة وقليلي الدين والوعي:

-يا بت اسمعيني، خلي الأسياد هما يتصرفوا، بلاش تفكيرك وخططك دي، وقفة إيه ياختي اللي تقفيها معاه؟ وعشان خاطر إيه؟ ياخد باله منك؟ يا عبيطة! ده أنا أقدر أعملك عمل جلب حبيب يجي لك راكع وبيهوهو!

ضحكت حسناء بسخرية، متعمدة التقليل من والدتها، متباهية بذكائها:

-يا أما، ما انتي عملتيه ومنفعش يا أختي، وبعدين، أنا لو ما استغلتش فرصة خطف بنته، هستغلها امتى؟ لازم أبين له إني جدعة وبخاف عليه وبحبه، الراجل في أضعف حالاته بيبقى عايز اللي ياخد باله منه ويحتويه يا أما ويحسسه إنه مفيش غيره في الكون كله، خلطة نوح عندي وخلص، أنا بطبخها على نار هادية، اقعدي بقى واتفرجي عليا.

همست والدتها بشرود قلق، والسخرية تقطر من كلماتها:

-يا خوفي يا بت بطني، لأقعد واتفرج على خيبتك يا أختي وهي بتتذاع في الفضائيات.

                              ***

في اليوم التالي...

كان نوح يجر قدميه جرًا أمام منزل يسر، يتهيب لحظة مواجهتها، حتى إنه أحضر الورقة التي دون فيها الطبيب خطة علاجه ليبرر بها سبب وجوده في منزلها، رغم أن السبب الحقيقي لم يكن المرض، بل كيف سيُخبرها بالحقيقة، وقد أرسلت له حسناء رسالة صباحًا تُحذره فيها من إخبار أي شخص بشأن خالها، حتى تضمن له الحماية وتتجنب أي أذى قد يُصيبه، وفي الحقيقة، هو يخشى أن يخبر يسر، فتُفشي الأمر لوالدها، فيصل إلى الشرطة، ولا شك أن العواقب حينها ستكون وخيمة.

تنهد بصمت وهو يطرق باب شقة والد يسر، ففتح له الحاج "فاضل"، وكان نوح يتوقع أن يستقبله الرجل بوابل من الشتائم أو ربما بلكمةٍ غاضبة في وجهه، لكنه فوجئ به كما تركه بالأمس حزينًا، محطمًا، يئن بصمتٍ بسبب اختطاف حفيدته، بل إنه أفسح له الطريق قائلاً بهدوء:

-تعالى اتفضل يا نوح.

كتم نوح دهشته بصعوبة ودلف إلى الداخل، عيناه تبحثان بتوتر عن يسر، فقال بصوتٍ مبحوح:

-هي يسر فين؟

-جوه في الاوضة.

حمحم بصوتٍ خشن، ثم استأذن بهدوء، وقلبه يخفق في صدره بخوفٍ خفي، وكأنه اقترف جرمًا عظيمًا، مع أنه لم يُخطئ، بل فقط سلك طريق البحث عن ابنته، فلذة كبده، ولو أن هذا الطريق وعرٌ ومظلم.  لقد أضناه التعب، وأرهقه الخوف، حتى فقد وعيه! الأمر بسيط، فلماذا يشعر وكأنه يحمل على كاهله جبلًا من الهموم؟

-ممكن أدخلها، اطمن عليها؟

أومأ الحاج فاضل برأسه دون اعتراض، فهو لا يرغب في الضغط على نوح في هذه المحنة القاسية، ربما تكون هذه الزيارة طوق نجاته من وحل أفكاره السوداوية، ومن الحضيض الذي يُلقي بنفسه فيه كل مرة.

-اتفضل يا ابني.

أخذ نوح نفسًا عميقًا، كما لو كان يستعد لركضٍ في سباق ماراثوني، ثم طرق الباب بخفة ودخل، وما إن رأته يسر حتى اعتدلت في جلستها، لكنها لم تنطق بكلمة، واكتفت بالنظر إليه، كأنها تنتظر منه اعترافًا، بدا كطفلٍ صغيرٍ يلجأ إلى والدته ليُقر بأخطاءٍ يراها تافهة، بينما تراها والدته كوارث.

-عاملة إيه؟!

لم تُجبه في بادئ الأمر، وظلت صامتةً بتعابير جامدة، وجهها مُتلبس بجمود قاتل، كأن الرحمة فارقته.

-تمام، وانت؟!

كلمتان فقط، تحملان إجابةً وسؤالًا، دفعتاه لأن يتهور قائلًا:

-يسر أنا عارفة إنك متضايقة مني، بس....

رفعت حاجبيها في دهشة مصطنعة، وسألته بنبرةٍ خالية من الفهم، وكأنها ترسم على ملامحها لوحة من اللا مبالاة:

-متضايقة منك ليه خير؟ 

انكمش وجهه بتعجب ممزوج باستنكار، فقد كانت كلمات حسناء بالأمس تؤكد له أن يسر أشبه بكتلةٍ نارية على وشك الانفجار.

-عشان يعني كنت عند حسناء واتصلتي لقيتيني نايم، بس أنا مكنتش نايم، أنا كنت تعبان وتقريبا دوخت وجبولي دكتور.

تصنعت التعاطف وردت بقلقٍ زائفٍ أرعبه حقًا، وكأنها تلقي عليه تعويذةً مبطنة:

-بجد كنت تعبان؟ وانت عامل إيه دلوقتي بخير، ولا اخلي بابا يجبلك دكتور، نطمن عليك أكتر؟

لأول مرة، كان يتمنى من أعماقه أن يرى يسر الغيورة، الهائجة، تلك التي يرتجف صوتها خوفًا من فقدانه، لم ترُق له هذه النسخة الباردة منها، خالية المشاعر، متقنة التمثيل.

-رد عليا يا نوح، أجبلك دكتور؟ مع إنك شكلك كويس ومفيش فيك حاجة، أنت متأكد إنك كنت تعبان؟

قالت ذلك بسخرية خفية دفعت الغضب ليطفو على سطح صوته، فاحتدت نبرته وهو يرد بعنفوان:

-حاسس بتريقة منك ودي حاجة مش كويسة أبدًا على فكرة، أكيد أنا مش عايز أنام عندها بمزاجي ولا أنا فاضي للتفاهات اللي في دماغك، أنا عندي مصيبة أكبر من كده.

فاجأه رد فعلها، إذ أمسكت بيده وقالت بنبرةٍ هادئة تحمل في طياتها سخرية واستنكارًا:

-اهدى يا نوح، متتعصبش كده انت لسه كنت تعبان امبارح ومرهق وحسناء سكرتيرك جابتلك دكتور في بيتها، وصدقني مفيش أي تفاهات أنا حاسة بيك، ومقدرة العجز اللي أنت فيه بسبب لينا، وأكيد يعني عارفة إنك في مصيبة كبيرة وأكيد مش فاضي تروح لسكرتيرك في بيتها إلا إذا كان عشان.....

توقفت فجأة، ثم ضيقت عينيها وكأنها تُحاول العثور على عذرٍ مقنع له، لكنها مطت شفتيها بأسف، وقالت:

-للأسف مفيش سبب مقنع، بس العموم أنت في مصيبة كبيرة.....

ثم رفعت يديها إلى السماء وقالت بتضرعٍ مؤلم:

-يا رب ترفع عنا مصيبتنا دي ونلاقي بنتنا.

أنزلت يدها وتنهدت بحزنٍ عميق، قبل أن تجذب الغطاء على جسدها وتقول بصوتٍ خافتٍ جعله مذهولًا:

-أنا هنام يا نوح شوية، ولو حصل حاجة صحيني.

ثم أغلقت المصباح القريب منها، لتدفعه بصمتٍ إلى مغادرة الغرفة، بل مغادرة المنزل بأسره، وبالفعل نهض دون أن ينبس ببنت شفة، وغادر المكان يحاول جاهدًا كبح جماح غضبه.

أما هي فأنزلت الغطاء على وجهها، وأطلقت لنفسها العنان بالبكاء، بكاءً مريرًا حرك كل أوجاعها، بعد أن كبحت مشاعرها وتصرفت بعكس طبيعتها، فقد رأت أن أنسب وسيلة للتعامل مع نوح في هذه المرحلة هو التجاهل والبرود، يكفي ما قضته في الليلة السابقة من صدمةٍ لم تستفق منها بعد.

بينما نوح، أغلق باب سيارته بعنف، وزفر بغيظ، ولأول مرة لم يكن يعرف إلى أين يتجه؟ وما لبث أن رن هاتفه مجددًا، فإذا بيزن يتصل به للمرة الخامسة، فأجابه بضيق:

-في إيه يا يزن؟

-في إيه انت، عمال اتصل بيك من امبارح لغاية ما طهقت ياعم، أنت فين؟

تنهد نوح بحيرة، ثم قال:

-معرفش، معرفش أي حاجة حاسس إني هموت.

-طيب اهدى وقولي انت فين، وأجيلك، واقسم بالله أنا مابنزلش من على ودان زيدان وزمايله وبيشتغلوا متقلقش، أنت عارف زيدان عمره ما هيقصر.

أغلق نوح عينيه محاولًا تهدئة نفسه، ثم تمتم بصوت خافت:

-عارف، أنا بس مخنوق شوية، المهم هجيلك في الأجانص.

-مستنيك.
                              **** 

عاد الحاج "حسني" إلى منزله بعد أن تأكد الأطباء من استقرار حالته الصحية، فالتف حوله الجميع، بمن فيهم قاسم وعبود، اللذان قدما اعتذارهما للمرة الألف، واكتفى الجميع بإخفاء ما حدث ليلة الأمس مع فايق ووقاحته، وكأن الأمر لم يكن، في تلك الزاوية البعيدة من الغرفة، جلست سيرا بصمت ثقيل، يكسو ملامحها الجمود، وتنظر إلى الجمع نظرات قلقة أثارت ريبة والدتها ووالدها.

مالت والدتها عليه تهمس ببعض الكلمات الموجزة، فتنحنح الحاج حسني، ثم قال بنبرة آمرة:

-يا ريت كلكم تخرجوا وتسيبوني مع سيرا لوحدي.

تبادل الجميع النظرات مع سيرا في صمت، إلا أنها تجاهلتهم تمامًا، لم تسامح أحدًا منهم على موقفهم بالأمس، ولا على سهام الشك التي وُجهت نحوها دون رحمة، فالجروح التي خلفوها في قلبها لم تندمل بعد، ولا تزال تنزف بصمت.

ارتفع رنين هاتف حورية فقطعت الصمت، لكنها سارعت إلى إغلاقه دون حتى النظر إلى هوية المتصل، لم ترغب بسماع صوتها.

انتبهت سيرا لصوت والدها وهو يوجه حديثه إلى حكمت التي كانت تجلس إلى جواره، وقد بدا الضيق واضحًا في نبرته:

-يا حكمت هو أنا مقولتش كله يخرج، انتي بتعملي إيه هنا؟

تظاهرت بالألم، وأشارت إلى ساقها وهي تقول:

-رجلي يا بابا نمّلت فجأة وغلط ادوس عليها، أنا بقى هنام جنبك هنا لغاية ما تفك واقدر امشي عليها، وسع كده يا بابا.

تأملها والدها باستغراب، فهو يعلم جيدًا أن ادعاءها ليس إلا وسيلة للبقاء، وأن فضولها وحده هو من يدفعها إلى هذا التمثيل الساذج، وقبل أن يعترض، عاجلته بحيلة أخرى، وهي تنقل بصرها بينه وبين سيرا:

-وبعدين يا بابا أنا سيرا مبتخبيش عليا حاجة خالص، مش كده يا سيرا، وأكيد هي مش هتضايق إن هقعد واسمع انت عايزاها في إيه!

كان الحاضرون قد أجمعوا، دون أن يُعلنوا ذلك، على بقاء حكمت، لعلهم يسترقون من الحديث ما يُفيدهم، خاصة بعدما تردد على مسامعهم أن سيرا قد أبلغتهم برغبتها في الانفصال عن يزن.

-لا هتضايق عشان كل اللي احنا فيه بسببك، وأكيد اختك زعلانة ومهمومة دلوقتي عشان خطوبتها اتأجلت بسبب الفضايح اللي حصلت، ذنبها إيه هي في المصايب اللي بتعملوها، حرام عليكم يعني يوم ما الفرحة تدخل بيتي وفرحان من قلبي لاختكم وعريسها تيجوة انتوا وتبوظوا كل حاجة، كسرتوا فرحتي وفرحتها.

كانت حكمت تستمع لكلماته، وتلقي بنظرات طويلة نحو سيرا، تحاول أن تمرر رسائل مبطنة لم تفُت على سيرا، ثم نطقت بنبرة باكية، خادعة، تحمل مكرًا لم يخفَ على أختها:

-يعني يا بابا انت بتحملنا ذنب فركشة خطوبة سيرا.

صرخ الأب مستنكرًا:

-فركشة إيه؟! إيه الفال الوحش ده يا بنتي، أنا بقول تأخيرها، ماتنبروش انتوا فيها بس، وسيبوها على الله.

نهضت حكمت بخفة نحو أختها الصامتة، واحتضنتها فجأة، متصنعة الانهيار:

-حقك عليا يا سيرا، أنا السبب، سامحيني....

لكنها ما لبثت أن همست في أذنها، بصوت منخفض يحمل تحذيرًا مقنعًا:

-شوفتي، جالك كلامي بابا عايز يفرح بيكي، عايزة تكسري فرحته يا جاحدة، ده خطوبتك دي الحاجة الوحيدة اللي هتفرحه.

أمالت سيرا جانب وجهها، ساخرة من تمثيلية شقيقتها ومن منطق هذه العائلة الذي يربط السعادة بخطبة قهرية، رفعت نظرها إلى والدها، فرأته ينظر إليها بحزنٍ صادق، بعيدًا عن كل تلك الضغوط، كانت تدرك أن خطبتها ليزن سترسم البسمة على وجه والدها وستسعده وربما تكون عزاءه الوحيد في أزمته الصحية، ولذلك قررت أن تكبت جراحها من أجل والدها، حتى لو كان الثمن هو الاقتران بعاشق النساء، وقاهر قلوب العذارى، ذلك العابث الذي لا يرى في المرأة إلا كل ما هو جميل!

دفعت حكمت عنها برفق، وقالت بصوت حاولت جعله طبيعيًا، فيه قليل من المرح الباهت:

-إيه يا أبلة الدراما دي، أنا ولا زعلانة منك ولا زعلانة من حد، أنا اللي كان مزعلني هو أنك تعبان يا بابا، الاهم عندي هو صحتك يا حبيبي.

مسحت حكمت وجهها، وقالت بسعادة حاولت كبحها:

-ياختي اسمالله عليكي عاقلة ورزينة وعارفة مصلحتك، ربنا يفرحنا بيكي يا رب.

-يا رب يا أبلة يلا أنا هنزل الشغل بقى، سلام.

قبلت يد والدها، ثم ودعته وخرجت، وبينما كانت تمر بالجميع المتحفزين في الخارج، تجاهلتهم تمامًا، ثم غادرت، وقفوا جميعًا يسألون حكمت بقلق ما الذي دار في الداخل، فأجابتهم بسعادة لا تخلو من شماتة:

-اطمنوا الأمور بخير وهي مكملة في الخطوبة بس.....

قالوا جميعًا بصوت واحد:

-بس إيه؟

هزت كتفيها بلا مبالاة وقالت بنبرة عابثة:

-شكلها مش طايقكم، بس أنا لا بتحبني عادي.

ثم غادرت وهي تتبختر بمشيتها، مستمتعة بنظرات الحقد والضيق التي انهالت عليها، خاصة بعدما نثرت شماتتها بينهم علنًا.

                               ***
في جهةٍ أخرى، كان نوح يجلس أمام الطاولة الصغيرة، وقد وضع فنجان القهوة الرابع عليها، بينما أسند رأسه بكلتا يديه، يُحاول أن يحتمل كل ما يحمله من أثقال على كاهله، كان قد سرد على يزن كل همومه حتى استعانته بخال حسناء، مؤكّدًا عليه للمرة الألف ألا يخبر زيدان أو الشرطة.

قال يزن بنبرة ضيق:

-يا عم اقسم بالله ما أنا قايل، فهمت وعرفت، المهم لينا ترجعلنا بالسلامة بس.

همس نوح، وصوته مملوء بالحزن والدعاء:

-يا رب يا يزن.

دخل أحد العاملين، يحمل بيده مجموعة من التذاكر وقدمها ليزن:

-اتفضل يا باشا دول حجز تذاكر لماتشات الأهلي، ودول حجز لماتشات ودية في أندية على مستوى زي ما طلبت.

هز يزن رأسه شاكرًا، ثم وضع التذاكر في درج مكتبه بعد أن غادر العامل، التفت إليه نوح باستغراب، وقال بنبرة استنكار:

-من امتى وانت مهتم بالكورة للدرجة دي يا يزن؟

ابتسم يزن، ورفَع حاجبيه بعبث:

-لا بقيت مهتم، وبعدين ياعم دول للاتنين حبايبي كده هبقى احكيلك عليهم لما تبقى رايق، عايز بس ازقهم بعيد عن دماغي، وبردو ممكن استخدمهم لأغراض في دماغي.

سخر نوح وهو يقول:

-بحجز للكورة وتذاكر لماتشات؟!

-الكيف بعيد عنك يعمل أكتر من كده.

قطع رنين هاتف نوح حديثهما، إذ كانت حسناء تتصل أشار نوح ليزن بالصمت ثم أجاب بسرعة:

-الو ايوه يا حسناء، في أخبار؟

جاء صوتها متحمسًا، به نبرة انتصار:

-طبعًا في أخبار وأخبار حلوة كمان وبمليون جنية. 
وصل نوح إلى المكان المنشود الذي أرسلت إليه حسناء عنوانه في رسالة نصية، يقود سيارته بسرعة جنونية، مستحضراً في ذهنه صورة ابنته عله يجدها أخيرًا، غير أن آماله تحطمت ما إن رأى حسناء وخالها يقفان بمفردهما، دون أثرٍ للطفلة، فتوقف فجأة، وهبط من السيارة بخطى متسارعة، وبنبرة امتزج فيها القلق بالرجاء:

-إيه وصلتوا لحاجة؟!

أجابته حسناء بنبرة ناعمة، وقد تعمدت أن تبتسم له ابتسامة حالمة، تُخفي وراءها مآربها الحقيقية:

-اهدى يا دكتور عشان خاطري، أنا خايفة عليك أوي بجد لتتعب زي ما تعبت قبل كده.

رفع خالها أحد حاجبيه في اشمئزاز ظاهر، وقد بدا عليه الضيق من أسلوبها الماكر، فهو يدرك تمامًا نية ابنة أخته في الإيقاع بهذا الرجل وسلب ماله، طمعًا في مكانة اجتماعية مرموقة كانت تحلم بها دومًا.

-نتكلم في المهم.

قالها بصرامة، فوجه حديثه مباشرة إلى خال حسناء، متجاهل ابتسامتها المصطنعة، وقد بدا عليه الإحراج مما يشعر به من خيبة أمل في الموقف، إلا أن أمل إيجاد ابنته ظل يشده للمضي قدمًا، رغم شعوره بالخديعة.

قال خالها وقد بدا عليه التردد، يحاول أن يبرر موقفه:

-أنا يا دكترة لفيت على كل حبايبي لامؤاخذة في الإجرام ده، وفيهم ناس كده ساعدوني بس موصلتش لحاجة....

قاطعه نوح بحدة، وقد ظهر الغضب في صوته بشكل لا لبس فيه:

-أنت جاي تقولي أنك موصلتش لحاجة؟! انتوا مجانين.

حمحم خالها بخشونة، محاولًا ضبط إيقاع الحديث مجددًا، وقال بصوت أجش يحمل نبرة إجرامية خالصة:

-ليه بس الغلط ده يا بيه، ما تتكى على الصبر، موصلتش لحاجة في الأول، بس بعدها في حد حبيبي كلمني وقالي إنه يقدر يجبهالي وعارف مين خطفها، بس يمين الله ما قالي اسمه إيه أصله راجل ***** بس اعمل إيه إن كان لك عند الكلب حاجة قوله يا سيدي.

زفر نوح بغيظ شديد، وقد توهجت بشرته باحمرار طاغٍ من فرط الغضب المتصاعد بداخله:

-ها يعني طلباته إيه؟

أجابه خال حسناء وقد بدت على وجهه ابتسامة واسعة تخفي خبثًا دفينًا:

-اهو أنت كده دخلت في الدوغري والمظبوط، عايز نص مليون جنية يا بيه لامؤاخذة، وحياتك يا دكترة كان عايز أكتر بس أنا قولتله لا لازم تعمل تخفيض للدكترة ده أول مرة يجيلنا في حاجة.

أطلق نوح أنفاسه الغاضبة، ثم قال دون تردد، وقد بدا مستعدًا لفعل أي شيء في سبيل استعادة ابنته:

-طيب تمام، لو اديته الفلوس بنتي هتكون عندي في خلال قد إيه؟!

رد خال حسناء بنبرة واثقة:

-خلال ساعة ساعتين بالكتير.

ابتسم ابتسامة عريضة، وما كاد يتمها حتى لكزته حسناء بخفة على ذراعه، في محاولة لضبط تصرفاته المبالغ بها.

-طيب أنا ساعة بالكتير والفلوس هجبهالك بس واقسم بالله لو بنتي مجتش...

تدخلت حسناء بسرعة، محاولة تهدئته بنبرتها الرقيقة التي تتقن استخدامها:

-لا لا أنا أضمنلك الموضوع برقبتي، لو مكنتش واثقة إن خالي هيقدر يجبلك بنتك مكنتش هتدخل.

أومأ نوح بإيجاز، ثم استدار متوجهًا نحو سيارته ليغادر، إلا أن خال حسناء استوقفه قائلاً بصوت لا يخلو من الطمع:

-رايح فين يا دكترة ده أنت أبو المفهومية، وبوقي لامؤاخذة هتحليه بإيه؟!

رد نوح سريعًا، وقد بدا أن عقله لم يعد يتحمل أكثر:

-اللي انت عايزه، طالما بنتي هتكون في حضني النهاردة.

ضحك خالها ضحكة قصيرة، وقال:

-مش أقل من ١٠٠ ألف جنية، اه لامؤاخذة عندي عيال عايز أربيهم....

قاطعته حسناء بغضب، وقد بدا التوتر على ملامحها وهي تتمتم من بين أسنانها:

-أنت بتقول إيه يا خالي، فلوس إيه؟ احنا نخدم الدكتور بعنينا.

نظر إليها نوح بامتنان ثم قال بحسم:

-ده حقه يا حسناء، المهم إنه يجبلي بنتي، ساعة وهكلمك.

ثم غادر الموقع مسرعًا، تاركًا خلفه حسناء التي لم تستطع كبح غيظها، فاستدارت نحو خالها وصرخت فيه بعصبية:

-ما تقوله أحسن إننا اللي خاطفين بنته؟! ده كده اتأكد، قولتلك بلاش طمع يا خالي وأنا هديك اللي فيه النصيب.

مال خالها برأسه نحوها، وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة ساخرة، ونظرة قاسية متوحشة تنبع من إجرام راسخ في أعماقه:

-اه اللي فيه النصيب ده اللي هو كام يا بنت اختي، ملاميم ٢٠ الف جنية، وانتي واخدة في بطنك نص مليون جنية يا بنت اللعيبة.

عقدت ذراعيها بحنق ظاهر، وردت بعنفوان لا يخلو من الحنق:

-بس ده مكنش اتفاقنا، انت كده بتقوله اننا عاملين حوار عليه وعايزين أي فلوس!!

ازدادت حدة نبرته وهو يحسم النقاش:

-فيها لاخفيها يا بنت اختي، وبعدين دول ١٠٠ الف جنية عُمي لا راحوا ولا جم.

استنشقت هواءً عميقًا، تحاول السيطرة على أعصابها المتفلتة، ثم قالت بتهديد صريح:

-واقسم بالله نوح لو طار من ايدي، ما هيكفيني فيك روحك، لو كلمك قولي كل حاجة قبل ما تتصرف من دماغك، مش ناقصة عك.

ثم غادرت المكان بخطى غاضبة، تاركة خالها واقفًا ينتظر اللحظة التي يحصل فيها على المال، ويتخلص من تلك المصيبة الصغيرة التي تركوها في مخزن أحد معارفه من أهل الإجرام.

                              ****

سارت سيرا في الطريق المؤدي إلى البرج السكني الذي يقع فيه عملها، تتقدم بخطى ثقيلة يغلفها التوتر، تخشى لقاء يزن، إذ لم تحسم أمرها بعدُ بشأن تقبله أو رفضه، كلما حاولت أن تُقنع نفسها بالقبول به، متأثرة بأحاديث أخواتها وإلحاحهن، عادت أدراجها نادمة، حانقة، تنبذ الفكرة وتحتقر ذلك العابث الذي يتلاعب بالفتيات كما يتلهى باللب السوبر.

زفرت بغيظٍ وغضب، ولأول مرة تشعر بالضعف يتسلل إلى ملامحها؛ لم تعتد هذا الارتباك في قراراتها، ولكن ما يُوجعها أكثر، هو أن الأمر طال مستقبلها وشريك حياتها، لقد سئمت من الضغوط المتواصلة، نقمت على أخواتها، ونقمت على مرض والدها الذي كبلها بالعجز....
هل ستصمت وتحظى بزواج تعيس ينهك روحها؟
لا... لن يحدث!
قررت أن تلتزم الصمت والهدوء حتى وإن تمت الخطبة، وستنتظر حتى يطمئن قلبها على والدها، ثم تبلغه بقرارها في فسخ هذه الخطوبة، وفي تلك الأثناء، ستحرص على مضايقة يزن بكل وسيلة، ولن تفوت فرصة تُشعره بمرارة الندم حتى يكره النساء جميعًا.

في خضم شرودها، اقتربت منها سيدة أربعينية، طويلة القامة، ترتدي نظارة طبية وكمامة تغطي فمها وأنفها، بدا عليها الضعف والحيرة، فقالت برجاء:

-يا بنتي ممكن مساعدة بسيطة لو مش هعطلك.

رفعت سيرا رأسها ونظرت إليها بلطف، أجابت بهدوء:

-لا خالص مفيش أي عطلة،  اتفضلي قولي.

ناولتها السيدة هاتفًا صغيرًا وورقة كُتب عليها رقم ما، ثم قالت:

-ده تليفوني، ودي ورقة فيها رقم سجليه واكتبي باسم محمود الفار.

أخذت سيرا الهاتف والورقة وبدأت تكتب الرقم، لكن الهاتف بدا متهالكًا، فتوقفت قليلًا تحاول ضبطه، لاحظت أن السيدة تقترب منها بشكل غير مبرر، رفعت بصرها إليها تتساءل بنظراتها عن سبب ذلك القرب، لكن السيدة لم تتحرك من مكانها، وفجأة  بدأت سيرا تشعر بعدم اتزان، وكأن الهواء من حولها أصبح أثقل مما تحتمل، وضاق صدرها بثقل أنفاسٍ لم تعتدها من قبل.

ابتلعت ريقها بصعوبة، وبطرف عينيها لمحت مجموعة من الفتيات يخرجن من محل بقالة قريب، بادرت السيدة محاولة التخفيف من حالتها:

-تعالي بعيد عن الشمس...

لكن سيرا، وقد أدركت ما يعتريها، دفعت نفسها بجهدٍ باتجاه الفتيات، واستطاعت بصعوبة أن تلمس ظهر إحداهن، وهم يستعدون للمغادرة، ثم تمتمت بصوتٍ ضعيف:

-ساعدوني...

تحركت السيدة خلفها بسرعة، إلا أن سيرا أسقطت الهاتف والورقة أرضًا، وقالت للفتاة التي أمسكت بها:

-معرفهاش.

تزايدت أعراض الدوار وعدم الاتزان، وبدأت تشعر بدوخةٍ شديدة تُرهق جسدها المتعب، التفتت الفتيات نحو السيدة، لكنهم فوجئن بها تهرول مبتعدة بسرعة! سألت إحداهن بقلق:

-هي الست دي كانت عايزة منك إيه؟!

وضعت سيرا يدها على صدرها في محاولة بائسة لتثبيت أنفاسها، وقالت إحداهن وهي تتلفت حولها:

-نوديها مستشفى إيه قريبة من هنا؟

استجمعت سيرا ما تبقى لها من قوى، وتحدثت بنبرة متقطعة، تكاد تخنقها:

-ود....ودوني عند الأجانص اللي ف...في آخ...آخر الشارع وهما....هيتصرفوا.

أسرعت الفتيات بها، وساعدنها حتى وصلن إلى معرض السيارات، وهناك اقتربن من أحد العاملين وقلن بقلق:

-تعرفوها؟! هي قالت نجيبها عندكم.

رمقها العامل بنظرة فاحصة، فأدرك أنها الفتاة التي تعمل في الجيم داخل البرج السكني، فرد بقلق:

-هي مالها؟! في إيه؟

وبينما كانت سيرا تحاول النطق باسمه بجهدٍ بالغ، كانت عيناها تفتشان عنه، حتى وجدته يجلس في الداخل مع شقيقه سليم، أشارت نحوهما بصوت خافت، فحاول العامل أن يفهم منها شيئًا، لكن دون جدوى، فقالت إحدى الفتيات بنفاد صبر:

-هي باين عايزة حد من اللي جوه دول.

كان أول من لاحظ ما يحدث في الخارج هو سليم، إذ كان يزن مشغولًا بترتيب أوراق خاصة بالمعرض، فقال سليم متفاجئًا وهو ينهض:

-مش دي سيرا؟ هي مالها؟

انتفض يزن بقلق، لم يفهم شيئًا، وما إن رآها تستند على الفتيات ويبدو عليها الإعياء، حتى اندفع بجنون نحو الخارج، واصطدم بجسد أخيه بقوة، مما جعل سليم يترنح للخلف وقد اعترته الدهشة....
هل من المعقول أن يزن أحبها فعلاً؟!
كيف حدث هذا في أيام معدودة؟!
هل كانت تلك الخطبة العابرة كافية لتوقظ مشاعره الدفينة؟
تحرك خلفه مذهولًا، أما يزن فلم يرَ سوى سيرا، اقترب منها سريعًا وأمسكها من الفتيات، يسألها بلهفة وقلق:

-مالك، حصلك إيه؟

وكأن رؤيته طمأنتها، فسمحت لنفسها بالاستسلام، واستسلمت لدوامةٍ سوداء سحبتها نحو اللاوعي، ووقعت في غيبوبة بين ذراعيه.
ارتعد قلب يزن، حملها بخوفٍ شديد، وانطلق بها إلى مكتبه، تحديدًا إلى أريكته المفضلة، ذلك الملجأ الذي لم يشاركه فيه أحد، لا أخوته ولا أصدقاؤه، سوى لحظات انكساره الخفية.

لحق به سليم وقد استبد به القلق، فالتفت نحو الفتيات وسأل بنظرة واحدة كفيلة بإخافتهن، تلعثمن جميعًا، وقلن معًا:

-والله ملناش دعوة.

ثم أسرعت إحداهن تسرد ما جرى منذ لحظة لقائهن بها وحتى وصولهن إلى المعرض.

في هذه الأثناء، كان يزن ينثر الماء فوق وجهها، ثم نثر عطره قرب أنفها بغزارة، لكن دون جدوى، صرخ في وجه أخيه وهو يتأملها بنظرة يغمرها الهلع:

-سليم مابتفوقش، اعمل إيه؟

قالت إحدى الفتيات محاولة المساعدة:

-طيب جرب رش برفيوم تاني كتير، ان شاء الله تفوق.

كاد يزن أن يحطم زجاجته الثمينة من شدة توتره، فنثر العطر بجنون حتى أوقفه سليم قائلاً:

-استنى...هتفوق ان شاء الله وأنا هكلم دكتور حالاً.....

لكن يزن لم يسمعه، فقد كان غارقًا في موجة من القلق والألم، تطرق قلبه بعنف كما لو أن طبول حرب تدق بداخله، عاجزًا عن التفكير السليم، وفي غمرة قلقه، همهمت سيرا بشيء غير واضح، فمسح وجهها برفق، وقال بنبرة مليئة بالرجاء:

-سيرا...فوقي، خليكي معايا...

فتحت عينيها ببطء، تحاول التنفس فرفع رأسها قليلًا لتستعيد بعض وعيها، ولما أدركت ما كان يُدبر لها، شهقت رعبًا، وانهمرت دموعها وهي تشير إلى نفسها بيد مرتعشة:

-كنت هتخطف، كانت هتخطفني، كانت هتبيع أعضائي.

ضحكت إحدى الفتيات بسذاجة، لكن نظرة يزن النارية أسكتتها، ثم التفت إلى سيرا وسألها بجدية:

-مين دي؟ تعرفيها؟ إيه اللي حصل؟

تدخل سليم بهدوئه المعتاد، وهو يناولها كوب ماء:

-اهدى وبلاش اسئلة دلوقتي، هي تعبانة ومش مركزة، مش هتفيدك، استنى لغاية ما تبقى كويسة وأنا هتصل بزيدان يجي.

هز يزن رأسه موافقًا، لكنه لم يبعد عينيه عنها، كان ينظر إليها وكأنها أصبحت جزءًا لا يتجزأ من كيانه، كانت تمسك بيده بقوة، وكأنها تتمسك بالحياة نفسها، فاشتعلت بداخله مشاعر لم يذقها من قبل، وبينما انشغل سليم بشكر الفتيات، اقترب يزن منها وهمس بصوته العميق:

-متقلقيش أنتي معايا، مش هسيبك.

قالت له باكية وهي تشير نحو نفسها:

-كانت هتخطفني والله أنا حسيت بكده.

مسح دموعها بأصابعه، وهمس:

-حتى لو خطفتك كنت هجيبك وهوصلك حتى لو كنتي في بطن الحوت.

انفجرت بالبكاء بين يديه، وارتجف جسدها، فشد على يدها مطمئنًا، وفجأة راودته أمنية غريبة لم تطرأ له يومًا مع فتاة...تمنى لو كانت زوجته الآن، ليضمها إلى صدره، ويمنحها الأمان الذي لم تشعر به الآن.

-أنا خايفة، قلبي بيوجعني.

-سلامة قلبك، متخافيش طول ما أنا معاكي.

ابتسم لها بحنانٍ نادر، ابتسامة كانت بمثابة مرهم على جراحها، أما في الخارج، أجرى سليم اتصالًا بـ زيدان، الذي أجاب بحنق:

-نعم، واقسم بالله أنا عارف ما هشوف شغلي بسببكم.

-اتنيل، وتعال عند يزن في الأجانص، خطيبته كانت هتتخطف.

-إيه؟ خطف؟ لا حول ولا قوة إلا بالله، معاك رقم النجدة كلمهم بقى.

ظن زيدان أن سليم يمازحه، فاشتدت نبرة سليم بشراسة:

-أنا مابهزرش...

-ولا أنا يا سليم، أنا لو اتحركت من القسم هتجازى بجد، هبعتلك واحد زميلي يشوف الموضوع ده وأنا هاتابعه بنفسي بس حاليًا أنا متكدر في قضية بنت *****.

أغلق سليم الاتصال في وجهه، ثم التفت إلى عصفوري الكناري يراقبهما وهما يتحدثان بخوفهما، وراح يتأملهما بتسليةٍ غريبة رغم قسوة الموقف؛ فلأول مرة يشعر بانعدام ضميره.

                             ****

بعد مرور عدة ساعات...

كان نوح جالسًا في سيارته أمام العنوان المنشود، ينتظر مجيء خال حسناء كما أخبره في الرسالة بعد استلامه للمال كاملًا، كانت الدقائق تمر عليه ببطء قاتل، يتأرجح بين الترقب واللهفة، يشتعل داخله شوق متأجج للقاء ابنته، متمنيًا تلك اللحظة التي سيضمها فيها إلى صدره، ليغمرها بعناق طويل يعبر عن احتراق قلبه بفقدها، ورغم توقه الجارف لذلك العناق، كان يخشى أن يؤذي ضلوعها الرقيقة من فرط انفعاله وثوران مشاعره.

وفجأة، سمع صوت سيارة تقترب ببطء وتتحرك خلفه، حتى توقفت....رفع عينيه فرأى بابها الخلفي يُفتح، وابنته تترجل منه بسرعة، وتركض نحوه وهي تنادي بصوتها الرقيق الغارق في نهر من السعادة:

-بـــابي وحشتني اوي.

اندفع نوح من سيارته كمن أُعيدت له روحه، واحتضنها بقوة رافعًا إياها عن الأرض، يدور بها كالمجنون، يغمر وجهها بالقبلات التي حملت كل الحب واللوعة:

-روح قلبي وعقلي وحياتي كلها...

ثم أبعدها قليلًا، وقد ارتسم القلق على ملامحه، ليطمئن على سلامتها، بدا جسدها بخير، إلا أن وجهها ما زال يحمل آثار الحزن والبكاء، مما دفعه للسؤال بصوتٍ خرج منه القلق كالسهم:

-في حد عملك حاجة يا قلبي؟

هزت رأسها نفيًا، وقالت بصوت طفولي مطمئن:

-لا عمو اللي كان معايا، كان طيب بيجبلي حلويات بس أنا مكنتش عايزة آكل عشان انت ومامي وحشتوني، وعمو ده طيب كمان اوي.

ثم أشارت بيدها الصغيرة إلى خال حسناء، الذي اقترب منهم وهو يضحك ضحكة مفعمة بالانتصار وقال بثقة:

-اهو يا باشا بنتك زي الفل، ومحدش لمس شعرة منها.

قال نوح بامتنان وحذر وقد بدأ عقله يبحث خلف الكلمات:

-جميلك ده لا يمكن أنساه، بس عايز أسألك سؤال هو اللي خطفها يعرفني منين أو.....

لكن خال حسناء لم يترك له المجال ليكمل، فقطع سيل تساؤلاته بإجابة مختصرة بدا وكأنه حفظها عن ظهر قلب، كما لقنته حسناء مسبقًا:

-خطفها عشان جدها يا باشا الحاج فاضل مش هو اسمه كده تقريبًا، أصل اللي خطفها ده تخصص تجار أجهزة كهربائية، اه ما هو كار الخطف ده تخصصات كبيرة اوي سعاتك.

أكمل نوح استجوابه بشكّ:

-ومكلمش جدها ليه؟ كلمني أنا ليه يطلب الفدية؟

كان هذا السؤال مختلفًا عمّا تدرب عليه خال حسناء، فتلعثم قليلًا، قبل أن يستجمع نفسه ويجيب بإقناع مصطنع:

-يمكن كلمه يا دكترة وجدها رفض...أو يمكن حس إن جدها راجل بخيل لامؤاخذة فقالك بقى أبوها هيموت عليها ما نكلمه، ويا صابت يا خابت.

تأمل نوح إجابته بصمت، يقلبها في ذهنه ويقارنها بما سمعه، مما أثار القلق في قلب خال حسناء الذي بادره بقلق ظاهر:

-يا دكترة اوعى تقل بأصلك معايا لامؤاخذة، ما هو ميبقاش ده في الآخر جزاتي.

نظر نوح إلى ابنته، التي كانت قد غفت فوق كتفه بأمان، فقال بنبرة هادئة لا تعكس أبدًا العاصفة التي تدور داخله:

-متقلقش، المهم بنتي رجعتلي.
                             ***

وصل نوح إلى منزل عائلة يسر، وأيقظ طفلته التي كانت تغط في نوم عميق داخل السيارة، ثم ترجل معها إلى باب المنزل، طرق الباب ففُتح على الفور، لتظهر يسر التي ما إن رأت ابنتها حتى صرخت بجنون، وأسرعت لتحملها وتضمها إلى صدرها، تقبلها وتبكي بحرقة، مرددة كلمات الشكر والحمد على عودتها سالمة.

تقدم الجد والجدة بخطوات مسرعة، وملامحهما مشعة بالفرح، واحتضنا الصغيرة بين ذراعيهما، يتبادلانها كجوهرة ثمينة أعيدت إليهما بعد ضياع، أخذتها يسر من بينهما وهي تبكي بسعادة عارمة، تقبلها وتشمها كأنها لا تصدق أنها بين ذراعيها من جديد.

وأول من نطق بعد تلك اللحظات الصاخبة بالمشاعر، كان الجد "الحاج فاضل" فوجه سؤاله بنبرة تحمل الكثير من الفضول والقلق:

-الشرطة لقتها فين ولا مع مين، ومسكوه المجرم ده ولا لا؟

كان نوح لا يزال واقفًا على أعتاب الباب، فهز رأسه نفيًا وأجاب بصوت واثق:

-الشرطة ملهاش دخل نهائي، الموضوع كله من تحت لتحت كده.

رفع فاضل حاجبيه بدهشة، وقد ازداد فضوله:

-ازاي يعني من تحت لتحت يا نوح؟

-يعني ببساطة كلمت حد له في الحوارات دي وهو كان أسرع من الشرطة ودفعت فلوس والحمد لله جابها.

تدخلت "أمل" والدة يسر، وهي تشعر بالريبة والقلق:

-هو الموضوع هيخلص كده بالساهل يا نوح؟ ما هو الشرطة يا بني هيدخلوك في سين وجيم، ودي حواراتها كبيرة.

زفر نوح زفرة طويلة، قبل أن يجيب بنبرة غامضة أقلقتهم:

-لا ما احنا هنقول إننا لقيناها رجعت لوحدها ومنعرفش ازاي وخلاص، وبعدين متقلقوش أنا هقفل الحوار ده.

قالت يسر بجمود لم يعرف اللين:

-طيب يا نوح، سلام بقى احنا بنام بدري.

ثم أغلقت الباب في وجهه بقوة، دون أن تبالي بنظرات والدها المستنكرة، وما إن استدار لينظر إليها، حتى قالت بصوت عالٍ وكأنها تتمنى أن يسمعها... وقد فعل:

-متبصليش كده يا بابا، هو مش قال أنا هقفل الحوار ده، يبقى مشكلته هو، وبعدين ده مش بعيد يكون أصلاً هو اللي خاطفها عشان يضغط عليا ومخلعهوش بس على مين هخلعه بردو.

ثم حملت ابنتها ودخلت غرفتها، وتركتهما ينظران إليها بدهشة كبيرة، كأن صدمة الفرح قد تحولت إلى صدمة حيرة، أما نوح فظل واقفًا بالخارج، مصدومًا من فعلتها الحمقاء في حقه، أهذه مكافأته؟ لم تكلف نفسها حتى أن تشكره! بل تجاوزت حدود المنطق واتهـمته صراحةً بخطف ابنته! هو الذي ذاق ويلات الألم في فراقها، وعاش أيامًا حالكة كأنها دهور، لا يهنأ بنومٍ ولا يطمئن لقلب.

وقف في مكانه مذهولًا، يشد على قبضته، يعتصر أنفاسه بمرارة لم يعرفها من قبل، كانت كلماتها طعنات، لا توجه فقط إلى رجولته، بل إلى إنسانيته، إلى قلب أب مزقته فكرة أن ابنته في خطر، وها هي....بعد أن عاد بها الروح إلى صدرها، تصر على ما كانت تنوي فعله سابقًا... الخلع...دون حتى أن تمنحه لحظة امتنان، أو نظرة تقدير، أو حتى تفسيرًا!

حقًا، لقد أصابها الجنون، ولكن أكثر ما آلمه، أكثر من جحودها، كان وقوفه أمام الباب، كأنه شحاذ يتوسل شيئًا لا يستحقه...وهذا ما حطم ما تبقى فيه من كرامة.

                          ****
جلست سيرا فوق فراشها، تريح جسدها المرهق من آثار يومٍ طويل امتلأ بالأحداث الغريبة والعجيبة، تلك التي انتهت بالشرطة والتحقيق معها بشأن اختطافها، مرورًا بمجيء سليم ويزن إلى منزلها لإيصالها، ثم اتفاق سليم مع والدها على خطبة بسيطة عائلية تُقام بعد غدٍ، وبحق...لم تكن تتمنى أن ينتهي يومها على هذا النحو.

تحركت فاطمة بجانبها، وهي لم تتركها لحظة واحدة منذ وصولها، وقالت بحيرةٍ بدت غريبة على ملامحها:

-حقيقي أنا مش فاهمكي يا سيرا، يعني في واحدة في الدنيا تزعل عشان خطوبتها هتبقى بعد بكرة!!

أجابت سيرا باقتضابٍ لا يخلو من الحدة:

-اه أنا يا فاطمة.

رفعت فاطمة حاجبيها وقالت بانفعالٍ تلقائي:

-ليه يا بنتي؟ ما تفكك بقى من كلام العقربة حورية! يزن كان مخضوض عليكي بجد، وباين عليه إنه بيحبك...

قاطعتها سيرا بنبرةٍ شبه غاضبة، وقد ارتسم الجمود في نبرتها:

-ده أكيد أسلوب حقير من أساليبه عشان يوقعني في شباكه زي ما وقع ألف بنت غيري! أنا مش عبيطة يا فاطمة وفاهمة كويس أوي.

تبسمت فاطمة بسخريةٍ لاذعة، وهي تقول:

-متزعليش مني، أنتي ولا فاهمة أي حاجة، لو زي ما حورية ما بتقول، أكيد كنتي لاحظتي يا بنتي، وشوفتي معاه بنات... وبعدين اللي زي يزن ده لو هو فعلاً بتاع بنات زي ما حورية بتقول، عمره ما هيرتبط ولا هيقيد نفسه بحد.

جادلتها سيرا بلهجةٍ حادة، ونظرات متوترة:

-وليه ما تقوليش إنه كان بيحافظ عشان مشوفش منه إلا الصورة الكويسة؟ وليه متقوليش إن الخطوبة دي مجرد سلم عشان يوصلي...؟

قالت فاطمة، وقد خانها لسانها في لحظةٍ من الحماقة:

-أنتي مش جميلة للدرجادي إن حد يخسر حياته عشان يوصل لواحدة؟!

وما إن خرجت الكلمات من فمها، حتى وضعت يدها عليه في حرجٍ شديد، فمالت سيرا برأسها، وضحكت بتهكمٍ بارد:

-فعلاً أنا مش جميلة للدرجادي، بس أحيانًا يا فاطمة الإنسان غروره بيصورله إن الكون كله بيمشي لمزاجه وأهوائه، واللي زي يزن، ولا يفرق معاه أنا حلوة ولا وحشة، المهم أبقى مجرد عدد بيكمل بيه مسيرته.

همست فاطمة برجاءٍ هادئ:

-طيب اديله فرصة... ما يمكن فعلاً كلام إخواتك صح!

هزت سيرا رأسها نفيًا، بإصرارٍ قويٍ لا يتزعزع:

-ولا نص فرصة، بابا بس تستقر حالته وأطمن عليه وأعرف أتكلم معاه ويستوعبني، وبالمرة أقدر أمسك غلطات على سي يزن وأقنعهم بعمايله السودة.

أطرقت فاطمة قليلاً، ثم قالت بلطفٍ هادئ:

-إخواتك بيحبوكي يا سيرا، ومش عايزين غير مصلحتك. وهما مش عايزينك نسخة مكررة منهم، متزعليش منهم ومن ضغطهم عليكي.

قالتها فاطمة بهدوءٍ ورزانة عندما لمحت على وجه سيرا لمحاتٍ من نقمٍ شديد تجاه تدخل إخوتها في حياتها، هزت سيرا رأسها بتفهمٍ عميق، وقد بدأت كلمات ما تتشكل على طرف لسانها، لكنها لم تُنطق، إذ قُطع حبل أفكارها بطرقٍ على الباب، ودخلت فريال وهي تحمل أكياسًا بلاستيكية كبيرة، امتلأت بأصناف الطعام والحلوى.

رمقتها سيرا بدهشة، ثم قالت بتعجبٍ ظاهر:

-إيه ده كله؟ ومين جابه؟

أجابت فريال ببسمةٍ حالمة، ونبرةٍ متساهلة:

-خطيبك يا ستي، بعته ووصاني أخليكي تاكلي... خايف عليكي.

أجفلت سيرا من لهجتها، لكن الابتسامة تسللت إلى وجهها على غير رغبةٍ منها، وقالت بهدوءٍ زائف:

-ماليش نفس يا فيفي، بس ممكن آكلهم بعد شوية.

-بالهنا يا حبيبتي.

ثم خرجت فريال من الغرفة، وما إن أُغلق الباب خلفها، حتى التقطت سيرا هاتفها وأجرت اتصالًا سريعًا بيزن، كانت تنتظر رنين الهاتف بفارغ الصبر، وما إن أتاها صوته حتى صاحت بعصبيةٍ أدهشت فاطمة:

-أنت باعت الأكل ده كله ليه؟ حد قالك إن مفيش أكل في بيتنا؟!!!

رد يزن بصوتٍ بدا مندهشًا:

-إهدي، إنتي متعصبة ليه؟ عادي جبتلك حاجات حلوة... كل البنات بتحبها...

توهج وجه سيرا بالغضب، وحدقت في الهاتف وهي تردد بعصبيةٍ تنم عن استنكارها:

-كل البنات؟ وأنا بقى مش زي البنات يا يزن! وماتعاملنيش زي البنات! وأول وآخر مرة تتعدى حدودك معايا.

اخشوشنت نبرته فجأة، وقال بنبرةٍ شبه حادة:

-إنتي مجنونة؟ دي جزاتي يعني على اللي بعته؟ أنا اتصرفت بعفوية، إيه كل الهجوم ده؟

لم يدرك يزن أن سيرا شعرت بالتقليل من شأنها، شعورٌ غريب تملكها، لم تستطع إدراك حجمه ولا السيطرة عليه، بدأت تنقم عليه ماله وسيطرته، تلك السيطرة التي تمنتها في بادئ الأمر.

أشارت إليها فاطمة بالهدوء، وهمست بنبرةٍ صادقة:

-مغلطش يا سيرا على فكرة.

أطلقت سيرا زفرة قوية، ثم قالت بهدوءٍ مصطنع يخفي الكثير:

-ما تتصرفش معايا تاني يا يزن بعفوية، لو سمحت، وحتى لو كنا مخطوبين، أو هنتخطب، فياريت ما تفكرش إنك هتصرف عليا...

صمتت لحظة، ثم تابعت بأمرٍ واضح:

-واه كلامك اللي كان هنا لبابا، إنك تيجي توصلني كل يوم الصبح وتروحني من الشغل، مش هيحصل أوك؟؟

طال الصمت من الطرف الآخر، قبل أن يتفوه بنبرة واحدة:

-أوك... سلام يا بيبي!

أغلقت سيرا الاتصال، وألقت بالهاتف بعصبيةٍ شديدة، وهي تتلفظ بغضبٍ مكتوم:

-بيبي تاني؟!!! بيقولي بيبي... بيبي لما يلهفه... ابن..... هي أمه اسمها إيه؟!

ولم تكد تكمل جملتها حتى طرق الباب مجددًا، ودخلت شاهندا هذه المرة، بوجهٍ حاد ونبرةٍ مملوءة بالاعتراض:

-حورية صاحبتك جاية تشوفك... اتفضلي يا قمر.

دخلت حورية بوجهٍ جامد، وعينيها ممتلئتين عن آخرهما بالكلام، وعندما غادرت شاهندا، رفعت هاتفها أمام سيرا وهي تقول بنبرةٍ يغمرها الغيظ:

-أستاذ يزن باعتلي رسالة بيعزمني فيها على الخطوبة؟ أقدر أفهم حضرتك فهمتيه إيه عني؟؟؟ عشان يبعتلي رسالة زي دي؟!
                                ***

في منزل حسناء...

وضعت المال المتفق عليه أمام خالها، الذي نظر إلى النقود بعدم رضا، وقال بامتعاض:

-شايفة يا أختي عمايل بنتك؟ يعني جبتلها الفلوس لغاية عندها، وفي الآخر جاية ترميلي عشرين ألف جنيه؟!

قالت والدتها بغيظٍ مكتوم، وهي تنظر إلى ابنتها بنظرةٍ لم تخلُ من التوبيخ:

-ادي خالك عشرة كمان يا حسناء.

لكن حسناء اعترضت والدتها بلهجةٍ حازمة:

-ولا جنيه زيادة، وبعدين احمد ربنا إني اديتك فلوس أصلًا! ما أنت واخد في حضنك مية ألف جنيه، أنا اتكلمت؟ ولا قلت حاجة؟!

فتح خالها فمه ليرد، لكن اندفاع باب الشقة بقوةٍ عنيفة جعلهما كالأصنام في أماكنهم، وقد ثبتت أنظارهم على الأشخاص الذين اقتحموا المكان، كانوا ملثمين، يملؤون الأرجاء بسرعةٍ خاطفة، وفور أن استقروا داخل الشقة، ارتفعت أفواه أسلحتهم النارية لتستقر فوق رؤوسهم...! 
انتفضت سيرا واقفة بغضب جامح، تطاير الحنق من عينيها وهي تحدق بحورية التي لم تترك اتهامًا إلا وأمطرته على رأسها، وكأنها تحملها ذنبًا لم تُقترفه:

-قصدك إيه بالكلام الفارغ ده؟! هكون قولتله إيه عنك؟

ارتسمت على شفتي حورية ابتسامة ساخرة، وكان بريق عينيها يوحي بغضب دفين تفجر بعد تلقيها لتلك الرسالة الغريبة، شعرت حينها بدخان الشماتة يتصاعد من الحروف وكأنه عبر المسافات ليخترقها ويصل إلى أعمق موضع في كيانها.

-معرفش، إيه وصله إنه يبعتلي رسالة زي دي يا ست سيرا إلا إذا كنتي فهمتيه إني غيرانة منك؟؟ 

استشاطت سيرا غضبًا، وارتجفت نبرتها وهي ترد بنبرة لا تخلو من التهديد:

-حورية الزمي حدودك معايا، أنا سيرا ازاي تكلميني بالشكل ده؟!

بدأت عيناها تتوهجان بدموع حبيسة، تتأرجح بين الانفجار والكبرياء، حتى سارعت فاطمة، ورغم نفورها الدائم من حورية، إلى التدخل لتهدئة الأجواء المتوترة:

-اهدوا يا بنات، ده أكيد سوء تفاهم، حورية على فكرة سيرا كانت هتتخطف النهاردة.....

لكن حورية قاطعتها بعنف، كمَن دفعت بها حماقتها إلى الهاوية دون أن تنتبه:

-يا ستي أنا ماليش فيه، أنا عايزة تبرير حالاً للرسالة دي!!

حينها، سقطت دمعة خذلان من عيني سيرا، كانت دمعة مُرة، امتزجت بالإحساس بالوحدة والخذلان، إذ إن حورية لم تكلف نفسها أن تراعي ما تمر به، فمسحتها سريعًا، وردت بجفاء قاتل:

-معرفش، عندك رقمه اسأليه.

لكن تلك الإجابة زادت من هيجان عقل حورية الثائر، وجعلتها تتفوه بكلمات جارحة متعمدة، في محاولة لتدمير الصورة التي لم تستطع أن تنال منها داخل برج يزن العالي:

-باين شهيرة أختي كان عندها حق ونظرتها كانت صح، أنتي واحدة عارفة بتعملي إيه بالظبط والتمثيلية البايخة اللي عملتيها عليا وصدمتك فيه كان حوار فيك، للأسف كنت بحسبك واحدة غير كده، بس الظاهر إن الفلوس ومنظره خدعوكي، متبقيش ترجعي تعيطي وتندبي حظك بعد كده.

التقطت سيرا الإهانة وأجبرتها على البقاء في صدرها، لكنها لم تتركها تمر دون رد، فقالت بنبرة مريرة تنضح استنكارًا:

-لولا إن في بينا عيش وملح وإنك في بيتي، كان هيبقى ليا تصرف تاني معاكي...

وبينما تصاعد التوتر إلى ذروته، تدخلت فاطمة مجددًا، هذه المرة برزانة لم يعهدها أحد فيها، إذ اعتادت إطلاق لسانها عند حدوث مثل هذه النزاعات:

-اهدي يا سيرا، حورية أكيد ماتقصد.....

إلا أن حورية قطعتها بنفور واضح ونظرة لم تخفِ استنكارها:

-لا أقصد، ومتلعبيش يا فاطمة دور المصلحة الاجتماعية، وبعدين أنا هستغرب ليه سيرا متغيرة، ما هي ماشية ورا الفنانة اللي كل رأيها سطحي زيها، ميهماش غير الشهرة والفن، مش دي اللي مابتحبيش تاخدي رأيها في حاجة ومابتسمعيش لكلامها، إيه غيرتي رأيك؟!

تلون وجه سيرا بلون أحمر قاسٍ، احتقن الدم فيه، وكأن كلمات حورية فجرت قنبلة في أعماقها، جعلتها تُجسد مزيجًا من الكره والصدمة والاستهجان، يد فاطمة التي كانت على كتفها انسحبت، ثم أمسكت هاتفها وهمست بنبرة واهية:

-ماما اتصلت كتير، لازم أمشي...

تعلقت سيرا بيدها برجاء، وكانت عيناها تنطقان بكل الألم الذي لم تجد له مخرجًا، لكن فاطمة رفضت النظر إليها، حتى قُطع ذلك الموقف المفجع بدخول مفاجئ لأبلة حكمت، التي قالت بنبرة صارمة:

-معلش يا حورية يا حبيبتي، سيرا بس تعبانة ومحتاجة ترتاح، اتفضلي انتي، وابقي زوريها في أي وقت تاني.

كان أسلوبها واضحًا لا لبس فيه، وكأنها تطردها بلطف متحفظ، رمقت حورية سيرا بنظرة أخيرة، لكنها رأت اهتمامها مُنصبًا على فاطمة، فاستدارت وغادرت، حتى وقفت على أعتاب الباب لتُفاجأ بأبلة حكمت تُوقفها وتقول:

-طول عمري نظرتي فيكي ماخيبتش، بس يا حبيبتي نصيحة مني ليكي لو محروق دمك من حاجة حاولي تكتميها ماتبقيش بصلتك محروقة كده.

عقدت حورية ذراعيها أمام صدرها، وأجابتها بتهكم خفيف:

-حضرتك قصدك إيه؟!

تنهدت أبلة حكمت، ثم قالت بنبرة هادئة لكنها مغلفة بحدة موجهة بعناية:

-قصدي اللي فهمتيه يا بنت الناس، أنا اختي اللي جوه دي خط أحمر، يمكن كانت بتفضفض عني بكلام معاكي، بس أنا مش زعلانة منها من أي كلمة، أصلها في النهاية أختي حتة مني، يهمني مصلحتها ونفسيتها، عشان كده بقولك مالكيش دعوة بأختي، ومتدخليش في أي حاجة تخصها أصل يمين الله هيكون لي تصرف مش هيعجبك، ومتقلقيش هي وفاطمة هيتصالحوا، أصل الاتنين مالهمش إلا بعض، يلا يا حبيبتي الوقت اتأخر وأهلك زمانهم قلقانين عليكي.

* أما بالداخل*

كانت سيرا قد منعت فاطمة من الخروج، أغلقت باب الغرفة بعنف، ثم اندفعت نحوها واحتضنتها بقوة، وهمست وسط بكاء متقطع:

-حقك عليا فاطمة، متزعليش مني، ماتسبنيش أنا ماليش غيرك.

فاطمة بدورها كانت تبكي أيضًا، لكنها أخفت دموعها خلف ابتسامة متماسكة:

-يا بنتي مش زعلانة، هو أنا هزعل منك يا مجنونة بردو.

ابتعدت سيرا عنها قليلًا، ونطقت بنبرة صادقة متقطعة:

-لا زعلانة وحقك، بس والله أنا ماقولتلها الكلام ده بالمعنى ده، أنا بس...كنت دايمًا بقولها إن مابحبش تفكيرك من ناحية الفن وحبك له، بس والله يا فاطمة مكنتش بقول زي ما هي بتقول كده، حقك عليا، أنا ماليش غيرك.

مسحت فاطمة دموعها، وقالت بابتسامة حزينة:

-عادي يا سيرا، طيب ما أنا بشتم عليكي مع أمي، واحدة قصاد واحدة.

-فاطمة أنا ماليش غيرك، أنتي مش هتزعلي مني صح؟!

سألتها سيرا برجاءٍ ممزوج برجفة، فأجابت فاطمة بهزة رأس نافيه، وقد أدركت تمامًا طبيعة حورية المركبة، بما فيها من الخير والشر، القوة والضعف،
دخلت أبلة حكمت بعصاها الشهيرة، وقالت بنبرة ذات حدة مصطنعة:

-إيه يا سيرا البت فاطمة بتفكر تزعل منك؟ 

ضحكت سيرا بيأس وهي تنظر إلى تصرفات أبلة حكمت المتطفلة على الدوام، وكأنها لا تكتفي أبدًا من التدخل في شؤونهن، رغم ما تحمله في قلبها من محبة دفينة لهن جميعًا، مغلفة بصرامة لا تخلو من الطرافة:

-لا يا أبلة، بس إيه العصاية دي؟!

ردت أبلة حكمت وهي تلوح بالعصا كمَن يهدد ولا يقصد التهديد، ماضية في طريقتها الساخرة التي اعتادوا عليها جميعًا:

-كنت بأدب بيها عيال اخواتك وعيالي، وقولت لو في واحدة عايزة تتأدب وتعقل، لتكون صدقت كلام الحربوءة اللي كانت هنا؟

أشارت فاطمة إلى نفسها باستنكار ساخر، تحاول أن تواكب الأجواء رغم بقايا الحزن التي كانت لا تزال تظلل ملامحها:

-أنا لا طبعًا، أنا هصدق كلام الثعبانية دي بردو يا أبلة؟

نظرت أبلة حكمت إليهما بفخرٍ أمومي مموه خلف جديتها الظاهرة، ثم وجهت كلماتها إلى سيرا بنبرة ذات معنى، وقد بدت وكأنها تنتزع الاعتراف من قلبها:

-شوفتي يا سيرا، جالك كلامي لما قولتلك البت حورية دي مش صافية من ناحيتك؟

صمتت سيرا، وكأنها لم تجد في قلبها رغبة للجدال أو حتى للتأكيد، فالكلمات في مثل تلك اللحظة تُستهلك بلا طائل، واختارت أن تحتفظ بردها لنفسها، وبينما كانت تمسح دموعها بخفة، لفت انتباهها أمر ما، رفعت رأسها وسألت بنبرة مستنكرة ممزوجة بالدهشة:

-هو انتي يا أبلة، كنتي بتتصنتي علينا؟

توسعت عينا أبلة حكمت في تمثيلٍ مبالغ فيه للدهشة، ثم شهقت بصوت عالٍ قائلة:

-أنا؟ أبدًا ده أنا كنت ماشية كده رايحة الحمام، الكلام وقع في وداني غصب عني، يلا هروح للعيال دول.

غادرت الغرفة بخطى واثقة كما دخلت، وخلفت خلفها ضحكة خافتة خرجت من فاطمة وهي تهز رأسها بيأس، وكأنها تؤكد لنفسها أن تلك المرأة المستبدة الحنونة لن تتغير أبدًا، مهما تغيرت الدنيا حولها.

في تلك اللحظة، انشغلت سيرا بهاتفها، تحاول الاتصال بيزن بنظرات قلقة وصبر نافد، وكأنها تحتاج إلى إجابة تُطفئ نيرانًا تشتعل في داخلها منذ لحظة المواجهة، لكن سرعان ما ارتسمت خيبة الأمل على وجهها، وزفرت بحدة ثم ألقت الهاتف على السرير بعصبية:

-قفل تليفونه، بس تمام بكرة مش بعيد، ونشوف بقى هو بعتلها الرسالة دي ليه؟

رفعت فاطمة نظرها إليها، وعلى وجهها مسحة من الحذر قبل أن تنطق:

-عايزة نصيحتي؟

رفعت سيرا حاجبيها بدهشة مصطنعة، ثم قالت بنبرة نصفها شكوى ونصفها تحدٍ:

-أكيد يا فاطمة، من امتى بتستأذنيني ولا بردو صدقتي كلام حورية!!

تنهدت فاطمة، ولم تشأ أن تزيد من توتر صديقتها، لكنها رغبت في قول ما تراه حقًا:

-مش كده يا سيرا، بس انتي دلوقتي في فترة متلخبطة، قلبك معجب بيزن...اه وماتبصليش، لسه معجبة بيه، وعقلك بيرفضه عشان اللي عرفتيه، فأي كلمة هتتقالك هتبقى بحساب، نصيحتي ترمي كل ده ورا ضهرك وتركزي وتشوفي بعينك وتقرري، متقفيش ضد قلبك وتميلي لعقلك ولا تقفي مع قلبك وتتجاهلي انذارات عقلك، خليكي متوازنة، التوازن مفيش أحسن منه.

استمعت سيرا لنصيحتها بصمتٍ مطبق، بينما كانت كلمات صديقتها تتسلل إلى قلبها برفق، وكأنها تعيد ترتيب الفوضى داخله، ثم تمتمت بنبرة مترددة:

-وإن التوازن مودنيش لنهاية احكم بيها.

هزت فاطمة رأسها بثقة، وبصوت هادئ يحمل نضجًا لم تعتده سيرا منها من قبل، قالت:

-مفيش حاجة اسمها نهاية مفتوحة، يا إما في نهاية سعيدة، يا إما نهاية حزينة، ومش لازم الحكمة تعرفيها في وقتها، بس صدقيني، هيجيلك الوقت المناسب وتعرفيها...

ثم ابتسمت ابتسامة صغيرة، وهمّت بالخروج وهي تقول:

-تصبحي على خير.

                                ***

وضعت حسناء يدها فوق رأسها بألم، بعدما تلقوا جميعًا ضربًا قاسيًا من قِبل الرجال المجهولين، الذين لم يكتفوا بالاعتداء الجسدي، بل سلبوا منهم الأموال ثم تركوهم غارقين في دوامة من الصدمة والإعياء، كان خالها أكثرهم تضررًا، إذ تمدد أرضًا وهو يتلوى يمينًا ويسارًا، يصدر همهمات وآهات متقطعة توحي بشدة الألم الذي يشعر به.

مسحت حسناء دموعها بأنامل مرتجفة، محاولةً كتم وجعها، بينما كانت آذانها تلتقط أنين والدتها وبكاءها المستمر، فجأة صرخت فيهم بانفعال وقد بلغ بها الغيظ مبلغه:

-بــــــس، اخرسوووووا.

ساد صمت ثقيل للحظات، كانت خلالها تحدق في الباب المفتوح على مصراعيه، وهو الشاهد الوحيد على خروج الرجال المسلحين بأموالها، تفكرت بتروٍ في الأمر...هل تتصل بالشرطة؟ لكنها ليست حمقاء لتورط نفسها بذلك، هل تخبر نوح؟ لكن...

قاطع حيرتها صوت خالها، الذي تمكن من النطق بصعوبة وحسرة، قائلاً بصوت متألم:

-هو أكيد الدكتور بتاعك يا ختي اللي عمل فينا كده.

رفعت حسناء حاجبًا بعناد، وردت بعصبية تنم عن رفضها التام للاتهام:

-ما يمكن الشمام اللي كنت سايب عنده البت، اتصل بيه كده.

أخرج خالها هاتفه بصعوبة، وبدأ يعبث به بينما يردد بتثاقل:

-لا مش هو يا أختي، الواد اخد اللي اتفقنا معاه عليه، هيطمع ليه.....إيه ده؟!

اعتدلت حسناء في جلستها، وحدقت فيه بترقب وقلق:

-إيه؟؟

أجاب بشك:

-تليفونه مقفول...

زمت شفتيها ثم قالت بسرعة وبنبرة آمرة:

-قوم يا خالي روح له، ولو مالقتهوش يبقى هو الواد ده اللي عمل فينا كده.

قالتها بغيظ واضح، فنهض خالها متكئًا على الباب، يرد عليها بحيرة:

-ولو مش هو؟ وكان الدكتور بتاعك؟

أجابته بحدة وغل:

-وربي وما أعبد لاندمه على اليوم اللي فكر يعمل فيا كده، واخطف له بنته تاني.

ضحك خالها بسخرية وهو ما زال يتكئ على الباب، وقال بنبرة تهكمية:

-لا مع نفسك يا حلوة، الناس دي نابها أزرق، سلام لامؤاخذة.

في هذه الأثناء، افترشت والدتها الأرض بجسدها المنهك، وقالت بألم لا تخطئه الأذن:

-هتعملي إيه يا بت بطني؟ بوشك اللي باظ ده؟

كزت حسناء أسنانها بغيظ مكبوت، ثم هتفت بهدوء يقطر مكرًا:

-هتعرفي هعمل إيه.

أمسكت هاتفها بسرعة، واستجمعت تركيزها، ثم ضغطت زر الاتصال، وانتظرت حتى جاءها صوت نوح الخافت، والذي بدا عليه آثار النعاس:

-أيوه يا حسناء.

اتقنت التمثيل فجأة، واندفعت بالبكاء والأنين، متقمصة دور الضحية:

-الحقني يا دكتور....الحقني أبوس ايدك.

ضيقت والدتها عينيها باستغراب، واعتدلت في جلستها تحدق بابنتها التي كانت تصغي لصوت نوح، بينما تابعت حسناء حديثها بصوت متحشرج:

-ناس غريبة يا دكتور، بلطجية جم دخلوا علينا أنا وأمي، وضربونا....أنا عملت إيه بس لمدام يسر، والله ما عملت فيها أي حاجة، عشان تبعتهم يعلموني الأدب.

رفعت والدتها أحد حاجبيها باعتراض صامت، بينما استمعت إلى حسناء وهي تتابع باستسلام متقن:

-خلاص يا دكتور مستنياك، كتر ألف خيرك.

وما إن أغلقت الهاتف، حتى صاحت والدتها بحنق واضح:

-ولما يسأل مراته يا حلوة؟

ردت حسناء بهدوء فيه شيء من البرود، وهي تنهض عن الأرض وتجلس على المقعد:

-هتنكر طبيعي وأنا بقى هصر...

رمقتها والدتها بنظرات حيرة، وقالت بسذاجة:

-وليه يا حسناء ده كله؟

تنهدت حسناء بألم، وبدأت تدلك مرفقها المتورم، مجيبة بنبرة تفيض مرارة:

-كنت عايزة اسمع نبرة صوته وأنا بقوله على البلطجية واتأكدت إنه مش هو، ولسه لما يجي...

قاطعتها والدتها بسؤال قلق:

-وهتقوليله على الفلوس اللي سرقوها؟!

اكفهر وجه حسناء بغضب حاد، ثم صاحت:

-اهو انتي كده هتبوظي الدنيا، اسمعي ياما كلامي كويس، احنا قاعدين في حالنا وبلطجية دخلوا ضربونا أنا وأنتي بس اوعي تجيبي سيرة خالي، وهما ماشيين قالوا مدام يسر بتسلم عليكي وبس ولا كلمة أزيد ولا كلمة أقل.
                                ****
بعد مرور عدة ساعات...

كان الليل قد لف المدينة في عباءته السوداء، والهدوء الثقيل يخيم على الشوارع، لا يعكره سوى وقع خطوات غاضبة ارتفعت على الدرج الحجري البارد، وقف نوح أمام باب شقة والد يسر، وجهه مشدود بتجهم واضح، وعيناه تقذفان شرر الغضب المكبوت، طرق الباب طرقات حادة متلاحقة، حتى فتحه الحاج فاضل، وهو يفرك عينيه المتعبة.

وما إن وقعت عينا نوح عليه، حتى قال بنبرة هادئة ظاهرًا، متوترة باطنًا:

-معلش يا حاج فاضل بس كنت محتاج أسال يسر عن حاجات في البيت هي كانت حاطهم من زمان ومش لاقيهم.

تجهم وجه الحاج فاضل وتقلصت ملامحه في ضيق واضح، لكنه أشار له بالدخول على مضض، غير أن نوح سارع إلى الاعتراض، قائلاً بابتسامة مقتضبة:

-لا مالوش لزوم، ده كام سؤال بس...

تنهد الحاج فاضل تنهد المستسلم، ثم التفت ودخل إلى الداخل، متجهًا نحو غرفة ابنته ليوقظها، نهضت يسر بتثاقل وقد غلبها النعاس، وارتدت إسدالها على عجل، بينما صوت والدها يخبرها أن نوح بالخارج، استيقظ عقلها بالكامل بمجرد سماع الاسم، ولكنها لم تُبدِ سوى استغراب خافت، وقالت بصوت خامل:

-خلاص يا بابا روح أنت نام وأنا هشوفه عايز إيه؟

أومأ الحاج فاضل برأسه ثم انسحب بهدوء، بينما توجهت يسر بخطى مترددة نحو الباب، وقفت عند العتبة، تتعلق أطراف أصابعها بالمقبض، ثم فتحت تنظر إليه بعينين نصف مغلقتين من الإرهاق، يتملكها الفضول والريبة:

-خير يا نوح؟؟

رفع عينيه إليها، ونبرته لا تخلو من الوجوم وهو يسأل مباشرة:

-أبوكي فين؟!

استغربت سؤاله المفاجئ، فالتفتت برأسها تنظر إلى الردهة المظلمة حيث كان باب غرفة والدها موصدًا، ثم عادت تنظر إليه بتوجس وقالت بهدوء:

-دخل ينام، في إيه؟

دون سابق إنذار، أمسك نوح بمرفقها بقوة، وجذبها نحوه لتصطدم بصدره العريض في حركة أربكتها، فشهقت بهمسة مصدومة:

-إيه ده في إيه؟؟

همس بعينين مضطربتين ونبرة تحمل مزيجًا من الحيرة والغضب:

-أنتي بعتي ناس يضربوا حسناء السكرتيرة؟ انتي الغيرة عمتك لدرجادي يا يسر؟

رمشت يسر بأهدابها غير قادرة على الفهم، بينما هو استرسل، محاولًا خفض صوته:

-هي عملتلك إيه، مش كفاية معاملتك الزبالة ليها، أنا عديتلك شتايمك ليها وشتايمك عليا لما كنت تعبان في بيتها، ومارضتش اعاتبك عشان الظروف اللي كنا فيها، بس سكوتي خلاكي تتمادي باين!!!

حدقت في عينيه الغاضبتين، وكأنها ترى فيهما انعكاسًا لشعور جديد لم تألفه من قبل ومع دفاعه المستميت عنها، لم تتمالك برودها، فمطت شفتيها بفتور أثار جنونه أكثر، وقالت بسخرية:

-هي قالتلك إن أنا شتمتها وشتمتك في التليفون؟!

قاطعته بسخرية قاسية، وابتسامة باردة كالصقيع:

 -أيوه؟ وكمان بعتيلها ناس ضربوها هي وأمها، ليه يا يسر شغل العيال الصغيرة ده بس!! هي ذنبها إيه؟! طيب على فكرة هي اللي ساعدتني ارجع لينا، يعني...

قاطعته بسخرية قاسية، وابتسامة باردة كالصقيع:

-يعني هي اللي ساعدتك أنك ترجع لينا؟!

رد بنبرة خشنة وصلدة، وقد نفد صبره

-ايوه يا هانم، يعني مكنتش خاطفها زي ما بتقولي!!!

تراجعت خطوة إلى الوراء، كأنها تتقي وقع كلماته الثقيلة، ونظرت إليه بعينين خاليتين من الحياة، وقالت بنبرة باردة:

-مش هي قالتلك إن أنا عملت ده كله، يبقى أنا عملت.

ثم استدارت ببطء، وبدأت تغلق الباب في وجهه، غير أنه وضع يده ليمنعها، متسائلًا باستنكار:

-يعني إيه؟!

دفعت يده بقوة، وبصعوبة أخفت رعشة أصابعها، وهتفت من بين أسنانها بغيظ مكتوم ونبرة تنذر بالخطر:

-يعني لو مابعدتش حالاً، هصوت واقول لبابا، إنك جاي تضربني عشان خاطر واحدة متسواش حاجة، للأسف يا دكتور نوح عملت للجربوعة قيمة بجيتك دي.

ثم دفعت الباب بقوة، وأغلقته خلفه بصدمة هزت الجدار، أسندت ظهرها إليه، وهي تحبس شهقة البكاء، وغصة في حلقها تنمو كالشوك، كانت تتوقع منه اعتذارًا بعد مجيئه في هذا الوقت المتأخر، لكنها صُدمت بهجومه الموجه لا لها فحسب، بل لما تبقى من كرامتها، مسحت دموعها سريعًا، ووضعت يدها فوق بطنها، وكأنها تستمد السكون من شيء لم يكتمل بعد، وهمست بصوت باكٍ متهدج:

-حسبي الله ونعم الوكيل في أبوك، مُصر يكرهني فيه.

وفي الخارج، كان نوح ينزل السلالم بخطى غاضبة، يكاد يأكل الأرض بأسفل قدميه، فتح باب سيارته بقوة، وانطلق بها بسرعة جنونية، متجاهل كل قوانين الطريق، وكأن الألم يقوده.

لكن ما لم يعلمه نوح، أن هناك مَن كان يراقبه من بعيد، عينٌ لم تغفل عن كل حركة، حتى التقط هاتفه واتصل بالعقل المدبر، بصوت متهكم يحمل في طياته نغمة تأكيد:

-تصدقي شكله يا بت يا حسناء كلامك صح، ده راح عند مراته بعد ما خرج من عندك ونزل دلوقتي وشكله متضايق وعلى أخره.

رد صوت حسناء من الطرف الآخر، وفيه نبرة انتصار واضحة:

-مش قولتلك مش هو، المهم الواد الشمام ده تقب يا خالي وتعرفه فين، ابن الحرامية ده!!

-طيب سلام....هقلب الدنيا عليا.

ثم أُغلق الخط، لتبدأ الخيوط بالتشابك أكثر فأكثر، وأصبح الوضع أكثر احتدامًا وإيلامًا...
                             ***
في صباح اليوم التالي، نهضت سيرا باكرًا كعادتها، وتهيأت للذهاب إلى عملها، وما إن خطت خارج بنايتها، حتى وقعت عيناها على سيارة يزن تنتظر أمام المدخل، توقفت للحظات، تستجمع شتات أفكارها، وتستحضر وصية فاطمة لها:
 "حافظي على هدوئك، وخلي بالك من كلامك". تنفست بعمق ثم تقدمت نحو السيارة بخطى متزنة، وطرقت على زجاجها برفق، فاستجاب يزن على الفور، فأنزل الزجاج بهدوء، أدخلت رأسها إلى الداخل وقد ارتسم الضيق على ملامحها، وقالت بنبرة جافة:

-هو أنا يا يزن مش قولتلك امبارح ماتجيش توصلني وأنت قولتلي اوك، رجعت في كلامك ليه؟

استدار نحوها، يختبئ خلف نظارته الشمسية، وابتسامة صباحية مشرقة لا تتناسب مع حدتها، لكنها كانت كفيلة بإرباك مشاعرها المتأججة:

-هو أنتي قولتيلي كده امبارح، امال أنا سمعت ليه متتأخرش يا يزن؟!

رمقته بنظرة استنكار واضحة، وقالت بنبرة مفعمة بالشك:

-والله؟

تعمد أن يكسو صوته الحزن، وأمال رأسه قليلًا كمن يلعب دور المظلوم، بينما الخبث في نبرته لم يكن خافيًا على من يعرفه جيدًا:

-يعني ده جزاتي، آجي أخدك عشان خايف عليكي بعد اللي سمعته من زيدان امبارح بخصوص الست اللي كانت هتخطفك.

تغيرت ملامحها فجأة، وارتفع مستوى انتباهها، ثم فتحت باب السيارة وصعدت على عجل وجلست إلى جواره، وقد تملكها الفضول والحذر في آن، فسألته بلهفة:

-ها قالك إيه؟

أدار محرك السيارة وانطلق كعادته بسرعة تكاد تلامس الجنون، وكأنها جزء لا يتجزأ من شخصيته، ثم أجابها ضاحكًا بعبث ظاهر:

-مقاليش حاجة، أنا أصلاً مشوفتهوش، كنت بختصر جدالك على الصبح اللي مالوش لزمة.

رفعت حاجبيها بدهشة واستهجان من طريقته اللامبالية، وقالت بلهجة تجمع بين الجدية والغضب المكتوم:

-كويس بردو، أنا كده كده كنت هركب، تصور كنت بدور عليك من امبارح بس تليفونك مقفول.

رمقها بنظرة خاطفة، ثم عاد يركز على الطريق، وأجابها بسخرية مرحة:

-إيه، لحقت اوحشك؟

قاطعته بنبرة جادة وسؤال مباشر أرادت من خلاله أن تربكه، ظنًا منها أن صراحته المفرطة ستنكسر عند أول مواجهة:

-لا، بس كنت عايزة أعرف ليه بعت الرسالة دي لحورية صاحبتي؟! غرضك إيه؟!

لكنه لم يتأثر، بل ظل العبث مطبوعًا على ملامحه، وقال وهو يضحك دون أدنى حرج:

-غرضي شريف والله، أنا قولت يمكن تنسي تعزميها، وهي حربوءة صغيرة ممكن تزعل منك، يعني نيتي كانت سليمة.

-نيتك سليمة!! تبعتلها رسالة  تعزمها فيها؟! في إيه يا يزن ما تخليك واضح وصريح؟!

عند هذه الجملة، أوقف السيارة فجأة على جانب الطريق، التفت نحوها وقد تبدلت ملامحه تمامًا، فتلاشت سخريته وحل محلها جدية مفاجئة، قال بتروٍ أربكها وأثار حذرها:

-حلو!! عايزاني أكون صريح وماله، بعتلها رسالة عشان هي بت مش سالكة، فحبيت أقصر عليها أي مسافات.

ارتبكت من نبرته الحادة، واعتدلت في جلستها، ثم نظرت إليه وهي تقول بتهكم خفيف، تخفي خلفه ارتيابًا متزايدًا:

-يزن! حورية مش بتحبك ولا معجبة بيك، خد بالك بس ليكون غرورك وصلك....

لكنّه قاطعها فجأة، وقد خلع نظارته الشمسية ووضعها بعناية إلى جانبه، قبل أن ينطق بكلمات نارية:

-غروري!! انتي تعرفي إيه عني يا سيرا غير اللي بتسمعيه منها؟! وبعدين مين قالك إن أنا فاكر أنها بتحبني، لا أنا عارف أنها مابتطقنيش، بس ليه؟ وعشان إيه؟ فاكرة نفسها أبلة الناظرة في المدرسة وبتعلمنا الأدب، وإن جيتي بصيتي ليها هتلاقي حياتها وكلها هي على بعضها مليانة غلط في غلط، فمتجيش وتنظر عليا أو على حياتي، أو على حد يخصني.

حدقت فيه بدهشة، وصدمة امتزجت بالاستفزاز، لكنها لم تترك كلامه يمر دون رد، سألته ساخرة:

-ومين بقى اللي يخصك هي نظرت عليه؟!

اقترب منها، وأشار نحوها بحركة حادة، ونبرة امتزجت فيها الغيرة بالتملك، وقد فُضح ما يحاول منذ أيام أن يُخفيه:

-أنتي، ايوه انتي تخصيني، اوعي تكوني فاكرني عيل أهبل ماشي ورا البنات وبريل على أي بنت....

قاطعته بقوة، تحاول أن تسيطر على ارتجاف قلبها الذي خانها لحظة، لكنها استعادت رباطة جأشها بسرعة، وقالت بنبرة لاذعة:

-حلو صراحتك دي، انت إيه بقى؟ دنجوان؟ ولا بتضحك على البنات....

ابتسم بسخرية جذابة، وأشار بيده وكأنه يوجه صفعة معنوية:

-أنا كل حاجة وعكسها، وافهميها انتي بقى.

أدار محرك السيارة مجددًا، لكن سيرا لم تمنحه تلك النهاية السريعة، فاستوقفته بنفَس مشحون بالغضب:

-لا استني، ماتتكلمش بمزاجك وتوقف بمزاجك، أنا عايزة افهم انت إيه؟، مش مكسوف مني بجد.

رفع حاجبيه متعمدًا البرود، وقال بهدوء أربكها:

-وهتكسف منك ليه؟!، أنا مابعملش حاجة غلط، ولا عمري وعدت بنت بجواز ولا عمري اعترفت لواحدة بحبي، كلها علاقات تقدري تقولي عليها، مزاجية هما بيرتاحوا فيا وأنا برتاح فيهم، كل واحدة فيهم فيها ميزة خاصة وعيب، وأنا بقى بقى عندى دكتوارة في جنس حواء.

شعرت بكلماته كأنها صفعات متتالية، فعضت على شفتها السفلى بقوة حتى شعرت بطعم الدم، ثم قالت بغضب توعده:

-تصدق بالله أنا لو كان معايا سكينة، كنت غرزتها في قلبك وخلصت، إيه اللي بتقوله ده؟! بس فعلاً حورية كلامها صح عنك.

لم يفهم لماذا أصر على صدمها بحقيقته، ربما أراد أن تضع نهاية لهذا الارتباط الوليد قبل أن يتجذر، ربما أراد أن تكتشف بنفسها عيوبه، فلا تأتيه يومًا باللوم، وربما، فقط ربما... أراد أن يكون أمامها شفافًا، فتملك هي حرية القبول أو الرفض.

-حورية دي أكبر واحدة سطحية، سمعت من أختها كلام عني وراحت تردده زي البغبغان، طيب ما أنا بردو ممكن اعمل زي البغبغان واردد إنها شخصيتها ضعيفة مع خطيبها وبيهزق فيها في الرايحة وفي الجاية و.....

قاطعته وقد علت ملامحها علامات الصدمة والاشمئزاز:

-بس بس  إيه الكلام اللي بتقوله ده؟!

-هي مش هتيجي تقولك عيوبها ولا إن اهلها بيعانوا معاها في إيه، وعلى فكرة أنا عرفت من نفس الشخص اللي هي واخدة معلوماتها ثقة منها، سيرا أنا لو جيبتلك مليكة مرات زيدان لغاية عندك وعرفتها باللي حورية بتعمله معايا، هتثبتلك عكس كل حاجة هي قالتها.

ضحكت ضحكة ساخرة، وقد تلبسها الاشمئزاز من منطقه، وقالت بحدة:

-وده ليه بقى، ماسك حاجة على مرات اخوك؟

اشتد صوته، وتبدلت نبرته إلى لهجة لاذعة فيها من الغضب والرفض ما أسكتها للحظات:

-خدي بالك من كلامك معايا وكلامك وعن أهلي، كل اللي اقصده إن الحمد لله إذا كان شمس مرات سليم أو مليكة مرات زيدان فأنا علاقتي بيهم كويسة، وعمري ما اتعديت حدودي معاهم، ومن اللحظة اللي دخلوا فيها بيتنا، فهما اخواتي، فأنا مش زعلان عن أي كلمة قالتها مليكة عني لشهيرة أخت حورية، هي في الاول كانت ماتعرفنيش وتعرف الظاهر بس.

اعتدلت في جلستها تنظر أمامها، عقدت ذراعيها بتوتر واضح وعيناها مشبعتان بالغضب، ثم قالت بحدة ووجوم، تعبر عن امتعاضها:

-لو سمحت وصلني يلا الشغل.

لم ينبس يزن ببنت شفة، واكتفى بقيادة سيارته بجنون كعادته، كأنما يتعمد استفزازها، بينما كانت عيناه تتنقلان بين الطريق ويده الموضوعة على المقود، في حين أسند الأخرى بإهمال فوق ساقه، شعرت سيرا بالقلق يتسلل إلى قلبها، فتهوره لم يكن مألوفًا فحسب، بل بدا هذه المرة وكأنه ينذر بشيءٍ أكثر خطورة، قاطع شرودها صوته العابث، وقد نطقه بنبرة مليئة بالثقة واللامبالاة:

-مابعرفش اسوق إلا بإيد واحدة....

نظرت إليه باستنكار وقلق، وقالت:

-يعني عارف إنك بتخوفني؟!

أجابها بضحكات قصيرة ساخرة، لكن وجهه ما لبث أن عبس فجأة، نظر بحدة نحو المرآة الجانبية وهمس بقلق لم يخفَ على أذنها المتحفزة:

-إيه العربية دي، ماشية ورايا ليه؟!

شعرت سيرا بانقباض مفاجئ في صدرها، وسارعت تسأله بقلق متزايد وقد استدار جسدها نحوه:

-في إيه يا يزن؟

نظر إليها سريعًا وابتسم ابتسامة حاول أن يضفي بها طمأنينة لم تكن نابعة من قلبه:

-مفيش حاجة...انتي خوفتي ليه كده؟!

لكن كلماته لم تكد تلامس الهواء حتى انطلقت سيارة سوداء بسرعة جنونية خلفهم، فانعقد حاجباه وشد قبضته على المقود، وزاد من سرعته محاولًا الفكاك من مطاردة غامضة، سيرا لم تتوقف عن سيل أسئلتها، صوتها المرتعش يختلط بصوت المحرك المرتفع، حتى نفد صبره، فصرخ بها بقوة:

-اسكتي يا سيرا، خليني اركز.

-دول أكيد تبع الست اللي كانت هتخطفني، هيسرقوا أعضائنا....هيسرقوا أعضائنا.

على نبرته بسخرية من ذعرها وساذجتها:

-هيسرقوا أعضائك، أعضائي أنا مالها، سيبني أركز.

اقتربت السيارة الأخرى منهم، حتى أصبحت بمحاذاتهم، ومن نافذتها ظهر رجل بنظرات حادة ونبرة إجرامية باردة:

-اقف، احسنلك.

شهقت سيرا بفزع، ثم صرخت برجاء:

-اوعى تقف يا يزن.

لكن الرجل لم يكتفِ بالتهديد اللفظي، بل أخرج سلاحًا ناريًا وجهه ناحيتهما، وظهر خلفه رجل آخر يحمل سلاحًا أكبر، لم تملك سيرا نفسها، فصرخت برعب هز أوصالها:

-يالهوي هيقتلونا....هيقتلونا، اقف يا يزن...لا ما تقفش يا يزن.

كان يزن حائرًا، يداه على المقود وقلبه معلقٌ بخوفه عليها، لا على نفسه، يعلم أن التهور قد يعرضها للأذى، كما يعلم أن الاستسلام قد يكون مصيرًا أسوأ، وبينما يفكر، توقفت السيارة الملاحقة فجأة أمامهم، مجبرة إياه على التوقف، التقطت أنفاسها المتقطعة وهي تشد ذراعه بتشبثٍ ملهوف، تحتمي به كمَن وجد نفسه في كابوس حي.

ترجل عدد من الرجال من أكثر من سيارة، واتضح أنها لم تكن سيارة واحدة، بل كمينًا حقيقيًا، اقترب أحدهم ونظر ليزن بنظرة فوقية، ثم قال بنبرة خشنة مهددة:

-انت يزن الشعراوي؟!

أومأ له يزن برأسه بثبات مصطنع، فأكمل الآخر بنفس اللهجة:

-المعلم طلقة بيسلم عليك، وعايزك... انزل يلا.

انكمشت ملامح يزن للحظة، ثم تساءل باستنكار محاولًا كسب بعض الوقت:

-المعلم مين؟

ابتسم الآخر ابتسامة ساخرة تكشف أن لا خيار أمامه، وقال:

-طلقة بتاع اسكندرية، إيه نسيته؟!

رفع سلاحه أمام وجه يزن، فأجابه بارتباك مصطنع وابتسامة مهزوزة:

-لا طبعًا فاكره هو ده حد ينساه!

-طب انزلوا يا أخويا انت وهي، هتشرفونا في العربيات بتاعتنا..

ثم أشار برأسه إلى أحد رجاله، فاستدار الآخر حول السيارة متجهًا إلى باب سيرا، وحين فتحه بادرت هي بالصراخ ونظراتها المرتاعة تفضح ذعرها:

-لا حضرتك أنا ماعرفوش، ماعرفوش.

اتسعت عينا يزن بصدمة من سرعة إنكارها له، لكنه سرعان ما استوعب الموقف حين رأى الرجل يمد يده ويمسكها من مرفقها بقسوة جعلتها تصرخ بألم، لم يتمالك نفسه، فهبط من السيارة بسرعة وهو يهتف:

-محدش يلمسها...محدش يلمسها قولت.

ركضت نحوه تحتمي به وقد اختبأت خلفه كأنما هو حائطها الأخير، دفعه أحد الرجال قائلاً بلهجة آمرة:

-طيب يلا يا أخويا، المعلم بيستعجلنا.

أجاب يزن وهو يحاول إنقاذها:

-خلوها تروح، طالما هو عايزاني، هي ملهاش دعوة.

-أيوه أنا ماليش دعوة.

لكن الرجل الآخر ابتسم بسخرية وقال وهو يثبت السلاح نحوها:

-لا...البت دي شافتنا وممكن تبلغ، هتروح معانا يعني هتروح، يلا متكترش عشان متزعلش.

شهقت سيرا برعب وقالت بتوتر واستسلام:

-خلاص هروح معاكوا وأمري لله.

تقدما نحو السيارات، وتبعهما رجلان يراقبانهما بحذر، قبل أن يستقلا السيارة، قال أحد الرجال:

-جبنا كل حاجة.

رد عليه الآخر:

-ايوه بس هي لسه تليفونها، تليفونه معايا.

أسرعت سيرا وقدمت حقيبتها وهي تقول برجاء:

-حضرتك هي فيها كل حاجة تليفوني وفلوسي وكله.

ابتسم الرجل بسخرية، بينما كان يزن ينظر إليها مصدومًا من سرعة استسلامها، لكنهم لم يمهلوهما الكثير من الوقت، دفِع كلاهما إلى داخل السيارة، وعندما حاول أحد الرجال الجلوس بجانب سيرا، صاح يزن بغيرة ودهشة:

-إيه هتركب جنبها؟! اوعى يا عم....مراتي.

فغرت فاهها بذهول، تنظر إليه وكأنها تسمعه لأول مرة، لكن الرجل أومأ برأسه قائلًا:

-حقك...اركب.

استقل يزن المقعد المجاور لها، وكان رجل ضخم البنية يجلس بجانبهما، مما جعل المسافة بينهما تكاد تنعدم، همست له برعب صادق وقد بدأت ترتجف:

-يزن، مين المعلم طلقة اللي عايزاك ده؟

أجابها بصوت خافت، وكأنه يخبرها بسر دفين:

-تاجر سلاح.

صرخت بجنون وقد أصابها الذهول:

-إيه...تاجر إيه؟

وما إن أنهت كلمتها حتى دوى صوت الرجال في السيارة في لحظة واحدة، وهم يرددون بصوت واحد:
ســــــــلا*ح
يتبع 
مرت الدقائق عليهما داخل السيارة ثقيلةً خانقة، وهي تتشبث بيزن كمن يودع أنفاسه الأخيرة، بينما هو ظل صامتًا، شارد الذهن، غارقًا في تفكير عميق حول تلك المصيبة التي حلت بهما، قطع عليه شروده همسها الخائف بجانبه:

-يزن، هما هيعملوا فينا إيه؟!

-معرفش.

أجابها باقتضاب، فاغتاظت من هدوئه الذي بدا لها غير مبرر وسط هذا الخطر الداهم، غير مدركة أنه كان يحاول كبح جماح أي تصرف متهور قد يجر عليهما الويلات، واضعًا سلامتها نصب عينيه، غير أنها لم تحتمل الصمت أكثر، فتجرأت ونادت على الرجل الذي تولى مهمة اختطافهما، قائلة بحبور غريب:

-حضرتك انت واخدنا على فين؟!

-اسكندرية عند المعلم طلقة.

أجاب الرجل دون أن يكلف نفسه عناء النظر إليها، فصاحت باستنكار، أفزع حتى يزن نفسه:

-لا اسكندرية لا، أنا ماقدرش أسافر معاكم، اقف ونزلني هنا.

رمقها الرجل بنظرة غاضبة وهو يجيبها بخشونة:

-انتي طالعة فسحة يا روح ***، اقعدي ساكتة، يا أما هافرغ ده في دماغك.

رفع يزن أحد حاجبيه باعتراض واخشوشنت نبرته بقسوة:

-أنت بتشتمها ليه، لم نفسك يا عم، أحسنلك.

بلمح البصر، أشار الرجلان بالسلاح نحوه، فخفق قلبها خوفًا عليه، خاصةً أن نظراته كانت تنذر بانفجار وشيك، همست إليه برجاء وهي لا تزال تحتضن ذراعه:

-خلاص يا يزن، خلاص سيبك منه.

-طيب سكتها يا اخويا، عشان مسكتهاش طول حياتها.

تدخل أحد الرجال قائلاً:

-خلاص أحمووو، عديها بقى.

زفر الرجل بقوة والتفت إلى الأمام، بينما سيرا حاولت تهدئة يزن، فهمس لها بغل مكبوت وهو ينظر إليها:

-اسكتي خالص لغاية ما نوصل ونشوف عايز مني إيه.

همست إليه بخوف تجلى بوضوح في عينيها:

-أنا خايفة من بابا وخايفة يقلقوا عليا لو اتأخرت.

زم شفتيه بضيق وهمس مجددًا:

-انتي المفروض تخافي من اللي احنا فيه، الباقي كله سهل، بس نخلص بس من الحوار ده.

هزت رأسها بتفهم وعادت بجسدها إلى الخلف، تحاول الاستكانة بينما قلبها يهوي في فوهة جحيم الخوف، ولم تدرك أنها لا تزال تتشبث بذراعه كأنها تتشبث بطوق نجاة، أما هو فلو وصل به الأمر لاحتضانها لحمايتها لفعل، إلا أنه تشبث بهدوئه الظاهري، متعجبًا من شدة خوفه عليها، خوف لم يشعر به حتى على نفسه.

مرت الساعات ثقيلةً وهما في الطريق، حتى وصلا أخيرًا إلى الإسكندرية، كانت المرة الثانية التي تطأ قدماه فيها تلك المنطقة، حيث كان المعلم "طلقة" قد أراد تزويجه ابنته رغمًا عنه، والآن ها هو يعود إليها مجددًا، ولكن بظروف مختلفة، وهي تتشبث بكفه وتسير خلفه، تُساق كما تُساق الأضاحي، تحت أعين رجال المعلم.

لكنهم لم يتجهوا هذه المرة إلى بيت المعلم طلقة، بل قادوهما إلى مخزن مهجور قريب، تفوح منه رائحة الرطوبة والصدأ، لفت انتباه يزن استعدادات قائمة لحفل زفاف شعبي بدا أنه سيُقام قريبًا في الحي.

دخلا معًا إلى المخزن، وأمرهما المدعو "أحمو" بالجلوس على مقعدين خشبيين متآكلين في انتظار قدوم المعلم طلقة، ثم جلس هو أيضًا بالقرب منهما، مما أضفى على الجو مزيدًا من التوتر والرهبة، لم يتبادلا كلمة واحدة، خوفًا من إثارة غضب الخاطفين، حتى دخلت عليهم سيدة ثلاثينية، اتضح سريعًا أنها زوجة "أحمو".

قالت السيدة والتي تدعى "غزالة" بنبرة غاضبة:

-حلو أوي ماتردش على اتصالاتي أحموو، بس عرفت أجيبك.

رفع "أحمو" نظره إليها قائلاً بخشونة ظاهرة:

-جرى إيه يا غزالة؟!، ما تظبطي نفسك، هو أنا كنت بدلع ما أنا كنت في شغل.

ثم أشار بعينه نحو يزن وسيرا الجالسين كالأصنام، غير أن غزالة لم تهتم بهما، بل تابعت بصياح حاد:

-يعني إيه أحمو محضرش شوار أختي لامؤاخذة، أنت اتجننت في عقلك يا راجل.

رد عليها بعناد قاسٍ:

-مزاجي كده، ومش هتحضريه وتمشي كلمة أبوكي عليا.

 شهقت هي باستنكار لاذع:

-لا بقى كلمة أبويا هتمشي، تصدق كلامه صح، أنت مش عايزاني أحضر شوار أختي عشان أمك هي اللي قالتلك كده، أمك بتمشي كلمتها عليك أحمو.

-يعني أبوكي اللي قالك كده؟

هزت رأسها مؤكدة، وزادت بوقاحة:

-وقالي سيبك منه ابن أمه.

وقف فجأة وجذب سلاحه من خلف ظهره، قائلاً بنبرة متوعدة:

-ولما اقتلهولك هتتبسطي، طيب وديني لاقتلهولك.

ثم غادر المخزن بخطوات صاخبة غاضبة، تاركًا زوجته تنظر خلفه ببرود، وكأن تهديده لم يحرك بها ساكنًا، التفتت غزالة برأسها إليهما بنظرات فضولية، وقالت بإعجاب غريب:

-جايين في مصيبة إيه؟! ولا انتوا شكلكوا شبه بتوع السيما وبالذات أنت يا قمر.

غمزت بطرف عينها نحو يزن، الذي جلس مذهولًا من جرأتها، فأجابت سيرا بسخرية ممزوجة بالدهشة:

-حضرتك باباكي هيتقتل مش واخدة بالك ولا إيه؟!

جذبت غزالة مقعدًا، وجلست أمامهما متحفزة، تسأل بفضول طفولي:

-ها جايين في مصيبة إيه؟!

هزت سيرا كتفيها بحيرة وقالت:

-منعرفش، بس لو حضرتك مش واخدة بالك، حمو هيقتل باباكي.

نهض يزن متوترًا ليتأكد من خلو المكان بالخارج، غير أن غزالة استوقفته بسخرية:

-اقعد يا باشا المكان برة متلغم، وبعدين انت عايز تدخل المخزن ده وتخرج كده منه سليم..

استنكرت سيرا بتهكم:

-امال هيقطعونا؟

ثم أردفت باستغراب حقيقي:

 بس حقيقي أنا مستغربة، باباكي هيتقتل وانتي ولا هنا.

حكت غزالة ذقنها بتفكير وهي تنظر إليهما:

-بس شكلكوا ولاد ناس، يا ترى المعلم طلقة عايزكم ليه؟ انتوا معلمين عليه لا مؤاخذة؟

ردت سيرا متحفزة:

-حضرتك هو اللي معلم علينا لغاية دلوقتي، بس باباكي...

قاطعها يزن بنظرة حادة، ثم التفت إلى غزالة قائلاً بلباقته المعتادة:

-احنا فعلاً مانعرفش، بس لو أمكن ممكن تليفونك يا قمر بس اعمل منه اتصال؟

ابتسمت غزالة بإعجاب واضح:

-ياخويا لسانك حلو زيك، بس لا حموووو يزعل مني وكله إلا زعل حمو.

همست سيرا لنفسها بغيظ:

-وباباها عادي يتقتل!!

سألت غزالة يزن بإعجاب سافر:

-انت عايز التليفون ليه يا حلو يا اللي شبه الحلاوة الطحينية انت؟

ابتسم يزن ابتسامته الخاطفة، وقال بنبرة مغوية أوقع بها تأثيره عليها:

-اتصل على حد قريبي، ولو كنتي خايفة من حمو أنا لا يمكن اقوله، معقولة أأذيكي يا قمر؟!

شبت نيران الغيرة في قلب سيرا، فلكزته بساقها تحت الطاولة، وهمست له بحدة:

-احترم نفسك أنا قاعدة.

ضحكت غزالة وهي تخرج هاتفها من محفظتها الصغيرة، وقالت وهي تقدمه إليه:

-خد بس اتصل على أرقام فودافون بس ممعيش رصيد لشبكات تانية.

أخذ يزن الهاتف وأجرى اتصالًا بزيدان، فوجده مغلقًا، أعاد المحاولة عدة مرات بلا جدوى، ثم زفر بضيق وهم بالاتصال بسليم، بينما غزالة كانت تثرثر مع سيرا بفضول لا يخبو:

-وانتي تقربيله إيه؟؟

-أنا...أبقى..

ترددت سيرا للحظات قبل أن تقول بابتسامة سمجة:

-مراته.

علقت غزالة بحماس:

-لايقين على بعض.

وفي تلك اللحظة علت أصوات جلبة بالخارج، فأدركت غزالة أن المعلم طلقة قد وصل، انتزعت هاتفها سريعًا من يد يزن قبل أن يتمكن من إجراء اتصال، وقالت برجاء:

-اوعى تقول إن أنا اديتك التليفون، أصله راجل شراني.

ما إن أنهت جملتها حتى فُتح الباب الكبير بقوة، ودخل المعلم طلقة وخلفه عدد لا بأس به من الرجال المسلحين، شعرت سيرا وكأنها انزلقت فجأة إلى قلب فيلم سينمائي مريب، فقال المعلم طلقة بصوته الجهوري:

-أهلاً يا ابو نسب، أهلاً بكريمة المجتمع.

وقف يزن يصافحه وقد تعمد إظهار استيائه من الموقف برمته، بينما كانت سيرا فارغة الفاه، وغزالة قد انسلت إلى الخارج خوفًا أن يطالها بطش هذا الرجل المتغطرس:

-بقى دي معاملة يا معلم؟

صافحه المعلم "طلقة" بقوة شديدة، وقد علت وجهه ابتسامة عريضة تكشف عن سعادته حين نجح رجاله في تحقيق مأربه:

-ماتزعلش يا ابو نسب، بس كان لازم اجيبك النهاردة لامؤاخذة ضروري...اقعد هنتكلم على الواقف.

جلس يزن على مضض، وقد اكتسى وجهه مسحة من الجمود، منتظرًا بدء حديثه، غير أن المعلم طلقة جذب انتباهه إلى وجود سيرا المرتعبة مكانها، فالتفت نحو رجاله وأمرهم بخشونة مفزعة:

-مين دي يا حمار منك له، أنا قولت تجيبوا كريمة المجتمع بس.

فزفر يزن بقوة، وأمسك يدها بتملك ظاهر، خشية أن يطالها تهور هذا الرجل الأرعن:

-دي مراتي يا معلم.

توسعت أعين المعلم طلقة بصدمة مفاجئة:

-أيه؟، انت اتجوزت؟

قبضت سيرا فوق أصابع يزن بقوة، حينما لمحت لمحة الشر المتجسدة في عيني ذلك الرجل الغريب، فأجاب يزن بهدوء غريب:

-اه من فترة.

-كده المسألة اختلفت واتغيرت ولا إيه يا جماااال.

هب جمال واقفًا خلفه، ينظر إلى يزن وسيرا بتفكير عميق، ثم ما لبث أن همس ببعض الكلمات بجانب أذن المعلم، وعلى إثر كلماته، اتسعت ابتسامة طلقة بقوة وهو يقيم الموقف بعينيه، فأشار إلى جمال بالابتعاد، وانتبه مجددًا إلى يزن قائلاً:

-مش مشكلة يا ابو نسب انت بردو هتفضل ابو نسب، 
أنا لامؤاخذة عايزك في حوار كده، خدمة هتقدمهالي قصاد انت والمحروسة مراتك تخرجوا من هنا سالمين غانمين.

تصلب يزن في مقعده وهو يسأل بشك:

-ده تهديد يا معلم؟!

-اعتبره تهديد، أو اعتبره عربون محبة انت هتعمله وفي المقابل....

صمت قليلاً وهو يفكر، ثم صدح صوته بخشونة مهددة:

-الصراحة مفيش غير المقابل ده، هي أوراحكم دي مش مهمة ولا إيه يا مدام؟

أشارت سيرا نحو نفسها بتلقائية وهي تسأله ببلاهة:

-حضرتك بتكلمني؟!

هز رأسه مؤكدًا وهو يسأل بشك ساخر:

-ولا انتي مش المدام، ولا إيه؟

احتضنت ذراع يزن وجذبته بقوة نحوها، مؤكدة برأسها بقوة:

-لا المدام حضرتك، يزن شوفه عايز إيه واعمله.

قالتها برجاء خاص ينبع من قلبها المرتجف، فتنهد يزن بقوة وهو يعتدل بجسده، تاركًا ذراعه التي تعشق التعلق به كطفلة صغيرة:

-عايز إيه يا معلم؟

اقترب المعلم طلقة بمقعده وهمس بضيق وهو ينظر حوله:

-بتي...مش فايزة طبعًا، فايزة دلوقتي متجوزة...

ثم خفض صوته أكثر، وكأنه يفضي بسر دفين:

-بتي نجلاااا، لامؤاخذة أنا مخبيها عن الكل، عشان عقلها...خفيف.

رفعت سيرا حاجبيها بفضول لا تستطيع كتمانه، فسألته متعجبة:

-خفيف ازاي يعني؟؟

أطرق برأسه وهو يشرح ببساطة محزنة:

-يعني عقلها لاسع شوية لا شويتين، بس واللي خالقني مفيش أطيب من قلبها، المهم بقى يا ابو نسب، بتي دي أنا بتعاير بيها لامؤاخذة من أخويا الله يجحمه، راح فاضحني وسط المعلمين بيها، وخلاني الهزوء بتاعهم كلهم، فأنا الدم غلي في عروقي، وقولت وديني لاجوزها واعملها فرح تتحاكى بيها اسكندرية كلها، اه مش أنا اللي يتلوي دراعه.

كان يزن وسيرا يتبادلان نظرات الاستفهام، فسرعان ما صرح المعلم طلقة ببسمة إجرامية منتصرة:

-مالقتش غيرك يا ابو نسب تتجوزها ونعمل الفرح وافرح واتباهى بيك في وسط المعلمين واكبس أخويا ابن الـ ******.

ساد صمت غريب وطويل بين الجميع، حتى حمحم المعلم طلقة بخشونة قبل أن يسأل باستنكار:

-ساكت ليه يا ابو نسب؟!

تحشرج صوت يزن وهو يجيبه، يكاد لا يصدق ما يسمعه:

-مش قادر افهم، هو انت يا معلم مش واخد بالك من اللي متعلقة في دراعي دي؟ دي مراتي!

زم المعلم شفتيه في ضيق، وردد بضجر:

-اه ما أنا لما شوفتها لخبطت كل حاجة، بس عادي جمال دراعي اليمين قالي تمثل إنك هتتجوز بنتي ولما الفرح يخلص تاخد بعضك انت والسينورة وتمشوا.

صمت يزن، يفكر قليلاً في خطورة هذا الموقف، ثم نظر إلى سيرا فوجدها مرتعبة حد الغرق في ذعرها، قال بهدوء وابتسامة أدهشتها:

-طيب أنا مقدرش ازعلك وماشي موافق على كلام جمال دارعك اليمين، بس يا ريت بس اتصل على سليم أخويا ابلغه عشان.....

قاطعه المعلم طلقة بإشارة نفي قاطعة ونبرة ساخرة:

-لا...اخوك ده لا، دخلته بتربكني يا جدع، ولا اجدعها معلم يقدر يهز فيا شعره لكن اخوك ده تحسه وزير داخليه في نفسه، او رئيس جمهورية كده، لا أنا قلبي بيتقبض منه، وأنا كله إلا قبضة قلبي، المهم يلا بينا نطلع اوريك بتي نجلااااااا.

نهض المعلم طلقة يتحرك ومن خلفه رجاله كالسد المنيع، فنهض يزن وأمسك بكف سيرا، إلا أنها همست بتيه:

-يعني إيه يا يزن الكلام ده؟

همس لها بضيق وهو يساعدها على الحركة وسط الرجال:

-يعني اللي سمعتيه، هلبس في حوار زفت.

-لما اطلع برة اصوت والناس تتلم، وانا وانتي نجري بسرعة.

قالت خطتها البائسة والساذجة، فنهرها سريعًا بخفوت حاد:

-لا يا سيرا، اوعي المنطقة كلها أصلاً تبعه، بلاش مشاكل، وأنا هحاول اشوف تليفون واتصل على سليم يتصرف.

هزت رأسها بتفهم صامت، وخرجا إلى ساحة الحي الذي كان يشهد انتقالهم للمنزل باعتيادية لا تبالي، وما لبثت عيناها أن وقعتا على غزالة، واقفة وسط جمع من الفتيات، تشير نحو يزن وتهمس إليهن ببعض الكلمات، فتتسع عيونهن بالهيام، رمقتهن سيرا باشمئزاز، ودون وعي منها، تركت كفه وتعلقت بذراعه بقوة، فهمس إليها بسخرية خافتة:

-دراعي اتخلع.

ردت عليه بغيظ طفولي:

-عضلاتك طلعت فشينك يعني، كنت حاسة والله، إلا لما شوفتلك أي أكشن، بوكس كده، طيرت واحد كده، انت أكشن صامت ولا إيه؟!

رفع حاجبيه بغيظ ظاهر، فالبلهاء فسرت هدوءه خضوعًا لا حذرًا عليها، في هذه اللحظة انتبهوا إلى صوت المعلم طلقة، وهو يدخل شقته ثم يأمر المتواجدين بالابتعاد، حتى وقفوا أمام غرفة بابها خشبي تعلوه نافذة مستطيلة موضوعة عليها زجاج سميك، مال المعلم طلقة عليهما وقال بحزن طغى على صوته الخشن:

-بتي، كبدي، الحتة الشمال جوه.

امتعضت وجوه يزن وسيرا من طريقته الغريبة، ثم فتح الباب، فظهرت فتاة تبدو على مشارف العشرينات، تتراقص على أنغام أغنيتها المفضلة:

"كاك كاك صو صو صو...كاك كاك كاك صو صو صو
أنا الفرخه واحنا الكتاكيت...أنا الفرخة واحنا الكتاكيت....اكلكو إيه؟ اكلنا فتافيت...لعبكوا إيه؟ جرى وتنطيط....."

ثم ركضت الفتاة هنا وهناك، تدور بخصلات شعرها الطويلة المضفّرة بعناية، وفستانها الطويل يتطاير مع حركتها الطفولية العفوية، وما إن وقعت عيناها على والدها حتى اندفعت إليه، تمسك بيده بحماسٍ طفولي تحت أنظار يزن وسيرا المصدومتين؛ إذ لم يصدقا أن هذا الرجل الجالس أمامهما، المهاب صيته كتاجر سلاح، قد تحول في لحظة إلى راقص مهرج على نغمات أغنية طفولية قديمة.

ومع كل حركة يؤديها، كان السلاح يرتفع وينخفض في يده وكأنه كرة خفيفة بين أنامله، في مشهدٍ مضحكٍ ومثيرٍ للأسى معًا، انسحب المعلم طلقة من الرقصة بأسلوبٍ عجيب، أشبه براقص باليه محترف، رغم بطنه الكبير وشاربه الضخم وهيئته التي تليق برجل قاسٍ، لا براقص طفولي، وما إن فرغ من عرضه حتى أغلق الباب خلفه، وكأنما يخشى أن تتسرب لحظات ضعفه للخارج.

ظهرت علامات التأثر على وجه سيرا، فهتفت بعدم رضا، بنبرة خافتة ولكنها واضحة:

-بس انت كده حرام بتأذيها لو عرضتها لفرح، حرام عليكوا، مش علشان اخوك تأذي بنتك.

استدار المعلم طلقة إليها ببطء، ونظرة متحدية تقفز من عينيه، رغم اللمعان الحزين الذي لم يخفَ على أحد، وقال بصلابةٍ متهدجة بالحزن:

-ودي بنتي ومش هسمح لأي كلب يطلع عليها كلمة، مش هو بيقول بته عمرها ما هتتجوز، لا أنا بقى هعملها أحلى فرح واتباهى بيها.

-بس....

لم تكمل سيرا جملتها؛ إذ قاطعها يزن بنظرة صارمة وكلمة حادة حاسمة:

-خلاص يا سيرا، هو أبوها وادرى بيها.

رمقه المعلم طلقة بإعجاب صريح، ونبرة تخللتها مودة واضحة:

-لا حمش....عجبتني.

رد يزن بتهكم خفيف:

-لا أنا حمش اوي مقولكش.

ضحك المعلم طلقة ضحكة قصيرة ثم ضرب فوق ذراع يزن عدة ضربات ودودة قائلاً بإعجابٍ صريح:

-اه يا ابو نسب لو مكنتش اتجوزت، عليا الطلاق من مرتاتي الاربعة لكنت مجوزك نجلاااا.

وأثناء حديثه، استدار فجأة ليجد زوجاته وبعض النسوة يقفن يتابعن المشهد بفضولٍ لم يتمكن من إخفائه، فصاح بهن بخشونة صاخبة:

-يلا منك ليها، حضروا الأكل للضيوف وجهزوا الاوضة الكبيرة ليهم.

صدح صوت إحدى النساء، تسأل بفضول بريء:

-اوضة واحدة بس يا سيد المعلمين.

هز رأسه مؤكدًا، وأشار بيده في حركةٍ يائسة محبطة:

-اه ما هي مراته.

فغرت سيرا فاها بدهشةٍ واستنكار، ونظرت إلى يزن تسأله بلا تصديق:

-يعني إيه الكلام ده؟!

ابتسم يزن ابتسامة جانبية ماكرة وقال بمودة مفتعلة:

-يعني يلا يا روح قلبي على اوضتنا.

انتفضت سيرا، وقد ارتسمت الصدمة على ملامحها، وقالت في خفوت يتخلله عنادٍ شديد:

-لا على جثتي طبعًا، يقتلني أحسن.

اقترب منها هامسًا بنبرة يغلفها العبث:

-بس هتعصي أمر جوزك، الملايكة هتلعنك.

أشاحت بوجهها عنه وقالت ساخرة، تصطنع الغضب لتغطي اضطرابها:

-دي تلعني لو دخلت معاك اوضة لوحدنا.

                              ****
في منزل سيرا...

كانت عقارب الساعة تقترب من التاسعة مساءً حين طرقت فريال باب غرفة والدها طرقة خفيفة، ثم دخلت بحذر وقد ارتسم الارتباك جليًّا على ملامحها المرتبكة، وقفت أمامه مترددة قبل أن تهمس بصوت خافت:

-بابا حضرتك فاضي؟

كان الرجل يجلس متأمّلًا، وبين يديه مصحف يتلو منه بهدوء وسكينة، أغلق المصحف برفق، ووضعه إلى جواره، ثم اعتدل في جلسته موليًا ابنته كامل انتباهه، وقال بصوت دافئ:

-اه يا حبيبتي، تعالي ادخلي عايزة إيه؟

بدت فريال وكأن الكلمات تخونها للحظة، وقفت مكانها، تتردد بين أن تصرح بما يقلقها أو أن تصمت، وقد جف ريقها من شدة التوتر، كانت تخشى أن تخبره بأن سيرا مفقودة، وأن هاتفها مغلق، وأنها لم تذهب إلى عملها اليوم، رغم أنهم قد تواصلوا مع مكان عملها وفاطمة أيضًا دون جدوى.

انتبهت من شرودها على صوت والدها الذي قطع حبال أفكارها:

-انتي عايزة فلوس يا حبيبتي؟ عيالك محتاجين حاجة؟

أسرعت تهز رأسها نفيًا، حركة سريعة حاسمة، ثم ابتسمت له ابتسامة ممتنة وهي تهمس بحب ورضا:

-ربنا يخليك لينا انت مش مخلينا محتاجين حاجة، بس...

شهقت بخوف مكبوت، وكأنها تفرغ همًّا أثقل كاهلها، ثم ألقت ما في جعبتها أخيرًا:

-سيرا مختفية، هي المفروض ترجع الساعة ٧ ولما مارجعتش قلقنا عليها اتصلنا عليها تليفونها مقفول، اتصلنا على المكان اللي بتشتغل فيه قالوا مجتش، اتصلنا على فاطمة قالتلنا مشفتهاش، ومش عارفين هي راحت فين؟

رمش الرجل بعينيه كأنه يحاول استيعاب ما سمعه، وقد بدأ القلق يتسلل إليه شيئًا فشيئًا، فعبث بأنامله في ذقنه وقال بحيرة:

-اتصلتوا على كل أصحابها، يمكن راحت عند حد فيهم أو عند حد من الجيران...

هزت فريال رأسها نفيًا بمرارة وأجابت بانكسار:

-مفيش حد يا بابا مسبنهوش واتصلنا عليه، وماما بتقول هي متعودة مابتروحش في مكان إلا لما بتستأذن ماما الأول....وفي حاجة كمان.

ازدادت ضربات قلبه قلقًا، وبدت علامات التوتر الشديد على قسمات وجهه، فاعتدل أكثر في جلسته وأمرها بنبرة خفيفة لكنها حادة:

-إيه؟ قولي بسرعة.

بادرت فريال، وكأن الكلمات تتدافع على لسانها:

-دهب بنت أبلة حكمت شافتها الصبح بتركب مع يزن العربية، اتصلنا على يزن تليفونه هو كمان مقفول، وأبلة حكمت بعتت حد للمعرض بتاعه قالوا مجاش، احنا قلقانين، عايزينك تتصل على اخوه الكبير تشوفه فين ويقولنا أخر مرة وصلها فين؟

كأن النار اشتعلت في صدره من هول القلق، فصاح بها وهو ينهض واقفًا:

-هاتي تليفوني بسرعة...بسرعة.

                               ****
في منزل الشعراوي...

أخرجت شمس طاجن البامية من الفرن بعناية، تصاعدت رائحة شهية منها تغمر المكان، فابتسمت برضا وانتصار، وهمست لنفسها بسعادة:

-يزن هيعمل فرح لما يليقك على السفرة.

وضعت الطاجن بحذر على طاولة المطبخ، وكادت تلتفت لتكمل إعداد مائدة الطعام، إلا أن يدًا قوية باغتتها من الخلف، تلف حول خصرها بجاذبية، تجذبها إليه بقوة حتى التصق ظهرها بصدره الدافئ، سمعت همسه الرجولي يلامس أذنها:

-طيب وأنا ماليش في الطيب نصيب؟

رمقته بطرف عينها، مستنكرة بدلال لا تخلو من الغنج:

-سولي الحركات دي مسمحش بيها برة بيتنا، عيب افرض حد قفشنا.

دارها نحوه لتواجهه، فتلاقت أعينهما، وقال بنبرة متضايقة حاول أن يخفيها خلف قناع من المرح:

-وإيه يعني؟! هيقولوا قد إيه أنا غلبان ومراتي سيباني وواقفة بتعمل عشا وبتعمل بامية للزفت يزن.

داعبت وجهه بإصبعها بنعومة وهي تهمس بخبثٍ أنثوي:

-سولي أنت غيران؟ ده يزن أخويا الصغير.

تجهمت ملامحه، وزادت حدة صوته بالرغم من بقاء نبرة المزاح:

-أولاً الشحط ده مش أخوكي الصغير، ثانيًا هو أنا ماليش نفس في أكله تعمليهالي ولا أنا هفضل كده محدش يعبرني.

اتسعت ابتسامتها أكثر حتى كادت أن تثير جنونه، فضمها إليه بقوة أكبر، واقترب منها حتى لم يبق بينهما إلا أنفاسهما المتلاحقة، ثم سألها بصوت أجش يحمل مزيجًا من الغيرة والرغبة:

-بتضحكي على إيه؟

شاكسته بشقاوة محببة:

-بحبك وانت غيران عليا، انت كده هتخليني اعمل بامية كل يوم ليزن.

قبل أن يرد، ارتفع رنين هاتفه، قاطعًا عليهما لحظتهما الرومانسية، قطب حاجبيه بانزعاج وهو يخرج الهاتف من جيبه، زادت دهشته عندما رأى اسم والد سيرا على الشاشة، صافحته مشاعر التوجس، فاعتدل قليلًا وهمهم قبل أن يجيب بنبرة رسمية:

-الو، السلام عليكم.

صمت لحظات وهو يصغي للطرف الآخر، وقد بدأ القلق يتسلل إلى قسمات وجهه، ثم عقد حاجبيه بشدة وقال بلهجة مطمئنة رغم اضطرابه الداخلي:

-أنا معرفش حاجة، بس معلش اديني وقت بس اتصرف واشوف يزن فين، ومتقلقش ان شاء الله خير.

استمر يستمع، وعندما لمح تصاعد حدة التوتر في صوت الحاج حسني، بادره سريعًا:

-لا لا نجدة إيه، ما هو زيدان اهو موجود وبعدين استناني بس اتصرف اشوف يزن، متقلقش.

أنهى المكالمة وهو يزفر ببطء كأنه يحاول أن يلجم القلق الذي بدأ يزحف إلى صدره، لاحظت شمس توتره، فسارعت بسؤالها الفضولي:

-في إيه يا سليم؟

لم يجبها فورًا، بل كان منشغلًا يحاول الاتصال بيزن، فوجد هاتفه مغلقًا، مما زاد من توتره، اتجه مباشرة للاتصال بزيدان، ولكن المفاجأة كانت أن هاتفه الآخر أيضًا مغلق، شعرت شمس بالخطر الكامن خلف صمته، فأعادت سؤالها، ولكن هذه المرة بنبرة قلقة صريحة:

-سليم...قولي في إيه؟، قلقتني!

أعاد الهاتف إلى جيبه ببطء وكأن أنامله قد ثقلت عليه، ثم التفت إليها وقد بدا العبوس جليًا على محياه، وقال بجدية قاطعة:

-سيرا مش موجودة ومختفية من الصبح وبيقولوا كانت مع يزن الصبح واهلها سألوا على يزن بردو هو كمان مختفي، وفي المعرض قالوا مش موجود ومجاش.

وضعت شمس يدها على فمها من الصدمة، ثم قالت بسرعة:

-طيب اتصل بالمعرض انت وشوف يمكن بلغهم هو راح فين، ومش عايزين يقولوا لحد، غريبة يزن مابيسبش معرض أبدًا.

هز سليم رأسه ببطء، وقد سيطر عليه شعور ثقيل بأن شيئًا غير طبيعي يحدث، فأجابها بنبرة تحمل مزيجًا من الشك والقلق:

-مش طبيعي... يزن مابيختفيش فجأة كده.

نظر كلاهما إلى بعضهما، وقد انعكست المخاوف في عيونهما، وتسللت رهبة خفية إلى قلبيهما.
                              ****

بينما كان القلق يملأ قلوب أهلها، كان الوضع مختلفًا تمامًا لدى سيرا، التي جلست بالقرب من يزن، تراقبه وهو يتناول الطعام بأريحية شديدة، وكأنهما ليسا مخطوفين من قبل تاجر سلاح خطير.

انتقلت ببصرها إلى طاولة الطعام الكبيرة التي كان يترأسها المعلم طلقة، يأكل بنهم، مستكملاً حديثه بفخر واعتزاز:

-وهجيب الليثي وبوسي ورضا البحراوي ولو حابب أي مغني في الجمهورية قولي وأنا هجيبه.

وضعت سيرا يدها أسفل خدها في حركة ساخرة، وهمست بسذاجة مصطنعة:

-ينفع تجيبوا عمرو دياب؟

التفت الجميع نحوها بدهشة مشوبة بالذهول، وقد لاحظوا بوضوح سخريتها من المعلم، فسارعت إحدى زوجاته، وهي تضع الطعام في فمه بحركة ملؤها الخوف، تهمس بتوسل:

-إلا يااختي هما أهلك مش علموكي وجوزك بياكل تأكليه في بوقه، يا اختي بتوع القاهرة دول قلبهم جامد، احنا الاسكندرانية نحب ندلع جوزنا.

التفت يزن نحوها وهو يبتسم بمكر، والطعام في فمه، ينتظرها أن تطعمه كما تفعل النساء الأخريات، رمقته سيرا بنظرة شرسة ثم التفتت إلى السيدة قائلةً بحنق مكتوم:

-لا ما هو بيقرف اوي اوي.

ضحك يزن بخفة وهمس بإصرار:

-لا مابقرفش منك، أكليني.

ضربته بساقها تحت الطاولة وهي تحدجه بنظرة تحذيرية، لكنه لم يرتدع، بل أشار بعينيه نحو طبق الأرز بإصرار طفولي متهكم:

-أكليني رز.

ضغطت على شفتيها غيظًا وهي تلتقط الملعقة وتطعمه مرغمة، والسخط يرتسم على ملامحها، بينما ظل المعلم طلقة يرمقهما بإعجابٍ صامت، يتابع تصرفاتهما، ثم همهم معلقًا وهو يمضغ لقيماته:

-كريمة المجتمع حمش حمش يعني.

وضعت سيرا الملعقة فوق الطاولة بغيظ، ثم عادت تسند رأسها على كفها، متأملة ساعة الحائط، فإذا بها تشير إلى الثانية عشرة بعد منتصف الليل، شعرت بحلقها يضيق شوقًا لعائلتها وخوفًا من مصيرها المجهول، فتسلل الحزن إلى ملامحها، وأحست برغبة عارمة في البكاء.

في تلك الأثناء، استعد الجميع لرفع الصحون والأطباق، بينما أعلن المعلم طلقة بإرهاق وهو يتكئ على كرسيه:

-قوم يا ابو نسب ريح في الاوضة انت ومراتك.

تجمدت سيرا في مكانها، ثم فجرت بكاءها فجأة بقوة، فاستدار الجميع ينظرون إليها بدهشة، وسأل المعلم بقلق حقيقي:

-في إيه؟ مالها مراتك يا ابو نسب؟

نظر يزن نحوها بحيرة حقيقية، فوجدها تحدق بالمعلم طلقة برجاء صادق، تهمس بصوت متوسل:

-مش عايزة اقعد معاه في اوضة واحدة يا معلم، عشان خاطري.

انتقل الشك إلى نظرات المعلم طلقة، الذي بدأ يتفحصهما بعين فاحصة في ظل صدمة يزن وخوفه من انكشاف أمرهما:

-ليه في إيه؟

سارع يزن يتدخل بنظرة غاضبة وهمسة مشددة:

-إيه يا سيرا انتي اتجننتي؟

فكان يرمقها بنظراته الحادة علها تتراجع عن جنونها، لكنه فوجئ بها تهز رأسها بعناد وتنهض من مقعدها تعلن رفضها صراحة:

-اه أنا ابقى مجنونة لو قعدت معاك في اوضة واحدة.

رفع المعلم طلقة حاجبه متسائلًا بريبة:

-يعني إيه الكلام ده يا ابو نسب؟

لكنها تجاهلت تحذيراته، وأجابت بجنون متزايد:

-حضرتك أنا مأمنش على نفسي مع واحد زيه بجد؟

صاح يزن باعتراض عندما فهم مقصدها الخطير:

-نعم؟!

نهض المعلم طلقة من مكانه بخشونة، واضعًا يده فوق سلاحه، وصاح بنبرة تنذر بالخطر:

-ده اللي هو ازاي يا مدام، هو مش جوزك؟!

تراجعت سيرا خطوتين إلى الخلف، وابتلعت ريقها بصعوبة، وهي تبحث بيأس عن كذبة تنقذ الموقف، ثم قالت بعفوية مرتعشة:

-آآآ...اه جوزي، بس...بس اللي قدامك ده الرحمة انعدمت من قلبه، بيضربني كل يوم يصبحني بعلقة ويمسيني بعلقة، حسبي الله ونعم الوكيل فيه.

لانت ملامح المعلم طلقة، وقد اختلطت نظراته بالإعجاب برجولة يزن الزائفة، وتابع تناوله لطعامه وهو يعلق برزانة:

-حمش حمش يعني، بس ليه كده يا أبو نسب، متخليش دراعك يسبق دماغك.

طرق يزن الطاولة بغضب مصطنع، ودس حقيقة مشاعره وسط الكذبة قائلاً بحنق:

-قليلة الأدب مبتسمعش الكلام، اقولها يمين تقولي شمال، لازم تعارضني، ينفع امنعها تكلم واحدة صاحبتها بتحب تعمل مشاكل بينا، تقوم تكلمها وتسمع كلامها من ورايا فاكراني مش هعرف، عايزة تخرب حياتنا.

أومأ المعلم طلقة برأسه مؤيدًا وهو يجذب أركيلته ويأخذ نفسًا طويلاً ثم قال:

-اه...لا له حق يعدلك لامؤاخذة، كلام الصحاب ده بيجيب ورا، طيب اسألي أي واحدة من النسوان اللي جوه دي، هتلاقي مالهمش صحاب أبدًا.

عضت سيرا شفتيها بتوتر، وهي تعود لتختلق كذبة جديدة بعدما لمحت نظرة الانتصار البادية في عيني يزن، قالت بصوت متقطع بالكاد يخفي غضبها:

-هو مش الضرب يعني بس اللي مخليني مش عايزاه اقعد معاه في مكان واحد، في حاجة كمان...

رمقها يزن بشغف، وأجبرها بصمته المستفز أن تواصل:

-بخيل...بخيل اوي بيستخسر فيا أي حاجة حتى الكلمة الحلوة.

أخذ المعلم طلقة نفسًا عميقًا من أركيلته ثم علق موجهًا كلامه ليزن:

-لا لا كله إلا الكلمة الحلوة، الست لامؤاخذة عقلها صغير كلمة بتوديها وكلمة بتجيبها، ابقى اضحك عليها بكلمتين هتلاقيها بتقولك عنيا، صنف أهبل لامؤاخذة...

ابتسم يزن بمكر، ونهض مقتربًا منها، وقد ارتسمت على ثغره ابتسامة شقية:

-عندك حق أنا لازم اقوم اصالحها وابوس راسها.

ابتسم يزن بمكر، ونهض مقتربًا منها، وقد ارتسمت على ثغره ابتسامة شقية:

-يزن، ابعد انت.....

وقبل أن تكتمل اللحظة، دوى صوت ارتطام عنيف، تبعه اقتحام رجل غارق في دمائه، سقط مترنحًا أسفل قدمي سيرا التي تيبست مكانها رعبًا، راح الرجل يصرخ برجاء يائس:

-اه الحقني يا سيد الناس، الحقني ابوس ايدك، حمو وجمال هيقتلوني...

نهض المعلم طلقة واقفًا وهو يزأر غاضبًا:

-انتوا مخلصتوش عليه ليه؟

وفجأة، ارتد الرجل بجنون، وجذب سيرا لتكون درعه البشري، واضعًا المطواة على رقبتها، مهددًا الجميع بصوت أجش ينضح باليأس والغضب:

-وديني اقتلهالك قدامكوا لو ما سبتوني أمشي!

تجمدت سيرا في مكانها، تجاهد أن تسيطر على رعشة جسدها بينما تحدق في وجهه المتسخ بالدم والغبار، وملمس نصل المطواة البارد يلتصق بعنقها، ينذرها بالخطر.

همس يزن باسمها بصوت مختنق، خرج منه بالكاد:

-سيرا...

كان صوته ينبض برعب حقيقي، كأن العالم قد انكمش من حوله حتى لم يبقَ فيه سواها، في تلك اللحظة، لم يعد يهمه الخطر الذي يحيط بهما، ولا المعلم طلقة، ولا العصابة المسلحة؛ كل ما رآه أمامه هو سيرا، وسكين تقترب من رقبتها الرقيقة تهدد أن تفقده إياها إلى الأبد. 
ثوانٍ قليلة مرت، لكنها كانت كفيلة بأن تزرع الرعب في قلوب الجميع، صرخ المعلم طلقة بخشونة وقد رفع سلاحه مهددًا:

-سيبها يا كلب قبل ما أنسفك مكانك!

لكن الرجل الجريح ضغط المطواة أكثر على رقبة سيرا وهو يصرخ بجنون:

-لو قربتوا خطوة هموتها، عليا وعلى أعدائي!

ارتعشت يد يزن لا إراديًا، واصطكت أسنانه وهو يرمق الموقف بعينين تتقدان بالغضب والهلع معًا، كان يعلم أن أي تصرف أرعن قد يكلف سيرا حياتها... وعقله الذي لطالما تغلب على كل المصاعب كان يكاد ينفجر الآن، يبحث عن مخرج.

حدق في عينيها... تلك العيون التي طالما قرأ فيها ألف رسالة بلا كلمات، قرأ الآن الخوف والاستغاثة، ابتلع ريقه واتخذ قرارًا دون أن يفكر.

خطا للأمام بجرأة، رافعًا كفيه في استسلام مزيف، ونطق بصوت مبحوح، لكنه حازم:

-استنى... استنى... بص لي وخليك معايا.

تحرك ببطء شديد، يتفادى نظرة الغضب المشتعلة في عيني الرجل الذي أخذ يصرخ:

-ما تقربش يا حلو.... أقسم بالله أقطع رقبتها دلوقتي!

توقف يزن على بعد خطوة واحدة، وبنبرة تحمل خليطًا من الحنق والرجاء، قال:

-خلاص... خلاص، سيبها وأنا أضمنلك تخرج من هنا سليم.

لم يجب الرجل، كان يلهث وهو يحدق بجنون في وجوههم جميعًا، فيما جسده ينزف بقوة ويهتز من الإنهاك، رأت سيرا الفرصة تتشكل في عيني يزن، فرصة صغيرة... لكنها ربما تكون خلاصها الوحيد.

التفت يزن إلى المعلم طلقة يأمره بنبرة صلدة قوية:

-نزل سلاحك.

التقط المعلم طلقة الإشارة بسرعة، وأخفض سلاحه متظاهرًا بالاستسلام، فيما دفع "حمو" كرسيًا نحو الرجل من بعيد:

-خد الكرسي واقعد، مفيش حد هيقربلك، خلاص المعلم نزل سلاحه.

وما إن انشغل الرجل بنظره إلى الكرسي للحظة خاطفة...حتى اندفع يزن كالرصاصة!
بسرعة خاطفة، أمسك معصم اليد التي تمسك بالمطواة، وثنى ذراع الرجل إلى الخلف بقوة، دفعه بعيدًا عن سيرا التي تدفقت دموعها من هول المفاجأة والخوف، صرخة ألم مروعة انطلقت من فم الرجل مع صوت طقطقة خافتة وهو يسقط أرضًا، مطروحًا تحت رحمة قبضات رجال المعلم طلقة الذين اندفعوا فوقه كالذئاب.

أسرع يزن إلى سيرا، كاد يجذبها إلى صدره بحركة عفوية وغريزية، ولكنه استسلم وأمسك بيديها يقبلهما بهدوء وهو يضغط عليهما، هامسًا بجنون:

-خلاص... خلاص أنا معاكي... مش هسيبك.

ثم وضع نظر في عينيها المرتجفة يسألها بقلق:

-انتي كويسة؟

بكت سيرا بحرقة، دفنت وجهها بين كفيها دون أن تكترث لأي شيء آخر، فقد كانت لحظة نجاة من موت محقق، لحظة لم يعد يهم بعدها مظهر أو كلام أو كبرياء.

دوى صوت المعلم طلقة وهو يصرخ برجاله:

-اربطوه زي الحمار... وخلوه عبرة للي يحاول يمد إيده على ضيفنا!

لكن يزن لم يكن يسمع سوى أنفاس سيرا المرتجفة، ودقات قلبها المتسارعة التي تطابق نبضاته المجنونة، لحظة صمتت فيها الدنيا بأسرها....لحظة لا تنسى.

                            ****
في داخل الغرفة التي استضافهما بها المعلم طلقة، وبعدما انتهت الأحداث الجنونية في الصالة، استقرت سيرا على مقعد صغير بجانب الفراش، تحدق باندهاش نحو يزن، الذي كان جالسًا فوق الفراش، تتدلى قدماه للأسفل، مسندًا رأسه إلى الحائط خلفه ومغمضًا عينيه، راقبته برهة قبل أن تقترب بجسدها الحائر، تهمس إليه بصوتها القلق:

-يزن...انت نمت؟!

حرك رأسه نفيًا وهو لا يزال مغمض العينين، مجيبًا بكلمة واحدة:

-لا.

ضيقت عينيها بتفكير، وهي تضع يدها أسفل ذقنها، تسأله بفضول وحيرة:

-امال مغمض عينيك ليه؟!

تنهد بثقل واضح، كأنما يحمل فوق كتفيه هموم الأرض، ثم أجاب وهو يحافظ على وضعيته الكسولة:

-بفكر.

بللت طرف شفتيها بتوتر، قبل أن تعود بنظرها نحو الباب المغلق عليهما، ثم سألت بنفس حيرتها:

-بتفكر في أيه؟

فتح عينيه ببطء، واستدار برأسه نحوها، وهو يردد بنبرة حانقة مشبعة بالغضب:

-في المصيبة اللي احنا فيها.

أومأت برأسها بتأكيد، ثم وضعت رأسها بين يديها، تبرز همها الثقيل بهدوء شديد تعجب منه، وهمست:

-ايوه فعلاً احنا في مصيبة، لازم تتصرف وتطلع تنام برة.

انتفض يزن في جلسته، معتدلًا بجسده، يرمقها بنظرة غيظ، مستنكرًا تفكيرها الضيق:

-نعم؟! هو ده بالنسبالك مصيبة؟ سيرا أنا بفكر في اللي هيحصل بكرة وأهلك وأهلي ما يعرفوش احنا فين، وازاي هوصل لسليم أو زيدان والمجانين اللي برة مانعين عني التليفونات.

زمت شفتيها بضيق واضح، كأنها تتعمد إلقاء كل كلماته عرض الحائط، ثم تحدثت بنبرة صارمة، رغم أنها منذ قليل كانت ترتجف كالفرخ بين يدي المجرم:

-ده كله نفكر فيه واحنا مش مع بعض في اوضة واحدة!! غلط نقعد مع بعض وحرام.

ابتسم ابتسامة مقتضبة، وهو يمنع نفسه بصعوبة من أن يضرب رأسها اللعين، كانت تغضب لمجرد جلوسهما معًا في غرفة واحدة، بينما هو يشعر بالراحة والأمان لقربها منه، بعيدًا عن هؤلاء المجانين:

-انتي مش واثقة في نفسك؟!

رمت الوسادة في وجهه بقوة، ترد عليه بنبرة حازمة لا تخلو من العصبية:

-بقولك حرام.

أبعد الوسادة عن وجهه بقوة، ثم هتف من بين أسنانه، وهو يشير بيده نحو الخارج، يذكرها بحجم المصيبة:

-طيب اعمل إيه؟! الراجل أصلاً شاكك فينا، وأنا معنديش استعداد البس في بنته لو عرف اننا مش متجوزين هيجوزهالي.

نظرت إليه بشماتة ظاهرة، وضحكت ضحكة ماكرة وهي تردد بعنفوان أنثوي جريء:

-من أعمالكم سلط عليكم.

احتقن وجهه غضبًا منها، فاقترب منها غاضبًا، وألقى الوسادة فوقها متمتمًا بحدة:

-يا شيخة؟ والله ليكي لسان دلوقتي ومن شوية كنت مرعوبة ومتعلقة في دراعي زي الفرخة.

ثم زفرت ببطء، وقالت برجاء صادق:

-إيه فرخة دي!! حسن الفاظك....

ثم زفرت ببطء، وقالت برجاء صادق:

-يزن فكر معايا بجد.

تصنع عدم الفهم، متعمدًا إغاظتها، فقال بمكر:

-في إيه؟!

زمت شفتيها بضيق ظاهر، ونظرت له نظرة شرزة، قبل أن يتنهد بدوره بقوة، ويعود إلى جلسته، مغمضًا عينيه مجددًا بتصنع هادئ:

-طيب لو لقيتي فكرة حلوة، قوليلي أنا معاكي اهو.

مرت الدقائق ثقيلة عليهما، كلاهما على حاله؛ هي تفكر بجنون، تجبر عقلها على استخراج مخرج من تلك الورطة، وهو مستمتع فقط بجلوسها قريبة منه داخل الغرفة، مطمئنًا لوجودها بجواره، بعد وقت بدا وكأنه دهر، نهضت سيرا تتحرك بتوتر داخل الغرفة الواسعة، تمشي ذهابًا وإيابًا كأنها تنتظر إلهامًا يهبط عليها، وفجأة التفتت إليه بحماسة مفاجئة، وكأن فكرة خطرت على بالها، فاقتربت منه على عجالة، تهزه بقوة وهي تهتف:

-انت نمت؟! قوم.

لم يجبها بادئ الأمر، فعاودت تحريكه بغيظ أكبر:

-يزن...يزن قوم.

فتح نصف عينيه، وابتسامة حمقاء ارتسمت على وجهه، فسارعت بالاقتراب أكثر، تهمس إليه بخطتها الساذجة:

-إيه رأيك لو ضربتني؟

فتح عينيه على اتساعهما مندهشًا، ثم قال بحماس ظهر واضحًا في صوته:

-موافق، تعالي بقى عشان انتي خنقتيني.

ورفع يده ليمسك بذراعها، لكنها ابتعدت عنه بسرعة، قائلة بغضب وهي تزيحه بعيدًا:

-إيه حيلك حيلك، أنا اقصد نمثل فيقوموا يفصلوا ما بينا ويبعدونا عن بعض.

أعاد خصلات شعره المبعثرة إلى الخلف بحركة فوضوية ساحرة، فبعثرت تلك الحركة البسيطة كل ما تبقى من رباطة جأشها ومشاعرها، لكنها تماسكت حين فاجأها بسؤاله:

-والسبب إيه عشان اضربك؟!

مطت شفتيها بتفكير وهي تسرد ما يجول بخاطرها بصوت مرتفع كأنها تناقش نفسها:

-اممممممم، يا ترى إيه السبب؟...الراجل بيضرب مراته ليه؟ خيانة؟...لا أنا مخونش!!!

لم يمنحها فرصة التفكير أكثر، إذ اقترب منها بلمح البصر، وهمس أمام وجهها المصعوق من قربه:

-لا مش هضربك ، هقتلك.

دفعته بغيظ وهي تزجره ساخطًة:

-بلطجي.

ضحك ضحكة خفيفة وهو ينهض من فوق الفراش، يهندم ثيابه المبعثرة، ثم أشار لها بيده يأمرها بالنهوض قائلًا بحماس غلب على نبرته:

-أنا هقولك بس تعالي وصوتي جامد، ماشي.

زفرت بهدوء، تستعد لدورها الذي قررت أداءه، ثم وقفت فوق الفراش، ترفع رأسها بشجاعة مستحضرة طاقتها المختزنة، وقالت بطاقة على وشك الانفجار:

-تمام أنا اصلاً مخنوقة، يلا بينا...

ثم بدأت سيرا بالصراخ فجأة، وكأن جنونًا أطلق سراحه من داخلها، فتفجرت بالصوت المرتفع، معبرةً عن ذاتها المجروحة ومأساتها المختنقة، تعجب يزن من ردة فعلها المبالغ فيها، وقال بشيء من العصبية وهو يرفع حاجبيه باستنكار:

-استني أنا مبدأتش....طيب اديكي قلم طيب عشان تبقى تصوتي بجد...

لم تتمكن سيرا من الرد، إذ اندفع المعلم طلقة وإحدى زوجاته إلى داخل الغرفة بعجلة، يتقدمان بخطوات قلقة نحو مصدر الصوت، ثم تساءل المعلم بلهجة متوترة:

-في إيه؟ بتصوت ليه؟

استغلت سيرا الفرصة ببراعة، وامتلثت في بكاء مصطنع، تتحرك صوب المعلم متظاهرة بالاستنجاد به، وأشارت نحو يزن بإصبعها، تتهمه بمكر وخبث:

-الحقني يا معلم، ابوس ايدك، قولتلك بلاش أنام معاه في اوضة واحدة، اهو ضربني وبهدلني.

ثم انفجرت تبكي بصوت أعلى، تهز كتفيها بتأثر مدروس، أما يزن فانتفخ صدره متظاهرًا بالفخر، مستعرضًا عضلاته أمام الجمع، وقال بخشونة مصطنعة:

-احسن، تستاهل أربيها....فاكرني مش هعرف المك.

ضربت زوجة المعلم كفها بكفها الأخر في صدمة مدوية، وهي تردد بدهشة ممزوجة بالتحسر:

-لا حول ولا قوة إلا بالله ما أنت كنت هتموت عليها برة، دلوقتي بتضربها عادي وعايز تربيها.

مطت سيرا شفتيها بحزن مبالغ، وأمسكت بعض المواضع من جسدها وكأنها مصابة، ثم قالت بألم كاذب:

-ده قدامكم بس، لكن في الحقيقة هو ظالم ومفتري.

ساد صمت ثقيل للحظات، قبل أن ينطق المعلم طلقة وهو يحك رأسه بعدم فهم:

-هو في إيه، حصل إيه لده كله!!

أجاب يزن بلهجة حازمة، يحاول استغلال تعاطف المعلم:

-بقولها تغسلي رجلي، بتقولي لا، والست اللي تقول لجوزها لا تستاهل الحرق.

رفعت سيرا حاجبيها بدهشة واستنكار، وقد فهمت المغزى سريعًا؛ فهو يعرف تمامًا أن المعلم طلقة سيحكم لصالحه طالما الأمر يتعلق برجولتهم الزائفة ومظاهر السيطرة على النساء، تدخلت زوجة المعلم بتبرم ظاهر، قائلة بسخط:

-ياختي ما كنتي تغسليله رجله، ده إيه وجع القلب ده!!

رفع المعلم يده مقاطعًا، قائلًا بنزق نافد الصبر:

-خلاص يا ولية، هي حرة هي وجوزها، طالما مش عايزة تقعد معاه في اوضة واحدة، احنا بنستأذن ابو نسب إنها لامؤاخذة تنام مع الحتة الشمال نجلااا بتي في اوضتها.

تجمدت أطراف سيرا وهي تسمع لقرار لا رجعة فيه، بينما لمعت السخرية في عيني يزن، ابتسامة خبيثة ترتسم على شفتيه، أشارت له برجاء صامت كي يرفض، لكنه رفع كتفيه إشارة إلى عجزه، واستسلم قائلاً بنبرة مستكينة:

-وأنا مش هزعلك يا معلم، وهلم الدور بس عشان خاطرك، ولما نروح بيتنا أنا هعرف أربيها.

ابتسم المعلم طلقة، وربت على كتف يزن بتقدير، قائلاً بلهجة تحمل مزيجًا من الرضا والفخر:

-تسلم يا ابو نسب...

ثم غادر الغرفة وهو يتمتم بحيرة وسخرية:

-مين كان يصدق؟! كريمة المجتمع يطلع غشيم كده، صحيح الدنيا بلاوي.

أما سيرا، فقد وجدت نفسها تندفع مرغمًة نحو غرفة نجلا، تتبع زوجة المعلم بغير رغبة، استجمعت قواها وهي تخاطب السيدة برجاء صادق وقد زادت نظراتها توسلاً:

-مفيش اوض تانية أنام فيها؟

هزت المرأة رأسها رفضًا وهي تقول بإصرار حاسم:

-لا يا اختي مفيش إلا دي، تيجي تنامي معايا أنا والمعلم.

قالتها بسخرية باردة، كأنما تضحك في داخلها على بؤس ضيفتهما الجديدة، تراجعت سيرا قليلًا، وقالت بعجز متزايد:

-طيب أنام في أي شقة، مش هو متجوز أربعة وقاعدين هنا، أنا سمعتكم بتقولوا كده.

هزت السيدة رأسها بحسم أكبر، وأكدت بنفس اللهجة:

-يا اختي المعلم أمر تقعدي هنا يبقى تقعدي هنا، مفيش أي واحدة تقدر تستضيفك.

لم تستسلم سيرا بسهولة، وحاولت التبرير بعقلانية، قائلة:

-يعني حضرتك عارفة حالة بنتك ماينفعش ادخل عندها أصلاً.

شهقت السيدة شهقة كبيرة، وقد بدا الجزع على وجهها وهي ترد بلهجة مشبعة بالاستنكار:

-لا نجلا مش بتي دي بت واحدة تانية بس ماتت قبل ما المعلم يتجوزنا احنا الاربعة، أنا عمري ما اتعاملت معها، مفيش غير المعلم بس اللي بيتعامل معها، يلا ادخلي وربنا يعينك وبعدين يا اختي مش غسيل رجله أحسن من الهم اللي هتشوفيه جوه.

وقفت سيرا أمام باب الغرفة، تتردد لحظة، قبل أن تدفعها السيدة ببطء، ثم فتحت عليها عالماً لا يشبه الواقع، كانت الغرفة شبه مظلمة، يتسلل إليها ضوء خافت من مصباح صغير في الزاوية، يلقي ظلالًا مشوهة على الجدران، وفي وسط الغرفة، جلست نجلا، فتاة ذات ملامح بريئة وعينين زائغتين، ترتدي فستانًا طفوليًا مزركشًا بالورود، وتحمل دمية قديمة ممزقة الأطراف تحت إبطها، تهدهدها كما لو كانت رضيعة.

انتفضت سيرا بفزع عندما استمعت لصوت إغلاق باب الغرفة من الخارج بالمفتاح، فشهقت برعب وخاصةً عندما التفتت برأسها ووجدت نجلا ترفع رأسها فور أن رأتها، فتهلل وجهها بسعادة عارمة أشبه بفرحة الأطفال عند رؤية لعبة جديدة، وهتفت بصوت مبحوح ومتحمس:

-لعبتيييييي!!

تجمدت سيرا في مكانها، وكادت تتراجع إلى الخلف لولا أن تذكرت أن الباب أصبح مغلقًا بالمفتاح عليها،   بلعت ريقها بصعوبة، ورددت لنفسها هامسة:

-يا ساتر يا رب...

هرعت نجلا نحوها تركض على أطراف أصابعها، وأمسكت بيد سيرا وهي تضحك ضحكة عالية أشبه بزقزقة طائر:

-تعالي نلعب... انتي لعبتي الجديدة... أنا كنت مستنياكي من زمان!

حاولت سيرا أن تسحب يدها بلطف، لكن قبضة نجلا كانت حديدية على عكس شكلها الهش، فأجبرتها على التقدم لمنتصف الغرفة بخطوات متعثرة وهي تبتسم ابتسامة مصطنعة تحاول بها مداراة رعبها:

-طيب... نلعب... بس بالراحة، بالراحة عليا يا قمر.

جلست نجلا على الأرضية فورًا، وسحبت سيرا معها بلا مقدمات، ثم قامت بنزع حجاب سيرا من فوق رأسها بعنف، فانهالت خصلات شعرها فوق ظهرها بينما كانت سيرا ترتجف بخوف وهي تراقب أصابع نجلا ترتفع نحوها ثم بدأت تمشط شعرها بأصابعها بطريقة عشوائية، وهي تردد بأغنية طفولية نشاز:

-شعرك حرير، شعرك حرير.....هقصه بالمقص الكبير.

شهقت سيرا ووضعت يدها على رأسها تحمي شعرها الغالي، قائلة برعب:

-لا لا لا، بلاش مقص! شعري كده حلو أهو، شوفيه ناعم إزاي؟!

ضحكت نجلا بفرح طفولي وهي تربت على رأس سيرا بقوة مؤلمة قليلاً، وقالت:

-لا لازم اخليكي جميلة وأحطك في البلكونة، كل الناس تتفرج عليكي وتقول الله على لعبتي الحلوة!

ثم فجأة انطلقت تهرول داخل الغرفة تبحث عن شيء ما بين الألعاب والملابس المبعثرة، وهي تهمهم بكلمات غير مفهومة، استغلت سيرا الفرصة وهمست لنفسها برجاء:

-يا رب يا رب ياخدوني من هنا، انت فين يا يزن؟

ولكن نجلا عادت مسرعة، وهي تحمل وشاحًا قديمًا ومقصًا صدئًا يبدو أنه كان من أدوات خياطة مهملة، ركعت أمام سيرا بجدية شديدة وهي تلوح بالمقص قائلة:

-هقص شعرك دلوقتي... تبقي شبه باربي الحلوة!

ثم أظهرت دميتها المشوهة من بين ألعابها وهي تنظر إليهة بسعادة وفخر قائلة:

-هخليكي حلوة زيها.

شهقت سيرا شهقة مدوية، وأسرعت تقبض على المقص بيد مرتجفة، قائلة برجاء مضحك:

-لا بصي، احنا نلعب لعبة تانية... تعالي نلعب مين ينام الأول، نغمض عينينا ونعد لحد عشرة، اللي ينام يكسب!

توقفت نجلا لحظة وهي تفكر بعمق بالغ على قدر طفولتها، ثم صاحت بسعادة:

-آه آه بحب اللعبة دي!!

أغمضت عينيها بسرعة وبدأت تعد بصوت مرتفع وخاطئ:

-واحد... تسعة... تلاتة... خمستاشر...خمسة وعشرين..

انتهزت سيرا الفرصة وقفزت نحو الفراش، وغطت نفسها بالغطاء كاملاً، تتمتم برجاء:

-مش عايزة أشوف، مش عايزة أشوف...

أما نجلا، فاستمرت تعد بأرقام عشوائية، ثم فتحت عينيها فجأة وهتفت بمرح:

-فزت أنا الملكة، وإنتي لعبتي للأبد!

ثم انقضت فوق الغطاء الذي تغطت به سيرا، تضحك وتصفق بيديها كطفلة صغيرة وجدت كنزها أخيرًا، فيما كانت سيرا تحت الغطاء تتمتم:

-خلاص، أنا كده رسمي اتحولت لدبدوب.

بينما كانت سيرا تتكور تحت الغطاء ككرة خائفة، سمعت فجأة صوت تنقيب وحفر قادم من طرف الغرفة، رفعت طرف الغطاء بحذر، لترى نجلا قد فتحت حقيبة مليئة بمساحيق التجميل العتيقة، معظمها بلا أغطية، والبعض منها يبدو وكأنه عاصر أجيالًا كاملة، هتفت نجلا بسعادة وهي تلوح بفرشاة مكسورة الشعيرات:

-هعملك عروسة! تبقي أحلى عروسة في الفرح الكبير!

شهقت سيرا برعب، وقبل أن تستوعب ما يحدث، كانت نجلا قد قفزت نحوها، تمسك بوجهها بين كفيها الصغيرتين وتثبتها كما يثبت الحلاق رأس الزبون الغلبان.

-استني بس! ده ميك أب جميل، أنا اشتريته من السوبر ماركت.

لم تُتح الفرصة لسيرا للاعتراض، إذ بدأت نجلا تدعك وجهها بقوة غريبة بألوان شديدة الفجاجة، وضعت طبقة كثيفة من كريم أساس أفتح بخمسة أطنان من لون بشرتها، فبدت وكأنها قد تنكرت في زي شبح ناصع البياض، صرخت سيرا محاولة التهرب:

-نجلاااا بالراحة على وشي، ده وشي مش حيطة!!

ضحكت نجلا بصوت مرتفع وهي تلطخ أحمر شفاه بلون فاقع خارج حدود شفتي سيرا بمراحل، ثم قالت بحماس وكأنها ترسم لوحة فنية:

-واو! انتي شبه الكيكة بالكريمة دلوقتي!

بلعت سيرا صرخة ألمها مع كل حركة فرشاة جديدة، أما الكحل، فكان الكارثة الكبرى، اقتربت نجلا بقلم كحل مكسور وهي تقول بحماسة مخيفة:

-دلوقتي نرسم عيون كبيرة عشان تبقي زي الأميرة!!

-لا، لا يا بنتي، كفاية! أنا كده خلاص... شكلي بقيت ساحرة مش أميرة!

لكن نجلا لم تسمع، وبدأت تخط خطوطًا عشوائية فوق عينيها، لتبدو سيرا في النهاية وكأنها شاركت في مشاجرة عنيفة ضد عصابة كاملة... وخسرت المعركة.

تنهدت سيرا بيأس وهي ترى ظلها منعكسًا على مرآة مهشمة في ركن الغرفة، ثم تمتمت بسخرية مرة:

-مكنتش اقعد مع يزن وخلاص، أنا اللي عملت في نفسي كده.

وما إن انتهت نجلا من عملها الفني العظيم حتى صفقت بيديها بسعادة بريئة:

-ايوه بقى! الله! انتي لعبتي الحلوة! دلوقتي نعمل حفلة!

شهقت سيرا مجددًا، وصاحت في نفسها:

-لا لا لا، حفلة كمان؟! أنا كنت داخلة أنام مش أطلع سيرك متنقل!

ثم أمسكت نجلا بيدها وبدأت تدور بها وسط الغرفة، تغني أغنيات الطفولة بنشاز واضح، فيما كانت سيرا تدور خلفها كالدمية، تتعثر هنا وتصطدم هناك، حتى كادت تقع أكثر من مرة، وهي تهمس بيأس:

-يا رب أنا تعبت...تعبت.
                               ****

بعد جولة الرقص العشوائي العنيفة، بدأت طاقة نجلا الطفولية بالنفاد تدريجيًا، وبدت وكأنها بطارية قاربت على الانتهاء، تثاءبت بشدة حتى سال الدمع من عينيها، ثم اقتربت من الفراش وألقت بنفسها فوقه كالطفلة، تمسك ذراع سيرا وتتمتم بنعاس:

-تعالي نامي جنبي... انتي لعبتي وأنا بحب لعبتي...

أحست سيرا بقلبها ينهار، لكنها لم تجرؤ على الاعتراض خشية أن تستيقظ نجلا من جديد وتعود لحفلاتها المرعبة، فاستسلمت قدر الإمكان وجلست بجوارها متيبسة الجسد كتمثال من الرعب.

وخلال دقائق معدودة، كانت أنفاس نجلا الهادئة تملأ الغرفة، فيما بدأت شخيراتها الطفولية تعزف لحن الخلاص لسيرا.

أفرجت سيرا عن نفسها تنهيدة طويلة محملة بكل أشكال الإرهاق النفسي والجسدي، ثم همست وهي تنظر لسقف الغرفة، أثناء ارتدائها لحجابها 
 بأهمال لتُخفي شعرها المشعث:

-ياربي يعديها على خير الليلة دي...

وفي هذه الأثناء، كان يزن بالخارج يتقلب قلقًا، إذ لم يهدأ له بال وهو يعلم أن سيرا محتجزة مع "نجلا"،
فكر قليلاً، ثم خطرت بباله فكرة مجنونة، نظر حوله بحذر، ثم لمح كرسيًا قديمًا بجوار الحائط، فابتسم بخبث:

-مش أنا أهون من الجنان اللي هي فيه، اعمل إيه بس في قلبي.

حمل الكرسي بخفة وصعد فوقه متوازنًا كبهلوان مدرب، ثم تمسك بطرف الحائط مستندًا ليقترب من الشراعة الصغيرة فوق باب غرفة نجلا، مد رقبته بحذر وأطل برأسه من الشراعة.

كان المنظر بداخله يبعث على الضحك والبكاء معًا؛
سيرا جالسة على طرف الفراش بجسد مشلول من الرعب، وجهها مدهون بألوان زاهية وكأنها خرجت لتوها من احتفالية سيرك للأطفال، بينما نجلا تغط في نوم عميق وقد أمسكت بطرف ثوبها كأنها تخشى أن تهرب منها.

كتم يزن ضحكته بكل ما أوتي من قوة، وضغط على شفتيه بيده حتى لا يصدر أي صوت يفضحه، ثم همس بصوت منخفض وهو يحرك يده وكأنه يُرسل لها إشارات سرية:

-سيرا... سيرا.

رفعت سيرا رأسها ببطء وكأنها خائفة أن تكون تحلم، وعندما لمحت ملامحه من الشراعة، كادت تبكي من الفرحة، فتمتمت بصوت يختنق قهرًا:

-يزن! يزن طلعني من هنا... عشان خاطري طلعني قبل ما تصحى وتلون في وشي تاني!

ابتسم يزن بشفقة على حالتها البائسة، وهمس:

-طيب اهدي اهدي... هطلعك بس بالراحة، متخليش صوتك يصحيها.

أشارت له بعصبية وكأنها على وشك فقدان عقلها:

-بالراحة إيه بس! دي لو مأكدة عليا لما تصحى هتغيرلي هدومي، بسرعة يا يزن.

كتم يزن ضحكته وهو يومئ برأسه متفهمًا المأساة،
نظر حوله، ثم أشار إليها بحذر:

-بصي... أنا هشوف المفتاح فين، وانتي اول ما تلاقي الباب اتفتح، اجري بسرعك، ماشي؟

أومأت سيرا برأسها بعنف حتى كاد عنقها ينكسر من شدة الحماس.

بخفة لص محترف، أنزل يزن الكرسي، ثم بحث عن المفتاح ونظر حوله حتى وجده ملقى بإهمال فوق طاولة كبيرة بجانب باب الغرفة، فأخذه سريعًا ووضعه بحذر في الباب وهو يتمنى أن تنتهي تلك المهمة، وبالفعل فُتح الباب فتحة صغيرة بالكاد تسمح بمرور قطة، وأشار لسيرا بعينيه:

-يلا بسرعة قبل ما تصحى.

نهضت سيرا من على الفراش متسللة، تخطت الفوضى التي خلفتها نجلا بين الألعاب ومساحيق التجميل كأنها تمشي في حقل ألغام.
وحين اقتربت من الباب، لم تتمالك نفسها من الفرح، فانطلقت منه ركضًا وكأنها خرجت من سجن دام قرونًا.

وما إن أصبحت بالخارح حتى أطبقت يدها على ذراع يزن وتمتمت بيأس:

-خدني بعيد... بعيد أوي... مش عايزة أشوف مراية ولا ميك أب طول حياتي، خدني انت طلعت أهون مليون مرة من اللي شوفته جوه.

كادا يتحركان إلا أنها لاحظت باب الشقة، فهمست إليه بخطتها الجنونية:

-الباب هو يلا نهرب.

هز رأسه باقتناع، وتحرك صوب الباب بخطوات حذرة، وحاول فتحه بهدوء، وما إن أدار المقبض حتى فتح الباب قليلًا، ليجد "جمال " "وحمو" غافيين في الردهة بالخارج، فارتبك وأغلق الباب بسرعة، وهمس بقلق:

-لا احنا مش هنلحق نهرب، احنا هنموت كده.

أصابها الإحباط، وتحركت معه نحو الغرفة المخصصة لهما بخطوات مثقلة بالخيبة، لكنها لمحت هاتفًا أرضيًا قديمًا موضوعًا في زاوية معتمة من الصالة، فأشارت إليه بعينيها، وهمست بحماس خافت:

-تعالى نجرب التليفون الأرضي ده، مش هنخسر حاجة.

اقترب منها يزن بحذر، يسيران على أطراف أصابعهما كطفلين يخشيان الوقوع في المحظور، وأمسك بالسماعة المرتجفة بين يديه، وضغط على الأزرار بسرعة متوترة، انتظرا لحظات حبست فيها أنفاسهما حتى تهللت أساريره حين سمع صوت أخيه سليم على الطرف الآخر، فتنفس الصعداء وهمس:

-سليم بسرعة مفيش وقت.

جاءه صوت سليم ينفجر غضبًا كالرعد:

-انت فين يا حيوان؟ انت فين يا كلب؟، ده أنا هطلع *********** وواخد سيرا فين؟، أهلها قالبين الدنيا عليها.

ابتسم يزن رغم توتره وقال:

-يا عم اقفل الراديو ده، أنا في مصيبة ومعايا سيرا، عارف المعلم طلقة بتاع اسكندرية، اللي كنت هالبس في حوار جوازة بنته لما....

قاطعه سليم بلهفة:

-اه اه افتكرت ماله؟

أردف يزن وهو يتلفت حوله بتوتر:

-اهو خاطفني انا وسيرا وعايزاني اتجوز بنته التانية.

صاح سليم بسخرية مدهوشة:

-هو مفيش في مصر غيرك ولا إيه تتجوز بناته؟ إيه العبط ده؟!

هز يزن رأسه بيأس وهمس برجاء:

-المهم إن زيدان الكلب تليفونه مقفول ومش عارف اوصله، سليم الفرح بكرة حاول تتصرف بس من غير شوشرة، أنا معايا سيرا ودول تجار سلاح والدنيا هنا بإشارة منهم ممكن تهد فوق راسنا، مش عايز مشاكل.

ساد صمت قصير قبل أن يسأل سليم بقلق حقيقي:

-انت كويس؟ وسيرا كويسة؟

رمق يزن سيرا بنظرة عميقة، التي كانت تراقبه تنتظر بارقة أمل، تأمل وجهها الجميل الذي شوهته آثار اللعب به بمساحيق التجميل، فزفر بضيق ومرارة وقال:

-اه كويسين، بس مضمنش بعد كده إيه ممكن يحصل، حاول تتصرف.

جاءه صوت سليم ممتزجًا بالرجاء:

-طيب خلي بالك من نفسك و خلي بالك من سيرا، ابوها هيجراله حاجة..

ابتلع يزن الغصة التي كادت تخنقه، ونظر إلى سيرا بعينين مشبعتين بالحزن إن أصابها مكروه بسببه، ثم قال بصوت محترق:

-متقلقش هي في عنيا، المهم أنا احتمال ماعرفش اكلمك تاني، سلام، وافتكر بلاش مشاكل وشوشرة.

أنهى المكالمة، وأغلق الهاتف بتنهيدة طويلة حُبست في صدره منذ بداية هذا الكابوس، ثم التفت نحو سيرا، محاولًا بث قليل من الخفة في الأجواء الكئيبة، ابتسم بخفوت، وأشار برأسه بمكر وهو يقول:

-تعالي امسحي الهباب اللي على وشك ده، وانتي شبه البلياتشو كده.

سحبها عبر الممرات، عائدين إلى الغرفة، بينما كانت تسير بجواره متوجسة من الموقف برمته، دخل الاثنان، وأغلق يزن الباب خلفه بحذر، ثم التفت ينظر إليها نظرة متفحصة، فبادلته سيرا نظرة غاضبة حذرة، وقالت مهددة:

-لو ضحكت، والله العظيم أرجع أوضتها بنفسي.

رفع يزن يديه في استسلام ساخر، وابتسامة خبيثة ترتسم على وجهه:

-لا لا...هو أنا اقدر اضحك عليك يا جميل وانت في قمة شياكتك وأناقتك.

رمقته بنظرة جانبية غاضبة، تحمل من التهديد أكثر مما تحتمل الكلمات، ثم تنهدت بتعب، وألقت بنفسها فوق أقرب مقعد، متنفسة أخيرًا بعض الراحة بعد ساعات من الرعب والضغط، قالت وهي تغمض عينيها بإنهاك:

-تصدق... كنت هنسى يعني إيه الواحد يحس إنه بني آدم.

اقترب منها يزن بهدوء، وجذب من جواره صندوقًا ورقيًا صغيرًا يحوي مناديل ورقية، ناولها إياه بلطف ساخر:

-امسحي وشك عشان نقدر نتعامل مع بعض.

تناولت المنديل منه بعنف مكتوم، وبدأت تمسح وجهها بحركات هستيرية، هامسة بغضب عفوي:

-الله يخرب بيت الميك أب وأيامه...

أما يزن، فقد جلس أمامها، متكئًا على المقعد الآخر، يراقبها بعينين تحملان مزيجًا من السخرية الخفيفة والارتياح، ارتياح لأنه استطاع أن ينقذها من هذا الكابوس الطفولي، ولو بأقل الخسائر الممكنة، رغم إدراكه أن القادم قد يكون أصعب.
                            ***

ارتمى والد سيرا بجسده المرهق فوق الأريكة الكبيرة في الصالة، يحدق في الفراغ بعينين زائغتين، تحاصره الصدمة من كل جانب، جلست أبلة حكمت إلى جواره، تضع يدها فوق رأسها بحزن شديد، وكأنها تحاول أن تحبس دموعها قسرًا، كان الجميع في حالة من الذهول، وقد خيم الصمت الثقيل على الأجواء، لا يقطعه سوى شهقات مكتومة بين الفينة والأخرى.

قطع صافي زوج حكمت السكون بصوته المتفكر، قائلاً وهو ينظر إلى الحاج حسني:

-يعني هو أخوه، قالك إيه بالظبط يا حج حسني؟

رد الحاج حسني بأنفاس متقطعة، يشوبها الإنهاك والعجز:

-قالي اللي حكيته، بيقولي سيرا مخطوفة هي ويزن... ويزن عرف يوصل له، وهو لسه ما يعرفش مين اللي خطفوها وباين موضوع الخطف اللي كانت هتتعرض له في الشارع بسببه.

رمق الجميع بعضهم بعضًا بعيون قلقة، قبل أن تبتلع شاهندا لعابها بصعوبة، وتقول بصوت خافت مرتجف:

-طيب نبلغ الشرطة يا بابا، وهما يتصرفوا.

انفجرت فريال بالبكاء، وتحدثت وسط شهقاتها بحيرة ويأس:

-طيب ما اخوه ظابط كبير في الشرطة وأكيد بيتصرف ما اخوه هو كمان مخطوف.

رفعت حكمت رأسها ببطء، والدموع تتلألأ في عينيها اللتين توهجتا بحزن عميق، حاولت التماسك وقالت بصرامة مهزوزة:

-احنا مش عايزين نعك الدنيا، خلينا ساكتين لغاية ما نشوف اخوه الظابط هيتصرف ازاي يا بابا، مش هو اخوه الكبير قالك كده ونبه عليك، خلاص يبقى اخوه الظابط أدرى بشغله، ممكن احنا نتصرف ونعك الدنيا وسيرا تتأذي.

عندها علا صوت والدة سيرا، تبكي بقهر مرير وهي تتشبث بابنتها كريمة التي شاركتها البكاء بحرقة، وكأن الخوف والخسارة أصبحا كائنين يضغطان على قلوبهم جميعًا، هز صافي رأسه ببطء، محاولًا التفكير بوضوح وسط هذا الانهيار الجماعي، ثم قال بحذر وروية:

-فعلا احنا نستني ولو بكرة الرؤية مبانتش، نعمل بلاغ احنا كمان.

ساد المكان صمت مشحون بالترقب والخوف، وكأن الزمن نفسه توقف، ينتظر مصيرًا مجهولًا لا يجرؤ أحدهم على تخيله.

                             ***
في منزل الشعراوي، وتحديدًا في شقة سليم التي كانت تبعد عن شقة والدته، خيم صمت ثقيل على الأجواء، وكأن الجدران نفسها تنصت لنبضات قلوبهم القلقة، جلس سليم إلى جانب شمس، وبالقرب منهما مليكة زوجة زيدان، وكل منهم غارق في أفكاره المظلمة.

قطعت شمس الصمت أخيرًا، وقد تملكتها الحيرة والعتاب، فالتفتت إلى سليم قائلة بلهجة معاتبة:

-سليم ليه قولتله كده؟!

زفر سليم بمرارة، وأسند رأسه إلى راحتي يديه، يضغط على جانبي رأسه بقوة كأنه يحاول كبح الألم الذي بدأ ينهش دماغه بوحشية، قال بصوت مجهد، تسيطر عليه نغمة قهر داخلي:

-امال كنتي عايزاني اقوله إيه يا شمس؟! اقوله بنتك اتخطفت بسبب مصايب اخويا.

تدخلت مليكة، وهي تغلق هاتفها بأنامل مرتجفة، تحاول كبح مشاعر القلق والخوف التي اجتاحت قلبها:

-أنا بحاول اتصل على زيدان تليفونه مقفول، أنا قلقانة عليه.

انعقد حاجبا شمس بتفكير عميق:

-حتى هو كمان اختفائه مش طبيعي، يعني ولا موجود في القسم ولا حد بيقولنا هو فين..

رفع سليم رأسه، وقد احترق وجهه بلهيب القلق والخوف، ثم قال بصوت يحمل في طياته غضبًا مكتومًا:

-أنا هتجنن، هيجرالي حاجة، حاسي إيدي متربطة ومش عارف اتصرف، مش عارف ادور على زيدان، ولا اروح الحق اللي لابس في مصيبة ده.

ساد الصمت للحظات قبل أن تتدخل مليكة بصوت خافت لكنه يحمل قوة خفية، وكأنها تحارب النار المشتعلة في صدرها خوفًا على زيدان:

-لا طبعًا روح ليزن، وأن شاء الله زيدان يكون كويس، وهو لو اتصل عليا أنا هبلغك على طول.

تردد صدى كلماتها في أذنيه كنداء للنجاة، فما كان من سليم إلا أن نهض فجأة، مندفعًا نحو غرفته، يسرع في ارتداء ثيابه بحركات عصبية متوترة، لحقت به شمس، وهي تشعر بالريبة من إصراره الغاضب، وسألته بقلق شديد:

-رايح فين يا سليم؟!

توقف عن ارتداء قميصه للحظة، ثم التفت نحوها بنظرة يملؤها السخط، وقال بسخرية مرة، كأنها خرجت من جوف بركان غضب مكتوم:

-رايح اسكندرية، هروح للمعلم زفت ده ما اشوف هو عايز إيه من يزن.

 اقتربت منه شمس بخطوات مترددة، وقالت بإصرار:

-طيب آجي معاك.

نظر إليها باستغراب مشوب بالغضب، وصاح:

-تيجي معايا فين؟ انتي اتجننتي؟

لم تضعف شمس، بل زادها خوفها وتصميمها عنادًا، فأردفت بإلحاح:

-سليم المرة اللي فاتت أنا اللي حليت الموضوع لما اتكلمت مع البنت، صح ولا لا، يمكن اعرف اتكلم مع حد هناك واو اقنع البنت إنها تقف لابوها.

أطرق سليم للحظة، كأن كلماته تسحبه للتفكير، لكنها كانت لحظة قصيرة لم تُثنه عن عزمه، قال بنبرة حاول فيها أن يبدو حازمًا:

-لا حتى لو بردو مش هتيجي.

-يا حبيبي لو فكرت هتلاقي كلامي صح، صدقني، يزن مش عايز مشاكل، وده تاجر سلاح، يعني يوم ما نتكلم معاه نتكلم بهدوء وبعقل.

تنهد سليم، وكأن العالم كله انكب فوق صدره، ثم قال بنبرة قاطعة وهو يلتقط مفاتيحه:

-مش هقدر اخدك يا شمس، مش هقدر، لا يمكن يحصل اللي بتقوليه، سيبني دلوقتي عشان الحق اسافر.

رمقها بنظرة خاطفة حانية، وكأنها آخر دفقة أمل يتمسك بها، ثم انطلق خارج الغرفة، مصممًا على أن يواجه العاصفة وحده مهما كلفه الأمر.
يتبع 
في الصباح الباكر، تسللت خيوط الشمس الذهبية إلى الغرفة من خلال الشرفة المفتوحة، ناشرة ضوءها الدافئ على الجدران والأرضية، وقفت سيرا في صمتٍ على عتبة الشرفة، تتأمل ضوء النهار بنظرات متعبة، بينما تنهيدة ثقيلة أفلتت من صدرها، تنم عن إرهاقٍ وسهرٍ طويلين، نظرت بعينين حمراوين ومنتفختين نحو يزن المستلقي على الفراش، ينعم بنوم عميق وهادئ، وكأن العالم كله لا يعنيه، بينما هي لم تُغمض لها جفنٌ واحد طوال الليل.

كانت تعاني من حساسية حادة أصابت عينيها بسبب الكحل الرديء الذي استخدمته نجلا، فزاد ألمها الجسدي من ضيق حالها النفسي، عضت على شفتيها بغيظٍ ظاهر، ثم همست لنفسها بامتعاض:

-أقوم أقتله ولا أعمل فيه إيه؟

زمت شفتيها بعصبية شديدة، واندفعت نحوه ببطء، ثم مدت إصبعها لتضغط بقوة على كتفه العريض محاولة إيقاظه:

-يزن، قوم...أنت ما بتحسش؟ قوم بقى.

فتح نصف عينيه بتكاسل، ولما وقعت عيناه عليها، كاد يبتسم من رؤيتها، إلا أن ابتسامته تلاشت حين انتبه إلى حال عينيها، فانتفض جالسًا بفزع واقترب منها بسرعة، وصوته يفيض قلقًا:

-مالها عينك يا سيرا؟

انفجرت باكية في لحظة، ورفعت يدها تشير نحو عينيها وهي تقول بشكوى موجعة:

-الكحل باين قديم، معرفش بس عيني واجعاني أوي.

تحرك يزن صوب الباب وهو يتمتم بقلق واضح:

-استني، هروح أشوفلك قطرة أو أي دوا.

أوقفته سيرا بتوتر شديد وهي تتشبث بصوته:

-هتسيبني فين؟ ما تسبنيش معاهم.

وفي لحظة مشبعة بالتوتر، انتفضا معًا حين لمحا زوجة المعلم طلقة تقف عند الباب، وجهها يعبر عن الغضب والشك، وحديثها يقطر قسوةً واتهامًا:

-نجلا ضاعت! إنتي خرجتي إزاي من الأوضة؟

بادرت سيرا بتبرير مرتبك:

-والله هو اللي هربني.

وأشارت بإصبعها نحو يزن، الذي عبر عن اعتراضه بنبرة متحفزة:

-أنا اللي خرجتها في اعتراض؟!

ردت زوجة المعلم بحدة:

-أيوه في اعتراض! مراتك ما كانش ينفع تسيب الأوضة.

زم يزن جبينه، ورد بنبرة ملؤها التحدي:

-ليه إن شاء الله؟ هي كانت الدادة بتاعتها؟!

-بس المعلم طلقة حكم إنها تقعد مع نجلا الليلة دي بسبب اللي عملته، وعلى أساسه أنا دخلتها...

قاطعها يزن بانفعال ورفضٍ قاطع:

-أنا محدش يحكم على مراتي غيري، وبعدين أنا حر! أدخلها أوضة نجلا أو أخرجها منها، وبعدين إحنا مالنا ضاعت ولا ما ضاعتش؟!

ضاق صدر زوجة المعلم من نبرته، فردت بتهديد:

-المعلم دلوقتي هيدخل يسأل عليها، ولو ملقهاش، هقوله إن مراتك هي اللي ضيعتها! وشوف بقى هيعمل فيها إيه؟

شعرت سيرا بالخوف يتسلل إلى أعماقها، فأمسكت يد يزن بقوة، نظرت إليه بعينين مرتجفتين، لكنه بث إليها الطمأنينة بعينيه، وهمس بصوت خفيض عميق النبرة، يحمل كل معاني القوة:

-إنتي خايفة ليه؟ أقسم بالله، لو حد مس شعرة منك، لأدخل فيهم كلهم السجن، ما تخافيش.

ورغم انسحاب زوجة المعلم غاضبة، لم تنتبه سيرا لخروجها، فقد كان تركيزها منصبًا على نظرات يزن وصوته الذي بعثر بداخلها كل ما تبقى من شكوك، كانت كلماته أشبه بدرعٍ حمى قلبها، فتذكرت كيف لم يُظهر لها طوال فترة اختطافها سوى عكس ما كانت تظنه فيه، غير أن لحظة السكون تلك تمزقت فجأة، حين دوى صوت المعلم طلقة من خارج الغرفة، صارخًا بنبرة غاضبة خشنة:

-هي فين بنت الـ******؟

انتصب يزن فورًا، ووقف أمام سيرا ليحميها، ثم دفع المعلم للخلف وهو يصيح بتحذير صلب:

-حاسب! خد بالك من كلامك واعرف إنت بتكلم مين؟

صرخ المعلم متهمًا:

-مراتك ضيعت البِت!!

رد يزن بحدة لا تخلو من تحد:

-لا ما ضيعتش حد، وملهاش دعوة، أنا اللي فتحتلها الباب علشان تخرج، لما مراتك إنت كانت سايبة المفتاح على الترابيزة هناك، وما نعرفش إنه المفروض يتقفل عليها أصلاً! إحنا قفلنا باب الأوضة عادي وسبناها نايمة، لو بنتك ضاعت، فمن استهتارك واستهتار مراتك، وبعدين ليه تقفلوا على مراتي جوه معاها؟!

التفت طلقة لزوجته، وسألها بنبرة تنذر بالشر:

-إنتي سيبتي المفتاح يا ****** برة؟

ارتبكت المرأة، ثم أنكرت بسرعة:

-إن شاء الله أعدمك يا معلم، أنا ما سيبته خالص.

صاح يزن ساخرًا وهو يشير بعينين ساخرتين:

-أيوه، قوليله بقى فتحناه إزاي؟ طالما إنتي ما سيبتيهوش، فتحناه برموش عنينا!

صرخت الزوجة بانفعال:

-ده بيقل أدبه عليا يا معلم!

رمقها يزن بازدراء وهو يرد بحزم:

-محدش بيقل أدبه غيرك! عشان تتجرأي وتيجي تهددي مراتي بالشكل ده! والغلط كله منك، مش مننا! إحنا لا نعرف حالة بنتك، ولا نعرف إيه اللي لازم وما يلزمش! وبعدين مش كفاية مراتي تعبانة، وعينيها وجعاها بسبب بنتك واللعب اللي لعبته في وشها؟!

استمدت سيرا القوة من موقف يزن، فرفعت رأسها وتكلمت أخيرًا بنبرة واثقة:

-إنتوا لو مهتمين بيها، ما كنتوش سبتوا معاها مقص حديد جوه، ولا سبتوا مكياج منتهي الصلاحية تلعب بيه! الأوضة بتاعتها كلها حاجات خطر وممكن تأذي نفسها.

أومأ يزن مؤكدًا وهو يضيف:

-شوفت؟ جاي تزعقلنا، ومراتي زعلانة على بنتك في الآخر، والإهمال اللي هي فيه!

نظر المعلم طلقة لزوجته نظرة نارية، فسارعت تنكر، وصوتها يرتجف:

-والله يا معلم كنت بنضف الأوضة أول بأول، ما أعرفش جابت الحاجات دي منين.

عندها أنهى طلقة النقاش مؤقتًا، صوته ينزل كالقَدر:

-المهم بنتي تيجي... وكله هيتحاسب بعدين.
                            ****

كان البيت يغلي كخلية نحل فقدت ملكتها، الجميع يركض يمينًا ويسارًا، يصرخون، يشيرون نحو الجهات المختلفة، يركلون الأبواب، ويطرحون الاحتمالات الغريبة في الهواء، لعل واحدةً منها تفسر اختفاء نجلا التي ذابت كما يذوب السكر في الشاي!

كان يزن يقف عند طرف السلم، يراقب المشهد بعينين نصف مغمضتين، وفي كفه قطعة خبز وضع فيها بعض الجبن يقضمه دون اكتراث، كأنه في عالم آخر لا علاقة له بالفوضى الدائرة.

ظهرت سيرا من خلفه، تجر خطواتها بخفة، لا تزال عيناها متورمتين، لكن تلك اللمعة الساخرة التي اعتادت إخفاءها تحت ركام القهر كانت تسطع من جديد، همست بخفوت:

-بص على الكوميديا السودا اللي عايشين فيها... قاعدين يدوروا على البنت وهما السبب أصلاً!!! 

نظر إليها يزن بنصف ابتسامة مائلة، قائلاً بسخرية لاذعة:

-بصراحة أنا شايف الفرصة جت لحد عندنا... نهرب ونخليهم يدوروا علينا إحنا كمان، نخليها حفلة مفقودين جماعية!

ضحكت بخفة، وهي تغطي فمها بكفها:

-دول وش هيعلقوا صورنا جنب صورة نجلا.

اقترب منها خطوة وهمس قرب أذنها بجدية ساخرة:

-إيه رأيك؟ نهرب؟ دلوقتي؟ قبل ما حد ياخد باله؟

نظرت إليه بدهشة طفيفة ثم تمتمت بتردد:

-وإنت شايفني كده، ههرب ازاي وأنا مش قادرة اشوف ١٠ متر قدامي.

غمز لها قائلاً بثقة:

-ما هو ده اللي هيخليهم ما يشكوش! محدش هيصدق إن في واحدة بعين شبه الطماطماية قررت تهرب في نص الأزمة.

كتمت ضحكتها بصعوبة، ثم عضت شفتها وقالت ساخرة:

-طب وإنت؟ هتهرب بالساندوتش الجبنة ده؟! 

نظر إلى نفسه، ثم تنهد بحسرة مصطنعة:

-كان نفسي أكمله بس يلا ماليش في الطيب نصيب.

مد يده لها، وقال بنبرة تحمل خفة وشجاعة:

-يلا يا بيبي، نلحق نهرب قبل ما المعلم طلقة يقرر يقفل الباب ويعمل كشف غياب.

أمسكت بيده، وقبل أن تخطو أول خطوة، توقفت فجأة وقالت بقلق:

-استنى، افرض قابلنا حد تحت منهم؟؟

ابتسم وهو يضغط على كفها بلطف:

-متقلقيش كلهم مشغولين وانتي ماتتحركيش إلا لما اتحرك.. المهم نكون سوا.

نظرت إليه نظرة امتنان حقيقية، وهمست بصوت يقطر دفئًا:

-يزن... شكراً إنك وقفت جنبي قدام المعلم طلقة ودافعت عني.

رد عليها وهو يرفع حاجبيه بشقاوة محببة:

-مفيش شكر ما بينا، وأنا قولتلك وبقولهالك لو كان فكر بس يلمس شعرة منك كنت هنط في كرشه، مفيش حد يقدر يجي على اللي يخصني يا سيرا، المهم تعالي بس نعدي أول سلك شائك.

انكمشت سيرا خلف يزن وهما يسيران بمحاذاة الحائط الإسمنتي المتهالك بعدما تمكنا من الخروج من منزل المعلم طلقة، وصلا إلى ممر ضيق لا يتسع إلا لجسديهما المتلاصقين، بينما كانت أصوات الصراخ تتعالى من كل صوب:

-يا جدعان فتشوا السطح ده! يمكن طلعت فوق!

-حد بص في المخزن اللي جنب الفرن؟!

همست سيرا من خلفه وهي تحاول رفع حجابها المهلهل عن عينيها:

-يزن... أنا حاسة قلبي هيقف من الخوف.

التفت إليها وغمز بشقاوة:

-سلامته.

رمشت بأهدابها، وضيقت عينيها لعجزها عن رؤيته بوضوح بسبب كثرة الدموع، فقالت ببلاهة:

-هو مين؟!

-قلبك.

قالها بنبرة مهلكة، أهلكتها فهوت بها فجأة في جنان الحب، وهمست لنفسها بنبرة شبه باكية:

-بدأت احبه، يا رب لا طلعه من قلبي.

انتبهت إلى يده التي أشارت لها كي تنتبه، ثم همس وهو يلتفت:

-بصي في حبل غسيل هناك اهو احنا ممكن نمشي من وراه ونوصل للقهوة دي وندخل جواها بسرعة ونطلع من الناحية التانية أنا شايف الطريق هناك اهو.

همست إليه بتوتر، وهي تشير إلى عينيها:

-بس أنا مابقتش شايفة بعيني يا يزن؟ خايفة اقع او اتلخبط في حاجة.

أخرج منديلاً رقيقًا وظل يمسح دموعها برفق، في لحظة قصيرة تقاطعت فيها الرقة بالرجولة، فجأة خرجت غزالة زوجة حمو، من إحدى نوافذ الطابق الأرضي، واضعة يدها أسفل خدها، تنظر إليهما بحماس ودهشة:

-يا اخواتي على عصافير الحب وهما بيهربوا!

انتفضا معًا، وقد خيبت الصدمة آمالهما بعدما كُشف أمرهما، فتنهدت سيرا بيأس:

-يا دي النيلة، هو احنا حظنا هباب ليه كده؟!

شهقت غزالة وهي تمتم بعتاب:

-حظك بقى هباب لما شوفتيني اخص عليكي يا حلوة!!، ده أنا كنت ناوية اساعدكم، يلا اعملوا اللي كنتوا ناوين تعملوا وفجأة تلاقوا حمو في وشكم.

سارع يزن يرد عليها بأسلوبه اللبق وابتسامته الجذابة:

-لا لا، هي بس سيرا متوترة، انتي ناوية تساعدينا بجد؟

هزت رأسها بإيجاب، وقالت بغل مكبوت:

-أصل أنا المعلم طلقة مابطقيهوش عشان مخلي حمو بيشتغل معاه في الشغل الشمال بتاعه، وبعدين لما حمو حكالي على حكايتكم اتضايقت، عشان المعلم طلقة كان ناوي يغدر بيك ويهددك بمراتك ويخليك تتجوز بنته بجد، وانت مالكش ذنب تتبهدل لا انت ولا مراتك.

بانت ملامح الصدمة على وجه سيرا، ثم قالت بغيظ:

-قد إيه طلع حقير وكلب.

حمحم يزن بخشونة وهو يرد:

-طيب انتي هتساعدينا ازاي؟

أشارت لهما إلى زاوية خلف عربة خضار متهالكة مغطاة بغطاء سميك:

-استخبوا هنا وأنا هطلع اول الشارع انادي حمو واقوله إني شفت نجلا في الحارة التانية وكلهم طبعًا هيجروا ناحيتها، انتوا بقى تتطلعوا تجروا على الشارع الرئيسي.

اقتربت سيرا منها ثم قبلتها بحب وامتنان:

-شكرًا بجد، ان شاء الله حمو يتصلح حاله.

همست غزالة بنبرة شبه باكية:

-يا رب ياختي، أصل أنا كل يوم قلبي واجعني عليه، المهم يلا استخبوا بسرعة.

تحركا حيث أشارت، دخل يزن أولاً من أسفل الغطاء، ثم خلف العربة، وحرك سيرا برفق لتكون إلى جواره حتى التصقت به، فحاولت الابتعاد إلا أنها كادت أن تكشف أمرهما وتقع بثقلها على العربة، فسارع بوضع ذراعه فوقها واحتضنها، فبقيت أسفل ذراعه، قريبة من قلبه، في اللحظة ذاتها التي سمع فيها صوت غزالة الصارخ باسم حمو واقتراب الأخير نحوها، وبدآ في الحديث.

وفي تلك الأثناء، كان الوضع بين يزن وسيرا أشبه بالجمر المتوهج، باختلاط أنفاسهما واحتضان جسديهما المتلاصقين، فاندمجت العيون في حديثٍ مفعم بالعاطفة، واهتزت القلوب لدخول أولى مشاعر الحب، إذ كان الخارج فوضى صاخبة، أما بينهما فالدقائق كانت تمر ببطءٍ شديد.

دقات قلبيهما تنقر بإيقاع متداخل، كأن كل شيء فيهما بدأ يتقلص، فانخفضت سيرا بوجهها لتتجنب نظرات عينيه الشغوفة، ولم تحسب أن أنفاسها الساخنة ستلامس عنقه، ووجهها بات أقرب من أن يُحتمل، أقرب من أن يُقاوم، نظر إليها بعينين يثقلُهما شيء لم يعرف اسمه حتى تلك اللحظة… شيء يتجاوز الانجذاب، يتجاوز الحماية، ويتجاوز كل ما ظنه عن الحب.

ورغم ما تملكه من رغبة، تمالك نفسه لا عن ضعف، بل عن شموخ، كأنها جوهرة بين يديه، لا تُلمس إلا بحذر، ولا يقترب منها إلا بتقديس، شعر أن تلك اللحظة امتحان لرجولته الحقيقية، تلك التي لا تُقاس بما يُؤخذ، بل بما يُصان.

ورغم اقترابهما الشديد، إلا أنه ترك بينهما فراغًا صغيرًا، شبيهًا باحترامٍ خفي، كأن كليهما يعرف أن ما يجمعهما ليست لحظةً عابرة… بل شيء أكبر، وأصدق.

في تلك اللحظة، لم يكن الخارج سوى ضوضاء، ولم يكن الداخل سوى سكون، كانت الدقائق تمر ببطء مهيب…لحظة لا تشبه النجاة، بل تشبه ولادة أولى مشاعر حبهما.

انتبها معًا إلى صوت غزالة وهي تقول بنبرة سريعة:

-يلا اخرجوا بسرعة وعلى الشارع الرئيسي جري.

انتفضا معًا من أسفل الغطاء، يلهثان وخرجا يركضان نحو الطريق الرئيسي، تلاحقت أنفاسهما بينما كانا يشقان طريقهما بين الأزقة، وقد نجحا بالفعل في الإفلات من الورطة التي أوقعهما فيها المعلم طلقة، دون أن يتوقعا أن سليم وشمس قد تسللا إلى المنطقة من الجهة الأخرى.

كانت شمس تسير بجوار سليم، تمسك بطرف ثيابه بخوف وارتباك، تتلفت حولها بعينين متسائلتين، ترقب هرولة بعض الرجال المتناثرين في المكان كأنهم يبحثون عن شيء ضائع، همست له بصوت مرتجف وهي تحاول فهم الموقف من خلال عينيه الثاقبتين:

-سليم، هو في إيه؟ هو يزن هرب وبيدورا عليه؟

لم تكمل جملتها حتى انتفضت بفزع، إذ أمسكت بها سيدة فجأة، فاستدار سليم بخوف، وجذب شمس نحوه يحميها، وصاح في وجه السيدة بنبرة حادة:

-إيه يا ست انتي؟ مسكتيها كده ليه؟

ردت السيدة بارتباك، وقد بدا عليها الحرج:

-معلش، ماشوفتش بت عقلها خفيف ضايعة؟

ردت السيدة بارتباك، وقد بدا عليها الحرج:

-لا.

-طيب يا اخويا براحة، انت هتاكلني!!

تراجعت السيدة خطوتين وهي تتمتم بامتعاض، لكن سليم لم يدعها تبتعد قبل أن يسألها بصوته العميق الهادئ:

-هو المعلم طلقة، الاقيه فين؟

نظرت إليه المرأة باستغراب، ثم أشاحت بيدها مشيرة إلى قلب الحي وقالت:

-مش هتلاقيه بنته لامؤاخذة ضاعت والدنيا المقلوبة دي مقلوبة عشانه!!!

اتسعت عينا سليم بذهول، ثم التفت إلى شمس التي سارعت تهمس إليه بحماس طفولي ممزوج بدهاء:

-تعالي نجري ندخل بيته ونهرب بيزن وسيرا وكده كده كلهم مشغولين؟

أعجبته الفكرة، غير أنه أخفى ذلك وتظاهر بالتفكير، ثم قال بهدوء رزين، يخفي خلفه قراره:

-لا.

جذبها من ذراعها وأسرع بها بعيدًا عن المنطقة حتى وصلا إلى سيارته، فجلست شمس في المقعد مجادلة، لم تستسغ تخليه عن فكرتها بسهولة:

-استني بس والله دي فرصتنا يا سليم، ماتنكرش ان فكرتي حلوة؟

فتح باب السيارة وأشار لها بعينيه لتدخل، ثم أجابها دون أن يلتفت:

-حلوة بس هنفذها لوحدي، أنا ماضمنش اقابل مين في وسط العك اللي جوه وهتعامل معاه ازاي، ولا هو هيتعامل معايا ازاي، أسلم حل تقعدي هنا، ولو طولت اطلبي النجدة.

ارتجفت شمس حين فهمت قصده، فأمسكت بيده بقوة، وارتجف صوتها بذعر:

-لا لا، متروحش لوحدك.

كاد يرد، لكن هاتفه صدح فجأة، فانتزعه وأجاب بسرعة:

-الو؟

جاءه الصوت المرتبك على الجانب الآخر:

-سليم، أنا يزن....

قاطعه سليم بلهفة، وقد تهللت أساريره:

-متقلقش أنا وصلت في المنطقة عند المعلم زفت وباين برة في حوار، هدخل اجيبك بسرعة ونخرج من هنا.

صرخة يزن كانت حادة، اخترقت أذنه حتى اضطر سليم أن يبعد الهاتف قليلاً:

-لا....أنا هربت، اوعى تدخل، اوعى، امشي بسرعة، أنا في" كافية اسمه النجوم " على البحر تعالى بسرعة.

لم يتمالك سليم نفسه، فابتسم بارتياح كبير، وكأن ثقلًا انزاح عن صدره، وتحرك سريعًا نحو المقعد الآخر وهو يقول:

-الحمد لله، سيرا معاك؟

-اه طبعًا امال هسيبها، يلا يا سليم عشان الراجل عايز تليفونه ويمشي.

أغلق سليم الهاتف والتفت إلى شمس، يزف لها الخبر السعيد:

-الحمد لله يزن قدر يهرب....

لكنها قاطعته وهي تشير نحو الأمام باندهاش، وجهها شاحب:

-سليم...زيدان اهو!

رفع بصره بسرعة حيث أشارت، فرأى زيدان يهبط من سيارة شرطة، تتبعه مجموعة من السيارات الرسمية، هبط سليم مسرعًا نحوه، مشحونًا بالغضب والقلق، وهتف به بنبرة عاتبة:

-انت كنت فين يا بارد؟!، قالبين الدنيا عليك من امبارح وتليفونك مقفول.

حمحم زيدان وهو يحاول الحفاظ على هدوئه أمام زملائه، وابتسم بخفة:

-اخويا الكبير متاخدوش في بالكم.

ثم خطا سليم خطوتين وهو لا يزال يغلي من الداخل، ولحقت به شمس قائلة بتوتر:

-انت كنت فين يا زيدان؟ قلقتنا عليك؟

تنهد زيدان بعمق، وأجاب بنبرة منهكة:

-كنت في شغلي يا جدعان، أنا قايلك ماسك قضية كبيرة وطبيعي أخرج برة القسم كتير بكمل تحرياتي، وقافل تليفوني عشان اعرف اركز في شغلي عشان أنا على تكة واترفد، بسبب مصايبكم...آآ...اه اقصد بسبب مصايب يزن.

زفر سليم بقوة، وخفض رأسه يحاول السيطرة على مشاعره، فتقدمت شمس بابتسامتها اللطيفة وقالت بهدوئها المعتاد:

-معلش، متضايقيش من سليم، كان قلقان عليك، وموضوع يزن ده خوفنا كلنا.

أومأ زيدان برأسه ثم قال:

-مليكة قالتلي، عشان كده جيت ومكنتش بحسب إنك هتوصل قبلي.

أخيرًا، قال سليم بصوت ثابت:

-يزن قدر يهرب، يلا بينا نروح....

لكن زيدان قاطعه، وقد غلف صوته بعزيمة لا تخفى:

-لا انت تروحله، لكن أنا ليا شغل مع الـ**** اللي فكر  يخطف أخويا، وديني لاطلع عليه القرف اللي شوفته الايام اللي فاتت.

-ابو شيماء اتهور.

قالتها شمس بسخرية وهي تبتسم ابتسامة عريضة، فنظر إليها سليم بضيق، لكن زيدان ضحك وقال:

-ده اتهور اوي، ولسه هيتهور عشان يفكر يخطف اخو ظابط شرطة.

 قال سليم وهو يشير برأسه في تهكم واضح:

-اهو اتفضلي، هيتنفخ على الفاضي، يلا بينا نشوف التاني ده...

لكنه توقف فجأة، وأشار بإصبعه إلى زيدان محذرًا:

-وانت خد بالك من نفسك وبلاش تهور مش ناقصين مصايب.

رد زيدان بتهكم، رافعًا صوته:

-أنا ظابط شرطة على فكرة!

اقتربت منه شمس وهمست بلطف قبل أن تركض نحو سيارة سليم:

-هو خايف عليك لتتصاب، خلي بالك من نفسك، سليم كان هيجراله حاجة بجد لما يزن اتخطف وانت اختفيت فجأة.

ابتسم زيدان بهدوء، وهز رأسه في تفهم، ثم مشى معها حتى أوصلها للسيارة، وقبل أن يغادر سليم، ناداه زيدان ساخرًا بنبرة خفيفة لكن غاضبة:

-سلام يا أبيه، وسلملي على جلاب المصايب لغاية ما اشوفه.
                               ***
كانت يسر تستعد في محلها الجديد لاستقبال البضاعة التي ستدشن بها أولى خطواتها في عالم التجارة، ولكن هذه المرة لم تكن وحدها، بل برفقتها لينا، التي أصرت على مرافقتها، رافضة البقاء مع جدتها، مؤمنة في قرارة نفسها أن وجودها مع والدتها يكفل لها نوعًا من الأمان والطمأنينة.

جلست يسر ترتب الأوراق وتراجع القوائم المرفقة بكميات البضاعة المُستلمة، مركزة في التفاصيل، إلى أن اخترق صوت لينا البهيج الأجواء، معلنًا حضورًا غير متوقع:

-بابي حبيبي، وحشتني.

رفعت يسر رأسها على الفور، لتجده واقفًا هناك...نوح، وجهه متجمد لا يعكس سوى الغضب، وشيء من الانكسار، وعيناه تقطران قهرًا دفينًا، لم ينظر إليها، بل توجه مباشرة إلى ابنته، يطوقها بين ذراعيه بعناق بدا وكأنه الوداع الأخير...أو لعله كان يتشبّث بها، خوفًا من أن تسلبه الحياة هذا الحنان مجددًا.

كادت يسر أن تتحرك نحوه، أن تسأله ما به، ولكنها ترددت، كأنها تنتزع قدمها من بركة شعورٍ قديم، خائفة من السقوط مرة أخرى في بئر قلبها، لكنها لم تحتج إلى الحديث، إذ سرعان ما اقتحم أخو نوح المكان، مقاطعًا اللحظة بعاصفة صراخٍ فجائي، جعل لينا تتراجع إلى الخلف في ذهول:

-طيب ما أنت حياتك حلوة اهو مع مراتك امال واجع دماغ أمك ليه وانكوا هتطلقوا!!! ولا هو أي حوار وخلاص.

استدار نوح إليه، كأن طعناته لم تكن تكفيه، وأشار إليه باشمئزاز حاد:

-انت اتجننت؟ ولا جرى لمخك حاجة!!، ازاي تيجي ورايا!!!

ابتسم أخوه باستهزاء، ضاغطًا على حروف كلماته القاسية بوقع متعمد:

-جاي وراك يا اخويا يا محترم عشان الكلام اللي مالوش صنف المعنى اللي قولته لأمك، انت كنت عايزنا نعملك إيه يعني!! 

زمجر نوح بعنف، دافعًا إياه إلى الخلف بحركة عصبية مفاجئة، انفلتت منه دون تفكير:

-وانت مالك بتدخل بيني وبين أمي  ليه هو أنا كنت عاتبتك، ولا كنت عبرتك حتى!!

اشتدت نبرة أخيه وهو يردد بعنف:

-وانت تعاتب أمك أصلاً ليه؟ ولا هو عشان انت اللي بتصرف فـ ليك الحق تدوس علينا.

انفجر نوح صائحًا بجنون، بصوتٍ أجش أغلق الهواء على يسر، وكأنها تسمعه للمرة الأولى:

-أنا مدستش على حد، انتوا اللي بتدسوا عليا وجامد.

لم تعجبه نبرة العتاب التي تحدث بها نوح، فرد مبررًا بحماقة ووقاحة في آنٍ معًا:

-دوسنا عليك في إيه؟! ما احنا وقفنا جنبك وسألنا على بنتك نعمل إيه اكتر من كده.

ابتسم نوح بتهكم مرير، وقال بنبرة أشبه بالتعنيف منها بالسخرية:

-انتوا ماعملتوش حاجة أصلاً!! الغريب كان مهتم عنكم، انتوا كنتوا بتسألوا كل فين وفين، ماشوفتوش واحد من اخواتك واقف جنبي ولا شوفتك انت، وفي الآخر أمك بتقدملي أعذار ليكم رغم إني في الأول ماتكلمتش في أي حاجة، وجايبني مخصوص عشان مشكلة بنت اخوك مع جوزها ووصل الأمانة اللي عليه، ومفكرتش تسألني على بنتي هي كويسة حصلها حاجة ولا لا، وفي الآخر زعلان أوي يا اخويا ومحموق وجاي ورايا.

لمعت عينا أخيه بسخرية فاضحة، تشي بما لا يُقال:

-لا ما هو واضح مين اللي محموق، وواخد حقنة، ربنا يهني سعيد بسعيدة، احنا قولنا بردو الحركات دي تطلع منها.

رفعت يسر حاجبًا بدهشة بعد هذا الاتهام السخيف، وهمت بالرد، لكن نوح سبقها، وصرخ بقوة وهو يزجره:

-كلامك معايا متدخلش يسر في الموضوع فاهم ولا لا، يسر ولينا خط أحمر وانت عارف كده كويس، خلي بالك عشان هتزعل اوي لما تكتشف إنها هبت منك.

رمقه أخوه بنظرة نارية قبل أن يستدير ويغادر، والشرر يتطاير من عينيه، أما نوح فقد ظل في مكانه للحظات، قبل أن يتراجع فجأة، كمَن ضاق بنفسه، ثم استدار بدوره وغادر المحل بخطى متوترة، وركب سيارته وانطلق بسرعة جنونية، وكأنه يفر من شيء داخله أكثر مما يفر من المكان نفسه... من نظرها، من عينيها، من قلبه هو.

أما يسر، فوقفت في صمت ثقيل، تحملق في الباب الذي غادر منه، وهي تشعر أن شيئًا انكسر داخله!!
                              ***

انطلقت السيارة تشق طريقها بقيادة سريعة، فكان سليم يمسك المقود بعزم، وعيناه تراقبان الطريق أمامه، بينما جلست شمس إلى جواره، لا تزال آثار القلق بادية على ملامحها، لكن شيئًا من الطمأنينة بدأ يتسلل إلى قلبها بعد مكالمة يزن.

مر الصمت بينهما لبعض الوقت، لم يقطعه سوى صوت الهواء المتسلل عبر نافذة سليم المفتوحة، حتى أشارت شمس فجأة ناحية اليمين، وهتفت:

-سليم بص البنت دي!

نظر بسرعة إلى حيث أشارت، فرأى فتاة قصيرة صغيرة الجسد وبالعمر أيضًا، واقفة إلى جوار الرصيف، ترتجف تحت ضوء مصباح خافت، وعيناها مغرورقتان بالدموع.

-شكلها تايهة... بتعيط!

أبطأ سليم من سرعته، متنهدًا:

-شمس إحنا رايحين نشوف يزن وسيرا، مش فاضيين دلوقتي.

أصرت بعناد وهي تتلفت خلفها لتظل عيناها على الفتاة:

-لا يا سليم دي ممكن تكون تايهة بجد! لو دي أختك كنت هترضى تسيبها كده؟!

أطلق زفرة قصيرة، ثم حرك المقود ليعود إلى حيث كانت الفتاة، فتوقفت السيارة بمحاذاتها، فتحت شمس النافذة وناداتها بلطف:

-حبيبتي، انتي تايهة؟

أومأت الفتاة برأسها ببطء، دون أن تنبس بكلمة، ودموعها تنساب على وجنتيها، نزلت شمس بسرعة من السيارة وفتحت الباب الخلفي:

-تعالي يا روحي اركبي، إحنا هنوديكي القسم وهيساعدوكي تلاقي أهلك.

نظرت الفتاة إليها بتردد، ثم تقدمت بخطوات بطيئة حتى جلست في المقعد الخلفي، تواصل البكاء الصامت، ركبت شمس مرة أخرى في مقعدها بجوار سليم بالأمام، والتفتت إليه تقول:

-هنعدي بيها ع القسم الأول، مش هناخد وقت.

-ماشي، انتي تؤمري يا شمس هانم.

تحركت السيارة من جديد، وبعد دقائق تلقى سليم اتصالًا من يزن يُخبره بأنهما، هو وسيرا في مكان قريب، فاتجه فورًا إلى النقطة المحددة، وبعد لحظات كانا يركبان السيارة في المقعد الخلفي، دخلت سيرا أولًا ولم تلاحظ وجود نجلا بالخلف، نظرًا لإرهاق عينيها واحمرارهما، ثم دخل يزن، ولكن سرعان ما صدح صوت صراخ من قبل سيرا عندما استمعت إلى همسٍ بجوارها يغمره السعادة:

-لعبتييييي انتي رجعتيلي!!؟

انتفض الجميع نحو سيرا التي انعقد حاجباها بدهشة، ثم دققت النظر بجانبها، لتكتشف أنها نجلا ولكنها رثة الهيئة، تجلس ملاصقة لها، تبتسم بدموع تترقرق على خديها المتسخين، وشعرها المبعثر، كانت حالتها مزرية توحي بالضياع، لكن عينيها كانتا تلمعان بفرح حقيقي، كأنها عثرت على كنز طال انتظاره.

وما هي إلا ثوانٍ حتى أفلت يزن من صدمته وهتف مذهولًا:

-انتي جيتي هنا ازاي؟!

لكن "نجلا" لم تلتفت إليه، بل كانت منشغلة بسيرا وحدها، تهمس لها بصوت مرتجف، كأنها تتحدث إلى روح ضائعة عادت إليها بعد غياب:

-مين اخدك مني يا لعبتي، أنا فضلت طول اليوم ادور عليكي، بصي جيبت معايا إيه عشان نعمل حفلة.

أخرجت من جيب سترتها المتسخة دمية قديمة مشوهة المعالم، ورفعتها نحو وجه سيرا، التي بدأ وجهها يشحب تدريجيًا، رفت عيناها، وبدت وكأنها على وشك الإغماء، ثم تمتمت بارتجاف:

-لا حفلة تاني لا.

في المقعد الأمامي، تبادل سليم وشمس نظرات الصدمة والذهول، قبل أن يقطب سليم حاجبيه ويهتف بصوت خشن:

-انتوا تعرفوها، مين دي؟ في إيه؟

لكن أحدًا لم يجبه، كان يزن مشدوهًا، عاجزًا عن الفعل، وعيناه معلقتان على "نجلا" التي بدت وكأنها دخلت في عالمها الخاص، تتفاعل بحماسة بريئة مع وجود سيرا، دون أن تدرك حجم التهديد الذي تُشكّله.

فجأة وبلا إنذار، أخرجت "نجلا" مقصًا حديديًا قديماً يعلوه الصدأ، ورفعته أمام وجه سيرا، وهي تتلاعب به كطفلة تمسك بلعبتها المفضلة، مرددة بفرح طفولي:

-يلا يا لعبتي عشان اقص شعرك الطويل اللي زي الحرير، واخليه زي دي...

وأشارت بدميتها التي كانت خصلاتها مقطعة بطريقة عبثية، تنم عن جنون ناعم تحت قشرة الطفولة، انتفض يزن فورًا، وأمسك بسيرا ليجذبها بعيدًا عنها، محاولًا حمايتها، وقال بسرعة:

-ابعدي عنها، سيرا تعالي هنا..  

لكن مع محاولته جذبها خلفه، تشبثت نجلا بثياب سيرا بعنف غير متوقع، تكاد تخلعها من مكانها، وهي تصرخ بنبرة هستيرية:

-لا متاخدش لعبتي، لا لعبتي الحلوة لا...

كانت يداها تضغطان على جسد سيرا بقوة، بينما المقص يهتز في يدها الأخرى بشكل مخيف، طرفه اللامع يلوح قريبًا من جسد سيرا المرتعشة، التي بدأت في البكاء الهستيري.

انطلق سليم من مقعده الأمامي، وأدار محرك السيارة جانبًا وهو يفتح بابه في استعجال، بينما حاولت شمس فتح الباب الآخر لتفصل بين الفتاتين، لكن "نجلا" كانت أسرع، إذ مزقت قطعة من ثياب سيرا، فبان جزء من جسدها الأمامي، مما دفع سيرا لأن تصرخ صرخة مدوية اهتز لها قلب الجميع.

أطلق يزن سُبة نابية، واندفع يمسك بـ"نجلا" من شعرها ليبعدها عنها، صارخًا:

-سيبها يا بنت الـ*****، سيبها.

لكن قبل أن ينهي كلماته، تحررت نجلا بحركة مفاجئة، واعتدلت بجسدها، ثم وجهت المقص نحو سليم الذي كان قد وصل إلى الباب وحاول الإمساك بها.

غرست المقص فجأة في بطنه، وهي تهتف بذعر:

-سيبني عايزة أخد لعبتي، مش هسيبك تاخد لعبتي مني.

وقف يزن متجمدًا، للحظةٍ عاجزًا عن التصديق، كأن الزمن انكمش حوله وابتلع الأصوات، فلم يعد يسمع سوى دوي قلبه يطرق في صدره كطبول كارثةٍ وشيكة.

رأى سليم يتراجع خطوتين، يضع يده المرتعشة على بطنه، ينظر إلى الدم بعينين متسعتين بالدهشة لا بالألم...ثم هوى، في تلك الثانية، حدث شيء داخل يزن...شيء لم يعرف له اسمًا.

انكسرت فيه صورة أبيه القديمة، وانكسر معها صدره، سليم لم يكن أخاه فقط، بل الأب والصديق والملاذ، الرجل الوحيد الذي ظل ثابتًا في حياته، لم يدرك أن يسقط سليم بتلك الطريقة، بتلك السهولة!

-سلييييييم!!

خرج صوته ممزقًا، وقد ركض نحوه بلا وعي، واستغلت سيرا اندهاش نجلا بالمشهد أمامها وركضت مصعوقةً هي الأخرى نحو جسد سليم، في ظل تجمهر بعض المارة حولهم، كانت الدموع تلتمع في عيني يزن دون أن تنزل، وجهه متخشب، وملامحه لا تصدق ما تراه، جثا بجانب أخيه، وضع يده تحت رأسه، وراح يهتف بارتجاف، وكأنه يتعلم أبجدية الحديث:

-سليم قوم، سليم...متسبنيش، بالله عليك قوم.

أما شمس فقد عاشت لحظة موتها وهي على قيد الحياة، صرخة سيرا، فوضى السيارة، وجه نجلا المجنون...كل هذا تبخر، ولم يبقَ في عالمها سوى مشهدٍ واحد، سليم يسقط...زوجها، رفيقها، سندها، ذلك الرجل الذي ما زال يربت على قلبها لمجرد وجوده بجانبها، يرقد الآن أمامها بدمه، كأنه يغادرها دون وداع.

تجمدت في مكانها، عينها لا تطرف، وفمها فاغر كمَن يريد أن يصرخ لكن حنجرتها تأبى، لم تشعر بنفسها إلا وهي تهوي على ركبتيها قربه، تضع يدها فوق جرحه بيدٍ مرتجفة، تحاول وقف الدم كأنها تحاول توقيف القدر نفسه.

-إسعاف....إسعاف..سليم، سليم حبيبي...إسعاف بسرعة.

ارتجف صوتها وانقطع، ثم تحول بكاؤها إلى شهقاتٍ مذبوحة، لا تشبه بكاءً عاديًا، بل بكاء امرأة يُنتزع قلبها من بين أضلاعها وهي عاجزة.

وحقيقةً، لم يكن سليم هو من نزف فقط...بل نزف كلُ من حوله. 
وقفت سيرا في ردهة المشفى الذي نُقل إليه سليم منذ ما يقرب الساعة، ولا يزال في غرفة العمليات كانت الردهة هادئة إلا من أنفاسٍ متقطعة وعيونٍ مرهقة، ويزن جالس على أحد المقاعد الحديدية منهك القوى، يضع كفيه فوق رأسه يخفي وجهه عن العالم، فيما شمس واقفة في الطرف الآخر من الردهة، تُحدق بصمت ثقيل في الباب الموصد المؤدي إلى مركز العمليات.

كان الشعور لا يُوصف، خليط من العجز والذنب ينهش روح سيرا، إذ لم تستطع ردع نجلا حين انفجرت بنظراتها الشريرة وحركاتها العنيفة، كانت تلك النظرة في عيني نجلا تلك اللمعة المريبة كفيلة بهدم بقايا رباطة جأشها، فحدث هرج ومرج في السيارة ومنذ ذلك الحين لم تنبس سيرا ببنت شفة يعتصرها الألم تغرق في صمت يشوبه بكاء شمس وصمت يزن الضعيف، ذلك الضعف البادي في ملامحه وانحناءة جسده وكأن الحياة تُفرغ منه بالتدريج، حتى المواساة فشلت فيها، مثلما تفشل الآن في أن تلحق به وهو ينهض ويغادر الردهة دون أن يلتفت!

تحركت بخطى بطيئة نحو شمس، بينما كانت يديها تقبض على مقدمة سترتها المنزوعة، تخفي جسدها بعفويةٍ ناتجة عن الحرج وعدم الاستعداد لم يكن ثمة متسع لطلب ملابس أو لاهتمام بالمظاهر، فالحزن كان أكبر من كل شيء أقوى من كل اعتبارات.

وبصوتٍ مرتجف، تقدمت خطوةً وقالت:

-ان شاء الله هيخرج بالسلامة متقلقيش.

لم تلتفت شمس، واكتفت بإيماءة صغيرة من رأسها، كما لو أنها لم تملك طاقة للكلام كانت كالشمعة المطفأة، بالكاد واقفة على قدميها حينها انفجرت سيرا بالبكاء، تقاتل كلماتها لتخرج بين شهقاتها الحارة:

-أنا أسفة، ده كله بسببي، أنا لو مكنتش اتوترت لما شفتها....

توقفت فجأة إذ باغتها بكاء شمس الهستيري، فكان يتصاعد كنحيب طائر مذبوح، وصوتها يرتجف وهي تردد بضياع:

-لا بسببي، هو قالي بلاش نقف وأنا أصريت مكنش ده كله حصل،....

ثم صمتت للحظة وواصلت بنبرة ارتجفت فيها نبرة الخوف واليأس:

-أنا ماقدرش اعيش من غيره، هو كل حياتي، دنيتي أبويا واخويا وحبيبي، سليم كل حياتي، أنا أضيع من غيره...

ثم التفتت نحو الباب المغلق ونظرت إليه كأنها تناجيه، تمسكت به كملاذٍ أخير وهمست بأسىٍ وانكسارٍ بدا وكأنه يحني كتفيها:

-هو لازم يكون عارف كده، لازم يقوملي.

تحركت مشاعر سيرا بعنفوان الرحمة وحررت يديها من سترتها لتحتضن شمس بقوة، تضمها إلى صدرها وتربت على ظهرها برقةٍ وحنو بالغ، كأنها تحاول أن تنقل إليها شيئًا من قوتها:

-هيقوم بالسلامة ان شاء الله...ان شاء الله متقلقيش.

ظلتا على حالهما تعانقان بعضهما كغريقتين تتشبثان في بعضهما كي لا تسقطا في الهاوية، حتى ابتعدت سيرا بخجلٍ مرتبك وقالت:

-هو ممكن تليفونك أكلم اهلي بس يجبولي لبس واطمنهم عليا.

أومأت شمس برأسها موافقة ثم مسحت دموعها التي لم تكن قد جفت بعد، وتقدمت نحو حقيبتها فأعطت سيرا الهاتف، أخذته الأخيرة باستحياء وتقدمت نحو نافذة صغيرة تطل على الخارج، ثم أجرت الاتصال وما إن جاءها صوت أبلة حكمت على الطرف الآخر حتى قالت بلهفة خافتة:

-أبلة، أنا سيرا.

استمعت إلى الصوت المرتجف على الجانب الآخر قبل أن تسمع صياحها:

-سيرا، دي سيرا يا جماعة...لا متنزلش القسم، ما هي بتكلمني اهي.

زمت سيرا شفتيها بقلق حين أدركت أن حكمت تحدث من حولها وقالت برجاء:

-يا أبلة ركزي معايا أنا كويسة، متخليش حد يعمل حاجة، أنا كويسة والله بس يا ريت تيجيلي وتجيبي معاكي هدوم ليا وتيجي اسكندرية على مستشفى اسمها "******".

ثم جاءها صوت أختها مفعمًا بالقلق:

-ليه انتي كويسة، حصلك حاجة؟ ومين انقذك؟ وفين يزن؟ ومين اللي كان عايز يخطفك؟

تنهدت سيرا تنهيدة طويلة تخنق فيها عبرتها تتحكم في نبرة صوتها كي لا تنفجر من القهر:

-يا أبلة لما تيجي لي أكيد هحكيلك كل حاجة، وأنا في المستشفى عشان سليم أخو يزن في العمليات دلوقتي يا ريت كلكوا تدعوله وتخلي بابا وماما يدعوله ولما تيجي تعالي انتي وابيه صافي بلاش بابا يجي معاكي وتتعبيه لإن الموضوع شكله مطول.

سمعت صوت والدها يدخل على الخط وصوته مفعم بالقلق واللهفة:

-سيرا كلميني، انتي كويسة؟ طمنيني؟

فلم تتمالك نفسها وبكت وقالت له برقة واشتياق:

-وحشتني اوي يا بابا.

-يا حبيبتي انتي بخير؟! ردي طمنيني عليكي؟ قلبي هيقف من الخوف عليكي!

تنهدت بخفة وهي تجيب بهدوء زائف عكس ما يثور بها:

-بابا أنا والله كويسة وربنا عداها على خير ببركة دعاويك ليا بس المشكلة إن سليم اخو يزن اتأذى وهو دلوقتي في العمليات والدنيا مقلوبة هنا، فممكن بعد اذنك تبعتلي أبلة حكمت وابية صافي بس لغاية ما الدنيا تهدا واتطمن على سليم اخو يزن واجيلك على طول.

هتف والدها بإصرار قائلاً:

-لا أنا هجيلك بنفسي واجي بردو اتطمن عليه!

ردت عليه بإصرار أكبر وهي تقول بتبرير:

-لا يا بابا، يا حبيبي اسمع الكلام انت تعبان ومحتاج راحة لا قد السفر ولا قد الانتظار هنا في المستشفى، وبعدين هتسيب اخواتي وماما لمين؟ ابعتلي ابلة حكمت وابيه صافي وأنا أول لما الدنيا تهدا هتصل عليك احكيلك على كل حاجة.

سمعت صوت جدال خافت يدور بينه وبين إخوتها وهو يُصر على القدوم، لكن سيرا كانت قد شردت فجأة إذ لمحت من النافذة يزن جالسًا على درج البوابة الخلفية للمشفى جسده مطوي على نفسه، رأسه بين كفيه وظهره مقوس كمَن انكسر عوده، بدا كطفل ضائع في عالمٍ لا يرحم، فانقبض قلبها عليه.

أغلقت المكالمة على عجل، وأسرعت لإعادة الهاتف إلى شمس وفي طريقها فوجئت بزيدان يدخل راكضًا إلى الردهة وعيناه مشبعتان بالذعر، وجهه مشدود بانفعال عاصف وصوته كالسوط:

-سليم ماله، هو فين؟ ردي يا شمس؟ يزن فين؟ سليم ماله؟

همست شمس ببكاء:

-اتضرب في بطنه بالمقص.

فتدخلت سيرا لتكمل بتوضيح ونبرتها تملؤها التوتر:

-نجلا بنت المعلم طلقة، ضربته بالمقص في بطنه، والناس اخدوها وسلموها تقريبًا في قسم الشرطة.

أغمض زيدان عينيه بقوة وكور قبضتيه كأنما يستعد للاشتباك مع العالم، كل عضلة في وجهه تصرخ غضبًا حتى بدا كوحشٍ جريح يحترق لينتقم إلى أن جاءه صوت شمس المرتعش:

-بقاله ساعة في العمليات ومحدش طمني يا زيدان، أنا خايفة!!

تغير زيدان في لحظة كأن الواقع اصطدم به دفعة واحدة، فانهار جالسًا على أقرب مقعد ناظراً في فراغٍ يبتلع كل شيء، عيناه تلمعان ببصيص دموعٍ لم يسمح لها بالسقوط متمسكًا بآخر خيوط كبريائه يخفي بها هشاشته، لم يكن مجرد أخ بل كانت صلته بسليم أعمق من كل الكلمات، تلك الرابطة التي لم يصرح بها يومًا ولم يسمح لنفسه حتى أن يُفصح عنها، فإن كان قد قبِل بفقد والده، فذلك لأن سليم كان ما يزال معه فكان دومًا يهمس لنفسه في أشد الأزمات..."سليم... وكفى."

                         ****

تسللت سيرا من تلك الهالة الحزينة التي كانت تحيط بالمكان، وتسللت بخفة نحو يزن، مدفوعةً بحاجة مُلحة للجلوس إلى جواره، لعلها تواسيه أو تخفف عنه وطأة الألم الذي يُثقل روحه، فقد كان خير سندٍ لها وخير حافظ طوال فترة اختطافهما.

اقتربت دون أن يشعر وجلست بقربه بينما هو ما زال منكفئًا برأسه، كأن الهم قد سحق كيانه رفعت يدها المرتعشة، ترددت للحظات قبل أن تمدها نحوه، ثم تماسكت ولمست شعره الكثيف بهمسة حنونة ونبرة مرتعشة:

-يزن، انت كويس؟

لم يجب....بقي على حاله يحجب وجهه عنها، يزيد من قلقها فاقتربت منه أكثر وبصوت تخنقه العاطفة:

-يزن، رد عليا، اجبلك دكتور؟

رفع نصف وجهه أخيرًا فكُشف الستار عن أنهار حزنه، دموع غزيرة تسيل على وجهه وعينان فقدتا لمعانهما تحت وطأة الدمع...أما صوته حين خرج كان كمَن فقد كل قواه ممزوجًا ببحة موجوعة، جعلتها تشعر برغبة في البكاء معه، فبكاؤه كان يشبه بكاء طفل صغير أنهكه الخوف من فقدان والده، لم يكن كما رأت دموع زيدان...بل شيء أعمق شعور عجزت عن وصفه.

-ان شاء الله هيبقى كويس متقلقش.

عض على يده بقسوة وكأنه يعاقب نفسه وهمس بصوت بالكاد يُسمع مخنوق بالحسرة:

-أنا السبب...أنا اللي وصلته إنه يحصل فيه كده.

جرت دموعها بلا مقاومة ووجدت نفسها تتولى عبء اللوم عنه بكل شجاعة، وهي تهز رأسها نافية ما قاله:

-لا أنا السبب أنا اللي خوفت زيادة ووترتك وخليتك مش عارف تتصرف معاها، أنا أسفة.

لم يكن يقصد لومها لكن الشعور بالذنب كان قد اجتاحه بالكامل، وشعر أنه مذنب بسبب نزواته العابرة وإن بدت بريئة، لولا تعارفه على ابنة المعلم طلقة "فايزة" لما خطر ببال المعلم الطلقة كوسيلة لإنقاذ ابنته الثانية من فضيحة تلاحقها بين مجرمي الحارة!

لاحظ يدها الموضوعة فوق يده تربت برفق على كفه تنظر إليه بعينين تغمرهما البراءة، فشعر أنه لا يستحق تلك النظرة لكن شيئًا آخر أثار انتباهه، قبضتها التي كانت تضغط بقوة على مقدمة سترتها الممزقة حيث مزقتها نجلا بعنف فهب فجأة وهو يهمس بقلق:

-استني، استني ماتتحركيش، ازاي ماتنبهنيش.

رأى ممرضة تمر على مقربة منهما فتوجه إليها مسرعًا وتحدث معها لبضع كلمات، فأومأت برأسها وهي تُلقي نظرة سريعة نحو سيرا التي بقيت في مكانها تتابع المشهد بعدم فهم، عاد بعد لحظات وهو يحمل سترة طبية بيضاء مخصصة للعاملين بالمشفى.

وقف خلفها بهدوء، يضع السترة على كتفيها لتغطي نفسها، وظل واقفًا إلى أن تأكد من أنها أغلقت الأزرار جيدًا، امتنت سيرا لتصرفه النبيل، واحمر وجهها احترامًا لهذا الرجل الذي يُعاملها برقيٍ لا يُشبه أبدًا ما سمعته عنه من حورية، كيف يمكن لهذا الإنسان أن يكون من هواة التسلية بالفتيات؟!

جلست بجواره مجددًا وقد اتخذت قرارًا بألا تسمح له بالعودة إلى ظلال حزنه، فأرادت أن تملأ الفراغ بالحديث حتى لو بالكلمات المترددة، فقالت ببسمة رقيقة:

-باين عليك متعلق بأخوك الكبير؟

رفع عينيه المُحمرتين نحوها وبسمة حزينة ترتسم على شفتيه:

-سليم كل حاجة في حياتي حرفيًا، أنا كبرت واتربيت على ايده، مقدرش اتخيل حياتي من غيره.

ابتسمت له بحنان وبنبرة مجروحة كأنها تداويه بكلماتها:

-تعرف أنا لاحظت كمان أن هو بيحبك، حسيت وقتها إنها مش مجرد علاقة اخوات، علاقة....

قاطعها يمسح دموعه التي بات يجهل عددها وقال بألم غائر:

-ده أبويا...أبويا التاني، بحترمه وبقدره وبخاف منه وبخاف عليه، سليم ضحى بحاجات كتير اوي عشانا، أنا عمري في حياتي ما أقدر اعوضه ولا اعوض افضاله عليا.

ربتت على كتفه وقالت بتوتر وحيرة:

-طيب وزيدان؟!

بدت ملامحه حائرة فأعادت هي صياغة السؤال:

-علاقتك بيه، بتحبه زي سليم كده؟!

غاصت أصابعه في شعره الكثيف يشد عليه كأنه يحاول أن يُخرج الكلمات من داخله، ثم أجاب بشرود:

-سليم علاقتي به متتقارنش بحد، سليم أبويا، أنا وعيت على الدنيا هو كل حاجة في حياتنا، مفيش حاجة بتحصل إلا برأيه، ولا بنقدر ناخد خطوة إلا لما يكون موافق، عمود البيت وسندنا في الحياة بعد أبويا الله يرحمه، أما زيدان...

أخرج زفيرًا حارًا من صدره وتابع:

-زيدان ده صاحبي، وسري، يعني بنتخانق كتير، بس عمري في حياتي ما قدرت انام زعلان منه.

كانت تنظر إلى ملامحه المنكسرة وقد أسرها دفء العلاقة التي تجمعه بأخويه فخرجت كلماتها كما هي دون ترتيب:

-عارف يا يزن اللي يشوفك من برة، يقول شخص مبيهموش إلا نفسه، بس لما قربت منك عرفت إنك قد إيه بتحب عيلتك وبتقدرهم، وده احسن حاجة، مفيش أحسن من التقدير.

لم ينظر إليها بل ثبت نظره على نقطة غائبة في الفراغ، وهتف بصوت مرتجف بعدما نجحت أخيرًا في سبر أغوار قلبه:

-أنا أهلي عملولي كل حاجة حلوة ومايستاهلوش مني إلا كل حاجة حلوة وده أبسط تقدير ليهم.

مالت برأسها وهي تنظر إليه بإعجاب وابتسامة خافتة:

-انت عارف كل شوية بكتشف فيك حاجات جديدة.

رفع عينيه إليها وقد خف وهج الحزن قليلًا وسأل بفضول واضح:

-وإيه الاكتشاف الجديد؟!

ابتسمت بمكر طفيف:

-نطيت على طول على جديد طيب متسألش على القديم الاول؟

تنهد بعمق وأسند رأسه إلى الجدار خلفه وردد بلهجة تظاهر فيها باللامبالاة وإن كان داخله يتقلب شوقًا:

-لا ماليش خلق، يهمني الجديد....القديم كده كده مضروب بالجزمة.

وضعت يدها أسفل ذقنها وقالت ببسمة بسيطة، وقد حاولت كبح جماح كلمات قاسية كانت على وشك الإفلات:

-أنك راجل والكلمة دي في نظري ماتتقالش لأي حد، كنت فاكرة إنك عيل توتو بس كسرت توقعاتي.

فجأة صُدح صوت زيدان بجانبهما قاطعًا خيط لحظتهما:

-يزن، انت كويس؟

نهض يزن ليستقبله، وبسمة باهتة على وجهه، لكنها كانت تحمل بذور الأمل:

-زيدان انت جيت امتى؟ ومين قالك؟

أجابه زيدان وهو يلقي نظرة سريعة على سيرا:

-جيت من شوية بس الظاهر أن سيرا نسيت تقولك، ومين اللي قالي مليكة وبعدها.....

وسرد عليه تفاصيل لقائه مع سليم أمام منزل المعلم الطلقة وكيف تمكن من القبض عليه وعلى رجاله إلى أن تلقى خبر إصابة سليم.

-الحمد لله إنك موجود.

-متقلقش أنا ان شاء الله حاسس إن سليم هيقوم منها والبت اللي عملت فيه كده أنا مش هسيبها.

هتفت سيرا على الفور، رافعةً يدها كمَن تُوقف تيارًا من الغضب:

-لا....حرام اقصد هي مريضة نفسيا ومش مدركة للكارثة اللي عملتها، وبعدين ابوها السبب مش صح يا يزن؟

لم يجب يزن وظل صامتًا إذ كان مشهد سليم وهو يسقط غارقًا في دمائه يحرض في أعماقه رغبة عارمة في الانتقام...رغبة تكاد تنسيه أن نجلا بكل جنونها وخطرها، ليست إلا مريضة مسكينة لا حول لها ولا قوة، تملكته الكراهية حتى خشي على نفسه منها، فظل شاردًا بعينين جامدتين.

وفي تلك اللحظة قطعت سيرا عليه شروده بنبرة حازمة حادة، ولهجتها تطغى عليها نغمة الإصرار:

-هي لازم تتاخد من أبوها وتتحط في مستشفى للامراض العقلية، هتبقى في مكان أمان، ابوها واهلها مش عارفين ياخدوا بالهم منها، مش صح يا يزن؟

كررت السؤال وكأنها تحاول انتشاله من غياهب أفكاره القاتمة، فأفاق أخيرًا متنهدًا بعمق كأنما يلفظ ثقلًا عالقًا في صدره ثم حرك رأسه بإيماءة خفيفة وقال بصوت مكلوم:

-دي حقيقة وجود البت دي خطر، لازم تتحط في مستشفى وناس مسؤولة.

زم زيدان شفتيه ولم ينبس بكلمة، كأن ما قيل للتو كان كافيًا لإثارة عاصفة صامتة في داخله، وما لبث أن جاءه اتصال من قسم الشرطة فابتعد قليلاً ليرد وقد ارتسم على وجهه توتر لم ينجح في إخفائه.

استغلت سيرا الفرصة، وتقدمت نحو يزن بخطى حذرة، وهمست إليه بصوت مرتجف يشوبه التوتر:

-يزن انت زعلت مني؟ والله أنا مابدافع عنها، بس كل الحكاية إنها زي ما أذت سليم أخوك، تأذي أي حد تاني.

تأملها يزن لوهلة، وقد رأى في عينيها صدقًا دفعه للإعجاب بها من جديد، خافت عليه....وقلقت لمجرد أنه ربما شعر بالحزن منها، وذلك وحده كان كافيًا ليرق قلبه، ابتسم لها برفق ونفى برأسه مطمئنًا:

-لا مازعلتش، متقلقيش أنا مش صغير لدرجادي، يلا نطلع نقف مع شمس.

زفرت سيرا زفرة ارتياح وأومأت برأسها في طواعية... ثم سارت بجانبه بخطى أكثر اطمئنانًا، كأنما وجدت في قربه مأمنًا.

                               *****
وقفت يسر أمام باب شقتها بعد عناء طويل في محاربة نفسها لتجاهله، غير أنها لم تستطع مقاومة حنينها وعنفوان رحمتها به، لا سيما بعد أن شاهدت بعينيها شجاره مع أخيه، ذلك المتبلد قاسي المشاعر.

 لقد بدا لها حينها وكأنه يعاني وحده في تلك الفترة، دون أن تدري هي شيئًا عن ألمه، لذا تحركت خلفه دون وعي، وها هي تقبض بكفها فوق يد ابنتها، التي استغلتها كمبرر تلوذ به كي تتبعه، رغم أنها لا تعلم شيئًا عن وجهته حين فر بسيارته هاربًا من عينيها ومن هذا العالم بأسره، وما إن أبصرت سيارته مركونةً أسفل البناية، حتى شعرت براحة غريبة تتسلل إلى صدرها.

طرقت الجرس وانتظرت قليلاً، حتى فُتح الباب وظهر وجهه العابس، وقد ارتسمت على ملامحه دهشة خفيفة لوجودها؛ لم يتخيل قط أن يراها أمامه أو أن تلحق به، فخرج صوتها متذبذبًا حين قالت:

-ادخلي يا لينا يلا جيبي العابك اللي انتي عايزاها.

رفعت الصغيرة عينيها وغمزت لوالدتها غمزة طفيفة، جعلت وجه يسر يحمر كحبة طماطم ناضجة، هرولت الصغيرة صوب غرفتها سعيدة، بينما تجاهلت هي نظراته وقامت بإزاحته من طريقها وهي تتقدم إلى الداخل قائلة بنبرة مختصرة:

-هنجيب العاب لينا بسرعة ونمشي متقلقش.

لان وجهه بابتسامة ساخرة حين أدرك مقصدها، فهز رأسه بيأس وأغلق الباب خلفها، ثم توجه نحو المطبخ ليعد فنجان قهوته عله يسكن آلام رأسه المميتة، فمنذ تلك المواجهة مع والدته، وكلماتها القاسية لا تزال تتردد في أذنه، ممزقة صدره وعقله معًا.

اقتربت يسر من المطبخ، وقد عقدت ذراعيها أمام صدرها، ثم تساءلت بسخرية ظاهرها المزاح وباطنها الاستفزاز:

-من امتى وانت بتعرف تعمل قهوة؟!

التفت نصف التفاتة وابتسامة ساخرة تلوح على محياه، بينما يداه تحركان مسحوق القهوة في الماء بإتقان وهدوء تام، وكأنه يدرك تمامًا أنها ستأتي خلفه، فأجاب بخشونة يغمرها التهكم:

-اتعلمت، مش عايش لوحدي؟ ومراتي سايبني!

تقدمت نحوه خطوة أخرى، والسخرية تعلو صوتها وابتسامتها المستنكرة ترتسم على وجهها:

-يلا حظك كده، هتعمل إيه؟! معلش مراتك جاحدة.

 ترك القهوة تمامًا ونظر إليها متأملًا ملامحها التي اشتاق إليها كثيرًا، فخفض صوته قائلًا بنبرة اشتياق تسللت منه رغمًا عنه:

-لا هي مش جاحدة، هي دماغها مفوتة بس، ربنا يهديها.

احتدت نبرتها وهي تعبس في وجهه، تصده عن نظراته:

-والله ما حد دماغه مفوتة غيرك يا نوح.

ضحك ضحكة خفيفة، وعاد إلى قهوته مردفًا بعتاب زائف:

-انتي جاية تتخانقي معايا؟ جاية تكملي عليا؟

اقتربت منه أكثر تلقي عليه اللوم بشراسة، دون أن تعي تمامًا ما نطقت به:

-ما انت اللي بتضايقني، بتضايقني ليه وأنا جاية وراك عشان.....آآآ أقصد عشان العاب لينا.

ابتسم مجددًا ضاحكًا بخفة، ثم غمرها بنظراته الحنونة والمشتاقة، واقترب منها وهو يقول بهدوء تملؤه مشاعر دافئة رغم ما أحدثه قربه من اهتزاز نفسي عنيف بداخلها:

-امممم العاب لينا مهمة جدًا، بس متقلقيش هي جامدة وقادرة تقف على رجليها مش شوية كلام هيهزوها.

واجهته بصراحة وقد غلب عليها الحزن والحيرة، تخشى أن تكون هي السبب في زعزعة علاقته بأهله:

-هو أنا كنت بغلط في اهلك، أو كنت بعمل فيهم حاجات بتزعلهم مني؟ أنا يعلم ربنا كنت بعاملهم زي أهلي ولا عمري اشتكتلك منهم ولا عمرهم أظن اشتكوا مني في حاجة؟

تنهد بقوة وضغط على نفسه ليجيب رغم أن كلماته جاءت مبهمة على عادته:

-المشكلة مش فيكي يا يسر؟ المشكلة فيا أنا وعلاقتهم بيا!

عقدت ما بين حاجبيها بحيرة ظاهرة محاولة سبر أغوار ذلك الغموض الذي يكتنفه:

-غريبة يا نوح عمري ما لاحظت حاجة بينكم، إيه اللي جد؟

ترك موقعه أمامها وتوجه بخفة إلى قهوته مجددًا، يشعل النار تحتها وأجاب باقتضاب كأنه يدرك تمامًا أن كلماته ستثير تحفزها:

-عمرك ما لاحظتي عشان كنتي مشغولة بحاجات تانية، هتجوز عليكي امتى؟ بخونك ولا لا؟ فطبيعي عمرك ما هتلاحظي إني على طول بعيد عنهم.

لم تمهله الرد بل اقتربت وهي تُلقي عليه اتهاماتها بعنفوان شرس فصاحت:

-مترميش اتهامات وخلاص يا نوح؟ ولو كنت أنا مشغولة بالحاجات دي عشان حضرتك السبب في كده، انت لو كنت مخلي علاقتنا عادية زي بين أي اتنين متجوزين، أكيد كنت هلاحظ إن في حاجة، بس انت على طول بعيد ودايمًا مخبي.

نظر إليها مبررًا مشاعره وما كان يعيشه من جفاء:

-عشان مكنتش بلاقي في عينك الاهتمام يا يسر، فكنت بسكت وبكتفي باللي بمر بيه لوحدي!

اغرورقت عيناها بالدموع وهي تدافع عن نفسها بصوت مهتز:

-وليه؟! يعني انت لو جيت وحكيتلي أنا كنت مسمعتش ولا اهتميت؟ أنا مش وحشة اوي كده يا نوح.

ترك قهوته وعاد إلى موقعه أمامها، يهتف بضعف مماثل لكن الفرق بينهما أنها قادرة على البكاء، على إظهار ضعفها، أما هو فكرامته تمنعه؛ لن يبكي حتى إن أظهر ضعفه فسيبدو في نظر نفسه هشًا جدًا:

-ولا أنا وحش يا يسر، اقسم بالله أنا ما وحش، أنا بس....بس تايه وحاسس أن انا مخنوق ومش عارف اعبر عن أي حاجة ولا عارف أنا عايز أيه؟

هدأت ثورتها أمام صدق كلماته التي لامست فؤادها، وقالت برقة رغم أن دموعها ما زالت تترقرق في عينيها:

-انت لو حابب تتكلم أنا موجودة وهسمعك؟

صمت للحظة ثم قال بهدوء يغمره الرجاء الصامت، وكأن أمنيته أبسط مما يُقال، لكنها عنده كانت أعمق مما يُرجى:

-أنا مش عايز أي حاجة غير إن ادخل أنام وتكوني جنبي...متعمليش أي حاجة غير إن احس إنك جنبي وبس.

تساءلت بصوت مرتجف وهي تنظر نحو القهوة، تحاول قمع رغبتها في احتضانه واحتوائه:

-طيب والقهوة؟

أطفأ النار بسرعة، وأمسك بذراعها يجذبها خلفه، مردفًا بسعادة ضمنية تملأ صوته:

-كنت بعملها عشان اسهر عشان كده كده مش هعرف انام، بس انتي موجودة يبقى ملهاش لزمة!!

دخلا معًا غرفتهما فشعرت بالحنين الجارف إلى هذا الركن الدافئ الذي جمعهما يومًا، لكنها لم تنسَ سر تلك الملابس النسائية الغريبة التي وجدتها، فغلبها شعور بالغيرة والغضب والنفور، ولكن نظرتها إليه وهو مستلقٍ على فراشهما ممسك بكفها، يضعه تحت وجهه وكأنه يخشى فراقها، جعلتها تستكين....فبدا كطفل صغير يخشى فقدان والدته، ويشعر بالأمان بقربها

                                ****
خرج أخيرًا الطبيب المسؤول من غرفة العمليات، وعلى وجهه ابتسامة مطمئنة تبعث الأمل في القلوب المتوترة، وقف أمامهم بثبات، ثم قال بهدوء أثلج صدورهم جميعًا:

-الحمد لله قدرنا نوقف النزيف، ومصابش أعضاء حيوية، بس هيحتاج يقعد في العناية المركزة تحت الملاحظة.

شعرت شمس كأن كتلة من الثلج قد استقرت في جوفها، فابتلعت ريقها بصعوبة بالغة ثم سألته برجاء يعلوه الارتجاف:

-ممكن ادخل اشوفه؟

أجابها الطبيب بنبرة آسفة لكنها حاسمة:

-لا لأسف مايمنفعش دلوقتي، ادونا وقتنا بس نطمن عليه احنا الاول وعلى صحته وصدقيني هتطمني عليه، وبعدين يا جماعة الحمد لله عدت على خير.

كانت كلمات الطبيب كأنها سُور من طمأنينة التف حول قلوبهم، لكنها لم تكن كافية لتهدئة ذاك الاضطراب الكامن في صدر شمس، فتقدم زيدان منها وقد قرأ بوضوح ما يخالجها من قلق ولهفة، فقال برفق:

-متقلقيش يا شمس، أكيد كده احسن له، الحمد لله.

في تلك اللحظة، خرج صوت يزن بعد فترة طويلة من الصمت، وقد نطق كمَن تنفس الصعداء أخيرًا، وهو يجلس على المقعد المجاور:

-الحمد لله.

التقطت سيرا تلك اللحظة بعين فطنة وقلب حنون، فابتسمت برقة وكادت أن تتجه لتجلس إلى جواره، إلا أن عينيها وقعتا على شمس التي كانت لا تزال ترتجف وقد بدا واضحًا أنها على وشك الانهيار، فتقدمت منها بخطى هادئة ثم أحاطتها بذراعيها، تضمها بحنانٍ صافٍ وهمست إلى أذنها ببضع كلمات رقيقة، كمَن يبث دفء الطمأنينة في جسد مرتجف، علها تخفف من وطأة الخوف الجاثم فوق قلبها.

                            ****

شعرت سيرا بحاجة عارمة إلى استنشاق بعض الهواء، كأن رئتيها قد ضاقتا ذرعًا بكل ما دار في الساعات الماضية، نظرت نحوهم فوجدت يزن المنهمك في أفكاره، زيدان الذي يتابع شيء ما على هاتفه باهتمام، وشمس التي بالكاد تلتقط أنفاسها، انسلت بهدوء دون أن تُحدث جلبة، وتوجهت نحو ردهة أخرى بالمشفى، حيث نافذة تطل على حديقة أخرى وكبيرة.

وقفت أمام النافذة ووضعت كفيها على الحافة الباردة، وأغمضت عينيها للحظات، الهواء كان خفيفًا، باردًا نوعًا ما لكنه قادر على تهدئة شيءٍ من تفكيرها المتكدس، لم تكن تدري أن حاجتها تلك للابتعاد، لم تكن من الإرهاق وحده، بل من وجود يزن تحديدًا؛ ذاك الحضور الذي يهيمن على قلبها دون إذن، فتجد نفسها تتابع نبرات صوته....نظراته، وحتى صمته.

تنهدت طويلًا واستدارت بهدوء لتغادر، إلا أن صوتًا غريبًا مألوفًا حد الرعب، اخترق سكون اللحظة:

-لعبتييييي، حبيبتي انتي رجعتيلي، أنا بحبك اوي يا لعبتييي.

شهقت سيرا وهي تحدق في ملامح نجلا، كيف استطاعت الهرب من قسم الشرطة؟ وكيف أتت إلى المشفى؟! فكانت نظراتها الطفولية الغريبة تلمع ببريق غير متزن، تقدمت منها نجلا بخطى سريعة وابتسامة عريضة مشوشة، ويدها تمتد كأنها ستلتقط دميتها المفضلة:

-تعالي يا لعبتتتي أنا مبسوطة اوي عشان لقيتك، بعد ما الاشرار كانوا هيخدوكي مني.

تراجعت سيرا تلقائيًا، والذعر يغزو ملامحها، وصرخت بانفعال:

-نجلا...أنا مش لعبتك، أنا بني آدمه، افهمي...

لكن نجلا لم تكن تسمع، كانت تغوص أكثر فأكثر في عالمها الموازي، عالم مليء بالألوان والدمى والكائنات الساكنة التي لا تعارض....وفجأة أخرجت من حقيبتها الصغيرة ذلك المقص، ورفعته أمام عينيها وهي تبتسم بفخر:

-هنقص شعرك الطويل زي الحرير يا لعبتتي وبعدها نعمل حفلة.

صرخت سيرا وابتعدت بفزع تحاول التملص منها، غير أن نجلا كانت أسرع، وأمسكت بطرف ثوبها:

-رايحة فيني لا يمكن تهربي مني، يلا عشان نعمل حفلة حلوة اوي.

وفجأة شق صوت مألوف سكون الممر، صوت يشي بالقلق والحنان معًا، كانت أبلة حكمت قد ظهرت من الطرف الآخر تسير بخطًى مسرعة وهي تنادي باضطراب:

-سيرا...مالك؟ مين البت دي.

وقعت عيناها في تلك اللحظة على ملامح سيرا المرتجفة، وعلى الفتاة الغريبة التي تقف أمامها حاملة مقصًا في يدها، فهرولت حكمت صوب أختها، ومدت يدها تشدها من كتفها لتحتضنها، تمسكت بها سيرا كما يتشبث الغريق بطوق نجاة، وهمست بصوت مرتعش:

-أبلة دي مجنونة.

لم تنتظر حكمت كثيرًا لتفهم بل وجهت نظراتها الغاضبة نحو نجلا ثم صرخت بحدة:

-مجنونة على نفسها، انتي مين يا بت؟!

رفعت نجلا رأسها ببطء وفي عينيها بريق غريب، مزيج بين الطفولة والسواد، ثم ابتسمت ابتسامة باهتة، تحمل خلفها تشوهات نفسية لا تُرى بالعين المجردة، وقالت بهدوء مشؤوم:

-أنا نجلا

تقدمت حكمت خطوة للأمام، تقف بين أختها وبين هذه الغريبة وقالت بنبرة جافة، تكاد تخفي وراءها غليانًا داخليًا:

-وعايزة إيه من أختي يا ست نجلا؟

لم تكن تعلم أن مَن تقف أمامها لم تكن تزن الأمور بمنطق بشري، وأنها ترى في سيرا شيئًا آخر تمامًا، شيئًا لا يحتمل المنافسة عليه، فرفعت نجلا رأسها مرة أخرى وعيناها تتسعان بجنون، ثم همست ببطء:

-دي مش أختك..دي لعبتي.

وقبل أن تتمكن حكمت من إدراك ما تعنيه كلماتها، اندفعت نجلا نحوها بغتة وغرزت المقص في صدرها بقوة ووحشية مفرطة، كأنها تطعن وحشًا يُهدد عالمها الطفولي المتصدع.

شهقت حكمت شهقة طويلة...عالية، ملأت أرجاء الردهة، وارتج جسدها من شدة الصدمة، ثم ترنحت قليلًا إلى أن انهارت أرضًا، لم يكن هناك وقت للوداع، ولا فرصة للكلمات الأخيرة، فقد ذهبت روحها إلى بارئها في لحظة صافية، تاركة خلفها جسدًا هامدًا، ودموعًا معلقة في عيني سيرا.

أما سيرا...فقد كانت ترتجف بعنف، جسدها ينهار قطعة قطعة، وعيناها متسمرتان على جسد أختها، غير مصدقة..شفتاها تتحركان دون صوت كأن الروح خرجت معها، وبقي الجسد وحده يراقب هول المصيبة.

                             ****

في شقة نوح.

غفت يسر قليلًا بجانب نوح، وقد بدا أن شعور الأمان الذي ظنت أنه يحتاجه، كان في الحقيقة ما تنشده هي، لم تدرك كم كانت مرهقة حتى سكنت بجانبه...
غير أن سكون اللحظة لم يدم طويلًا؛ إذ دوى جرس الباب فجأة قاطعًا خيوط الراحة، حاولت يسر النهوض بهدوء، إلا أن نوح تمسك بها كمَن يخشى أن تفلت منه الحياة مجددًا، فاضطرت لفك تشبثه برفق، وتسللت خارج الغرفة على رؤوس أصابعها.

بدأت تبحث عن ابنتها بعين قلقة، وسرعان ما وجدتها نائمة فوق أريكة كبيرة في الصالة، تحيط بها ألعابها المتناثرة، ارتسمت ابتسامة حنونة على ملامح يسر، ومالت فوق الصغيرة ترتب خصلات شعرها بعناية، ثم توجهت صوب الباب، وما إن فتحته حتى تسمرت في مكانها، وعلت الدهشة وجهها، فقد وجدت حسناء واقفة أمامها، تنظر إليها بعينين متسعتين من المفاجأة، وقد شهقت بخفوت وقالت:

-يا خبر، هو انتي هنا يا مدام!! 
آلام متفرقة كانت تنهش جس*دها المنهك، وأوجاع حادة اجتاحت صدرها وكأنها تضغط عليه بقبضة خفية لا ترحم، فيما كانت دموعها الساخنة تتساقط على بشرتها المنهكة تلسعها بقسوة، أنين خافت خرج من بين شفتيها المرتجفتين، فيما كانت تمسك بيده بقوة شديدة...الكلمات تخرج منها بصوت متقطع، غامض، كأنها تقف على حافة عالم الكوابيس.

انكمش وجه يزن وهو يراقب ملامحها المتبدلة، وتلك التشنجات الطفيفة التي بدأت تسري في أطرافها، فأيقن أنها عالقة داخل كابوس بشع، كابوس ما كانت بطلته سوى "نجلا"، لم يكن بحاجة لأن يسمع أكثر من تلك الكلمات المتفرقة التي خرجت من فمها المرتجف لتتضح أمامه الصورة "لا.... حفلة... لا.... شعري.... مقص.... مقص..."

تسارعت أنفاسها وارتجف جسدها، وحين بدأت التشنجات الجسدية تزداد وضوحًا، أدرك يزن أنه لا مفر من إيقاظها رغم رغبته السابقة في تركها تستريح بجواره بعد أن جلست على المقعد المجاور له في آخر الردهة، بينما بقيت شمس وزيدان قرب باب العناية المركزة، ينتظران بقلق ما ستؤول إليه حالة "سليم"، لم يشعر إلا برأسها ينهار على كتفه رغمًا عنها، من فرط الإجهاد والتعب المتراكم لأيام.

-سيرا..اصحي...سيرا، اصحي.

فتحت عيناها الباكيتان بإرهاق بالغ، نظرت حولها في شرود، كأنها لا تزال تبحث عن فاصل واضح بين الحلم والواقع، ثم استقرت نظراتها عليه فقبضت على يده أكثر بعفوية تطلب الأمان، همس لها بقلق بينما عيناه تجولان على ملامحها المذعورة:

-انتي كنتي بتحلمي بنجلا؟!

أومأت برأسها وهي تبكي ثم أشارت إلى نفسها بإيماءة طفولية مرتبكة، وقد بدا عليها أثر الصدمة النفسية بوضوح وهمست بنبرة مهزوزة:

-اه، كانت عايزة تقص شعري، وبعدها موتت ابلة حكمت يا يزن.

لم يسخر منها ولم يبتسم، رغم أن طبيعته الساخرة ما كانت لتفوت فرصة مماثلة لو كانت فتاة غيرها، لكنه أمام "سيرا" مختلف فدموعها مست جزءًا دفينًا من قلبه، وأيقظت فيه شيئًا لا يريد تسميته، اقترب منها أكثر مد يديه ليضم كفها بين راحتيه، وضغط عليها بحنو بالغ وهو يقول برقة:

-متخفيش، خلاص كابوس نجلا خلص، وبعدين هي عمرها ما تقدر توصلك تاني.

همست سيرا بنبرة متقطعة وقد اختلط حزنها ببكائها:

-أنا مخوفتش على نفسي، على قد ما خوفت على أبلة، أنا زعلت اوي لما شوفت أبلة حكمت في الحلم غرقانة في دمها.

بدا التأثر واضحًا على يزن، فأراد التخفيف عنها وهو يشعر بثقل الذنب على صدره لما آلت إليه حالتها النفسية، فابتسم بخفة وهو يحاول أن يخرجها من تلك الدوامة:

-إيه ده انتي طلع عندك قلب وبتحبي أبلة حكمت.

قطبت حاجبيها بعبوس والدموع لا تزال تنساب فوق وجهها، بينما احمرت أنفها من كثرة البكاء، فمال نحوها وهمس بنبرة فيها شغف وشيء من الإعجاب:

-ربنا يسامحه المعلم طلقة مضيع عليا أهم لحظة في حياتي.

نظرت إليه في دهشة وسألته ببراءة حائرة:

-لحظة إيه؟

أجابها برقة مع غمزة خفيفة من عينيه:

-إن اصورك وانتي عاملة كده.

لم تتحمل جرأته تلك فلكزته في كتفه وانسحبت مبتعدة، تحاول أن تستجمع أنفاسها المبعثرة، وكأنها تخشى أن تُفضح مشاعرها أمامه، لقد بات هذا الرجل يشكل خطرًا حقيقيًا على قلبها المتردد.

وما إن بدأ الصمت ينسج خيوطه حولهما، حتى قطعه صوت خطوات متسارعة واقتراب زيدان منهما، قال بجدية لا تخلو من التوتر:

-يزن، لازم اخدك انت وسيرا قسم الشرطة عشان نكمل التحقيقات.

رفع يزن عينيه نحوه بدهشة مشوبة بالاعتراض:

-وهنسيب اخوك ازاي، وشمس مينفعش نسيبها.

سارعت سيرا تقول بنبرة حاسمة تقطع مجال النقاش:

-أنا هقعد معاها وانت روح معاه يا يزن.

نظر زيدان إلى سيرا بحدة ثم زفر بقوة وكأن صدره يضيق بما فيه، قبل أن يرد بنبرة حادة مفعمة بنفاد الصبر، كمن يكبح انفجاراته على مضض:

-انتوا بتعزموا على بعض بكوبتين قهوة، قوم يا عم التحقيقات دي لازم تكمل النهاردة عشان الزفت طلقة يتعرض على النيابة بكرة هو وبنته وبعدين الزفت ده بينكر كل حاجة موجهة ليه وخصوصًا إنكوا مكنتوش موجودين وهو ممسوك وهو بيدور على بنته.

ارتجف وجه سيرا في لحظة وهزت رأسها بقوة وشفتاها ترتعشان من الذعر، ثم صاحت بصوت مخنوق:

-لا أنا مش هروح هناك ونجلا موجودة لا.

بدت على وجه زيدان علامات الغضب والذهول في آن واحد كأنه لم يستوعب ما قالته، فرد بنبرة قاسية يكسوها التوتر:

-ده اللي هو ازاي؟! مش بمزاجك على فكرة، انتي وجودك مهم جدًا.

وفي لحظة انفجر غضب يزن من أعماقه وتقدم بخطوة حاسمة واقفًا أمام سيرا كدرع حامٍ لها، يحجبها عن زيدان بنظرات نارية وهتف بخشونة لا تخلو من التهديد:

-انت بتزعقلها كده ليه؟ اتكلم معاها براحة!!

رفع زيدان حاجبه باعتراض واضح ثم تراجع عن الرد، فصمتُه المفاجئ لم يكن ضعفًا بل وعيًا داخليًا بأنه تسرع، وأن التوتر المتراكم قد أرهقه أكثر مما ظن، لذا قرر الذهاب فاستدار مبتعدًا وقبل أن يغادر، قال بصوت صارم دون أن يلتفت:

-أنا هنزل استناكم تحت، متتأخروش عشان نلحق نرجع لشمس.

ساد الصمت للحظة قبل أن تلتفت سيرا إلى يزن، وعيناها تملؤهما الحرج فهمست بصوت خافت:

-مكنتش تتخانق معاه بسببي يا يزن.

أجابها يزن بنبرة تجمع بين الاستنكار والهدوء وكأنه لا يرى فيما فعله أي تجاوز:

-أنا متخانقتش معاه!

هزت رأسها بإصرار كمَن ترى ما لا يريد الآخر الاعتراف به ثم أوضحت بصوت يشوبه القلق:

-لا هو مشي زعلان منك.

ضحك يزن ضحكة قصيرة ممزوجة بسخرية خفيفة ثم قال:

-لا هو مشي عشان ميشتمنيش قدامك بس، لكن هو ولا زعلان ولا أي حاجة.

انعقد حاجبا سيرا وعيناها تبحثان عن الحقيقة في عينيه ثم سألته بشك:

-انت متأكد؟

أجابها يزن ونبرة صوته تهدأ تدريجيًا وفيها لمحة مريرة ساخرة:

-سيرا أحنا بيوصل بينا الوضع لحلبة مصارعة، فاحمدي ربنا إن الموضوع اتلم.

وفي تلك اللحظة لمح يزن من النافذة زيدان واقفًا في الأسفل، يلوح له بيده بعصبية ظاهرة، وشفتيه تتحركان بشتائم صامتة يعرفها يزن جيدًا، فارتسمت على شفتيه ابتسامة ساخرة،وقال بنبرة مرحة فيها مرارة مضمرة:

-اهو بيشتمني بالاشارة هناك، يلا بسرعة نروحله قبل ما المستشفى كلها تتفرج علينا واحنا بنتزهق بالصوت والصورة ويبقى شو مسرحي رخيص، وزيدان اخويا في العروض المسرحية ميتوصاش.

ابتسمت له بتوتر من تلك العلاقة الغريبة ولكنها ظلت صامتة وقبل أن تغادر نهائيًا القت نظرة نحو شمس الجالسة بحزن تراقب باب العناية المركزة بفارغ الصبر...

                               ***

استيقظ نوح من نومه وهو يبحث عن يسر بجانبه ولكنه لم يجدها حوله، فتحرك ببطء شديد وهو ينادي بصوت خامل عنها ولكنه فوجيء بوجود حسناء في صالة منزله، تجلس فوق الأريكة والدموع تتساقط من وجنتيها والقهر المنسوج بملامحها نسجته هي ببراعة ممثلة ماهرة!!

توقف نوح للحظات يستوعب وجود حسناء في منزله فحرك رأسه يمينًا ويسارًا والصمت يترك سياجه ملتفه حول لسانه، إلى أن قطعته حسناء بقولها الباكي:

-ضربتني ومشيت، والله ما عملت حاجة يا دكتور!!

أخيرًا خرج صوته متحشرجًا وهو يسألها بصرامة أقلقتها، فبدت تخشى ردة فعله، ورغم أنها نسجت خيوط سبب مجيئها إلى هنا بمهارة خبيثة كي توقع نوح في شباكها مستخدمة أساليبها الانثوية ونعومتها إلا أن وجود يسر قلب الطاولة رأسًا على عقب وخاصةً بعدما ضربتها يسر بصفعة قوية على وجهها قبل أن تغادر شامخة رأسها مرفوع!!

-انتي إيه اللي جابك هنا؟!

تلعثمت في بادئ الأمر وهي تحاول لم شتات نفسها والتحدث بقهر كي تكسب تعاطفه ضد تجبر يسر:

-كنت جاية اشتكيلك من خالي بعد اللي عمله فيا، وكنت متعشمة في حضرتك تحميني منه بعد ما هربت من البيت وهو كان حالف ليموتني، مالقتش أمان غير وأنا معاك فجيت من غير ما افكر، أنا عارفة ولا الوقت ولا المكان مناسبين بس اعمل إيه عشمت فيك...

ثم تقدمت خطوة للأمام نحوه ومالت قليلاً بجسدها وهي تهمس بضعف ونظرة رجاء أتقنتها جيدًا:

-هتكسر بخاطري يا دكتور، ده أنا ماليش غيرك.

لم يجيبها بل كانت نظراته جامدة كجدار ثلجي من الصعب ذوبانه، ملامحه غامضة أشبه بغابة رغم جمالها إلا أن التعمق فيها مخيف، وعلى عكس ما كانت تتمنى سماعه، وجدته يقول:

-يسر راحت فين؟!

تماسكت بصعوبة أمامه وهمست ببكاء رغم القهر الحقيقي الذي تشعر به الآن داخلها:

-مشيت بعد ما ضربتني بالقلم وقالتلي اشبعي بيه!!! أنا مش عارفة المدام فهمت إيه؟ دي حتى رفضت تسمعني، يمكن لو كانت سمعت كانت اتعاطفت معايا.

صمت ثقيل للغاية وعيناه تتجول فقط فوق ملامحها التي لم تتنحى عن مهمتها في اقناعه، حتى قال بصوت مشدود وهو يتجه نحو غرفته:

-ثواني وهجيلك.

هزت رأسها في استسلام وعادت لمقعدها تجلس عليه بطاعة وهي تراه يدخل غرفته ثم يغلق الباب خلفه، فمالت برأسها جانبًا تتذكر لحظة مجيئها واندهاش يسر لوجودها.

                               ★★

-يا خبر هو انتي هنا يا مدام؟

قبضت يسر قبضتها بقوة وقد استنفرت ملامح وجهها غضبًا واشتد صوتها بقسوة:

-إيه مكنتيش متوقعة إني أكون هنا؟؟

أومأت حسناء برأسها بجرأة وقد تلونت كالحرباء في محاولتها التملص، وقالت:

-اه الصراحة، طيب نـو....آآآ....آآقصد دكتور نوح مقاليش ليه؟ كنت اجيله في وقت تاني!

رفعت يسر أحد حاجبيها باستنكار وهي تستمع إلى جرأتها ومقصدها الوقح، وتساءلت بنفور واشمئزاز لم تستطع إخفاءه:

-تيجي له تعملي إيه؟!

مال جانب فم حسناء بابتسامة خبيثة وقالت بوقاحة متعمدة:

-حاجات كتير اوي اوي يا مدام!!

تساءلت يسر مجددًا ونيران الغيرة تنهش أعماقها، فبدت على بُعد إنشٍ واحد من الانقضاض عليها:

-بتيجي هنا كتير صح؟

اقتربت حسناء منها غير عابئة بما يمكن أن يحدث، محاولة استفزازها بطريقتها الملتوية:

-اوي....لدرجة إن حافظة كل شبر هنا.

في لحظة خاطفة صفعتها يسر بقوة وبغلٍ شديد، وقد توهجت الحسرة في صوتها المبحوح والمصدوم:

-هستنى رد إيه غير كده من واحدة زيك؟!

وضعت حسناء يدها فوق خدها المصفوع وقالت بقهرٍ ممزوجٍ بضعفٍ مصطنع:

-حرام عليكي يا مدام هو أنا عملتلك إيه؟!! ربنا يكفيني شرك.

                              ****

عادت حسناء من شرودها على صوت نوح وقد وقف أمامها مرتديًا ثيابًا أخرى قائلاً بنبرة صارمة وبدت على ملامحه علامات الضيق الواضح:

-يلا يا حسناء.

ردت باستغراب واستهجان:

-يلا فين؟!

توقف للحظات ثم أجابها باستنكار مماثل:

-هنمشي من هنا!! مينفعش تقعدي هنا، هوديكي العيادة تباتي فيها وبالمرة واحنا في الطريق تقوليلي ماله خالك!!

ردت باندفاع وحماقة واضحة:

-طيب ما أبات هنا....

رمقها بنظرة غامضة أربكتها وأربكت نواياها فسارعت بتبرير كلامها سريعًا:

-يعني هنا أمان، آآ اصلي خايفة خالي يجيلي على العيادة ويعمل فيا حاجة.

توقف عاقدًا ذراعيه أمام صدره وسألها بخشونة:

-ايوه ماله موضوع خالك ده؟!

أحكمت تمثيل دور الضحية فحمحمت بقوة قبل أن تجيب، مستخدمة نبرة ضعيفة صاغتها بعناية لتتناسب مع ملامحها المستعطفة:

-أصله مقتنع إنك ضحكت عليه واخدت منه الفلوس تاني و كمان بيقول أنا وأنت متفقين عليه، حلفتله بأيمانات المسلمين مش راضي يصدقني، وحالف ليقتلني يا أما ترجعله فلوسه تاني.

فرك نوح وجهه بقوة ثم أغمض عينيه للحظات صامتًا لا يعلق، وكأن ما يسمعه يثقل كاهله أكثر مما يحتمل، وبعد لحظات من التفكير أخرج مفاتيحه من جيبه وقال بتنهيدة ثقيلة:

-خدي وروحي على العيادة افتحي المكتب هتلاقي في الدولاب فيه درج مفتاحه الصغير ده، افتحي وخدي ١٠٠ الف اديهموله وريحني وريحي نفسك من حوارات خالك، بس واقسم بالله لو خالك جه وعمل نفسه حواراته دي هو حر، أنا هعديها المرة دي بمزاجي، وبلغيه أنا مطول بالي عشان ساعدني بس وجابلي بنتي.

ابتسمت ابتسامة مقتضبة وقد راودها الشك من سرعة استجابته لها، وكأنه أراد التخلص منها بأي طريقة، أخذت المفاتيح من يده، وقد قررت أن تستفيد منه قدر الإمكان قبل أن يُغلق الباب تمامًا، وقالت بهدوءٍ مصطنع كي لا تثير شكوكه:

-تمام يا دكتور كتر الف خيرك على وقفتك جنبي، ومعلش لو ازعجتك وسببتلك مشاكل مع المدام.

حرك نوح رأسه نفيًا وهو يتجه نحو باب الشقة ليفتحه ويجيبه بصوت ثقيل:

-لا عادي يا حسناء، روحي ولما تخلصي الحوار مع خالك بلغيني.

-تمام.

قالتها حسناء بضيقٍ شديد، إذ كانت ترغب في قضاء الليلة بأكملها في شقته، لكنه قطع عليها كل مخططاتها، فخرجت من الشقة غير مدركة أن هناك مَن كان يراقبها من الأسفل، وما إن رآها تغادر حتى أجرى اتصالًا بـيسر، قائلاً:

-لا نزلت، لا.....لوحدها الدكتور فوق لسه.
                          ***
أغلقت يسر الاتصال مع حارس البناية الذي كانت قد أوصته مسبقًا بإخبارها بكل جديد، كانت قد سألته عقب نزولها من شقتها عن تردد حسناء على الشقة في غيابها، فأجابها بأنها جاءت مرة واحدة فقط وكان معها السائق تركته وصعدت ثم جلبت بعض الأشياء وغادرت معه، وهو ما يناقض تمامًا ما زعمته حسناء عن علاقتها بـنوح، إذ بدت وكأن هناك حلقة مفقودة في تلك الخيانة التي تتردد على عقل يسر، خيانة لم تكتمل أركانها بعد، لكنها تلقي بظلالها الثقيلة فوق قلبها.

خرجت يسر من فوهة أفكارها على صوت رنين هاتفها، وقد كان المتصل هو نوح، نظرت إلى الهاتف برهة ثم قررت عدم الرد ورددت من بين أسنانها بغيظٍ مكتوم:

-واقسم بالله لاوريك النجوم في عز الضهر يا شهريار زمانك واخليك تكره صنف الحريم كله.

ثم نهضت من مكانها واقفة أمام المرآة تحدق في ملامحها الحزينة والباهتة، عقدت حاجبيها بحسرة وهمست لنفسها بأسى:

-مالي زي ما يكون عندي ستين سنة ليه كده؟

مدت يدها تلمس ملامحها بأطراف أصابعها المرتجفة، وفي داخلها قررت أن تعيد مجدها الضائع، وإن لم يكن لها مجد من قبل، ستصنع مجدًا عظيمًا يُعيد لها نوح راكعًا، ففي الحرب كل الخدع مباحة.

                               ***

على الجانب الآخر...

وقفت سيرا إلى جانب يزن في الردهة الطويلة داخل قسم الشرطة منتظرين دورهما للإدلاء بأقوالهما، بعدما أنكر المعلم طلقة جميع التهم المنسوبة إليه، بدت على وجه سيرا علامات التوتر مع مسحة من الإرهاق، فشعر يزن بوخز عميق من الذنب تجاهها، إذ تسبب هو بزجها في هذا المأزق بينما كانت أبعد ما تكون عن هذه الدوائر، بل إن شعوره بالذنب لم يقتصر عليها فقط، بل تضاعف ليشمل عائلته بأكملها، وما أدهشه فعلاً أنها لم تُلقِ اللوم عليه قط لا قولًا ولا حتى بنظرة، وهو ما زاد إعجابه بها وتعظيمه لها.

خرج زيدان من الغرفة وقد بدت على وجهه الجدية التي لا تفارقه حتى مع أقرب الناس إليه، وقال لسيرا بنبرة آمرة تشي بطبيعته العسكرية:

-يلا يا سيرا ادخلي لوحدك، عشان يستمعوا لاقوالك.

لكن يزن قبض على يدها فجأة وقال برفض واستنكار:

-تدخل لوحدها وطلقة وبنته جوه، لا طبعًا هدخل معاها.

كان خوفه عليها حقيقيًا نابعًا من أعماق قلبه، فظهر واضحًا في صوته المرتعش وفي حركات جسده التي أعاقت سيرها مما دفع زيدان للتدخل بنبرة صارمة، قاطعًا هذا التصرف الذي رآه مهزلة:

-يزن فوق انت في قسم شرطة مش في شارع عشان يحصلها حاجة.

ربتت سيرا بيدها الحرة فوق يده وهمست له بصوت هادئ رغم ما يعتمل بداخلها من قلق:

-يزن فعلاً متقلقش، أنا هدخل بسرعة وهطلع.

تركت يده برفق وتقدمت إلى داخل الغرفة، بينما ظل زيدان واقفًا مع يزن الذي كان يغلي داخليًا من مزيج من الغضب والإهانة بسبب أسلوب زيدان الساخر واستفزازه المتعمد:

-مبحبهاش!!، مش عايز اخطبها!!، وسليم اللي غاصبني، أنت مش حاسس بنفسك ولا إيه؟ ولا حاسس وعامل أهبل!!

رفع يزن حاجبيه مستنكرًا متعمدًا الادعاء بعدم الفهم:

-قصدك إيه مش فاهم؟

أجابه زيدان وقد اشتد صوته بوضوح:

-قصدي إنك كنت هتاكلني عشان بس صوتي علي عليها، ولازق فيها في المستشفى، وخايف عليها بطريقة غريبة وكأنك بتحبها من سنين!!

غاصت ملامح يزن في غموض مفاجئ، ورد ضاحكًا بسخرية باردة:

-انت بس كامنك غشيم يا زيدان ففهمت تعاملي معاها غلط، أنا على نفس موقفي، وعلى فكرة أنا بخاف على أي بنت معايا كده امال هما بيموتوا فيا ليه؟!!

لم يُفلت زيدان الفرصة، فرد بسخرية تشي بالشك:

-انت متأكد إن تعاملك معاهم كلهم كده؟!

أومأ يزن برأسه باستفزاز كأنما يؤكد سخريته، إلا أن صوت صراخ سيرا من داخل الغرفة باغتهم فجأة، تلاه صوت هرج ومرج أزعج الحاضرين، دفع يزن زيدان بقوة وهو يحاول التوجه إلى الباب للدخول، لكن العساكر منعوه فصاح بعصبية شديدة:

-خليهم يبعدوا...

وقبل أن يأمرهم زيدان بالتنحي وقد بدا القلق جليًا على وجهه أيضًا، خرجت سيرا من الغرفة باكية، تستند على أحد الضباط، ويدها مجروحة تنزف، فقد كانت نجلا قد تعدت عليها بعد أن لمحت آلة حادة على المكتب، فانقضت عليها فجأة وجرحت يدها بقوة أثناء محاولتها الاقتراب منها.

صرخ يزن مذهولًا، وقد اشتدت ملامحه بالقلق:

-إيه ده اللي حصل؟؟

سارع الضابط بسرد ما حدث على عجل، بينما كان يحرك سيرا معه نحو إحدى العيادات القريبة التابعة لمركز الشرطة، أوقفه يزن فجأة وجذبها نحوه بقوة، وقد امتلأ صدره بغيرة عارمة لطريقة إمساك الضابط بها، بل وانفلتت نبرته رغم محاولته التحكم بها، فقال  وهما يتحركان خلف الضابط، الذي حدق في يزن بدهشة لكنه امتثل لصمت زيدان:

-انتي سايباه يمسكك كده ازاي؟

رفعت سيرا وجهها الباكي إليه وقالت بنبرة مرتعشة:

-انت مش شايف ايدي مفتوحة يا يزن!!

تمتم يزن بغيظ مكتوم وهو يقتادها بجانبه كمن يعاقبها على ألمها، عاجزًا عن كتم ضيقه ممن حوله وحتى من نفسه، لأنه كان السبب في وجودها في هذا المكان وفي إصابتها:

-ايدك مش رجلك.

نظرت إليه بدموعها وسألته بصوت باكٍ:

-بتقول حاجة؟

أجاب باقتضاب وهو يدير وجهه عنها:

-مبقولش.

سكت بعدها ملتزمًا الصمت حتى دخلت غرفة الطبيبة لتلقي العلاج، وحين حاول زيدان إيقافه قال بنبرة تنذر بانفجار وشيك:

-مالكش دعوة، أنا مش هستنى يحصلها حاجة تاني، في القسم واتأذت عادي!!

مط زيدان شفتيه بغيظ وهمس له بصوت خافت بعد أن شعر بالإحراج من تصرف يزن أمام الجميع:

-متأفورش، ده جرح بسيط.

لكن يزن لم يتحمل المزيد فرد بانفعال متأجج صوته يغلي ضيقًا:

-ابعد عن وشي يا زيدان أحسنلك، أنا مش طايق نفسي.

قالها وهو يدفع الباب ويدخل الغرفة خلف سيرا، تاركًا زيدان واقفًا يحاول لملمة شتاته بصعوبة وسط صمتٍ ثقيل خيم على المكان.

                             ***
دلف يزن إلى غرفة الطبيبة بخطوات سريعة متوترة، فوجدها تجلس على سرير الكشف ووجهها شاحب، والدماء ما زالت تلطخ كفها المفتوح، تحركت الطبيبة لتجلس أمامها ثم مسحت الجرح برفق بالكحول، وتتهيأ لتضميده.

وقف متجمدًا للحظة وهو يرى الدم يتسلل من بين أصابعها، عروقه تضج بالذنب والقلق حدق في يدها المجروحة شاعرًا بطعنة صامتة تنغرس في ضميره، وكأن كل قطرة دم تنزف منها تُثقله أكثر.

اقترب منها بخطوات حذرة، وكأنه يخشى أن يلمس ألمها، ثم جلس على كرسي قريب من السرير، وصوته بالكاد يخرج مبحوحًا من الحزن، متجاهلاً وجود الطبيبة:

-حقك عليا، معلش.

التفتت إليه بعينين دامعتين، فابتسم لها رغم كل ما يعتمل بداخله، وغمغم بصوت خفيض فيه من الود والندم ما لم تحتمله ملامحه:

-كنتي سيبني ادخل معاكي، مكنتش قدرت تقرب منك.

شردت للحظة في عينيه، في صوته الذي بدا هذه المرة مختلفًا، فابتسمت إليه وهي تزيل عنه شعوره بالذنب:

-الحمد لله إنها جت على قد كده، وبعدين هي بسيطة مش صح.

ووجهت حديثها للطبيبة التي أكملت لَف الشاش الأبيض على الجرح بإحكام، وقالت بنبرة عملية:

-اه الحمد لله، بس اهتمي بالتغيير على الجرح عشان ميسببش مضاعفات تانية لايدك والف سلامة، ارتاحي شوية قبل ما تمشي.

ثم خرجت من الغرفة عندما شعرت بالاحراج لوجودها، بقي يزن واقفًا أمام سيرا يتأمل يدها الملفوفة بالشاش، نظراته لا تفارق أصابعها التي كانت ترتجف قليلًا من الألم أو ربما من الحرج، فبدا عليه التردد كأن شيئًا في داخله يحثه على فعل ما، وشيء آخر يردعه.

ثم دون أن ينبس بكلمة، انحنى ببطء وأخذ يدها المجروحة بين يديه وقبلها قبلة خفيفة، ناعمة، لكنها لم تكن عابرة... وكأن بها شيء لم يرد الاعتراف به بعد.

رفعت عينيها إليه بذهول، لم تكن تتوقع هذه الرقة ولا هذه الجرأة، حتى أنها لم تستطع أن تسحب يدها ولا أن تنطق، فقط حدقت فيه وصدرها يعلو ويهبط، والخجل يغزو وجنتيها بلون ورديٍ خفيف.

همست بعد ثوانٍ معدودة وهي تبلع ريقها بصعوبة:

-يزن....

لكن صوتها تلاشى قبل أن يكتمل، عندما رفع رأسه إليها ببطء ونظر في عينيها نظرة طويلة، وقال بنبرة منخفضة مليئة بالحزن والحنان:

-اؤمريني.

حاولت أن تخفي ارتباكها فقالت بصوت خافت:

-يلا نخرج... زيدان مستنينا.

فأومأ برأسه ولم يُفلت يدها، ظل ممسكًا بها وهو يساعدها على النهوض بلطف ثم فتح لها الباب بنفسه، وخرجا سويا من الغرفة يدها في يده، وقلبها يخفق بخفة لا من الألم....بل خوفًا من الوقوع في حبه عندما شعرت بنمو مشاعر الحب على شفا فؤادها.

                               ***

أما في المشفى، فقد كانت حكمت وزوجها قد وصلا بالفعل، ودخلا سريعًا إلى حيث كانت شمس جالسةً وحدها، تنهار بصمت وهي تترقب أي خبر يطمئنها على سليم، لم تكن دموعها تجف، وكانت نظراتها شاردة كأنها تحادث شيئًا لا يُرى، رغم ما يحمله حضور حكمت من صخبها المعتاد أضفى نوعًا من الانشغال الذهني شتت تركيز شمس قليلًا، خاصة بسبب أسئلتها المستمرة والمبطنة بفضولٍ لا يغيب عنه الطابع الملتوي، والمواساة التي بدت مشبعة بنبرة لا تخلو من التطفل.

اقتربت حكمت من زوجها وجذبته جانبًا بعيدًا عن شمس، وهمست له بنبرة توحي بالاهتمام الظاهري:

-بقولك ما تنزل تجيب أكل وحاجات أصلها صعبانة عليا اوي.

رفع صافي حاجبيه بدهشة واضحة إذ لم يكن معتادًا على أن تظهر حكمت أي تعاطف بهذا الشكل، بل ولم يعرف عنها يومًا أنها أنفقت مالًا في سبيل مواساة أحد، لكن ما زاد من دهشته هو طلبها التالي الذي نطقت به بجدية توحي بأنها تخطط لشيء أكبر:

-وشوفلنا شقة كبيرة قريبة من المستشفى نتأجرها شكل الموضوع مطول هنا.

-انتي ناوية تقعدي يا حكمت لغاية ما الراجل يفوق؟

-طبعًا امال اسيب نسايبنا في محنتهم وبعدين كله عشان خاطر أختي يا صافي، هاتلنا شقة تليق بينا مش أي شقة والسلام.

نظر إليها صافي وقد بدت الحيرة بادية على وجهه ثم مد يده إلى جبينها متفحصًا وكأنه يشك في أمرها:

-انتي كويسة يا حكمت؟

ردت بلهجة متأففة مستنكرة اندهاشه:

-يوووه، ايوه سيب الاندهاش ده لبعدين، وآه خليك ناصح كده ومتخليش حد يضحك عليك في الإيجار، اه أنا قولت استنضف بس متخليش حد يضحك عليك يا صافي.

هز كتفيه باستسلام وهو يتمتم:

-ماشي.

ثم انصرف لينفذ ما طلبته، بينما عادت حكمت إلى مقعدها بجانب شمس التي لم تنقطع دموعها لحظة، رفعت رأسها نحو حكمت وهي تقول بانكسار عميق وصوت خافت ممزوج بالبكاء:

-هو مش هيفوق؟، أنا حاسة أني بموت بالبطيء.

شهقت حكمت متضايقة وكأنها تحاول كسر هذا الجو الثقيل:

-يا اختي بعيد الشر عنك!، بكرة يفوق ويملى الدنيا بزعابيبه، أصل احنا كده الستات بنعشق الحاجة اللي تنكد عليها.

رمقتها شمس بدهشة من تلك الملاحظة الغريبة وسرعان ما ردت باعتراض وبنبرة مكسورة متحفظة:

-بس سليم عمره ما نكد عليا...

ثم أطرقت برأسها، وأطلقت تنهيدة ثقيلة وهي تنظر إلى باب الغرفة المغلق بحزن دفين:

-سليم مفيش زيه أبدًا.

ابتسمت حكمت ابتسامة واسعة وهي تهز رأسها بتأكيد قبل أن تتجه فجأة إلى تجاه آخر تمامًا في الحديث، قائلة بنبرة تنذر بالحكمة الزائفة:

-ربنا يقومه بالسلامة يا حبيبتي، بس نصيحة مني متتكلميش عليه حلو مع حد، أصلك تتحسدي كدم، خافي على حياتك...

تجهم وجه شمس وقد بدا عليها عدم الفهم لتحول الحديث المفاجئ، فتابعت حكمت بعينين لامعتين بالحماسة وكأنها تلقي محاضرة في علوم الحياة:

-اسمعي مني أنا أختك الكبيرة وافهم عنك، أنا بدي نصايح من دهب ولو القريبين مني يسمعوها حياتنا كلنا هتبقى زي الفل، طول ما انتي بتقولي جوزك مفيش منه أبدًا، هتاخدي عين تجيبك الأرض، زي ما حصلك دلوقتي، جوزك جوه في العناية وانتي قاعدة بتعيطي عليه، خدي بالك ده كله من لسانك، لازم تقولي عكس اللي بيعمله معاكي، عشان تبعدي عنك العين، لو كان بيصرف ومش مخليكي عايزة حاجة قولي ده بخيل وبيحاسبك على الجنية، لو كان بيحبك ويتمنالك الرضا ترضيه، قولي ده بيصبحني بعلقة وبيمسيني بعلقة، كده يا حبيبتي تعيشي في سلام، جو شادية ورشدي أباظة ده ميمشيش مع الاشكال الضالة اللي عايشين حوالينا.

ظلت شمس على حالها فاغرة الفم، وقد تجمدت ملامح وجهها المنهار بدهشة من مدى الجدية التي تتحدث بها حكمت، وكأنها تنطق بوصايا مقدسة لا تحتمل النقاش، ولولا خروج الطبيب في تلك اللحظة، لربما استمرت حكمت في إلقاء المزيد من حكمتها المفرطة.

ظهر الطبيب عند باب الغرفة، وابتسامة هادئة تعلو وجهه وقال بنبرة مطمئنة:

-مدام شمس.

رفعت شمس عينيها إليه بسرعة ثم نهضت على الفور وركضت نحوه، كأن كلماتها تريد أن تقفز من فمها قبل أن تصل إليه:

-هو فاق حمد لله على سلامته، تقدري تدخلي تطمني عليه، بس يا ريت بلاش عياط وتجهديه في الكلام.

أومأت برأسها وهي تجيب بصوت خافت يكاد لا يُسمع:

-هسكت خالص مش هنطق ولا كلمة.

فتح الطبيب باب الغرفة وأشار إليها قائلًا بلغة عملية:

-اتفضلي، ومرة تانية حمد لله على سلامته.

دخلت شمس الغرفة بخطوات مرتجفة وكأنها تخشى أن تراه في وضع لا تحتمله، وما إن وقعت عيناها عليه حتى شهقت بحرارة وانفجرت في البكاء، كان سليم ممددًا على الفراش تحيط به بعض الأجهزة الطبية وآثار الإعياء تملأ ملامحه، لكنه رغم ذلك ما إن رآها حتى ارتسمت على وجهه ابتسامة ضعيفة لكنها دافئة كأنها أضاءت عتمة الغرفة ولحظات تألمه.

-سليم...حبيبي، حمد لله على سلامتك.

رد بصوت واهن وهو يمرر نظره عليها مطمئنًا:

-انتي كويسة؟

-لا...أنا قلبي هيقف من الخوف عليك.

 ثم انحنت تقبل يده بحنان فأطلق ضحكة خفيفة وهو يحرك يدها بلطف نحوه:

-سلامة قلبك، أهم حاجة طمنيني على اخواتي كويسين؟

ابتسمت إليه وهي تحرك رأسها بإيماءة بسيطة:

-الحمد لله كلهم بخير، متقلقش انت، ومتتكلمش كتير عشان الدكتور مانعني أني اجهدك من الكلام.

-سيبك منه....مبيفهمش، أنتي صوتك لوحدك دوا.

ضحكت من بين دموعها ونظرت إليه نظرة حب وامتنان وقالت بهمس:

-لو هتقولي كلام حلو كتير من دا، أنا مستعدة مفصلش.

رفع يده يتحسس جانب وجهها برفق، ثم دس أصابعه يعيد خصلاتها الهاربة من حجابها إلى مأمنه، وسألها بنبرة متعبة لكنها مشحونة بالقلق:

-سيرا كويسة؟

-الحمد لله، هي ويزن وزيدان في قسم الشرطة.

تجهم وجهه في لحظة وعقد حاجبيه بعدم فهم، ثم أغمض عينيه محاولًا تجاهل الألم الذي بدأ ينهش جرحه وسأل بصوت مبحوح:

-ليه؟ إيه اللي حصل؟

                               ****
في الخارج كانت حكمت تقف في زاوية هادئة من الردهة، تتحدث عبر الهاتف مع أحد أفراد عائلتها، أخبرتهم بما سمعته من شمس حول تطورات حالة سليم، وتُطلعهم على قرارها المفاجئ بالإقامة مؤقتًا في الإسكندرية لحين الاطمئنان على وضعه الصحي.

لم يكن إقناع والدها بالأمر هينًا فقد أبدى اعتراضه مرارًا، واحتج على ابتعادها هي وسيرا عن المنزل بهذا الشكل، لكنها ظلت ترد عليه بحججها المعتادة، متسلحة بسلاح الإصرار، حتى رضخ أخيرًا متنهدًا باستسلام.

أنهت الاتصال وهي تتنفس بارتياح نسبي، لكنها لم تكد تُنزل الهاتف من على أذنها حتى دوى صوت مألوف في الردهة صوت رقيق لكن حزين، جعلها تنتفض كمن لدغته الكهرباء:

-أبلة حكمت.

التفتت بسرعة وقد اتسعت عيناها بدهشة وفرح ممزوجين، وما إن أبصرت سيرا حتى ركضت نحوها واحتضنتها بقوة مشبعة بالحنين واللهفة.

بينما سيرا قد خارت قواها تمامًا وما إن استقرت بين ذراعي شقيقتها الكبرى حتى انفجرت باكية بكاءً حادًا خرج من أعماقها كسيلٍ جارف لم تستطع مقاومته، هز نحيبها القوي قلب حكمت التي بدأت تهدهدها وتحاول تهدئتها، بينما وقف يزن إلى جوارهما وقد علت ملامحه علامات القلق، أما زيدان فقد ارتبك قليلاً من شدة انفعالات سيرا، فانحنى نحو يزن يهمس له باعتراض لا يخلو من السخرية:

-خطيبتك هتلبسنا في حيطة، اختها تقول إيه دلوقتي؟!

رد عليه يزن بنبرة خافتة صارمة لكنها مشبعة بالتهديد:

-طلعها من دماغك عشان محطكش في دماغي.

رفع زيدان حاجبيه ساخرًا ثم قال بصوت ينضح بالاستهزاء وهو يمرر كلماته كأنها طعنات مغلفة بالابتسامات:

-انت مش شايف بتعيط ازاي؟ 

-ما تعيط براحتها هي بتستلف الدموع من عينك وأنا معرفش!! 

ضحك زيدان باستهزاء قصير وهو يومئ برأسه كمن يسلم بحالة خارجة عن الفهم:

-انت مش طبيعي اقسم بالله!!!

ثم زفر بعمق وهو يخرج هاتف يزن من جيبه ويقدمه له بطريقة ساخرة:

-خد يا سبع الرجال، تليفونك.

سار بعدها بخطوة بطيئة نحو سيرا التي كانت ما تزال في أحضان حكمت، تبكي كطفلة أضاعت طريقها بينما كانت الأخيرة تهمس لها بكلمات المواساة، تربت على ظهرها وتمرر يدها فوق رأسها بحنان أخوي خالص.

فقال زيدان بتهذيب مصطنع، قاطعًا مشهد العناق:

-معلش يا سيرا هقطع عياطك، تليفونك اهو.

أبعدت سيرا نفسها قليلًا عن حكمت وبدأت تمسح دموعها بأطراف أصابعها المرتجفة، ثم تناولت الهاتف من يده وهي تعتذر بنبرة مهزوزة:

-أنا أسفة، بس مقدرتش امسك نفسي.

مط يزن شفتيه بتعاطف هادئ، وقال بنبرة هادئة يغلفها دفء أثار غيظ زيدان، كما يفعل دائمًا:

-متتأسفيش اعملي اللي يريحك لو عايزة تصوتي صوتي كمان.

ظنت سيرا لوهلة أنه يسخر منها فانكمشت ملامحها بشيء من العبوس، لكنها لم تجد الوقت لتتأمل في نبرته أكثر، إذ رن هاتفها في يدها من جديد، نظرت سريعًا إلى شاشة الهاتف، وما إن قرأت اسم المتصل حتى تبدلت ملامحها على الفور.

أجابت بلهفة لكن لم تكد تستمع إلى الصوت القادم من الطرف الآخر حتى شحب وجهها، واهتز صوتها بين الذهول والغضب والانكسار، وهي تنطق بصدمة مختصرة:

-إيه؟ 

تقدمت حكمت نحوها بخطوات قلقة وقد انتفض قلبها للوهلة فسألتها بانفعال:

-مين بيكلمك؟ في أيه؟

تبعها صوت يزن المضطرب أيضًا وقد لاحظ اضطراب وجه سيرا المفاجئ:

ما تردي تقولي في إيه؟! 
مسحت دموعها بأنامل مرتجفة وهي تجيب بنبرة طفولية باكية:

-تمام مفيش مشكلة، شكرًا.

أنهت الاتصال ببطء ثم التفتت نحو أختها لتندفع باكية نحوها تختبئ في حضنها كطفلة ضائعة وسط عاصفة:

-رفدوني من الشغل يا أبلة.

كانت شهقاتها تتلاحق بحرارة بينما بدت كلماتها مختنقة تحت وطأة الخيبة والألم، كاد يزن أن يوبخها، إذ بدا له بكاؤها مبالغًا فيه لأجل سبب تافه كما اعتقد  لكنه سرعان ما فقد القدرة على ضبط أعصابه عندما لمح ابتسامة زيدان العريضة، تلك الابتسامة التي بدت له مستفزة ولامبالية، عندها تفجر الغضب داخله كبركان ثائر وانسابت حمم غضبه الحارقة على زيدان دون سابق إنذار، فمد قدمه بخفة قاتلة ووضعها فوق قدم زيدان، ثم ضغط بكل ما أوتي من قوة كمَن يحاول أن يُمحي الغيظ بجسده لا بكلماته.

تأوه زيدان بألم واضح ثم حدق في يزن بنظرة ملأها الضيق والحدة، تلك النظرة التي جذبت انتباه حكمت وسيرا، فارتسم القلق على ملامحهما لكن سرعة رد يزن جعلت الأمر يبدو كأنه لا يستحق التوقف عنده:

-روح خدلك حقنة عشان الصداع اللي عندك يلا.

قالها وهو يدفع زيدان للخلف بدفعة خفيفة، فتزحزح زيدان قليلاً لكن ابتسامته المستفزة لم تغب عن وجهه، بل ازدادت اتساعًا، غير أن حكمت بخبرتها الطويلة في قراءة التوترات الصامتة قررت التدخل فجأة جاذبة الانتباه بعيدًا:

-صحيح اخوكم فاق ومراته جوه عنده.

فور أن نطقت بالجملة تبدلت ملامح الجميع، وتهلهلت أساريرهم، تحركا معًا بخفة متعجلة نحو الغرفة التي يرقد فيها سليم، وقد نسي كلاهما الخلاف والضيق، وحدها سيرا بقيت في مكانها تنحب بهدوء داخل أحضان حكمت التي كانت يداها تربتان على ظهرها بحنان، بينما همست بصوت خافت يملأه الحنو:

-يا بت اهدي، يروح الف شغل ويجيلك اللي احسن منه، وبعدين انتي هتتجوزي مش هتحتاجي شغل أصلاً.

لكن كلمات حكمت رغم طابعها المواسي، لم تجد طريقًا إلى قلب سيرا، فابتعدت عنها بغضب ودموعها لا تزال تنهمر ثم هاجمتها بنظراتها الغاضبة وهي تقول بضيق لا تخطئه الأذن:

-يا أبلة الشغل ده أنا تعبت بجد عشان أعرف اشتغل فيه، وفي الآخر يروح كده عشان مروحتش كام يوم، طيب يسألوني أنا كان عندي ظروف إيه تمنعني
؟!

رفعت حكمت حاجبها الأيسر في انزعاج وكأنها تسخر من حماقة أختها الصغيرة:

-يالهوي!! بقولها هتتجوزي تقولي شغل وتعبت لغاية ما اشتغلت فيه، هو انتي فاضية أصلاً ؟ والله أحسن إنهم رفدوكي... المهم تعالي بسرعة احكيلي كل حاجة حصلت من وقت ما اتخطفتي لغاية ما روحتي القسم.

مدت يدها نحو سيرا بحركة لا تخلو من الحنو، لكنها توقفت فجأة عندما رأت يد أختها ملفوفة بضماد خفيف فصرخت فجأة بخوف ارتج له المكان:

-يالهووووي، إيه اللي حصل لايدك؟

أسرعت سيرا في تهدئتها وهي تلوح بيدها المجروحة لتبسيط الموقف:

-اهدي يا ابلة دي حاجة بسيطة والله.

جلست حكمت على المقعد المقابل ثم أشارت لسيرا بالجلوس بجانبها وهي تأمرها بصرامة:

-حالاً تحكيلي إيه اللي حصل؟ 

تنهدت سيرا بعمق وكأنها تستجمع بقايا قوتها، ثم جلست بجانب أختها مطلقة العنان لذكرياتها المؤلمة لتنساب على لسانها، تسردها بالتفصيل...

بينما في الداخل..

وقف يزن بجوار السرير من جهة اليمين بينما توقف زيدان من الجهة الأخرى، كانت الغرفة تفيض بصمت ثقيل تتناقل فيه العيون الحائرة نظرات مبهمة بين الأخوة الثلاثة، حتى كسره يزن بطريقته المعتادة في المزاح:

-حمد لله على سلامتك يا أبيه.

سعل سليم بألم وعيناه تضيقان من شدة الحنق، ثم رد بنبرة متذمرة اختلطت بأنفاسه المتعبة:

-اطلع برة يا بارد.

تدخل زيدان بلهفة محاولًا إظهار مشاعره رغم اضطراب صوته:

-حمد لله على سلامتك يا سليم.

كانت نبرته خافتة وكأنها تائهة بين الجد والمجاملة، حاول أن يضخ فيها دفئًا لكنه فشل فجاءت جافة كما عهد الجميع، لم يتأخر تعليق يزن الذي رمقه بامتعاض وهو يقول بحنق:

-ما تضربه بالنار أحسن!

تدخلت شمس وقد مطت شفتيها بعتاب واضح:

-ماتقولش كده، ده زيدان كان هيموت من الخوف على سليم.

ألقى زيدان نظرة جانبية على يزن قبل أن يقول باشمئزاز:

-انتي بتقولي لواحد مبيحسش أصلاً يا شمس وفري كلامك.

عقد يزن ذراعيه أمام صدره بتحدٍ ونظر إليه مباشرة وهو يرد بقسوة:

-والله الاحساس ده نعمة كبيرة أوي يا زيدان انت ماتعرفش عنها حاجة فمتتكلمش عليه.

تلونت وجنتا زيدان باحمرار خافت نتيجة الغضب المتصاعد في داخله فرفع إصبعه مهددًا:

-احترم نفسك يا يزن، أنا مش عايز أقل منك، أنا لغاية دلوقتي صابر وعاصر على نفسي لمون عشان استحملك.

أطلق يزن ضحكة قصيرة ساخرة ثم قال بنبرة لاذعة:

-بعيدًا عن عصير اللمون اللي انت عاصره، وبعيدًا عن صبرك اللي ميهمنيش، انت لو مبطلتش تتريق على سيرا وتضايقها بكلامك أنا هزعلك فاهم ولا لا.

رفع سليم حاجبيه بدهشة وهو يمرر بصره بينهما، يراقب المشادة التي اتخذت منحنى خطيرًا، حاول التدخل بصعوبة فقال زيدان بعصبية:

-تاني هيقولي سيرا!!! يا عم أنا حر اضحك على اللي يعجبني، انت مالكش فيه!

وفي لمح البصر فقد يزن أعصابه كليًا وصرح برعونة انطلقت دون رقابة:

-لا ليا فيه، لغاية سيرا وتقف، هي خط أحمر.

تدخل سليم أخيرًا محاولًا أن يمنع الأمور من الانفجار، فقال بصوت متحشرج ممزوج بحدة:

-ما تضربوا بعض قدامي أحسن؟ هو في إيه؟! ... انتوا مستنين أفوق وتنكدوا عليا.

اندفع يزن نحو الدفاع عن نفسه قائلًا بهجوم واضح:

-انت مش شايف يا سليم عمايله!!

لكن زيدان رد بحماقة قاسية أخرجت ما بجعبته دفعة واحدة:

-والله المفروض اللي يبص على عمايله هو انت، ورطت نفسك مع تاجر سلاح مجنون وعرضت خطيبتك اللي ملهاش في حاجة للخطر، واخوك كان هيموت بسببك، وفي الأخر متضايق؟! أنت المفروض تضايق من نفسك يا يزن على عمايلك السودة وأخرة مشيك الهباب مع البنات.

كانت كلمات زيدان كصفعات متتالية على وجه يزن، لم يكن بحاجة لتلك التذكيرات إذ إن ضميره كان يعذبه منذ لحظة دخول سليم المستشفى، وكأن شعلة من اللهب توهجت داخله لتلتهم ما تبقى من سكينته، الآن فقط انفجرت تلك الشعلة، فاشتعلت أنفاسه كأنها لهب يخرج من فم بركان.

سادت الغرفة حالة من الصمت المطبق، الجميع حدق فيه بدهشة وخوف وهو يغادر الغرفة بخطوات سريعة غاضبة، كأن كل خطوة يدك بها الأرض تُعلن عن زلزال داخلي.

أما خارج الغرفة لفتت حالته الغريبة نظر سيرا، التي ارتبكت لرؤيته، ولكن جذبتها حكمت من ذراعها وهي تسألها بقلق:

-بت يا سيرا هو أخوه جراله حاجة؟

هزت سيرا رأسها بشرود وعيناها معلقتان بالممر:

-لا هو شكله متضايق من حاجة!

ابتسمت حكمت بخبث خافت وهمست بسخرية:

-ياختي ولحقتي فهمتيه وعرفتيه؟ امتى هو يكون متضايق!!! واضح اوي إنك مكنتيش عايزاه!

أغلقت سيرا عينيها بقوة محاولة السيطرة على مشاعرها، ثم قالت باستنكار وتوتر:

-إيه اللي بتقوليه ده يا أبلة؟!، على فكرة أنا لسه عند كلامي، ولما أخدت بالي إنه متضايق دي حاجة في علم النفس كنت قريت عنها قبل كده...حركات جسمه وكده.

مالت شفتا حكمت بسخرية ماكرة:

-علم النفس...اممم لا وانتي الشهادة لله عاملة دكتوراه في علم النفس...طيب اقعدي يا اختي وكمليلي اللي حصل؟

بلعت سيرا ريقها بتوتر ثم سألت بقلق:

-مش هنشوف الاول هو متضايق ليه؟

ضيقت حكمت عينيها وقالت بلامبالاة ساخرة:

-لا ملهاش لزمة، مش علم النفس بيقول لما الشخص ميهمناش أصلاً وعايزين نبعد عنه، المفروض ميفرقش معانا زعله أصلاً، اقعدي يا حبيبة اختك وكملي.

جلست سيرا على مضض، لكنها لم تستطع إخفاء قلقها وخاصة عندما خرج زيدان هو الآخر من الغرفة، غاضبًا أكثر من يزن، وكأن الانفجار الثاني وشيك،
فوقفت فجأة قائلة:

-لا كده شكل الموضوع كبير، عن إذنك يا أبلة، ثانية وجايلك.

تحركت مسرعة في الاتجاه الذي غادر منه يزن، تحت أنظار حكمت المتعجبة التي اكتفت بهمس مستنكر:

-قال إيه مش عايزة تكمل؟ ده نفس لهفة فاتن حمامة على عمر الشريف بالظبط!!

                               *****
بحثت عنه في كل زاوية من زوايا المستشفى، تتنقل كمَن تاه عن ظله، ولكن لا أثر له، حتى خُيل إليها أنه قد غادر المبنى بأكمله، وفي لحظة بدا فيها اليأس يتسلل إلى وجدانها، سرت نسمات بحرية باردة نحوها من الاتجاه المقابل للمبنى، وقفت للحظة،
تُنصت لذلك الصوت الخفي الذي لا يُسمع، لكنها تشعر به لذا تحركت كالمسحورة، لا تعي ما يدفعها، وكأن قلبها هو مَن يرشد خطواتها هذه المرة!!

اقتربت من السور المطل على البحر، وهناك في مشهدٍ بدا كلوحة حزينة مرسومة بريشة احترافية، رأته جالسًا على حافته العالية يُحدق في المدى البعيد، كأنما يبحث عن شيء في حركة الموج المتراطم بالصخور...لمحت وجهه المتوتر رغم قسوة ملامحه، فقد كانت عيناه مكسوتين بشيء من الحزن!!

ابتسمت بخفة حزينة كمَن وجد ضالته، واقتربت منه بخطوات سريعة لكنها مترددة، ثم همست بنداءٍ خافت بالكاد تسمعه:

-يزن..

لم يسمعها أو ربما سمعها ورفض الرد، ظل على شروده، يواجه البحر بصدرٍ مثقل، كأنما يقاتل وحشًا من الندم داخل أعماقه.

نظرت حولها باحثة عن وسيلة تقربها منه فلاحظت حجرًا كبيرًا يمكنها تسلقه، فتقدمت نحوه وبدأت بحذر تتسلق السور العريض، تتحرك بخفة حذرة خوفًا من أن تنزلق وتسقط في أعماق البحر القريب، لكن قلبها كان أقوى من مخاوفها، كانت تتصبب توترًا تشعر بالهواء البارد يصفع وجهها لكنها لم تتراجع، وشيئًا فشيئًا اقتربت منه.

وعندما كادت أن تصل إليه مدت يدها تتكئ بها على طرف السور، لم تلاحظ الزجاج المكسور الكامن كفخٍ خفي، حتى أنه كاد ينغرس شظاياه في يدها المجروحة أساسًا، فأطلقت شهقة خوف مكتومة، واهتز جسدها الصغير في جلسته فتفاجأ يزن بوجودها والتفت نحوها مذعورًا:

-سيرا انتي بتعملي إيه؟ حاسبي...

مد يده بسرعة ليرفع قطعة الزجاج بعيدًا ثم أمسك يدها ليتفقدها وهو يسأل بقلق:

-إيدك حصلها حاجة تاني؟

هزت رأسها نفيًا تحاول أن تتماسك رغم الألم، ثم سألته مباشرة وهي لا تزال تراقب شروده وعينيه الهاربتين من مواجهتها:

-لا...انت مالك؟  متضايق ليه؟

ترك يدها وتحرك في جلسته بحركة متوترة، أعاد بها خصلات شعره المنفلتة إلى الخلف بتوتر ظاهر:

-عادي مش متضايق ولا حاجة، ليه بتقولي كده؟؟

نظرت إليه بعطف لم تحاول إخفاءه، ملامحها تعكس قلقًا حقيقيًا وهي تتابعه:

-شوفتك خارج وانت متعصب قلقت وجيت وراك.

عند تصريحها ترك البحر والتفت ناحيتها، نظراته تشق طريقها إلى أعماقها فجأة، تكسر جموده على لحظة حضوره، فابتسم بخفة وهو يقول بمكر هادئ:

-ده أنا مهم عندك اوي كده عشان تيجي ورايا!!

لم تستطع أن تُخفي توترها من قربه ولا من تأثير تلك النظرة التي بدت قادرة على تحريك السكون في صدرها، فحولت نظرها للبحر وقالت بسخرية خفيفة:

-طبعًا، مش كنا مخطوفين سوا؟، لازم نشارك أحزانا مع بعض، احكيلي.

اقترب منها قليلًا وهو يبتسم ابتسامة ساخرة لكنها خافتة وقال:

-احكيلك واحكيلي، العملية عملية تبادل خدي بالك.

تنهدت بخفة وهي تهز كتفيها محاولة السيطرة على ارتباكها ثم قالت:

-بس أنا معنديش أحزان، انت اللي عندك؟!

ساد لحظة صمت وكأن البحر نفسه توقف عن الحركة ليستمع إلى ما سيقوله، فخرج صوته أخيرًا ضعيفًا مكسورًا:

-يعني مش متضايقة مني عشان أنا السبب في ده كله؟ عرضتك للخطر وايدك اتجرحت وواحدة مجنونة...

قاطعته بنفي سريع وقاطع، وهي تدافع عنه بحرارة:

-لا طبعًا، ده كله مكتوبلي أشوفه، وبعدين انت ذنبك إيه؟ دول شوية ناس مجانين!! 

تأملها بصمت كأن كلماتها نسجت حوله دفئًا لم يعهده من قبل وهتف بصوت هامس خرج من عمق وجدانه:

-شكرًا.

لم تُجبه فقط تنهدت بحرارة بينما كانت نظراتها تتبع أمواج البحر الهائجة، ثم سألت مجددًا بإصرار لطيف:

-طيب متضايق ليه؟!

ارتسمت السخرية من جديد على ملامحه وهو يغمض عينيه للحظة ثم يفتحها بنظرة ماكرة:

-فضولية اوي انتي!

أشارت إلى نفسها باستنكار طفولي:

-أنا!! خالص، بس من الذوق المفروض تقدر إن أنا سيبت اختي الكبيرة وجيت وراك وعرضت حياتي للخطر عشان اطلعلك هنا، المفروض تقدرني وتحكيلي، ها زعلان ليه؟!!

ضحك بخفة وهو يحرك رأسه كأنه اقتنع:

-اقنعتيني، بس أنا حاسس إن أنا مش محتاج احكي لحد دلوقتي.

شهقت وهي ترفع حاجبيها بصدمة طفولية:

-تصدق؟ أنا غلطانة إن عبرتك... وجيت وراك، يلا خلي البحر ينفعك، اقعد اشكيله همك.

كادت تنهض وتغادر، لكنه أوقفها بجملته الشاردة:

-بس أنا متعودتش اشتكي لحد، عشان اشتكي للبحر.

نظرت إليه بتقييم صامت تحاول تحليل نبرته المكسوة بالوحدة وقالت بهدوء:

-مش باين عليك خالص إنك كتوم يا يزن؟

ابتسم بمرارة وهو يسألها:

-امال باين عليا إيه؟؟

أجابت بعد لحظة تفكير بنبرة أقرب للهروب منها للصدق:

-يعني شخص فوضوي... مش مفهوم.

اقترب منها قليلًا وهمس بصوت دافئ كنسمة بحرية ليلية:

-بالعكس سهل تفهميني، بس مشكلة الناس حاصرني في زون الباد بوي، وأنا والله أنفع جود بوي عادي خالص، بس محدش مديني فرصة.

ضحكت رغمًا عنها، كانت مشاعرها تختلط، بين الإعجاب والخوف من الوقوع في شيء لا تعلم نهايته، ولكن قبل أن تُكمل تفكيرها، باغتها بسؤال:

-اه صحيح امال ليه العياط اللي انتي عيطتيه فوق عشان شغلك ده؟

أجابت بتهرب طفولي وهي تحرك كتفيها بدلال نال إعجابه:

-وانت مالك؟ حاجة متخصكش!

اقترب أكثر وهمس بجانب أذنها بصوت خشن أربكها:

-هنبدأ نهلفط بالكلام...ونتعدى حدودنا ونرجع نزعل في الآخر!

التفتت إليه سريعًا وقالت بانفعال:

-ده تهديد بقى؟ لا أنا مبتهددش، وبعدين ده كان ضغط نفسي مش اكتر، ان شاء الله هلاقي شغل أحسن منهم الف مرة.

لم يُجبها...فقط ظل يحدق بها، عيناه تكشفان هشاشتها رغم صلابتها الظاهرة، وفجأة انسابت دمعة مترددة على خدها، تبعتها نبرة مبحوحة:

-بس أنا زعلت عشان رفدوني، كان المفروض يقدروني اكتر من كده، هلاقي فين شغل زيهم.

ضاق صدره لرؤيتها بذلك الضعف ولأول مرة شعر بالعجز أمام دموع أنثى فتمتم بتعاطف حقيقي:

-يولعوا يا بابا....ولا تزعلي نفسك، تعالي وأنا هشغلك عندي.

رفعت حاجبها ظنًا منها أنه يسخر، وردت بعبوس ساخر:

-هتشغلني؟ امسح عربايتك؟ ولا اعملك شاي وقهوة؟

ابتسم بخفة وقال بنبرة حنونة ناعمة تتسللت خفية إلى قلبها:

-لا هقعدك قدامي واقعد ابصلك.

تجهمت وهي تهدده:

-بقولك إيه شغل الكلام الحلو بتاعك ده اللي بتوقع بيه البنات مياكلش معايا.

-طيب خلاص بلاش كلام حلو، اشتغلي عندي نفس شغلتك في الجيم، كنتي مدربة إيه... زومبا تقريبًا!!

نظرت إليه مصدومة وقالت باعتراض غاضب:

-نعم؟! ده انت بتهزر بقى، وأنا هعلم العربيات عندك زومبا؟!

عاد إلى صمته المتأمل ثم همهم بهدوء:

-اممم..

صرخت بصوتٍ ساخر:

-يزن، احترم نفسك!

انفجر ضاحكًا بخفة وهو ينظر إليها بنظرة ماكرة كأنما يختبر صبرها:

-شفتي نيتك السودا، أنا كنت هخليها دروس شفوي هستثني التحريري خالص مؤقتًا.

حاولت السيطرة على تلك النغمة المرحة التي تسللت إليها رغمًا عنها، وردت بحزم مصطنع:

-انت لو محترمتش نفسك هزوقك في البحر.

اتسعت ابتسامته أكثر وكأنه يجد في تهديدها متعة خفية ثم قال بمراوغة:

-ويرضيكي سمكة القرش تاكلني، انتي ليه سودا من ناحيتي!!

أطلقت ضحكة صغيرة ساخرة وهي ترفع حاجبيها:

-والله ما حد نيته سودا غيرك....اوعى خليني انزل اروح لأختي.

أمال رأسه قليلًا صوته هادئ، كأنه يداري قلقًا لا يريد له أن يُفضح:

-براحة انزلي على مهلك.

التفتت إليه فجأة تراقب ملامحه المتبدلة بعينين حادتين ثم تساءلت بتهكم وهي تضيق عينيها:

-خايف اوي عليا؟!

خفض صوته درجة واكتسب نغمة أكثر صدقًا وكأن كلماته خرجت من مكان عميق في صدره دون قصد:

-لو مخوفتش عليكي هخاف على مين؟

رغم محاولتها تجاهل تأثيره إلا أن وقع كلماته كان كفيلًا بأن يربك دقات قلبها فتجاهلت ما شعرت به وتظاهرت باللامبالاة وهي تقول بابتسامة مستفزة:

-كلامك ده مبياكلش معايا...غير شوف طريقة كرييتڤ شوية عشان تشد انتباهي.

في تلك اللحظة تلاقت أعينهما مجددًا، وبدت نظراته أقل سخرية وأكثر عمقًا، وكأنه على وشك الاعتراف بشيء لم يستطع البوح به بعد، أما هي فرغم مزاحه إلا أنها كانت تعلم أن حديثه لم يكن كله عبثًا... وأن هناك شيئًا دفينًا خلف كل ابتسامة ساخرة، وكل تنهيدة صدرت منه منذ لحظة لقائها به.

-معلش هقطع لحظتكم الخاصة دي، عايزك يا بيه!

كان زيدان واقفًا بيدين في جيبيه ونظرة متحفظة، بينما لم تنتظر سيرا أكثر من ثوانٍ حتى توهج الخجل على وجنتيها، وأسرعت بالنزول من فوق السور بحرج واضح.

أما يزن فزفر بقوة وهو يرمق زيدان بنظرة ضيق غاضبة لم يبذل جهدًا في إخفائها ليعلق الأخير بتهكم لاذع:

-وكمان بتمثل أنك متضايق، وبتهرب زي العيال الصغيرة.

رمقه يزن بطرف عينه، وهو عابس الوجه كأن بينهما حسابًا طويلًا لا يحتاج إلى شرح:

-مش هرد عليك، عشان لو رديت هتزعل مني.

اقترب زيدان وجلس بجانبه بخفة، ثم قال بسخرية:

-من امتى الأدب ده؟ ده انت طول عمر لسانك فالت!!

اعتدل يزن ناحيته وملامحه لا تزال محتقنة، لكن نبرته اكتست بطابع ساخر يخفي وراءه ألمًا أعمق:

-شوفت التغيير حلو ازاي!!، انت لو ذكي هتستغله لمصلحتك!

ضحك زيدان باستخفاف وهو يسحب نفسًا طويلًا من الهواء المالح، قبل أن يقول بنبرة تنم عن شيء أكبر مما يبدو:

-لا ما هو واضح إن ليها تأثير رهيب عليك.

لم يتحمل يزن مغزاه، فقد أعصابه كمَن نكأ جرحًا مفتوحًا وهتف بحدة:

-مالك ومال سيرا يا زيدان؟

أدهشه أن زيدان لم يرد عليه بنفس الحدة، بل جاء صوته هادئًا على غير العادة، خاليًا من التهكم محملًا بثقل النُصح:

-مش عايزك تكسر قلبها يا يزن، البنت باين عليها ضعيفة وملهاش تجارب في الحياة، وانت واحد لفيت ودورت، ملهاش لزمة تكسر قلبها.

أطرق يزن رأسه لحظة ثم رفعها بابتسامة ساخرة تخفي في طياته مشاعر غامضة، وقال بلهجة مستفزة:

-الله!!! ده من امتى؟ ده انت حجر اشمعنا سيرا بذات اللي واخد بالك منها؟

ضربه زيدان على كتفه بلكزة قوية، ثم قال بنبرة غاضبة:

-انت غبي ياله...

لكن يزن قاطعه بحدة:

-بلاش طولة لسان احسنلك.

طرق زيدان بأصابعه بجانب رأس يزن كأنه ينقر على شيء يريد إيقاظه:

-وانت بلاش عقلك يوديك في حتة غلط، افهم معنى كلامي وفكر فيه، يا أستاذ انت لازم تفهم إنها رغم طولة لسانها إلا أنها فعلاً بريئة...بلاش تجرحها وتتسلى بيها وخصوصًا إن الموضوع ارتباطك بيها دخل في الجد، بلاش تقلل من نفسك ولا مننا.

كان يزن يغلي من الداخل وظن أن زيدان يحكم عليه لا يحذره، فصرخ بانفعال:

-انت بتكلم عيل صغير؟ في أيه؟ أنا مستغربك ده أنت اكتر واحد قريب مني وفاهمني على إيه؟

تنهد زيدان بحزن ثم أجابه بصوت هادئ لكنه حازم:

-ما هو عشان فاهمك وفاهم طريقتك كويس وعارف لما بتحب تشد بنت ليك يا يزن بتعمل إيه، وبقولك تاني بلاش دي...دي ممكن تفضل عايش بذنبها طول عمرك.

صمت يزن لحظات ثم قال بانفعال:

-واقسم بالله انت ما فاهمني ولا عارف حاجة؟ انت بس بتبرر العك اللي انت قولته فوق.

لكن زيدان لم يفقد اتزانه بل أكمل بنبرة جادة:

-لا هو مش عك دي حقيقة، أنا سمعتك جزء بسيط من الكلام اللي سليم أخوك محشهولك لما يقوم بالسلامة، وأنا وأنت عارفين كويس اوي أنه مكنش هيسيبك وكان هيقولك أوسخ من كده، أنا قصرت عليك حاجات كتير باللي أنا قولته.

رمش يزن عدة مرات كأنه يحاول طرد الكلمات من رأسه ثم انفجر:

-اه حامل همي يعني؟ بتحرجني قدام مرات أخوك وبتحسسني بالذنب عشان سليم ميكلمنيش!! ما يكلمني سليم هعمل إيه ولا هو هيعملي إيه؟ عادي... ياما كلمني ولا فرقلي.

-لا بيفرق وبيفرق جامد ووقتها بتهرب منه ومني ومن الدنيا كلها وبتستخبى زي العيل الصغير، وفي الاخر بترجع تعند وتزيد عشان تبينله أنه ولا همك.

ضحك يزن ضحكة ساخرة مريرة وقال:

-طيب أنا دلوقتي على كلامك المفروض اهرب، ارمي نفسي في البحر ولا اكتب وصيتي؟

رد زيدان بجدية:

-بلاش تريقة يا يزن.... يا ابني مفيش حد في الدنيا دي كلها هيخاف على مصلحتك قدي أنا واخوك، بلاش تعند على حساب نفسك وحسابنا وحساب بنت ملهاش في حاجة غير إن حظها وقع فيك.

خفض يزن صوته فجأة وكأنما ينفجر من الداخل:

-هو أنا وحش لدرجة دي يا زيدان؟ لدرجة دي مفيش فيا حاجة حلوة؟

ابتسم زيدان بخفة وحنان أخوي صادق، ثم قال:

-بالعكس...انت أخ جدع وصاحب مفيش منك، ولسانك اللي عايز قطعه ده، ربنا مديك موهبة فيه... تقدر  تقلب أي حد لصالحك، بس دماغك فالتة شوية فحجمها عشان مصلحتك.

سكت قليلًا ثم استكمل وهو ينظر إلى الأفق:

-سليم لما أصر أنك تخطب مش عشان هو عايز يمشي اللي في دماغه، بالعكس هو نفسه يطمن عليك، زي ما أنا كمان نفسي وأمك الغلبانة دي من حقها تشوفك مستقر ومتجوز، يزن مصر كلها يا حبيبي هتفرح لما تتجوز عشان هنخلص من مشاكلك.

ضحك يزن رغم كل شيء وقال بمراوغة:

-اتجوز أي واحدة والسلام... ولا سيرا تحديدًا.

رفع زيدان حاجبيه وقال بحياد:

-والله دي اختيارك يا معلم، هي أو غيرها، في الآخر نصيب.

تساءل يزن بحيرة شاردة خرجت سهوة منه:

-هو انت شايف أنها متستحقش واحد زيي؟

ابتسم زيدان:

-لا طبعًا انت مفيش زيك، انت باشا يا ابني، بص  سيرا دي من الآخر أمها دَعية عليها....آآ...اقصد داعيلها عشان وقعت في واحد زيك.

ساد الصمت بينهما لحظة، قبل أن يهمس زيدان معتذرًا:

-متزعلش مني، بس متنكرش إن أنا وفرت عليك تهزيق كان هيستمر لمدة شهر.

رفع يزن بصره إليه وقال بصوت خافت:

-مبعرفش ازعل منك ولا من سليم، عارف يا زيدان.....أنا لما مشيت...  مكنتش زعلان منك على قد ما أنا زعلان من نفسي!

نظر له زيدان باهتمام:

-ليه؟

تنهد وقال بمرارة صادقة:

-عشان لأول مرة مكنش عارف أنا عايز إيه؟

هز زيدان رأسه بتفهم ثم وضع يده على كتف أخيه، وقال:

-ولا عمرك هتقدر تقرر دلوقتي، استنى لما تهدا وانت هتلاقي اللي انت عايزه قدامك ومن غير مجهود.

استدرك يزن رزانة أخيه المفاجئة فتساءل بتهكم:

-انت من امتى عاقل كده!! ولا ده مجهود مليكة معاك!

رفع زيدان رأسه فجأة، وتذكر بنبرة مصطنعة بالهلع:

-يااااه يا جدعان على اللي عملته في نفسي وعلى وجع الدماغ اللي هالبس فيه، أنا ازاي نسيتها كده ....اوعى الحق نفسي واكلمها.

ضحك يزن من أعماقه وهو ينظر إليه بدهشة:

-عشت وشوفت زيدان اخويا خايف من حد...مجهود مليكة طلع جبار فعلاً...

غادر زيدان متجاهلاً إياه، بينما عاد يزن بنظره إلى المبنى خلفه بعينين شاردتين وابتسامة باهتة، كأنه يحادثها:

-وانتي مش هتعملي أي مجهود خالص ولا هفضل ضايع زي ما أنا.

                                ****
في اليوم التالي، تعمدت يسر إطفاء أضواء محلها الصغير الكائن أسفل البناية التي تحتضن عيادة نوح، جلست في إحدى الزوايا المظلمة، وقد انكمشت بجسدها خلف مكتبها الصغير تراقب بصمتٍ ما يجري على الرصيف المقابل، حتى لمحت أولًا حسناء تصل إلى العيادة وتدخلها بخطى ثابتة، انتظرت ساعة كاملة بعدها حتى تراءى لها نوح، وقد وقف أمام باب العيادة يبحث بعينيه القلقتين عن طيفها، لكنها لم تُظهر نفسها وهذا ما جعله يقطب حاجبيه بخيبة واضحة، ثم ما لبث أن صعد إلى عيادته بانكسارٍ خافت.

عادت يسر لتتنفس بعمقٍ تجتذب الهواء كأنها تحاول تثبيت أنفاسها المنبعثة من خطة تحيكها بعناية، مدت يدها إلى حقيبتها وأخرجت مرآة صغيرة أعادت بها ترتيب ملامح وجهها، وهي تضع مساحيق تجميل خفيفة لكن وزعتها بحرفية، اختارت أماكنها كخبيرة تعلم جيدًا كيف تلفت أنظاره وتُحيي انبهاره بها من جديد.

ثم مررت نظراتها على جسدها وتوقفت طويلاً عند فستانها الصيفي الذي اختارته بعناية ليبدو منسدلًا برقة، يلامس منحنيات جسدها ويلتصق قليلًا ببطنها البارز من الحمل، مما يزيد من وقع المشهد على من تود التأثير فيه.

أخفضت نظرها إلى ساعتها فوجدت أن أمامها نصف ساعة فقط قبل بدء العيادة في استقبال المرضى، وهي تدرك تمامًا أن هذه الدقائق الحاسمة كفيلة أن تحقق هدفها الأول، تسديد ضربة مباشرة في مرمى حسناء.

أمسكت بهاتفها وضغطت زر الاتصال ثم وضعته على مكبر الصوت، وملامح الخبث تلمع في عينيها كما يلمع حد السيف أسفل ضوء الشمس، لم تنتظر طويلًا حتى جاءها صوته عبر السماعة مترددًا مرتبكًا، وكأنه لم يتوقع هذا الاتصال بعد ما جرى بينهما بالأمس من خلاف وسوء فهم:

-الو..يسر.

أجاب بصوت خفيض فابتسمت بانتصارٍ داخلي وخرج صوتها بنعومة ودلالٍ متعمد:

-نوح هو انت فوق في العيادة؟

جاءها رده سريعًا تتخلله لهفة حاول أن يخفيها، لكنه فشل:

-اه موجود، لسه واصل من شوية.

تنهدت براحةٍ مصطنعة وأجابت بسعادة مفتعلة:

-طيب الحمد لله إنك موجود، هو ممكن اطلع بس ادخل التواليت انت عارف الحمل مأثر عليا وكل شوية محتاجة ادخل.

-طبعًا اطلعي...استنى هنزل آخدك.

بادرت بالرفض وهي تعقب بنبرة خجولة مغلفة بالغنج:

-لا لا متتعبش نفسك، انت بس استناني على باب الأساسنير.

-حاضر.

أغلقت الهاتف ونهضت من مكانها بخفة محسوبة، ثم مشت صوب البناية بخطى هادئة صاعدةً في المصعد نحو الطابق الذي يضم عيادة نوح، وما إن فُتح الباب حتى وجدته واقفًا بانتظارها كما توقعت، فمدت إليه يدها برقة، فالتقطها كمَن عثر على كنز ثمين وبدأت عيناه تتجولان على وجهها يرصدان أدق التغييرات التي طرأت عليها منذ لقائهما الأخير.

اقتربت منه، وكأنها تستمد منه دعمًا وهميًا وهمست أمام نظراته المتلهفة بعبارة رقيقة:

-معلش، بس الحمل المرادي تاعبني.

رد عليها بتعاطفٍ لم يخفه:

-لا ولا يهمك...تعالي.

تمسكت بيده وارتسمت على وجهها ابتسامة ناعمة يغمرها الدلال، وكانت على يقين بأن حسناء ستراها في تلك اللحظة، فما إن خطيا بضع خطوات حتى ظهرت الأخيرة بالفعل، واقفة خلف مكتب الاستقبال، تراقب المشهد بانتباه.

وقبل أن يتقدما أكثر توقف نوح وسألها بصوتٍ يحمل شيئًا من الضيق:

-هو الفستان ده مش ضيق يا يسر؟

كانت متأكدة أنه سيقول ذلك وقد انتظرت سؤاله بشغف، خاصةً حين يأتي أمام تلك "الحرباء" التي تجيد التلون والاختباء خلف ابتسامات مصطنعة، فرسمت على وجهها ملامح الدهشة والتأثر، وقالت بأسف مفتعل:

-بجد...معلش ده أكيد عشان البيبي وبطني كبرت شوية.

ثم مسدت فوق بطنها بدلالٍ كأنها تشير إليه ليؤكد كلامها، فابتسم لها بحبٍ وحنان وهو يتأمل بطنها التي تحمل طفله متجاهلًا عن عمد كل ما جرى بينهما بالأمس.

ساعدها في دخول دورة المياه، وقبل أن تُغلق الباب خلفها، أطلقت إليه جملة اختلط فيها الدلال بالرجاء الطفولي:

-ممكن يا نوح تقف تستناني لغاية ما أخرج، عشان اوقات بيجيلي دوخة وبتعب.

أومأ برأسه دون أن ينطق كمَن وقع في شباكها بالكامل فلم يلحظ حتى أنه واقف أمام باب دورة المياه، ولا أن حسناء باتت بجواره وقد وقفت تردف بصوتٍ مكتوم يغلي بالحنق:

-ادخل انت يا دكتور اوضتك، وأنا هقف استنى المدام.

التفت إليها بعد لحظة وقال بنبرة جادة مختلفة تمامًا عن تلك التي كان يحادث بها زوجته:

-لا...روحي شوفي شغلك، أنا هقف استناها هنا.

قبضت حسناء على كفها غيظًا وهي تسيطر على ما يعتمل داخلها من انفعالات، ثم اتجهت صوب مكتبها وجلست تحاول أن تفك شفرات هذا التحول المفاجئ في يسر، والتي بدا أنها تصالحت مع نوح بالفعل في الليلة السابقة، فلعنت غباءها ولعنت اللحظة التي دفعتها للذهاب إليه ليلة أمس تحديدًا، إذ بدا واضحًا أن كل مخططاتها السابقة باتت مهددة بالانهيار.

مرت دقائق ثقيلة قبل أن تخرج يسر من دورة المياه مستندة على نوح، وقد بدا صوت أنفاسها متسارعًا كأنها على وشك الإغماء، أو لعلها تفتعل ذلك عن قصد، وما أكد شكوك حسناء تلك اللمحة الخاطفة من عيني يسر وهي تتعلق في عنق نوح بنظرة انتصار لا تخطئها عين أنثى مثلها، خاصةً حين طلبت منه أن تجلس في المقاعد المخصصة للزوار أمام مكتب الاستقبال مباشرة.

-مالك يا يسر؟ والحالة بتجيلك بقالها قد إيه؟

سألها نوح بقلق، فأجابته بابتسامة واهنة وهي تمسد بطنها برقة:

-ده أكيد بسبب البيبي يا نوح، وبتيجيلي بقالها كتير.

انعقد حاجباه معًا وهو يسألها بقلق:

-روحتي للدكتور؟

هزت رأسها في دلال أنثوي ناعم وهي تقول:

-اه وقالي أني ضعيفة اوي والبيبي كمان ضعيف، ووصاني اهتم بنفسي.

اغلق عينيه بعدم رضا وهو يتمتم بغيظ:

-وانتي مابتهتميش بنفسك ليه؟ ليه بتهملي في نفسك؟

اقتربت برأسها منه وهي تمسد بيدها فوق كفه بلطف وحنو:

-والله بحاول على قد ما اقدر يا نوح عشان خاطر البيبي....

حذرها نوح بعينيه الصارمة وهو يؤكد عليها سلامتها قبل كل شيء:

-عشان خاطرك قبل البيبي، اهتمي بنفسك الاول.

كانت يسر قد نالت كفايتها من نيران الحقد المشتعلة في عيني حسناء، فمالت برأسها إلى كتف نوح وهمست برجاء ناعم:

-ممكن تاخدني وتأكلني أيس كريم مانجة نفسي فيه.

لم يجبها بل نهض على الفور ومد يده إليها ليساعدها على النهوض، ثم التفت إلى حسناء قائلًا بنبرة صارمة:

-حسناء أجلي كل مواعيدي لبعد ساعة من دلوقتي.

كادت حسناء أن ترد باعتراض لكن يسر سبقتها بنبرة خافتة ومليئة بالأسى:

-نوح أنا كده هعطلك عن شغلك؟

-لا...مفيش أي عطلة، المهم أنتي.

غادرا العيادة وخلفهما تركا حسناء تكاد تغلي من الداخل، عينها تتابع خروج يسر وهي تتعلق بذراع نوح، وكأنها تحكم قبضتها على ما أرادته هي ذات يوم.

وحين غابا عن أنظارها انفجرت شرارتها الخبيثة دفعة واحدة وأخرجت هاتفها وأجرت اتصالًا بخالها قائلة بنبرة ممتلئة بالشر:

-بقولك يا خالي...لو كلفتك تدورلي على ناس يسقطولي واحدة مضايقني...هتعرف ولا هتطلع مالكش لزمة وفشنك.

ثم مالت برأسها إلى الهاتف تهمس بحرارةٍ قاسية:

-لا....المرادي عمولتك حلوة اوي.

صمتت تستمع لما يقوله الطرف الآخر، قبل أن تضرب بيدها على المكتب وتقول بنبرة يملأها الشيطان:

-تبقى يسر مرات دكتور نوح، هبعتلك كل حاجة عنها وعنوانها.
هبطت سيرا من سيارة الأجرة التي أوقفها يزن، والذي قرر أن يقلهما إلى عنوان الشقة التي استأجرها صافي زوج أختها حكمت، رفعت عينيها نحو السماء تتأمل البرج الشاهق الذي تمتد طوابقه لعنان السحاب، فاستقرت نظراتها المتفحصة على الواجهة الزجاجية العاكسة، وانتابها شعور مزدوج من الدهشة والارتياب، كيف وافقت أختها المعروفة بتحفظها الشديد للمال وعدم صرفه في تلك الأمور التافة، أن يختار زوجها شقة بهذه الفخامة؟ والأغرب من ذلك أنها تطل مباشرة على البحر في موقع لا يسكنه سوى أصحاب الثراء الفاحش!!!

لم تلبث أفكارها أن تلاشت حتى انتبهت إلى صوت يزن المتعب وقد بدا كمَن يجهد نفسه ليقاوم إغلاق عينيه بعد أيام متواصلة من الإرهاق، كانت الأيام الماضية ثقيلة على الجميع، وخصوصًا بعد إصرار حكمت وزوجها أن يجتمع الكل في الشقة الواسعة التي استأجراها على أمل أن يجدوا فيها الراحة والسكينة بعد هذا الزخم من الأحداث، تقرر أخيرًا أن ينال يزن قسطًا من الراحة فيما أصرت شمس على البقاء بجانب سليم، أما زيدان فقد اضطر للعودة إلى القاهرة، بعد أن وصله إخطار عاجل من عمله يُلزمه بالرجوع فورًا.

قطع صوت يزن حالة شرودها وهو يقول، بصوت يختلط فيه السخرية بالتعب:

-هتقفي كتير تتأملي البرج؟

حولت بصرها إليه فبدت نظراتها غائمة، وهي تهمس بشرودٍ مشوب بالقلق:

-أنا بخاف من الأدوار العالية.

انعقد حاجباه بتعجب حائر ثم سألها بسخرية خفيفة:

-يعني نمشي ونشوف شقة غيرها نقعد فيها أنا وانتي!

وعندما أدركت مغزى كلماته رمقته بنظرة نارية صارمة تفيض غضبًا خفيًا:

-احترم نفسك لو سمحت.

لكن ما إن أتمت عبارتها حتى قُطعت الأجواء بهتاف أنثوي دافئ امتزجت فيه الدهشة بالسعادة:

-مش معقول زوزي إيه اللي جابك الكس.

اتسعت عينا يزن بصدمة وقد تردد صدى الصوت في ذاكرته بوضوح مخيف، التفتت سيرا بدورها وما إن وقعت عيناها على الفتاة حتى أصابها ذهول قوي، إذ لم يكن جمالها الصارخ مجرد مظهر، بل كان يلفت الأنظار دون عناء، فقد كانت ترتدي سروالًا رياضيًا قصيرًا ضيقًا يُبرز انحناءات جسدها الرياضي، وسترة بيضاء قصيرة تُظهر جزءًا من بطنها المشدود.

بادرت الفتاة بالكلام بنغمة أقرب إلى الدلال المدروس:

-مالك يا زوزي ساكت ليه كده؟

خرجت كلماته السلسلة من فوهة فمه بسهولة لم يدركها إلا عندما جحظت عينا سيرا:

-ازيك يا ميرال؟

فما زاد من دهشتها أن يزن يعرف اسمها، نظرت إليه سيرا بصدمة وتورد وجهها بشكل ملحوظ، بينما ارتبك هو من نظراتها المتفحصة وسرعان ما حاول تدارك الأمر بتمثيل جلي:

-ليلى ولا إيه حاسس إن مش فاكرك....

قاطعته الفتاة وهي تقترب منه تهز كتفيها بدلع واضح:

-لا يا زوزي مش معقول هاتنسى اسمي بردو؟ ميرال يا قلبي صح.

تمتمت سيرا خلفها بسخرية هامسة:

-قلبي!!!

سمعها يزن فأسرع ليقول لها وهمس مستنكر:

-قلبها هي مش قلبي أنا، ركزي!!!

لاحظت ميرال التوتر بينهما فتطلعت إلى سيرا بشك:

-سوري ماخدتش بالي منك، أنا ميرال باسم البيست فريند ليزن.

كان يزن يحاول جمع شتات نفسه وهو يحرك يده توترًا، إلا أنه لم يتوقع ما فعلته سيرا بعد لحظات، إذ أمسكت بكفه وهمست بصوت أنثوي ناعم مشحون بثقة مستفزة:

-اممم، أنا سيرا خطيبة زوزي الشعراوي....اقصد يزن الشعراوي.

شهقت ميرال وقد وضعت يدها على فمها غير مصدقة:

-انت خطبت يا يزن بجد؟

هز رأسه عدة مرات مبتسمًا ابتسامة باهتة كأنما الموت ذاته دنا إليه من فرط الحرج، كانت نظرات سيرا الحانقة تُحاصره من كل زاوية ولم تملك نفسها حين انفجرت غيظًا وقالت من بين أسنانها:

-هو في إيه يا زوزي؟ هو انت عليك تار؟ ممنوع تخطب ولا مريض مرض خطير؟! قولي يمكن اعالجك!

مدت ميرال يدها تُربت على ذراعه بنعومة أخرجته تمامًا من طوره وقالت بإعجاب ظاهر:

-لا أصل زوزي كان من رابع المستحيلات يرتبط ببنت رسمي، أنا حاسة إنها كدبة إبريل صح يا زوزي؟

غرزت سيرا أصابعها بقوة في جنب يزن وهمست بغيظ متصاعد:

-رد يا زوزي قولها دي كدبة إبريل ولا إيه؟

تألم من شدة غرز أصابعها لكنه أجاب بابتسامة شاحبة:

-لا فعلاً أنا خطبت.

لم يُضف شيئًا آخر فحدقت ميرال في يديه بتفحص وسألت بشك:

-امال مفيش دبلة في ايدك ليه يا زوزي؟

ردت عنه سيرا بنبرة حادة:

-عنده حساسية منها يا حبيبتي، في سؤال تاني ولا مش هنخلص؟

نظرت إليها ميرال بازدراء واضح فلم تتحمل سيرا مزيدًا من المهزلة القائمة، وانطلقت نحو مدخل البناية تجذب يزن خلفها بقوة ظاهرة، تمتم ساخرًا وهو يوجه كلامه للخلف:

-معلش أصلها متوحشة.

وقفا معًا أمام المصعد فسألته سيرا بغيظ ناري:

-انت كنت بتقولها إيه؟

أشار نحو نفسه بتظاهر بريء:

-أنا!!! منطقتش.

دخلت المصعد وذراعاها معقودتان أسفل صدرها، بينما أخذت تمتم بسخرية:

-زوزي....زوزي، وانت مبسوط اوي، لا وفاكر اسمها من أول ما شوفتها!!! ذاكرة حديدية، لا والبت استغربت اوي إنك خطبت، ليه بقى يا كازانوفا؟، استغربت ليه؟، رد وقولي؟ كنت مواعدها بحاجة؟
وبعدين إيه البنت القليلة الادب اللي انت عارفها دي؟ خسارة كنت فاكرك مؤدب! طلعت...

قاطعها وهو يرمقها باستنكار:

-فاكرني مؤدب!! أنا الأدب عمره ما دخل حياتي يا حبيبتي!!

رفعت حقيبتها تضربه بها بغيظ:

-متقوليش يا حبيبتي، أنا مش حبيبتك يا سافل يا قليل الادب يا للي بتعرف بنات....

وفجأة فُتح المصعد فإذا بـحكمت واقفة أمامهما، تراقب المشهد بدهشة بينما سيرا منهمكة في ضرب يزن بحقيبتها وهو يضحك متراجعًا للزاوية:

-إيه ده في إيه؟ مالكم؟

خفضت سيرا حقيبتها تستعيد ما تبقى من هدوئها، بينما هو رد وهو يمرر أصابعه في شعره:

-لا مفيش...امال إيه الجمال ده يا أبلة؟

ابتسمت حكمت بفخر وهي تنظر لعباءتها الصفراء:

-كلك ذوق يا يزن، تعالو يلا ادخلوا زمانكم تعبانين.

تحرك نحو الممر التي أشارت إليه حكمت في صمت، ولكن توقفوا بسبب ظهور فتاة أمامهم وما إن رأته حتى صاحت بسعادة:

-مش معقول زيزو....يزون انت هنا بجد!!

ثم التفتت الفتاة إلى الشقة الواقعة خلفها، ورفعت صوتها بحماس طفولي لا يخلو من الغنج وهي تنادي:

-بنات الحقوا يزن الشعراوي هنا.

لم تكن تلك الفتاة تختلف كثيرًا عن سابقتها، نفس الملامح المصقولة نفس الثقة الزائدة في إطلالتها، ونفس الأناقة المتكلفة التي ترنو إلى لفت الأنظار.

أما سيرا فلم تحتمل إذ تصدعت أعصابها من فرط الغضب، وتجسد حنقها الطفولي في دبدبات قدميها على الأرض كطفلة تُسلب منها لعبتها المفضلة، بينما تجمعت الدموع في عينيها كالسحاب المتراكم، وأيقنت حينها أن البقاء أمام تلك الفتاة لحظةً أخرى سيفجر طاقتها المكبوتة إلى ما لا تُحمد عقباه.

وبخطى متعجلة، ولجت الشقة التي استأجرتها أختها، لم تكد تخطو عتبة الباب حتى لحقت بها حكمت وهي تهتف من خلفها بقلق صادق:

-بت يا سيرا مالك؟ انتي يا بت؟ دخلتي ليه كده؟

استدارت سيرا بوجه غمره الوجع وانسحبت منه الصلابة، تمسح دموعها بظاهر كفها المرتجف، ثم توجهت بعتاب موجوع:

-يا ابلة قولتلك افركش زفت قراية الفاتحة دي، يا أبلة قولتلكم إنه بتاع بنات، وإنه يعرف بنات بعدد شعر راسه، قولتيلي لا كملي، حلو وأنا مقهورة كده؟!

لكن حكمت بطبيعتها الاستفزازية وتفكيرها البسيط، لم تُدرك حجم الغليان داخل أختها، فردت بتردد مفعم بالشك:

-يمكن قرايبه يا سيرا؟ ليه سوء الظن ده؟

لم تكن كلماتها إلا وقودًا جديدًا يشعل فتيل الغضب الذي حاولت سيرا كتمانه فهتفت وقد علا صوتها يكاد ينفجر غيظًا:

-قرايبه؟! بقولك قليل الادب ويعرف بنات بعدد شعر راسه، حورية قالتلي بيتسلى بالبنات زي ما بيتسلى باللب السوبر!!

لكنها جفلت فجأة حينما أطلت رأس يزن من خلفها، ينظر إليها بنظرة مستنكرة وصوته يحمل شيئًا من التوبيخ:

-اهو المشكلة في حورية دي؟ متتعوديش تمشي ورا كلام صحابك، خلي رأيك من دماغك، وبعدين أنا مابحبش اللب السوبر.

استدارت إليه والدمع لم يجف من عينيها، ونار الكرامة المهدورة تشتعل في وجنتيها، وصاحت في وجهه بصوت مخنوق:

-يا سلام!!! ده أنا شايفة بعيني محدش قالي، البت اللي كانت تحت، والبت اللي لسه مفيش ثواني كانت هتطير من الفرحة عشان انت حارمهم من طلتك.

حاول أن يصطنع البراءة وهو ينظر إلى حكمت يفتش عن طوق نجاة في حضورها:

-دول قرايبي يا أبلة، البنات دول قرايب أمي بس من بعيد وبعدين أنا بحب اوصل صلة رحمي، ولو مش مصدقاني ابقي اسألي سليم اخويا لما يقوم بالسلامة..

زمت حكمت شفتيها في ضيق وعتاب واصطنعت أنها بدأت تميل لتصديقه، فقالت بحزم لطيف:

-شوفتي ظلمتيه وطلعوا قرايبه زي ما قولتلك! 

لكن ملامح سيرا لم تلن ولم يزل الغضب مرسومًا على وجهها كأنما ترسخ فيه، فسألت بسخرية موجعة:

-وميرال القمورة اللي كانت تحت؟ اللي كانت متفاجئة إنك خطبت يا زوزي!! البيست فريند.

أجابها بتلقائية وهو يلوح بيده كمَن يتنصل من المسؤولية:

-دي تبقى بنت بنت عم أو بنت خال اخت ابويا، حقيقي مش فاكر!!! بس يعني في زون صلة الرحم!

ولم يمهلها لترد إذ وجد في اقتراب صافي وهو ينهي صلاته فرصة للهرب فقال بنبرة متهللة:

-حرمًا يا حج صافي.

أما حكمت فاستغلت لحظة انسحابه، ووجهت نظرات قاسية لأختها تهمس بانزعاج:

-انتي يا بت عاملة زي الحمار المتهور ليه؟ ما تلمي نفسك ومتتكلميش مع خطيبك بصوت عالي.

لم تجبها سيرا مباشرة بل كتمت أنفاسها المنفلتة بصعوبة ثم سألت بجفاء:

-ابلة الاوضة اللي هتنيل أنام فيها فين؟

فأجابت حكمت وهي تحاول الحفاظ على هدوئها:

-هناك على الشمال، مش هتاكلي الاول؟

-ماليش نفس.

مر بعض الوقت وهي داخل تلك الغرفة الصغيرة تجلس وحيدة فوق الفراش تنظر إلى البحر الذي تطل عليه شرفة غرفتها بشرود وذلك بعد أن أبدلت ثيابها بثياب أخرى مريحة وارتدت فوقها ما يسمى "إسدال" واسع تحسبًا لخروجها في أي وقت، تنهدت بعمق وهي تنهض من على الفراش لشعورها بحاجتها للماء، خرجت من الغرفة تبحث عن المطبخ فقابلها يزن في منتصف الطرقة الطويلة وهو يضع يده في جيب سرواله مبتسمًا بهدوء وعيناه تميل إلى الشقاوة:

-سبحان الله كنت بدور عليكي، ابلة حكمت قالتلي اناديكي عشان تاكلي.

عبست بوجهه وهي تقول بلا مبالاة، محاولة أن تتخطاه:

-وأنا قولتلها مش عايزة، ماليش نفس.

أوقفها بيده عندما وضعها أمامها يعيق تحركها دون أن يلمسها، وتحدث بنبرة هادئة وقد بدا أنه يحاول أن يرقق الأجواء بعفوية غير موفقة:

-الاكل مالوش دعوة بزعلك مني، وبعدين انتي بقالك يومين مابتاكليش حلو، تعالي دي عاملة طاجن بامية عالمي.

ضغطت فوق أسنانها وهي تحاول جاهدة أن تتمالك أعصابها أمام برودة أعصابه، فقالت بسخرية ساخطة:

-هو انت يا فاكر يا يزن إن ممكن ماكلش عشان زعلانة منك!! ليه فاكر نفسك محور الكون؟ ثقتك عالية اوي في نفسك!!

فرد بابتسامة ساخرة يمتزج بها لمحة من المكر:

-ولما أنا مش محور الكون، ليه بتكلميني وانتي مبوزة كده!

مطت شفتيها وهي تتظاهر بالتفكير، وبذات الوقت تواجه سخريته منها بسخرية أكبر:

-ميمشيش معاك إن أنا مرهقة تعبانة!!! عايزة أنام.

وكأن كل محاولتها لتجاهله تضيع هباءًا، في ظل إصراره الرهيب لفرض حصاره عليها:

-طيب تعالي كلي الاول وبعد كده اتقمصي مني براحتك.

ظهر صوت حكمت من الخارج بنبرة حاسمة:

-يلا يا سيرا الاكل هيبرد.

تنهدت بثقل وهي تتقدم نحو الصالة الخارجية باتجاه طاولة السفرة، فوجدت أختها وزوجها جالسين ينتظران قدومهما، جلست على مضض بجانب المقعد الذي يجلس عليه، وبدأوا في تناول الطعام في صمت، فقد كانت حزينة للغاية مما مرت به، عندما بدأ الجانب السلبي في شخصيته يطفو على السطح، رغم كل تلك المميزات التي شعرت بها خلال الأيام الماضية، لكن ذلك الجانب وحده كفيل بأن يجعلها تكرهه وترفض كل سبل الوصال بينهما.

أما هو فكان يأكل الطعام بتلذذ كبير، متجاهلًا مصائبه، ومتغافلًا عن غضبها في ظل سعادة حكمت وفرحتها بانبهاره بجمال طعامها، أما صافي فكان كعادته يعيش في عالمٍ موازٍ، لا يكاد يُعنى بما يدور حوله.

لاحظت يده التي مدها نحو الطاجن كمَن يعانق صديقًا قديمًا طال غيابه، مد الملعقة إلى الداخل وخرجت وهي تقطر عصارة البامية بالصلصلة الحارة، فوضعها في فمه ثم أغمض عينيه بتنهيدة درامية قائلاً بنبرة مبالغ فيها:

-الله! طاجن البامية مبينزلش في معدتي عادي كده،  ده بينزل يطبطب على قلبي!

رمقته سيرا من طرف عينيها كأنها ترى مخلوقًا فضائيًا وهو يتمايل في مكانه طربًا مع كل قضمة، بينما بداخلها إعصار كامل من الغضب، أما هو فكان في عالمه الخاص، يغمغم بين لقمة وأخرى:

-البامية دي عالمية لا بتتهري ولا ماسكة نفسها زيادة... بامية عندها ثقة بنفسها أكتر من ناس كتير!

ضربت الملعقة في الطبق بقوة حتى أصدر صوتًا كصفارة إنذار، ومع ذلك لم يرفع عينيه بل تمادى وقال وهو يُشير بالمعلقة نحو الطاجن:

-عارفة يا أبلة حكمت أنا عمري ما حسيت طاجن البامية أكل.

عقدت حكمت حاجبيها بعدم فهم وهي تتساءل بفضول:

-امال ده إيه؟

-ده احتواء.

سعل صافي في صمته المعتاد بينما حكمت كتمت ضحكتها في كم عباءتها، وسيرا تنظر إليه كمَن يقيم خياراته في الحياة هل تضرب الطاجن في رأسه؟ أم تدفع رأسه داخل الطاجن؟

ولكنها قالت له أخيرًا بنبرة باردة ساخرة:

-حتى البامية بتكلمها زي البنات اللي بتعرفهم.

رفع حاجبيه بدهشة مصطنعة وهو يضع الملعقة جانبًا، ثم وضع يده على صدره وقال:

-إنتي كمان غيرانة من البامية؟!

رمقته باستشاطة بينما هو استأنف الأكل بفرحة طفل فاز بلعبته المفضلة، فيما نظرت إليه سيرا نظرة جعلت حكمت تهمس لصافي:

-يا خوفي لا تكب الطاجن على وشه دلوقتي!

همس صافي بهدوء المعتاد:

-بصراحة يستاهل، بس انتي عرفتي منين إنه بيحب البامية كده!

-من سيرا، أصلها عرفت من مقصوفة الرقبة حورية صاحبتها.

نظر صافي إليها بتيه، فغمزت إليه وهي تقول بهمس:

-هبقى احكيلك بعدين، حوار كده.

هز رأسه بإيجاب وبدأ في تناول الطعام في صمت مراقبًا هو وحكمت المباراة الكلامية التي تدار أمامهما على طاجن البامية.

                               *** 

في منتصف الليل...

رغم الإرهاق الذي كان يهاجم عقلها ويثقل جفنيها استعصى عليها النوم، وبقيت تغوص في دوامة التفكير بمستقبلها الغامض، كانت الأفكار تزدحم في رأسها تتصادم وتتقاطع، حتى باتت تشعر بأن جمجمتها تضيق بها، ولكن ما العمل؟ لا مفر من مواجهة المصيبة التي ارتبطت بها رغمًا عنها، والتي لم تعد قادرة على احتمال برودة أعصابه ولا مواقفه المستفزة التي تتخطى حدود الاحتمال!

راودها شعور ثقيل كصخرة جاثمة على صدرها، كلما اقتربت فكرة خيانته من خيالها، تُرى....كم فتاةٍ وعدها ذلك المحتال بالحب والزواج؟ كم ضحية سقطت في فخ كلماته المعسولة وسحره الزائف؟ زفرت بضيق وقد بدأت أفكارها تغلي بغضب مكتوم.

لكن فجأة انتبهت لصوت خافت... على ما يبدو أنه صوت باب الشقة يُغلق بهدوء مريب، عقدت حاجبيها بفضول واستغراب...سارت بخطى متوترة نحو الخارج، وعندما وقفت أمام باب غرفته ورأته شبه مفتوح اجتاحها القلق، فتساءلت داخلها بذعر...أهو غادر فعلًا؟ ولكن إلى أين؟! وفي مثل هذه الساعة المتأخرة من الليل؟!

تسللت نحو الباب الرئيسي التصقت عيناها بـ"العين السحرية"، فشاهدته يطرق باب الشقة المجاورة بخفة، ثم يدخل بابتسامة عريضة وسعادة غير مفهومة وهو يخلع سترته القطنية بحماس يثير الريبة! شهقت بذهول وهمست بانفعال مكتوم:

-يا سافل يا منحط يا حيوان.

لم تحتمل أكثر فتحت باب الشقة بعصبية، وخطت خطواتها الحادة نحو الشقة المجاورة، تطرق الباب بعنف يكشف اضطرابها، وما إن فُتح الباب حتى ظهرت لها فتاة بثياب قصيرة، فعبست واشمأزت وأغمضت عينيها وهي تهمس بامتعاض:

-استغفر الله العظيم إيه القلة الأدب دي!!

لكنها لم تنتظر بل دفعتها جانبًا واقتحمت المكان، تبحث عنه بلهفة يتداخل فيها الغضب مع الشك، حتى رأته فوق طاولة في منتصف الصالة يتراقص على أنغام أغنية شهيرة "دلعنا"، والفتيات يلتففن حوله كأفاعٍ راقصة يضحكن بخلاعة، ويتمايلن بدلال مدروس، تسمرت في مكانها عيناها تتسعان في صدمة، لم يكن الرقص وحده ما فجر ذهولها، بل الدخان الكثيف المتصاعد من السجائر وأكواب الخمر التي تتعالى في الأيدي، صرخة مكتومة اندفعت من بين شفتيها...ثم استيقظت فجأة على وقع أنفاسها المتسارعة، وقد تبللت جبينها بقطرات العرق.

جلست جالسة في الفراش تحدق في العتمة، تحاول تنظيم أنفاسها التي خرجت متلاحقة كأنها ركضت آلاف الأميال وقد أرهقها ما رأت في الحلم، لقد خانها في كابوسها مع سبع فتيات دفعة واحدة!

وضعت يدها على صدرها تتحسس ببطء الاضطراب العميق الذي أصابها بسبب ذلك الكابوس، بل بسبب واقعه أيضًا فهو لم يكتف بإزعاجها في اليقظة، بل اقتحم حتى نومها بأحلام مشوهة تُشبهه همست بصوت مرتجف يشوبه الحزن والأسى:

-يا ربي....ده كله بيحصلي واحنا لسه مخطوبين امال لو اتجوزنا!!!

لكنها توقفت فجأة كأن شرارة انتباه قد أضاءت في رأسها، أيمكن أن يكون الحلم إشارة ربانية؟ تنبيهًا من السماء لكشف حقيقته؟ انتفضت فجأة من سريرها  وارتدت إسدالها بعجلة، حاولت إحكام الحجاب على رأسها بأي طريقة، عازمة على اكتشاف الحقيقة وإثبات الخيانة.

فتحت باب الشقة بحذر، وما إن خطت أولى خطواتها في الرواق حتى تجمدت في مكانها، باب غرفته كان مفتوحًا بالفعل تمامًا كما رأت في الحلم فشهقت همسًا:

-يالهوي..يعني هو عندهم دلوقتي!

تقدمت بخطى مسرعة نحو شقة المجاورة، ووقفت تضع أذنها على الباب تسترق السمع، تنتظر أن تسمع ولو نغمة واحدة من تلك الأغنية اللعينة التي باتت تكرهها، ولكن لا شيء سوى صمت ثقيل يملأ المكان.

أزاحت طرف الحجاب عن أذنها محاولة أن تسمع بشكل أوضح، ولكن فجأة لمسة مفاجئة امتدت خلفها وأعادت الحجاب إلى موضعه، وصوت مألوف يهمس بسخرية:

-يعني الطرحة اللي مش هتخليكي تسمعي!! وأنا اللي مفكرك عاقلة!

انتفضت بفزع وهمت بالصراخ، لكنه وضع يده على فمها بسرعة ليمنعها هامسًا:

-بس يا مجنونة ماتبقيش مفضوحة وهبلة.

أزاحت يده بنزق وعيناها تلتمعان بالغضب والحرج، ثم أشارت نحوه بإصبعها صارخة بهمسة:

-ينفع تخضني بالشكل ده؟

أخذ قضمة من التفاحة التي يحملها بيده وحدق فيها بنظرة عتاب ساخر:

-وانتي ينفع تعملي اللي انتي بتعمليه ده!

أشارت إلى نفسها وقد غلبها التوتر والارتباك:

-أنا!! أنا بعمل إيه؟

اقترب منها ومال قليلًا نحوها، وعيناه تلتمعان بشقاوة مستفزة:

-واقفة تتصنتي على باب شقة الجيران!

أسرعت إلى الدفاع عن نفسها تهز رأسها وتتنصل من التهمة:

-لا أنا مبصنتش، أنا...أنا...أنا...

ضحك ساخرًا وهو يتسلى بتلعثمها:

-إيه الشريط سف، أنتي إيه؟

همست فيه بغيظ وقد فقدت أعصابها، مشيرة بأصابعها برقم سبعة:

-أنا كنت بحاول أثبت خيانتك اللي حلمت بيها، ربنا اداني إشارة إنك بتخوني مع سبع بنات.

ضحك أكثر مقلدًا حركتها ورفع سبع أصابع ساخرًا:

-سبع بنات، إذا كان كل اللي جوا هما أربعة، هخونك كع سبعة ازاي، أنتي مش مخطوبة لهركليز.

شهقت بذهول كأن الصدمة تُجدد نفسها فهتفت بانفعال خافت:

-انت كمان عارف إنهم أربعة، أه يا خاين...

وفجأة ركض يزن نحو غرفته بعدما قرأ في ملامحها عاصفة قادمة لتهاجمه، فسارع بإغلاق الباب في وجهها بإحكام، أما هي فاندفعت خلفه تمسك مقبض الباب وتحاول فتحه، تهمس بغيظ يكاد يُشعل الهواء:

-افتح يا يزن، افتح، افتح متخافش...مش هقتلك.

ضحك من خلف الباب وصوته يفيض سخرية:

-لا...الاحتياط واجب، وانتي واحدة مجنونة.

تنفست بعمق محاولة السيطرة على انفجارها ثم قالت بهدوء زائف:

-أنا هتكلم معاك بالعقل.

رد مستهزئًا وما زال يضحك:

-عقل إيه يا مجنونة الساعة ٣ الفجر اختك لو صحيت ولقيتك واقفة قدام باب الاوضة، هقولها إنك ***** بيا.

شهقت بصدمة وخجل، ثم قالت بنبرة مختنقة:

-اه يا قليل الادب، انت واحد... واحد....مش لاقية شتيمة توصفك غير إنك قليل الادب بجد، أنا مش عايزة أعرفك تاني.

ثم ولت هاربة إلى غرفتها خوفًا من أن تكتشف أبلة حكمت أمرها، لكن الغضب في صدرها لم يخفت، بل تصاعد كأبخرة البركان مما زاد من اختناقها، توجهت إلى الشرفة لتستنشق بعض الهواء، وما إن فتحت الباب ودخلت، حتى شهقت بفزع!

يدٌ قوية جذبتها إلى زاوية منخفضة في الشرفة الطويلة، تلك الشرفة التي تطل على الغرفتين الملتصقتين...حاولت الصراخ ولكنها تسمرت عندنا وجدت صوتًا مألوفًا همس في أذنها بنبرة مازحة:

-مش ناوية تهدي وتطفي نار الغيرة اللي هتولع فينا في الآخر.

دفعته بقوة وهي تلتقط أنفاسها ثم رمقته بنظرة حانقة وقالت:

-انت اللي مش ناوي تهدى، وبعدين أنت مش كنت خايف مني من ثواني ومش راضي تفتح لي الباب.

ضحك وهو يتكئ على السور الحديدي يرمقها بعينين لامعتين، ثم قال بسخرية محببة:
 
-خايف منك!!! ولما أنا كنت خايف، واقف قدامك دلوقتي بعمل أيه؟

عبست بوجهها وقالت بامتعاض:

-والله أنا مشوفتش في بجاحتك، يعني بتخوني وواقف عادي قدامي.

اقترب خطوة منها، وكأن كلماته القادمة يحملها على مهل ليستفزها أكثر:

-بخونك في أحلامك!! خدي بالك أحلامك اللي عقلك الباطن وحورية صاحبتك مسيطرة عليها، فمتجيش تلوميني.

كلماته كانت كافية لإشعال غضبها، ففقدت أعصابها وردت باستهزاء حاد:

-انت واحد مكانك المفروض يتكسف، أنت متخيل أنا شوفتك ازاي؟!...انت كنت واقف بترقص في وسط سبع بنات وبتشربوا سجاير وخمرة...

تظاهر باللامبالاة ورفع حاجبيه ساخرًا:

-طيب والله كويس مش جايلك بنكد عليكي، انتي المفروض تفرحي إن خطيبك شخص فرفوش...

زفرت بحدة ثم صاحت بلهجة تنذر بالغضب:

-يزن متهزرش، ده حلم مش كويس أبدًا.

نظر إليها بثبات ثم قال بنبرة ساخرة تختبئ خلفها ملامح وقحة خفية:

-ليه بقى؟ عملت إيه تاني؟ أنا أحب أعرف كل أخطائي لو سمحتي عشان اتفاداها المرة اللي جاية وأنا جاي ازورك في أحلامك.

تراجعت خطوة وقد بدا عليها الضيق:

-انت قصدك إيه؟ انت طريقة كلامك معايا مش عجباني، لو سمحت التزم بحدودك معايا.

-حدود إيه؟ أنتي جاي تقوليلي كنت بخونك وبرقص وبشرب إيه...

أجابت بتسرع وحماقة:

-سجاير وخمرة.

لوح بيده كمَن يدفع تهمة عنه ثم قال بنبرة حادة ممزوجة بالسخرية:

-اهو ده يثبت إنك مفترية وبتتبلي عليا، أنا عمري ما حطيت سيجارة في بوقي، ولا شربت حاجة تغضب ربنا مني.

رمقته بنظرة طويلة ثم قالت بتهكم:

-على أساس كده إن أنا هغير نظرتي فيك، طيب وبالنسبة للبنات اللي تعرفهم!!

أدار وجهه لحظة ثم التفت قائلاً بتحدٍ:

-مالهم!! حد قالك قبل كده إن أنا اتمسكت في شقة مشبوهة مع بنات!! يا بنتي أنا واحد محترم، كفاية افترااا بقى على الناس الغلابة اللي زيي.

قالت وهي تشيح بنظرها عنه بعدما سئمت من سخريته المعتادة:

-مش كل حاجة تتريق عليها يا يزن، أوقات اللي قدامك بيبقى محتاج تتكلم جد عشان يرتاح.

اقترب خطوة منها أخرى وقد بدت ملامحه أكثر جدية وهو يجيبها:

-طيب أنا لو ريحت اللي قدامي، هو هيسكت ويقتنع باللي هقوله، ولا هيفضل يجادل ويتحمق لكلام صحابه!!

ترددت لحظة ثم ردت بنبرة خافتة:

-هو حر بقى يقتنع ولا ميقتنعش، بس المهم إنه يحس إن في تقدير وإن اللي قدامه حابب يثبت عكس الصورة اللي وصلت له!!

نظر إليها طويلًا ثم قال بنبرة صادقة رغم سخرية وجهه:

-طيب ما أنا من الصبح بحاول أثبت عكس الصورة، وبردو مش مصدقاني.

رفعت حاجبيها وهي تقول بحدة:

-والله!!! انت شايف كده؟

ابتسم بمرارة غريبة:

-المجتمع اللي ضدي، بس انتي لو بصيتيلي بشكل مختلف هتلاقيني ببذل مجهود جبار.

ضحكت بسخرية باهتة:

-مجهود جبار!! غريبة مشوفتش أي مجهود خالص.

-عشان ظالمة ومفترية، هتشوفي ازاي ومفيش أي رأفة من ناحيتي!

لم تعقب على سخريته وكأنها اعتادتها قصمتت برهة ثم نادته بهدوء:

-يزن...

أجاب بهدوء وهو ينظر إليها بنظرة خطفتها كانت بها لمعة مختلفة:

-نعم.

تجرأت وسألته بسؤال يطرق كثيرًا أبواب عقلها مؤخرًا:

-هو انت حبيت وعرفت بنات كتير صح؟

تنهد بثقل وهو ينظر بعيدًا ثم أجاب بصوت خفيض:

-عرفت بنات كتير الصراحة اه، لكن حبيت لا....ماحبتش قبل كده.

نظرت إليه بريبة ثم سألته بتعجب:

-ازاي يعني؟ دي فزورة!! اللي يعرف بنات كتير، أكيد كان في علاقات ما بينهم ووصلت لإعجاب وبعدها حب.

هز رأسه بنفي وهو يجيبها بهدوء قاتل:

-لا ده العرف المشهور لعلاقة أي واحد وواحدة، بس عرفي أنا غير ومش زي أي حد.

اقتربت منه خطوة ورفعت حاجبيها ونظرت إليها في صمت ولكن عينيها كانت مرآة تعكس صورته بها وهو يحترق بين نيران غيرتها التي لم تطفأها اعترافه بعد، فقال بصوت ثقيل وهو يبتسم ساخرًا:

-هقولك عشان الفضول هيموتك.

ثم تحول فجأة وخص حديثه بابتسامة واثفة، وهو يقول بنبرة مرحة:

-يعني عادي ربنا خلقني عندي موهبة فريدة لساني حلو وبعرف اشد انتباه أي حد ليا... وفي النهاية شكل العلاقات اللي بتبقى ما بينا صداقات بريئة، بكرر تاني اهو بريئة...مفيش حاجة أزيد من كده.

رمقته بشك ساخر:

-بتلعب معاهم على الهادي يعني، طيب انت اختلفت إيه يعني عن أي واحد بيرتبط ببنت وبيوقعها في غرامه...

هز رأسه نافيًا وهو يعبس بوجهه عندما وصله اتهامها له:

-لا لو سمحتي تفرق، أنا عمري ما اعترفت لبنت بحبي ولا سهرت الليل أقولها كلام غرام، أنا عمري ما كسرت قلب واحدة، ولا واحدة عملت معايا مشاكل إن أنا سيبتها ولا إنها اتقهرت بسببي، أنا قولتلك من الاول أنا حالة فريدة، كل البنات اللي عرفتهم هتلاقيني بيني وبينهم علاقة احترام، بيحترموني في أي وقت وأي مكان ويتمنوا يخدموني في أي مصلحة أو أي حوار.

ردت عليه ببرود:

-دي حاجة متفرحش على فكرة ولا حاجة تخليني أنبهر بيك.

ابتسهم بخفة وهو يقول:

-محدش قالك إن أنا عايزك تنبهري بيا، أنتي سألتي سؤال وأنا جاوبت بكل صراحة.

نظرت إليه بعينين تملؤهما الحيرة، وقالت بصوت خافت:

-صراحتك مخوفاني ومخلياني على طول مخنوقة وحاسة بالمصيبة جاية جاية.

تنهد وهو ينظر إلى الأفق:

-عشان قاعدة مستنية تثبتي الصورة اللي انتي متخيلاني فيها، أو الصورة اللي رسمتهالك حورية صاحبتك، بس عايز اقولك انتي لو قعدتي مية سنة يا سيرا عمرك ما هتعرفي تثبتيها غير في أحلامك...تصبحي على خير.

استدار ليغادر، لكنها استوقفته سريعًا بضيق:

-انت رايح فين؟ بترمي كلام وخلاص، أنت لو حطيت نفسك مكاني هتعرف وتقدر ليه أنا واقفة متضايقة منك ومش طايقك، أنا بعد اللي شوفته وسمعته منك النهاردة هفضل عايشة حياتي في توتر.

توقف لحظة، ثم قال بصوت خافت لكنه حازم:

-انتي اللي بتحكمي على نفسك بكده، مع إنك ممكن تعيشي عادي حياتك ومتدوريش ورا حاجات قولتلك مش هتعرفس تثبتيهى غير في أحلامك.

سكتت "سيرا" للحظة، وبدت نظراتها وكأنها تهيم في فراغٍ ما، كأنها تحاول أن تمسك بطرف خيطٍ هارب من عقلها، أما "يزن"، فقد ظل واقفًا في مكانه، يشيح بنظره عنها وكأن كلماته الأخيرة قد أنهكته أكثر مما أراحته.

تقدمت خطوة واحدة فقط خطوة صغيرة لكنها مثقلة بالخوف...بالحيرة، بكل ما لم يُقال، ولكنها تشجعت وقالت بصوتٍ منخفض بالكاد يُسمع:

-طب لو كنت فعلاً مختلف...اثبتلي.

لم يلتفت، لم ينبس بكلمة...لكنها رأت كتفيه يهتزان قليلًا كما لو أن تلك الكلمات أصابته في العمق، أكثر مما تجرأ على الاعتراف به، ومع ثوانٍ معدودة كان قد اختفى في العتمة، وتركها وحدها وسط أفكارها الهائجة من عدم إجابته وصمته الغريب.

                              ***

في اليوم التالي...وتحديدًا داخل مكتب "نوح" بعيادته الهادئة، دخلت "حسناء" بخطوات واثقة وهي تبتسم ببهجة ظاهرية مفرطة، كانت في قمة حماسها وغنجها، مدفوعة باطمئنانها إلى أن "يسر" لم تحضر اليوم إلى المحل، بل ظل مغلقًا منذ الصباح، وهذا ما سيساعد خالها، كما ظنت، في تنفيذ الخطة التي تم الاتفاق عليها مسبقًا.

رفع "نوح" عينيه عن الملف الذي كان بين يديه، وحدق بها بنظرة غامضة لم تفهم معناها للوهلة الأولى، ثم أشار نحو المقعد أمامه وهو يقول ببرود:

-اقعدي يا حسناء عايزك دقيقة.

جلست فورًا وقد ارتسمت على وجهها ملامح اهتمام مبالغ فيه، فردت بنعومة مصطنعة:

-معاك يا دكتور.

ظل يرمقها لثوانٍ صامتة ثم مال برأسه قليلًا، وتلاعب بالقلم بين أصابعه في حركة رتيبة أثارت التوتر أكثر مما أخفته، ثم قال بنبرة باردة توحي بالخطر:

-تصوري خالك جالي بليل امبارح على بيتي!!

جف حلقها فجأة وابتلعت لعابها بصعوبة محاولة أن تُبقي على ملامحها متماسكة، ورغم الارتباك الذي غلف أنفاسها تساءلت بنبرة بدت ثابتة:

-خالي!! وعايز إيه؟

أسند مرفقيه إلى المكتب واقترب منها قليلًا وكأن صوته لا يريد أن يتجاوز الجدران:

-عايز يقولي أنك طلبتي مني تسقطي يسر مراتي مقابل عمولة حلوة!!

لم تملك "حسناء" ردًا تجمدت للحظة، كأن الكلمات أصابتها في مقتل، وحده صوت قلبها كان يضرب في صدرها كطبول حرب انكشفت قبل موعدها
هو قالك كده؟

هز نوح رأسه عدة مرات، وابتسامة صغيرة جدًا ترتسم على ثغره بينما كانت نظراته أكثر حدة، لا...بل ربما كانت غامضة توحي بشيء خفي لم تتمكن من إدراكه، ولم تفهمه إطلاقًا، كانت تلك النظرة تحمل في طياتها ما يُشبه لغزًا مستترًا، وكأن عينيه تخفيان خلف ابتسامته الباهتة أسرارًا دفينة مقلقة.

سعلت مرة واحدة فقط محاولة أن تستعيد سيطرتها على نفسها، وقد نجحت بالفعل بأسلوبها الماهر وطريقتها الملتوية التي اعتادت أن تتسلح بها عند الضرورة، رفعت رأسها بثقة مشوبة بالدهاء وقالت بنبرة لا تخلو من الاتهام والسخرية:

-ده أكيد جايلك يعمل عليك حوار عشان عايز منك فلوس تاني بعد ما أنا منعته عنك.

اتسعت ابتسامته قليلاً ولكنها لم تكن تلك الابتسامة العريضة، بل كانت ابتسامة تقييم....ترقب....ونوع من التريث، ظل صامتًا لثوانٍ وكأنه يزن كلماته في رأسه أو يقيم حديثها من منظور خفي، ثم قال بصوت هادئ يحمل تفهمًا غير متوقع، تفهمًا أدهشها وأربك حساباتها:

-أنا قولت كده بردو، عشان كده طردته وبهدلته وهددته لو شوفته تاني هبلغ الشرطة....وعليا وعلى أعدائي!

اتسعت عيناها في دهشة حقيقية تساءلت في داخلها...أهو حقًا يصدقها؟ أم تتخيل ذلك؟ كانت مشاعرها في تلك اللحظة خليطًا من الارتباك والتوجس، ولكن حركته المفاجئة حين نهض من مكانه وتوجه نحوها، ثم دنا منها بجسده الطويل الذي تجاوزها طولًا وهيبة أربكتها بشدة، فاقترب وجهه من وجهها حتى أصبح الفاصل بين أنفاسهما لا يُذكر وهمست بصوتٍ مضطرب بينما كانت ملامح وجهها تبهت كصفحة بيضاء خالية من أي حياة:

-معقول يا دكتور صدقتني على طول، لو حد غيرك كان شك فيا وصدقه.

لم يبتسم ولكن عينيه أوحت لها بابتسامة ناعمة، كأنها ابتسامة صامتة لا تحتاج إلى ثغره، بل اكتفى بالنظرة العميقة...ولكن قربه منها  منح لأنفاسه الساخنة حرية التسلل إلى بشرتها، وقال بصوت خفيض ونبرة مدروسة بدقة بالغة:

-معقول يا حسناء أصدقه؟! أنتي بنت حلال ووقفتي جنبي وانتي مش عايزة أي مقابل، انتي عارفة...

صمت لثوانٍ ولكن صمته محمل بالمعاني الخفية، أما هي فقد كان صدرها يعلو ويهبط بسرعة، وأنفاسها كأنها تركض في مضمار سباق رغم أنها لم تتحرك قيد أنملة...شيء ما في نبرته...في قربه، في صوته، جعلها ترتجف داخليًا دون أن تُبدي ذلك خارجيًا.

-أنا دايمًا حاسس إنك بتحبيني، ومستعدة تعملي علشاني أي حاجة، عشان كده أنا متمسك بيكي...

لكنه توقف مرة أخرى ثم اعتدل في وقفته فجأة، ابتعد عنها قليلًا وتوجه نحو مكتبه بخطوات هادئة، فمرت أنامله فوق سطح المكتب الزجاجي بحركة سلسة، أشبه بعازف يتحقق من مفاتيح آلة موسيقية متمرس بها، ثم قال بصوت هادئ ومرتب:

-اوقات بفكر...أنا هلاقي زيك فين؟! معدنك نضيف وأنا متأكد إن كل اللي حواليا مسيرهم هيشوفوا فيكي اللي أنا شايفه، أصل الناس يا حسناء ميهمهاش إلا الظاهر...

وبتر حديثه مجددًا لكنه هذه المرة مال برأسه جانبًا ونظر إليها نظرة ملؤها الراحة والإعجاب، ثم تابع بنبرة أكثر ليونة:

-لكن أنا! بهتم بالداخل...بالنوايا يا حسناء وأنتي نيتك كلها خير.

شعرت برجفة خفيفة تمر في جسدها وبلعت ريقها ثم حمحمت بلطف، محاولة أن تستجمع شتات تركيزها الذي بدأ يتبعثر لأول مرة أمامه، فكان لكلماته أثرًا داخليًا قويًا، وقد تسببت في تصدع خفي في بنيانها النفسي، الذي كانت تحرص دائمًا على أن يبدو متماسكًا، فقالت بصوت متردد لكنه مفعم بالعاطفة:

-ربنا يعلم يا دكتور....أنا بحبك ازاي.

تعمدت أن يبح صوتها وأطلقت كلماتها كأنها تبوح بسرٍ دفين، بينما كانت عيناها تفيض بإعجاب فاجر...إعجاب ماجن لم تعد تخجل من إظهاره، واستكملت بنفس النبرة الناعمة التي اعتادت استخدامها حين ترغب في سلب إرادة من أمامها:

-من أول لحظة لفت نظري وعرفت إن أصلك طيب، عشان كده اهتميت تعرفني على حقيقتي، وصدقت إن نيتي من ناحيتك كلها خير، وحقيقي أنا أسفة اوي يا دكتور على اللي عملته فيك مكنش أبدًا حد محترم وراقي زيك يعرف واحد زي خالي، مصلحنجي ومجرم.

رن هاتفه فجأة ليقطع تلك اللحظة الخاصة التي غلفت الأجواء بوهج خاص، انتبه إلى الشاشة وظهر عليه التوتر حين لمح اسم المتصل... وما كانت سوى يسر.

أشار إليها بالصمت، ورد بسرعة ولهفة لم تملك أمامها سوى أن تلاحظها:

-أيوه يا يسر.

لكن ملامحه سرعان ما تغيرت، فقد عبس وجهه وعقد حاجبيه في قلق ظاهر، ثم صرخ بصوتٍ مرتفع حمل انفعالًا حقيقيًا:

-بتعيطي ليه؟ حد ضايقك؟! طيب انتي رايحلهم ليه يا يسر؟!! لا خليكي عندك... بقولك متتحركيش.

أنهى المكالمة بعجلة ونهض بسرعة يجمع متعلقاته، متمتمًا بجدية وعبوس جعله يبدو كأن شخصًا آخر قد استولى على جسده، غير ذاك الذي كان يهمس لها منذ لحظات:

-مفيش عيادة النهاردة، اقفلي وروحي واعتذري لكل اللي حاجز.

-بس يا دكتور...

لكنه لم يلتفت ولم يعطها أي رد، بل خرج مسرعًا كمَن يدرك تمامًا أن ثمة خطرًا داهمًا بانتظاره، فالأمر متعلق بيسر!

جلست مكانها مجددًا تحاول أن تفهم ما الذي حدث، تفكر في خروجه السريع وكأن شيئًا خطيرًا استدعى وجوده على الفور، ولكن رغم كل ذلك لم يكن خروج نوح هو ما شغل بالها حقًا، بل ما فعله خالها بها هو ما يستحق التركيز والتفكير، هو ما يستحق الانتقام!

أما أمر يسر؟ فقد قررت تأجيله قليلًا فحين تنتهي من أمر خالها وتتمكن من تمهيد الطريق بينها وبين نوح ستُفرش الورود لا لتُكرم بها، بل لتغلف بها فخًا محكمًا....فخًا من الخداع والدهاء، كي تُوقع به وتبعد الشكوك عن نفسها حين تقرر التخلص من يسر نهائيًا، فالأمر لم يعد فقط يتعلق بالتخلص من الجنين...بل من يسر نفسها! فذاك بات حلمًا جديدًا يطرق أبوابها، حلمًا شيطانيًا استقبلته بكل صدرٍ رحب وابتسامةٍ تنتمي لجحيم لا يُروى!!!

                                 ****
وصل نوح إليها بسرعة جنونية فوجدها جالسة في مكانها أمام منزل عائلته فوق مقعدٍ أسمنتي قديم تحت شجرة ضخمة تُلقي بظلالها عليها، بينما كانت تبكي في صمت تحني رأسها نحو الأسفل وكأن جبلاً من الهموم قد انكب على كتفيها الهزيلين، يثقل صدرها بأنفاسٍ مكسورة لا تكاد تُرى لكنها تؤلم مَن يراها!

أوقف سيارته على عجل ثم ترجل منها وركض نحوها بخطى مضطربة، وركع أمامها يلتقط تفاصيل وجهها بذعر وقلق يُدقق في كل إنش من جسدها كأنما يبحث عن جرح ظاهر يبرر هذا الحزن المنسكب بصمت، وهمس بحرقة ممزوجة بالقلق:

-مالك؟ حد عمل فيكي حاجة؟ اتكلمي...يا أما واقسم بالله ادخلهم اطربق البيت فوقهم.

نهضت ببطء تستقبل قلقه بابتسامة باهتة ومُحبطة، كأنها قد استسلمت لقسوة العالم ثم نظرت إليه بعينين مُمتلئتين بتعاطفٍ صادق، بعد أن شعرت بأنها بدأت تفهم شيئًا ولو بسيطًا مما عاناه خلال السنوات الماضية.

-أنا كويسة...متقلقش...بس صعبت عليا نفسي، و...وصعبت عليا العشرة.

كان وقع كلماتها على قلبه أشبه بصفعات غير متوقعة، فصرخ بها غيظًا بنبرةٍ تحمل خليطًا من الحنق والأسى:

-تهون العشرة يا يسر أنتي بتعيطي على ناس متستاهلش!!

قالها وهو يزفر بنفسٍ طويل نبرته باتت أكثر ظلمةً وحدةً، يشوبها حقد مكبوت كاد ينفجر، عضت شفتها بعتابٍ كأنها تحاول امتصاص غضبه وقالت بهدوءٍ منهك:

-لا متقولش كده هما أهلك بردو، واللي مالوش خير في أهله مالوش خير في حد.

رفع يده وضغط بها على رأسه كأنه يحاول كتم أفكاره الهائجة، وبدأ يتمتم بحدةٍ وصوتٍ مضغوط:

-انتي عايزة تجنينني؟ انتي أصلاً رايحلهم ليه؟ هو حد كان عبرك يا يسر؟ حد كان كلمك وانتي في بيت اهلك لما كنا واقفين على الطلاق؟! أو حتى لما لينا اتخطفت؟!

رمشت بأهدابها المُبتلة بالدموع وهمست بصوتٍ مخنوق، يشوبه الصدق ويغلفه الحزن:

-روحتلهم عشانك...انت السبب.

اتسعت عيناه بدهشةٍ ممزوجة باستنكار حاد، وردد خلفها بنبرة لا تخلو من الذهول:

-أنا السبب؟!

أجابته بنعومةٍ تنبع من إحساسها العميق بالذنب:

-ايوه، حسيت أنك بتعاني بسبب ذنب مالكش دعوة بيه، أهلك شايفين إن أنا السبب في البعد ما بينكم، روحت ابررلهم واقولهم....

لم يُمهلها لتكمل فصرخ بها بصوتٍ جهوري أفزعها، جعل جسدها يرتعش وتتراجع للخلف خطوةً، وقد بدا عليه مظهر الجنون غير مدرك أن صوته جذب انتباه بعض المارة من الجوار:

-تبرري إيه؟ انتي اتجننتي؟! انتي مالك أصلاً؟! بتتدخلي في حاجة زي دي ليه؟!، يعني أنا عشت حياتي كلها معاكي مابتنيلش ومابحكيش أي حاجة عشان محدش يقدر يدوسلك على طرف! وانتي رايحة بكل بساطة تكلمي ناس ما هتصدق تعلق غلطهم في حقي على شماعتك...اديتهم الفرصة يا يسر!! ليه؟ هو أنا كنت اشتكيتلك؟ 

لم تُجبه في بادئ الأمر بل انهمرت دموعها مجددًا، ثم اقتربت منه بخطى متعثرة متأثرة باضطرابها العاطفي وخوفها منه، وقالت بصوتٍ مبحوح:

-مش ضروري تشتكي، أنا لما حسيت إني مجرد طرف روحتلهم عشان ياخدوا بالهم إنهم فاهمين غلط، ويوقفوا جنبك ....وافوقهم...

قاطعها بصوتٍ عالٍ أكثر من ذي قبل وأنفاسه تتسارع بجنونٍ ينذر بانفجار:

-انتي كمان روحتي تشحتي منهم الاهتمام؟! ، ليه يا يسر؟ ليه ما في ستين داهية حتى لو مسألوش سنة؟!! ما أنا عايش حياتي كده إيه الجديد؟!

اقتربت منه تمسك بذراعيه بحنوٍ شديد، وقد ظنت أن لمستها الحانية ستهدئ من فورانه، وربما تمنحه قليلًا من السكينة التي يفتقر إليها وقالت بصوتٍ يغلفه الحنان:

-طيب بص، أنا ممكن أكون غلطت، عشان جيت من وراك، بس أنا اتصرفت كده بحكم العشرة وحكم...إن أنا زعلت من نفسي لما حسيت أنك بتعاني من حاجة أنا كنت فاكرة لما أروح اتكلم معاهم هيفهموني فيها، بس للأسف هما خيبوا ظني، وخلوني حزينة على سنين عمري اللي كنت فاكرة أنهم بيحبوني وبيقدروني فيها...أنا معرفش فين الغلط في علاقتك بأهلك أو حتى علاقتي بيهم يا نوح، بس اللي اعرفه إن والله عمري ما عصيتك عليهم زي ما قالولي ولا عمري كرهتك فيهم...

توقفت لحظات تستجمع قوتها، ودموعها تنهمر كالسيل من عينيها الكسيرتين، كأنها تساند روحها من ألم الصدمة:

-مكنتش متصورة أبدًا أنهم يكلموني بالاسلوب ده، ولا يكون كلامهم يكون كله اتهامات ليا، وهما عارفين إني معملتهاش واللي متأكدة منه إنهم عارفين كويس إيه سبب توتر العلاقة بيني وبينك!!! فجأة اخدوني في دور مرات الابن الحرباية اللي عايزة تبعد ابنهم عنهم، وإن أحسنلك ومن مصلحتك إنك تبعد عني! كلامهم كله اتهامات  غريبة وإهانات توجع....

أوقفها فجأة وملامحه تزداد شراسة، وعيناه تلتمعان بنظرةٍ غاضبة بينما صوته انخفض إلى هسيسٍ مرعبٍ يخفي خلفه بركانًا:

-إهانات!! حلو اوي كده، أنا مكنتش عايز غير اللحظة دي.

ثم التفت وانطلق نحو باب منزل عائلته بخطوات متسارعة، كأن شياطين الغضب تقوده فأثار ذلك قلقها الشديد، وركضت خلفه ممسكةً ببطنها، تحمي طفلها بداخلها:

-نوح استنى عشان خاطري...أنا كلمتك عشان نشوف حل وتفهمهم الصح، متتجننش يا نوح..نوح بقولك عشان خاطري انت كده هتثبتلهم إن كلامهم كله صح!!

لكن توسلاتها لم تجدِ نفعًا، فقد دخل المنزل وصاح بصوتٍ عالٍ هز أركان البيت، فارتجفت هي وتراجعت واقفةً عند أسفل الدرج خشية أن يزيد ظهورها الأمر سوءًا:

-يعني يسر هي السبب أنكوا متكلمنويش الا في مصلحتكم...يعني يسر هي السبب في عدم اهتمامكم بيا؟

ضحك منصور أخيه الأكبر ساخرًا وهو يوجه حديثه لوالدته:

-قومي يا حاجة شوفي ابنك الدكتور المحترم النوغة عايز اهتمام على كبر، مش قادر يلاقيه من مراته جاي يطلبه مننا!!

قالت والدته بنبرة باردة قاسية:

-اقعد ساكت...استحمل اخوك لما يكون متسخن بكلمتين، نعمل إيه؟ أدي الله وأدي حكمته!!

ثم تدخلت سهام أخته التي كانت جالسة إلى جوار والدته تبتسم بسخرية ممزوجة بعدم رضا:

-طول عمري بقول عليها مش سهلة وبتصطاد في المية العكرة، اقسم بالله أنا دلوقتي المفروض يتعمل لي تمثال شرف، الحربوووءة راحت وسخنت بكلمتين، جاية بسلامتها عاملة فيها مصلح اجتماعي وتكلمنا عشان نهتم بيك، وهي من ناحية تانية مبوظة علاقتك بينا وبتدسلك السم في العسل...تلاقيها هي اللي قعدت تزن على ودانك وتقولك محدش سأل على بنتك لما اتخطفت وجيت انت حضرتك تدينا على دماغنا بسببها!! لا وتلاقيها محروقة من الفلوس اللي بتديهلنا.

وقف نوح مذهولًا غير مصدق ما يسمعه، وأكثر ما آلمه هو صمت والدته الطويل قبل أن تنطق بجملةٍ كفيلة بإيذاء قلبه للأبد قالتها بنبرة متعالية وامتعاض ظاهر:

-وهي مالها بفلوس أخوكي ولا اللي بيعمله ليكي؟، ولو كانت فعلاً متضايقة من كده، فأخوكي قادر يقوفها عند حدها، وبعدين أخوكي راجل وبيعرف يوزن أموره ولا عمره يقطع حاجة كان بيديها لاخواته ولا لأمه...أخوكي بيخاف ربنا...وبيخاف من غضب الأم، مش صح يا نوح؟ انت مش هتسمع ليسر يا حبيبي؟!!

تجمد في مكانه ملامحه فقدت كل تعبير، إلا من القهر وكل خلية في جسده باتت تصرخ بالخذلان، خاصة حين استكملت والدته قولها بنبرة تقتلع الثقة من جذورها:

-وبعدين أنا زعلانة منك؟ جاي متسخن بكلمتين منها؟ من امتى وهي بتخاف عليك؟ دي على طول معيشاك في نكد وقرف، مش دي اللي انت كنت بتشتكيلي منها وتقولي مبتحسش بيا؟! ولا عمرها هونت عليا بكلمة؟ وكل اللي شاغل دماغها هتجوز عليها ولا لا!! يا وله ده انت ماشفتش معاها يوم حلو!!! كل حياتك معاها قرف ونكد ومشاكل، والله أنا فرحت من قلبي إنكوا هتطلقوا!!! طلقها أنت بس وأنا اجوزك ست ستها!

قهقه منصور بتهكم وقال بقسوة وحقد غريب:

-لا إزاي يطلقها ويخلصنا منها ميقدرش!! لازم يفضل تحت رجل بنت بارم ديله...يسر بنت فاضل!

وهنا انفجر نوح كأن صاعقًا كهربائيًا اخترق روحه، فاندفع نحو منصور يُسدد له اللكمات بوجهه، وهو يصرخ بنبرةٍ مجروحة...شرسة تُخرج كل ما بداخله من قهر:

-أنا مكرهتش في حياتي قدكم، بكرهكم...بكرهكم.

تعالت صرخات والدته وأخته وخرج باقي أفراد العائلة للفصل بينهما، فيما تجمدت يسر في مكانها، مذهولة...مرتجفة فاقدة القدرة على التصرف، ولم تفق إلا على صوت باب المنزل يُفتح بقوة، وخرج نوح كأنما فقد كل شيء ووالدته تصرخ خلفه:

-روح الهي النعيم اللي انت فيه يزول من وشك يا نوح يا ابن بطني....بتضرب اخوك الكبير يا ظالم يا مفتري، ان شاء الله هتفضل تايه في الدنيا كده لغاية ما تموت.

كان يتنفس بصعوبة وملامحه مكسوة بالذهول والألم، يجر قدميه نحو سيارته ثم استقلها وانطلق بها كالمجنون كأنما يبحث عن نهاية لكل هذا العذاب، لا يرى أمامه ولا يسمع نداء يسر خلفه، ولا يشعر إلا بالحاجة للهروب... الهروب من كل شيء.

أخرجت يسر هاتفها تستنجد بوالدها، ولكن قبل أن تفعل شعرت بضربات عنيفة تُوجه نحو ظهرها، فاستدارت تصرخ لتجد أخت نوح وزوجة أخيه وبعض نسوة العائلة يعتدين عليها بالضرب، والغل يتطاير من عيونهن، وهي تصرخ بجنون تحمي بطنها وتحاول الدفاع عن نفسها، وسط أصوات الغضب والشتائم:

-هموتك يا بنت فاضل...هموتك زي ما سخنتي اخونا علينا...

حاولت أن ترد أو تستعطفهن لكن الضربات كانت أوجع وأقسى من قدرتها على النطق، ثم سمعت زوجة منصور تقول بانتصارٍ غليظ:

-تستاهلي يا حرباية...خليتي جوزك يضرب جوزي.

وفي لحظةٍ من الألم والانهيار همست بصوتٍ خافت:

-هموووت...الحقوني، ابني.

ثم سقطت بين أيديهن فاقدة الوعي لا حول لها ولا قوة، جسدها بات مُلقى كضحية بريئة، تُنهشها أحقاد لا ترحم، ونفوس موبوءة بالكراهية، لم تجد في قلوبهم شفقة ولا تجد في عقولهم رجاحة تنهيهم عن تلك الجريمة!!
                              ****

مرت ساعات طويلة وهو لا يزال جالسًا في سيارته يحمل آلامه بصمت مطبق، لا يُسمع فيه سوى أنفاسه المتقطعة بين الفينة والأخرى، كانت عيناه شاردتين في الفراغ الممتد أمامه، لا يعي من العالم شيئًا وكأن الزمان توقف من حوله، ولم يبقَ في ذهنه سوى صوت دعوة والدته عليه تتردد في رأسه كضجيج لا يهدأ.

لمع بريق الدموع في عينيه بعد محاولات مريرة للصمود والكتمان، فالصمت المؤلم الناتج عن مرارة الخذلان لم يعُد يطاق، وهو الذي لطالما صبر  وتحمل فوق طاقته حتى أوشك على الانهيار في تلك اللحظة المؤلمة.

ولكي لا يسمح لنفسه بالبكاء علنًا ولا أن يفقد آخر ذرة من تماسكه التي ظل يتشبث بها حاول أن يُشغل نفسه بأي شيء، أي شيء مهما كان تافهًا...حتى لو كان اتصالاً بيزن ذلك المختفي منذ أيام، مد يده المرتجفة نحو هاتفه الذي أغلقه منذ لحظة هروبه، وضغط زر التشغيل راغبًا في التماس ما يعيد إليه القليل من الأمان أو الاتزان.

وما ساعد في تهدئة النيران المشتعلة في صدره، هو صوت يزن الذي أجابه فورًا بصوت ناعس يحمل بين طياته امتزاجًا من السخرية والضيق، وكأن نوح قد أيقظه من نومٍ ثقيل:

-يعني مفكرتش تسأل عليا وأنا مخطوف جاي تتصل وأنا بحاول اتنيل عليا وانام.

همس نوح بصوت متهدج يقطر منه الضغط النفسي:

-أنت فين؟

-في اسكندرية يا عم، ما انت ماتعرفش مش أنا اتخطفت أنا وسيرا...

بح صوته وهو يسأل بنبرة مكتومة، فلا تزال أنفاسه تعافر البكاء وتقاوم الانهيار:

-سيرا مين؟!

لقد نسي بالفعل مَن تكون كأن اسمها قد انُتزع من ذاكرته بفعل الصدمة، فصاح يزن بفوضوية وهو يعيد على مسامعه سرد بعض الأحداث السابقة والجديدة بما فيها خطفه مع سيرا وإصابة سليم، وسبب بقائه حتى الآن في الإسكندرية إلى جانب أخيه:

-وسليم عامل إيه دلوقتي؟

-الحمد لله بيتحسن، احتمال كبير نرجع القاهرة بكرة.

تمتم نوح بشرود وقد عاد إلى دوامة أفكاره المضطربة:

-على خير ان شاء الله.

ثم غاص مجددًا في صمته العميق ذلك الصمت الذي يعود ليغمره كالموج كلما حاول الإفلات،  فصدر منه أنفاس متقطعة وفي لحظة فقد السيطرة على نفسه، بعد كل تلك السنوات المزدحمة بالجفاء....لم يكن الجفاء أمرًا جديدًا عليه، لكنه هذه المرة جاء قاسيًا وموجعًا وكأنه خُتم على جبينه بوصمة عار لا تزول، بعد ما ذاقه   من أفراد عائلته المخزية!

-مالك يا نوح؟ انت كويس؟

صمت طويل يقطعه أحيانًا صوت أنفاسه المرتعشة...أنفاس تنبئ ببكاء مكتوم! ماذا؟! صاح يزن بصوت قلق مضطرب:

-نوح، في إيه يابني؟ انت كويس؟ مراتك كويس وبنتك؟ 

مسح نوح دموعه بعنف محاولًا استجماع صوته بنبرة طبيعية، لكنه فشل فخرج صوته مكسورًا وضعيفًا، يحمل ارتجافه ما بين الحزن والخذلان:

-كويسين....بس أنا مش....أنا اللي مش كويس.

-ليه؟ ما تنطق يا ابني؟ أنا أعصابي فلتت واقسم بالله! 

زفر زفرة ثقيلة وراح يضغط كفيه على وجهه، يحاول أن يمنع سيل الانهيار، ثم أخذ يُنظم أنفاسه كمَن يحاول تهدئة طفل صغير داخله:

-مفيش....النهاردة اتخانقت مع منصور أخويا الكبير وضربته، وأمي دعت عليا.

-اوبببببااااااااا

قالها يزن بصدمة وكأن وقع الأحداث المتتابعة فوق مسامعه قد أربكه، أما نوح فقد ابتسم ابتسامة حزينة تقطر منها الدموع كالشلال:

-مكنتش متصور أبدًا إنها تدعي عليا في يوم من الأيام، بعد....بعد كل اللي عملته، أنا....

قاطعه يزن بصوت هادئ رغم الهزة النفسية التي اجتاحته بسبب ما يمر به صديقه:

-اهدى يا نوح، أكيد ماتقصدش يابني، أنت في الأخر ابنها يعني، وبعدين ممكن تكون لحظة شيطان.

همس بانكسار وهو يضغط على أنفه بأصابعه في محاولة فاشلة لكبح شجنه:

-لا مكنتش لحظة شيطان، كنت دايما بشوفها في عينها لما كنت برفض أي حاجة حتى لو صغيرة هي قالتها وعشان كنت خايف من اللحظة دي كنت بوافق على أي حاجة حتى لو ضد رغبتي، بس دلوقتي قالتها ومفكرتش لحظة فيا...دعت عليا أفضل تايه في الدنيا...

ثم صمت لوهلة قبل أن يضرب المقود ضربات ضعيفة وصوته يغلفه الانكسار والعتاب يتسرب من بين دموعه:

-طيب ليه ما أنا تايه أصلاً ومش مرتاح، اللي مش فاهمه هي هتكون مرتاحة وأنا متعذب في الدنيا؟!

-يا ابني طيب اهدى كده واحكيلي إيه حصل؟

انكمش وجهه ورد بنبرة مكتومة تختلط فيها مشاعر الغضب بالحزن:

-مش فاكر...مفيش حاجة واجعني غير إنها دعت عليا، عارف أنا حاسس إن روحي لسه واقفة هناك وهي بتدعي عليا بكل جبروت.

-معلش يا نوح اصبر في الآخر هي أمك، محدش في ايده يغير أهله يا صاحبي.

قالها يزن بهدوءٍ ورزانة ولم يعلم أن كلماتُه دفعت نوح لإغماض عينيه بألم، فردد بخفوت كمَن يحاول تهدئة وحش ينهش صدره:

-صح مفيش حد في ايده يغير أمه....بس في إيدي أني ابعد...أنا تعبت.

وبينما كان يستمع لصوت همهمة يزن من الجهة الأخرى انتبه فجأة إلى اهتزاز هاتفه، يُنذر بوجود اتصال وارد عبر خاصية الانتظار، فانكمش وجهه بقلق وقال بسرعة:

-استنى يا يزن، عم فاضل عمال يتصال كتير، استنى اشوف إيه؟

-تمام لما تفضى ارجع كلمني، وأنا أول ما هرجع هجيلك.

أغلق نوح الاتصال وهو يتنهد بعمق ثم أجاب على اتصال والد يسر، ليفاجأ بصوته الغاضب يصك أذنه بحدة:

-تعالى حالاً على مستشفى ****.

انقبض قلبه وأردف بتردد ممزوج بالخوف:

-ليه؟ في إيه؟

-أخواتك يا باشا ضربوا يسر وسابوها مرمية في الشارع وهربوا، تعالى يا نوح عشان أنا واقسم بالله اللي شايلني عنهم هو أنت، وحق بنتي وربي وما أعبد لهجيبه.

تغلغلت الصدمة إلى كل أطراف جسده، فاهتز كيانه حتى إن صوته خرج مبعثرًا كمَن يتعلم الكلام لأول مرة:

-يسر....يسر فين؟ جرالها إيه؟

صرخ فاضل بصوت غاضب، تقطر نبراته بالحنق:

-قولتلك تعالى فورًا.

ثم أغلق الاتصال تاركًا نوح يواجه صدمة جديدة تُضاف إلى ركام آلامه المتزايدة، لم يعد الجفاء مجرد شعور بل صار واقعًا ماثلًا أمامه، قسوة تتجلى في أفعالهم لا في الكلمات وحدها، فها هم قد اعتدوا على زوجته الحامل، تلك المسكينة التي لا حول لها ولا قوة والتي لم ترتكب ذنبًا سوى أنها زوجته، في حين يعرفون تمام المعرفة أن كل اتهاماتهم ضدها باطلة!!!

                               *****
في إحدى المستشفيات الخاصة كانت يسر ممددة فوق الفراش الطبي بجسدٍ منهك، تحيط بها الأجهزة الطبية التي تتابع نبض جنينها، فيما تنغرز إبرة في يدها اليسرى موصولة بالمحاليل العلاجية التي تُغذي جسدها بأدوية مثبتة في محاولة للحفاظ على سلامة الجنين، ذاك الصغير الذي قاوم بشجاعة، متشبثًا برحم والدته رغم ما لاقته من عنفٍ وقسوة كادت تودي بحياتها، بعدما فقدت الوعي من شدة الخوف والضربات المتوالية التي نالت منها دون رحمة.

ما أنقذها من مصيرٍ محتوم هو صراخ بعض الجيران والأهالي وتدخل المارة الذين سارعوا إلى حملها في إحدى السيارات ونقلها إلى المشفى، وقد استردت وعيها للحظات شعرت خلالها بالأيادي التي تتلقفها ثم ما لبثت أن استسلمت مجددًا لدوامة الإغماء.

تنهدت يسر بعمقٍ وهي تستعيد تلك اللحظة المجنونة التي دفعتها لزيارة عائلة نوح رغبةً منها في إنهاء سوء الفهم، وهو القرار الذي أجلته لأيام طويلة خاصة بعد المواجهة الحادة التي وقعت بين نوح وأخيه أمام عينيها!

                              ★★

جلست أمام والدة نوح كالغريبة تحدق في الوجوه التي كانت يومًا تبث فيها الألفة، فإذا بها الآن تكتشف ملامح غريبة تنطق بالكراهية، ذلك الإحساس الثقيل الذي لم تعهده منهم طوال فترة زواجها... لم يظهر إلا في تلك الآونة التي باتت فيها العلاقة بينها وبين نوح مهددة بالانفصال!

قطعت "سهام" أخت نوح حالة الصمت الثقيل بابتسامةٍ باهتة امتزجت بنبرةٍ ظاهرها الود وباطنها السخرية:

-وانتي عاملة إيه يا يسر؟ وأخبار لينا إيه؟ صحيح واخدة بالك منها كده؟ وليه مجبتيهاش معاكي يا حبيبتي كان نفسنا نشوفها!

حمحمت يسر برزانةٍ رغم ما شعرت به من الإهانة المبطنة وقالت بهدوء:

-متخافيش واخدة بالي منها، ومجبتهاش عشان كنت عايزاكي يا طنط لو سمحتي!

خرج صوت والدة نوح برتابةٍ غير مبالية:

-خير يا حبيبتي، اتفضلي؟

فتحت يسر فمها لتبدأ حديثها لكنها فوجئت بوالدة نوح تستطرد بجفاءٍ واضح:

-لو جاية عايزاني اتوسط ما بينك وبين نوح، أنا ماليش دعوة لامؤاخذة، أنا ياما حاولت أبررلك تصرفاتك معاه واهديه من ناحيتك، بس أنتي بقى راكبة دماغك وسايقة العوج عليه، فأنا حلفت مش هتدخل أبدًا، واللي في الخير يعمله ربنا بقى.

ردت يسر سريعًا:

-لا أنا مكنتش جاية عشان كده، مشاكلي أنا ونوح نقدر نحلها كويس من غير ما حد يتدخل ما بينا، بس أنا جاية عشان أحل سوء التفاهم اللي واصلكم من ناحيتي.

بدت ملامح سهام منقبضة ورددت بتهكم لا يخلو من الحدة:

-سوء تفاهم إيه يا حبيبتي؟ خير ان شاء الله أصل دخلتك علينا مش مرتاحلها!!

-والله ولا أنا!!

قالتها والدة نوح بعدم رضا في حين لاحظت يسر ابتسامات السخرية على وجوه زوجات أخوة نوح، واللاتي جلسن في صمتٍ متشفٍ فنهضت وهي تحاول ضبط أعصابها، وقالت بنبرةٍ ضيقة:

-كنت جاية أقولك إني مش السبب في بعد نوح عنك ولا حتى زعله منك وقت ما لينا اتخطفت، وأنا ماليش دعوة بأي حاجة، وابنك زعلان منك عشان انتوا مهملين فيه وفي اللي يخصه، ففكرت بعشم للأسف إن لما أجي اتكلم معاكي يا طنط تفهميني وتاخدي بالك من نوح.

ضحكت سهام بتهكم وانطلقت من ثغرها كلمات كأنها نيران:

-تاخد بالها من إيه يا حبيبتي؟ هو عيل صغير ولا إيه؟ وبعدين طالما انتي شاطرة كده محافظتيش ليه على بيتك وجوزك!! جاية تتشطري علينا بالكلام وأنتي كلك عيوب!! أما عجايب بصحيح!

خرجت نبرات يسر فجأة بحدةٍ غير متوقعة:

-ابعدي مشاكلي مع نوح عن اللي بقوله!! أنا اللي يهمني إني....

لكنها لم تكمل إذ قاطعها أخو نوح الأكبر "منصور" وهو يخرج من إحدى الغرف والغضب يتطاير من عينيه:

-يهمك إنك تلعبي دور الملاك، وانتي أصلا شيطانة وبتدسي السم في العسل في دماغ أخويا اللي للأسف مش شايف غيرك!

نظرت إليه يسر بدهشةٍ واستنكار:

-أنا شيطانة؟

هز رأسه بتأكيد قاطع وهتف بغل:

-ايوه انتي! من أول لحظة شافك فيها وهو مش عاجبه حياته ودنيته وبينحت في الصخر عشان يعرف يناسب أبوكي، أخدتيه واتجوزتي في شقة بعيدة عننا عشان تكوني مستقلة وتنهبي زي ما انتي عايزة من ماله، شايفة نفسك علينا ومبتجيش الا زيارات تتعد على الصوابع، جاية تعملي دلوقتي نفسك واحدة مننا وبتنصحينا نقرب منه، لا وفري نصايحك لنفسك، وعالله تهدي! احنا بعدنا عنه خلاص ومحدش عايز منه حاجة.

ارتسمت على وجهها علامات الحيرة والألم وقالت بنبرةٍ مهتزة:

-إيه اللي انت بتقوله ده يا منصور؟ أنا مش كده، أنا مش وحشة كده، أنا حياتي مع نوح كانت في وادي تاني غير اللي انتوا متصورينه!!

ضحك منصور بسخريةٍ حارقة:

-يا سلام!!  ومين اتصل عليه يعيط له إن ابوها تعبان وفي المستشفى يروح يلحقها، عشان عرفتي إني عايزه يشاركني في مشروعي.

فكرت قليلاً وبدأت تستعيد ذلك الموقف البعيد منذ عامين حين اتصلت بنوح بسبب تعب والدها، لكنها لم تعلم إطلاقًا عن مشروعٍ أو شراكة!

-إيه الكلام ده؟ أنا أول مرة أسمعه، أنا معرفش والله إنك كنت عايزه يشاركك في مشروعك! وبعدين ما يشاركك وأنا مالي!!

-لا كدابة عشان بعد ما راحلك بعدها بيوم رفض واعتذرلي! سهام الوحيدة اللي فاهمكي صح؟ نوح طول عمره كان تحت رجل أمي ومبيرفضش طلب لحد فينا، أول ما جيتي انتي ...وهو اتغير وبقى بعيد عننا خالص. 

استدارت يسر إلى والدة نوح تستنجد بها:

-طنط انتي سامعة منصور بيقول إيه؟! معقول أنا هعصي نوح عليكم! طنط انتي عارفة أنا ونوح أصلاً علاقتنا ازاي؟ وإيه اللي بنمر بيه!

وضعت الأم يدًا فوق الأخرى وردت ببرودٍ وقسوة:

-والله اللي اعرفه إن ابني فجأة اتغير عليا وعلى اخواته وكل شوية يعاتب ويزعل ويدقق لاخواته على أبسط الحاجات، أنا مستغرباه الصراحة عشان كده فهمت إن في حاجة غيرته من ناحيتنا، أصل يا يسر أنا مجربة إن الزن على الودان أمر من السحر يا حبيبتي!! 

                          ★★

استفاقت يسر على صوت جلبة بالخارج، وعلمت أن نوح قد وصل بالفعل، لم تمر سوى ثوانٍ حتى دخل الغرفة بلهفة ووجهه يروي حكاية ألمٍ مكتوم وصمتٍ مرير.

اقترب منها خطوة وقد امتزج الأسى بدموعه المحبوسة، فما كان منها إلا أن رفعت يدها إليه تدعوه بصمتٍ مشحون بالحب، وكأنها تفتح له ملاذًا آمنًا من قسوة عائلته، فلبى دعوتها كطفلٍ يتيمٍ وجد أخيرًا دفء الحنان بعد بردٍ طويل، وجثا بجذعه فوقها يحتضنها دافنًا وجهه في عنقها، تاركًا لدموعه أن تحرق وجنتيه ووجنتيها معًا.

ربتت على ظهره برفقٍ بالغ وهمست بطمأنينة:

-متقلقش أنا كويسة، والبيبي الحمد لله كويس رغم العلقة اللي أخدتها.

ابتعد عنها قليلًا ونظراته تومض بألمٍ مختلط بلمحة انتقام:

-مش هسيب حقك، وإن كنت بفرط في حقي دايمًا، حقك انتي عمري ما هفرط فيه، وديني وما أعبد لاندمهم على اللحظة اللي فكروا يعملوا فيكي كده.

هزت رأسها برفضٍ قاطع:

-لا...بلاش أنا الحمد لله خرجت منها سليمة، الله اعلم ممكن توصل لإيه المرة اللي جاية، مش عايزة أكون سبب في مشاكلك مع أهلك، أنا حاولت أصلح واتفهمت غلط.

هتف بشراسة من بين أسنانه:

-لا...ده مش حقك لوحدك، ده حقي أنا كمان.

تنهدت بثقل وهي تعترف بخطأها:

-أنا كمان غلطت يا نوح لما روحت ومكنش المفروض اتدخل ما بينكم هما في النهاية أهلك وأي حاجة من ناحيتي هتبقى تقيلة وليها حساب.

-يبقى كانوا يفكروا ألف مرة قبل ما يعملوا فيكي كده يا يسر، انتي مراتي واللي يضرك يضرني، قبل ما يفكروا يطلعوا غلهم فيكي، كانوا المفروض يعملوا ألف حساب ليا، وأنا لو اتهاونت معاهم قبل كده، اللحظة اللي فكروا يمدوا إيدهم عليكي، هتعرفهم إن سكوتي كان أرحملهم مليون مرة من اللي هيشوفوه مني...

أما في الخارج...

فكانت زوجة فاضل تحاول تهدئته، وهي تقول بحنق:

-ما خلاص يا فاضل، انت مش شايف الواد جاي هيموت من الخوف عليها ازاي، أنا متأكدة إن نوح هياخد موقف معاهم.

استنكر قولها بعصبية: 

-موقف؟! دول المفروض يتسجنوا على اللي عملوه في بنتي.

-طيب اهدى بس واستغفر ربنا، ولو جوزها مجابش حقها، هنجيب حقها متقلقش... بس سيب جوزها يتصرف الاول يا فاضل، العقل بيقول كده.

رمقها بعدم رضا ثم تمتم بضيق:

-بنتك دي دماغة ناشفة ومبتسمعش الكلام، قولنا متدخلش ومالهاش دعوة ركبت دماغها، اهو كده حلو ليها يعني!

-عرفت غلطها يا ابو يسر خلاص، استهدى بالله بقى، واستنى نشوف نوح هيعمل إيه؟

                              ****
مر يومان على هذه الأحداث المؤلمة، وبدأ سليم يتعافى تدريجيًا بعد عودته إلى القاهرة، أما منال فقد استقبلت خبر إصابته في صدمةٍ كبيرة، بعدما اضطرت مليكة للكذب عليها وأخبرتها أنه خرج في نزهة قصيرة مع شمس، أما يزن فقد أخبرتها أنه اختفى في خضم سفره لأداء مهام تتعلق بعمله، لم تصدق منال الأمر كليًا لكنها كعادتها آثرت الصمت وواصلت العناية بأطفال سليم في هدوء.

بينما عادت سيرا أخيرًا إلى عائلتها التي أغدقت عليها حبًا واهتمامًا مضاعفًا، وخاصة فاطمة صديقتها المقربة التي ظلت بجوارها تراعاها طوال اليومين ترفض تركها....حتى أطفال إخوتها تجنبوا تناول الجبن الرومي المفضل لديها، كنوع من التدليل الطفولي الرقيق، ورغم أنها روت لوالدها تفاصيل ما حدث أثناء اختطافها، إلا أنها لم تلحظ أي غضب منه تجاه يزن، وكأن تأثيره الطاغي قد سيطر حتى على والدها، تمامًا كما فعل مع باقي أخواتها.

أما يسر فكانت لا تزال تتلقى العلاج في المستشفى تحت رقابة طبية دقيقة، بسبب حالة الجنين غير المستقرة فيما ظل نوح بجوارها دون أن يغمض له جفن طوال اليومين السابقين...

                             ****

أوقف يزن سيارته في المكان الذي أخبرته سيرا بالذهاب إليه في رسالة قصيرة، ورغم أنها لم تحادثه طوال اليومين السابقين إلا مرتين فقط للاطمئنان على حالة سليم، ثم تغلق في وجهه بسلاسة تستفزه وتتركه حائرًا بين رغبته في الاقتراب منها وغضبه المكتوم منها...إلا أن اتصالها المفاجئ اليوم، ونبرة صوتها المضطربة التي تسللت إلى أذنيه كرجفة برد في قلب صيف حارق، جعلت القلق يتسلل إلى صدره دون استئذان.

كانت نبضاته تتسارع على غير العادة، كأن قلبه يعلم أن ما هو مقبل عليه لن يكون عاديًا، وقد تأكد حدسه عندما رآها من خلف الزجاج الجانبي تقف إلى جوار فاطمة صديقتها المقربة، ووجهها باهت كأنه فقد لونه، بينما كانت فاطمة هي الأخرى في حالة ارتباك، تلوح بكفيها بتوتر واضح وكأنها عاجزة عن احتوائها.

أغلق باب سيارته سريعًا وتوجه نحوها بخطوات ثقيلة، كلما اقترب خطوة زاد القلق في قلبه كأنه يوشك على رؤية شيء ينهار أمامه.

اقترب منها وهو يحدق بوجهها الباكي، كانت ملامحها غارقة في الذهول وعيناها حمراوان من شدة البكاء، قال بقلق وهو يشعر بأن قلبه بدأ يدق بعنف لا يهدأ:

-مالك يا سيرا في إيه؟

رفعت وجهها إليه بتثاقل، ودموعها كانت ما تزال ساخنة، تنحدر بصمت يائس كأنها تنزف وجعًا لا يُحتمل، ثم نطقت بصوت مرتعش...ضعيف، خافت كأنها تخجل من قول ما بداخلها:

-أنا في مصيبة يا يزن....مصيبة.

عبارتهـا ضربت صدره كصفعة عنيفة، أنذرت بأن ما ستقوله قد يكون أفظع مما يتخيله، فاستدار بسرعة نحو فاطمة التي كانت تتجنب النظر إليه، وتضرب الأرض بطرف قدمها بتوتر واضح، وجهها شاحب ويداها متشابكتان أمام صدرها، فأعاد نظره إليها وكرر هذه المرة بنبرة أكثر خشونة وتحفز:

-مصيبة إيه؟ في إيه؟

بدأت سيرا تفرك أصابعها ببعضها البعض بعصبية شديدة كأنها تحاول تهدئة عاصفة من التوتر تسكن داخلها، ثم خفضت بصرها إلى الأرض وقالت بصوت مخنوق بالألم والذعر:

-النهاردة الصبح في رقم... بعتلي... صو....صور ليا وطلب مني...طلب مني لو مجتلوش في عنوان بعته ليا، هيبعت صوري لأهلي وهينزلها على النت.

أحس وكأن شيئًا ثقيلًا ارتطم بصدره بعنف، للحظة لم يستوعب تمامًا ما قيل، فبات حائرًا بين ذهوله وغضبه وبين محاولاته لربط الأمور، انعقد حاجباه بدهشة وقلق، وهو يسأل بسرعة وقد بدأ صوته يفقد هدوءه:

-صور؟ صور إيه؟

سكتت وسكوتها كان مرعبًا، أقسى من أي اعتراف، وكأنها تسقط في بئرٍ لا قرار له، وتمد يديها لتستنجد دون أن تجد من ينتشلها.

ولأن يزن لم يكن أبدًا غبيًا أدرك من ارتباكها أن الأمر يتجاوز التهديد العادي....تلك الصور بها شيء...خاص.

اقترب منها أكثر وقد ارتسمت على وجهه ملامح الجدية الصادمة، ونبرة صوته هذه المرة كانت أقرب إلى نذير خطر:

-فين الصور دي؟

لم تحتمل السؤال فانفجرت باكية، وراحت تهز رأسها بقوة كأنها تحاول أن تهرب منه ومن نظراته، ومن كل شيء حولها:

-لا لا مينفعش تشوفها....مينفعش.

مد يده وأمسك برسغها وقربها إليه بشدة، وصوته كان يحمل صلابة وجمودًا مخيفًا، لم تره بها من قبل:

-ليه هي الصور دي حقيقية؟

نظرت إليه بعينين غارقتين في الخوف، كانت تعرف أن هذه اللحظة هي الفاصلة، لا شيء بعدها سيعود كما كان، لا هي، ولا هو، ولا نظراته إليها.

 ارتعشت وكل ما استطاعت فعله أن تهز رأسها بالإيجاب ببطء قاتل، وهمست بخفوت كأن اعترافها سيفك عِقدًا يخنق روحها:

-ايوه.

في تلك اللحظة توقف كل شيء من حول يزن، أصوات السيارات تلاشت، المارة لم يعودوا موجودين ووقف الزمن عند تلك الكلمة الصغيرة التي خرجت من شفتيها كحكم بالإعدام
ارتجفت سيرا عدة رجفات متواصلة وهي جالسة بضعف فوق أريكة جلدية ضخمة موجودة في معرضه، بينما كانت فاطمة تجلس بجانبها في وضع اتهام مباشر، تقضم أظافرها بتوتر وتهز ساقيها بوتيرة سريعة، وأنظارها مصوبة نحو يزن، الذي كان على وشك أن يفقد أعصابه ويثور عليهما بثورة غاضبة ليُخرجهما من حالة الصمت التي تلبستهما منذ أن أخبراه عن تلك الصور!!

وكعادته عندما يصيبه التوتر أو الغضب الشديد، يشد خصلات شعره المسكينة للخلف، ثم قرر كسر حالة الصمت بقوله الحاد:

-لا أنا جبت أخري، انتوا بتختبروا صبري ولا إيه!!

صمت لثانية وهو ينظر إليهما في حالة اتهام وحنق:

-قولتولي مش عايزين نتكلم في الشارع، جبتكم هنا ومشيت العمال أعمل إيه تاني عشان تتكرموا وتقولولي إيه حكاية الصور دي!!

رفعت سيرا وجهها الباكي وهي تنظر إليه بانكسار، وبحة صوتها المجروحة تتراقص في الأجواء:

-ما قولتلك يا يزن صور ليا!!

انتفض فجأة واختصر المسافة بينهما، ومال بجسده للأمام نحوها فبدا قريب جدًا منها، وما منعه عنها كانت تلك الطاولة الصغيرة المتوسطة، التي كانت موضوعًا عليها مشروب غازي مقدم لها ولـفاطمة، لعله يساعد في تهدئتهما.

-بقولك إيه ما تتجنيش، أنا عمري ما اتوترت كده زي ما أنا متوتر، أنا سألتك صور حقيقية قولتيلي اه، يعني انتي متصورة صور مش كويسة؟!

سألها مستنكرًا بصيحة عالية، ووجهه بدا خاليًا من أي لمحة لطف أو هدوء، فانكمشت فاطمة في زاوية بالأريكة وهي تقول بترقب خافت:

-الله يخربيتك يا سيرا، ده طلع مجنون!

نظرت إليها سيرا نظرة شرسة وهي متراجعة للخلف بسبب قرب المسافة بينهما، ولوهلة شعرت منه بالخوف وعدم الأمان عندما رأت ألسنة نيران متصاعدة تشبه نيران الغيرة الحارقة في عينيه.

فحاولت التحدث بهدوء رغم أن ملامحها كانت عابسة، والدموع تهبط فوق خديها بغزارة:

-يزن لو سمحت اهدى شوية، أنا خايفة منك! 

عاد يستقيم بجسده وهو يفرك وجهه عدة مرات، ثم خرجت نبرته عالية قاسية أفزعتهما:

-ما توريني الصور دي اخلصي بقى.

تحدثت فاطمة خلفه مباشرةً وهي تلكز سيرا في ذراعها بضيق متمتمة:

-ما توريه الصور أنا حاسة هيقوم يدور فينا الضرب.

انتفضت سيرا بغضب وخجل وهي تقول:

-لا على جثتي يشوفها.

التفت إليها يزن وهو ينظر إليها باستنكار، فعادت لبكائها وهي تردد بصوت منكسر بينما وجهها انتكس للأسفل:

-ماتحرجنيش بجد، أنا هتكسف اوريهالك.

-خلاص وريهالي انتي يا فاطمة.

قالها يزن بنفاد صبر، فسارعت بإمساك يد فاطمة وهي تقول برجاء حقيقي:

-عشان خاطري لا....والله أنا هتكسف، أنا أصلاً معرفش إيه خلاني اتصل استنجد بيك.

وعادت مرة ثانية لبكائها ولكن تلك المرة كانت أشبه بانهيار تام، فزم شفتيه بضيق وعاد لنفس حركته المعتادة ولكن بتوتر أكبر، ثم فجأة طرأت عليه فكرة فقرر تنفيذها، فقال بصوت رخيم:

-لو سمحتي يا فاطمة ممكن تسيبنا لوحدنا شوية.

هبت فاطمة واقفة بحبور شديد وهي تردد:

-اه وماله، اوي اوي.

أوقفتها سيرا بقلق، فوجودها تستمد منه القوة، لذا ربت فاطمة فوق يدها وهي تنظر إليها بابتسامة صافية، تبث فيها طمأنينة صافية وهي تمازح خدي سيرا بلطف وخفوت:

-متخافيش أنا جنبك بس هقعد برة، هاخد لفة في العربيات اللي برة دي.
                             ****

خرجت فاطمة وأغلقت الباب خلفها، اقترب من سيرا وجلس مكان فاطمة بالقرب منها، فشعرت به وتلقائيًا ابتعدت عنه بمسافة أفسحت لها مجالًا للتنفس، في ظل هيمنته على الأجواء بحضوره الطاغي، رغم أنه لم يكن في أفضل حالاته!

وكاد يتحدث إلا أنه وجد فاطمة تقف على بعد مسافة من الغرفة، تضع مجلة ورقية عن السيارات أمام وجهها، تتظاهر بقراءتها بينما كانت تتلصص عليهما من خلال الواجهة الزجاجية الكبيرة الموجودة بالغرفة، والتي تطل على المعرض من الخارج، فأشار إليها يزن بأصبعه كي تتحرك وتلهو في المكان، فاصطنع إمساكه بمقود سيارة كي يصيبها الحماس وتستقل إحدى السيارات وتبتعد بأنظارها عنهما.

وبالفعل استجابت فاطمة عندما وجدت تذمره يزداد، وعاد هو بأنظاره إلى سيرا يسألها بهدوء أربكها:

-الموضوع ده بجد؟

رفعت أنظارها باستهجان قاسٍ وهي تقول بعتاب:

-امال هضحك عليك؟ 

-تمام حلو اوي كده ده اللي عايز اوصل له، وانتي اتصلتي عشان تلاقي عندي حل صح؟

هزت رأسها بتأكيد دون أن تتحدث بلفظ آخر، فقال بنبرة رخيمة ذات ثقل ونظراته تكاد تخترق عمق عينيها الداكنتين:

-طيب أنا هلاقي الحل ده ازاي، طالما أنا مشوفتش المسدجات اللي جتلك ولا الصور، هحكم على الموضوع ازاي؟!

أجابت بخجل صادق وهي تفرك أصابعها بتوتر:

-تثق فيا زي ما أنا وثقت فيك، أنا هوريك كل حاجة ما عدا الصور يا يزن، أنا مكسوفة بجد، أنا أصلاً محرجة من فكرة إن في واحد تاني شافني بشعري أو بجسمي....

قبض على ذراعها بقوة وهو يشدد بلا وعي عليه، متسائلًا بخفوت قاسٍ:

-يعني إيه جسمك؟! متسبنيش لخيالي عشان وربي أنا على تكة ومش هقدر اسيطر على نفسي.

-الصور دي أنا كنت متصوراه في البيت عادي بلبس البيت...مش حاجة قليلة الادب والله، بس عادي لما كنت بجيب حاجة جديدة كنت بلبسها وبتصور بيها...يعني....

صمتت ثواني تستجمع هدوئها وتسيطر على انفعالاتها فترك ذراعها لتكمل حديثها بأريحية دون خوف أو تردد:

-يعني لو جبت بلوزة أو فستان ينفع البسهم في البيت كنت بتصور بيهم عادي، معرفش الصور دي ازاي اتاخدت.

وضع يده فوق فمه يستنجد بالصمت لثوانٍ، لعله يدرك ما حدث، ثم عاد يسألها بهدوء لكنه كان هدوءًا مقتضبًا:

-طيب يا سيرا، أنتي في حد هكر تليفونك أو فتحتي لينك اتبعتلك مثلاً؟!

هزت رأسها نافية وقالت بحيرة:

-لا أنا واخدة بالي كويس اوي من حوار اللينكات دا، ومفيش حد بيمسك تليفوني خالص.

تنهد بعمق وهو يعاود سؤالها بنبرة يملؤها الحنق الطفيف:

-طيب هاتي العنوان اللي اتبعتلك عشان تروحيه وأنا هتصرف وهروح أشوف مين هناك؟

أومأت له بإيجاب، وأخرجت هاتفها بأصابع مرتجفة تبحث عن تلك الرسالة، وما إن وجدتها حتى أعطته الهاتف فقام يزن بتدوين العنوان وهو ينهض متوجهًا نحو مكتبه دون أن يخبرها عن وجهته، فتحركت خلفه:

-يزن أنت رايح فين؟

-رايح اشوف إيه الحوار! ومين هناك في العنوان ده!

ابتلعت لعابها بتوتر ممزوج بالخوف عليه وسألته:

-هتروح لوحدك؟!

-اه هروح لوحدي طبعًا، امال هطلع معايا رحلة!

عبست بوجهها وقالت بتذمر:

-ماتتريقش عليا لو سمحت، أنا أعصابي تعبانة لوحدي ومش ناقصة.

-حاضر متزعليش، يلا عشان اوصلك أنتي وصاحبتك.

شعرت بالغضب الشديد بسبب معاملته لها وكأنها طفلة صغيرة يريد إسكاتها، فتحركت خلفه وهي تشير لفاطمة بالخروج من إحدى السيارات، فتساءلت فاطمة بفضول:

-هو خارج بسرعة ليه في إيه؟

توقفت سيرا لحظة وتمتمت بضيق:

-تقريبًا هيروح العنوان اللي اتبعت لي!

ردت فاطمة بتفكير وقلق:

-هيروح لوحده؟!، طيب ما يبلغ البوليس أو مثلا أخوه الظابط.

-انتي عايزة تفضحيني يا فاطمة؟! أنا سمعت كلامك ولجأت ليزن عشان لما فكرت لقيته إنه ممكن يخلصني من الموضوع ده من غير شوشرة وكلام يتنقل هنا وهناك.

قالتها بضيق وهي تخرج من المعرض بأكمله، فتوقفت فاطمة للحظة تثرثر كعادتها بحماقة:

-بس عارفة؟ أنا حاسة إن غيرته وحمقته عليكي مش طبيعية.

تنهدت سيرا بنفاد صبر وضيق:

-يلا يا فاطمة، انتي في إيه وأنا في إيه!!!!

دخلا السيارة معًا فجلست سيرا في الأمام، بينما جلست فاطمة بالخلف في المنتصف لتكون قريبة منهما، انطلق يزن فجأة بسرعة تخالف ما كانت تتخيله فاطمة، فعادت للخلف بجسدها وهي تصرخ بخوف:

-يالهوووووي، إيه الجنان ده يا كابتن.

تجاهلها يزن وكان اهتمامه بالكامل منصبًا على سيرا التي كانت شاردة تنظر للخارج، فقال إليها بتذمر:

-لا حاولي تمسكي نفسك عشان محدش من اهلك ياخد باله من حاجة...

أكدت فاطمة برأسها وهي تقول:

-اه يا سيرا عشان خاطري وخصوصًا ابلة حكمت لو عرفت اعتبري العيلة والجيران والمناطق المجاورة كلها عرفت، وهتتهمنا واحد واحد، وتمسك تليفوناتنا تفتش فيها ويا سلام لو لقت صورة منهم موجودة، هتدخلنا في سيم وجيم.

توقف يزن بسيارته فجأة، فارتدت فاطمة وسيرا معًا بخوف، بينما هو اعتدل بجسده ليسأل سيرا باهتمام:

-انتي كنتي بتبعتي الصور دي لحد من اخواتك مثلاً؟

هزت سيرا رأسها نافية وقالت باهتمام مماثل:

-ماببعتش أي صور غير لفاطمة عشان لو تليفوني باظ الاقي عندها الصور اللي عايزاها.

توجه يزن بأنظاره نحو فاطمة التي كانت تهز رأسها خلف صديقتها تؤكد على حديثها بحماس:

-ايوه فعلاً وأنا ببعتلها كل الصور والفيديوهات بتاعتي.

أربكها صمت يزن، ونظراته الغامضة جعلتها بلهاء أمامه، فقالت بحيرة:

-في إيه؟ مالك سهمت كده ليه؟

ظلت تنتقل بنظراتها بين سيرا وبينه، حتى أدركت سيرا مغزى صمته، فقالت بهدوء وتنهيدة عميقة:

-يزن بصلي، فاطمة عمرها ما هتأذيني دي صاحبة عمري واختي وجارتي.

وفجأة، حالة الانهيار التي كانت لدى سيرا انتقلت إلى فاطمة، التي قالت بصياح باكي:

-لا أنت بتتهمني بإيه؟ أنا هأأذي سيرا، تصدق أنا غلطانة إني قولتلها نلجألك.

تنهد يزن بقوة وهو يقول بصوت رزين:

-اسكتوا إنتوا الاتنين، أنا ماقلتش إنها أذتك ولا نطقتها، بس وارد جدًا حد مسك تليفونها وأخد صورك منه.

ازدادت ضربات قلب سيرا، فتساءلت بترقب وحيرة:

-وليه فكرت في كده؟

-شوفي الأول الصور اللي مبعوتالك دي، متصورة إمتى؟ وبعتيها لفاطمة كلها؟ ولا في صورة مثلاً منهم مابعتيهاش؟

أخرجت فاطمة هاتفها فورًا وأعطته لسيرا، التي قامت بالتأكد مما قاله يزن، ثم قالت بعدم فهم:

-الصور اللي مبعوتالي كلها موجودة عند فاطمة، وآخر صور بعتهالك كمان.

-يبقى الصور دي متاخدة من تليفونك إنتي يا فاطمة... لو سيرا فعلاً زي ما بتقول، محدش بيمسك تليفونها.

انتفضت سيرا فجأة وهي تسأل فاطمة المذعورة مما يُقال، أيعقل أن تكون سببًا في أذية صديقتها الوحيدة، حتى لو كان ذلك بشكل غير مباشر:

-فاطمة إنتي طوب الأرض بيمسك تليفونك! عشان يتفرجوا على أوديشن التصوير اللي بتروحيه، والفيديوهات اللي بتقلدي فيها المسلسلات والأفلام... مين مسك تليفونك؟

بكت فاطمة بحيرة وهي تحاول أن تتذكر، لكنها لم تجد مشهدًا واحدًا قد يثير شكوكها، فمال يزن نحوها وهمس بلطف غريب يفرض سحره عليها:

-ممكن يا فطوم تديني تليفونك ثواني وأنا هعرف بطريقتي؟

أعطته الهاتف دون أن تنبس ببنت شفة، فاقتربت منه سيرا تحذره بحزم:

-أوعى تدخل على الصور!

-نزلي حواجبك بس الأول.

قالها بسخرية وهو يعبث في هاتف فاطمة، بينما الاثنتان تنظران إليه بترقب وفضول وخوف شديد، حتى رفع وجهه وهو يتساءل بصوت خشن:

-مين "سهام فـ..."؟

نظرت فاطمة في الهاتف وقالت بلا مبالاة:

-آه دي سهام أخت فايق جارنا، مسجلها بـ"سهام فـ" عشان أعرف إنها أخت فايق... أصلها زعلت لما شافتني مسجلها "سهام" وحاطتلها تعبان جنبها...

صاح يزن باستنكار خشن:

-إيه بس راديو واتفتح!! اسكتي عشان أعرف أتكلم!

صمتت على مضض وهو يشير نحو الهاتف، وتحديدًا تلك المحادثة على تطبيق الواتساب بينها وبين سهام، والتي تحتوي على خمس رسائل مُرسلة من قبل فاطمة ثم أُعيد حذفها لاحقًا:

–-أنتي بعتي خمس مسدجات، ورجعتي مسحتيهم تاني ليها!!

هزت رأسها نافية ورددت بتيه وبلاهة:

-لا وربنا! ده أنا ما بطقش أكلمها على الواتس عشان رغاية أوي!

زم يزن شفتيه وهو يتمتم بضيق ساخر:

-واضح أوي مين هي اللي رغاية!

همست سيرا بصدمة وهي تنظر أمامها، ويبدو أن صوت أفكارها خرج علنًا:

-اللي اتبعتلي خمس صور يعني نفس عدد المسدجات المبعوتة من تليفونك واتحذفت!! يعني سهام أخدت الصور منك وبتهددني عشان أخوها؟ ولا إيه؟ أنا مش فاهمة!!

لكزتها فاطمة بضيق وهي تضيق عينيها الصغيرة أكثر:

-لا طبعًا، استحالة سهام تعمل كده من دماغها! ده أكيد حد خططلها، سهام دي أصلها جاموسة مابتفهمش، ده أكيد فايق اللي خطط لده كله عشان ينتقم منك لما كرفتيله!

صرخت سيرا بخجل وغضب وهي تضم نفسها بذراعيها:

-لا! متقوليش يعني فايق شافني كده؟!

خرج لفظ بذيء من قبل يزن، الذي كان يصنت لهما بإمعان، ويتوصل معهما لصاحب تلك الخطة، وواقعيًا حديثهما كان صحيحًا مئة بالمئة، ولكن عند صرخة سيرا غلى الدم في عروقه، وصاح عاليًا بشراسة:

-متجننيش أمي بقى يا سيرا! هي الصور دي فيها إيه بالظبط؟! بس أقولك دي غلطتك.

قالها من بين أسنانه بغيظ، فتدخلت فاطمة ببلاهتها وجرأتها المعتادة:

-لا سيرا مش غلطانة، دي واحدة متصورة في بيتها براحتها، وبعدين إنت فاكر إيه بالظبط؟ ده صور بلبس عادي مش حاجات خاصة يعني...سيرا اللي مأفورة، الناس بتطلع لايف على التيك توك والفيس باللبس ده والله!

انتفضت سيرا قائلة بحنق:

-لا يا فاطمة دي مش أفورة! أنا محجبة ولابسة الحجاب من إعدادي، ييجي الكلب ده يشوفني كده؟!

صاح يزن بغيظ حقيقي:

-أيوه! اللي هو إزاي بردو؟!!

طرقت فاطمة بأصابعها فوق كتفه تستدعي انتباهه، وهي تقول بتهور ولمحة حماقة:

-يعني بلوزة كتفها واقع، فستان قصير بحمالات... وكروب...

صاحت سيرا بخجل وهي تستدير نحوها تمنعها من استكمال حديثها، لكن يزن لم يهدأ وبدأ يتخيل وضعية الصور...ألوان، ثياب، أشكال... فضرب المقود عدة مرات بقبضة يده، وهو يتمتم بأشياء هامسة لم تستطع سيرا ولا فاطمة تفسيرها، لكن فاطمة قالت بفطنة ساخرة:

-شكله بيشتم.

أعاد يزن تشغيل سيارته، لكنه توقف وطلب هاتف سيرا، فأعطته إياه دون تردد، فدخل على تطبيق الواتساب ثم ترك السيارة، وأرسل رسالة صوتية لمرسل الصور:

"أنت فاكر إني مش هعرفك ياله؟! تبقى غبي وحمار، بص يا ***** انت اخرك تهدد من ورا تليفون، اللي بتعمله ده مش هيخليني أبعد عنها، والصور اللي انت أخدتها من غير علمها، أنا هعرف أعلمك الأدب عليها، ولو فاكر نفسك شبح ومش هعرف أجيبك، فأنا هجيبك حتى لو كنت في بطن الحوت يا ******، فلم نفسك، عشان انت حاسبك معايا تقل".

أغلق التسجيل وأعطاها إياه دون أن يتحدث بكلمة أخرى، ثم قاد سيارته في صمتٍ تام، بينما هي التزمت الصمت أيضًا واكتفت بإلقاء نظرات بسيطة عليه، لتدرك بعدها أنها أيقظت وحشًا داخله؛ فبدت ملامحه مستنفرة، توحي بانتقامٍ قادم.

                            ****

بعد وقتٍ قصير وصلوا أمام منزلها، فانتظرت نزول فاطمة أولًا ثم التفتت إليه وقالت بهدوءٍ استفزه:

-يزن أنا مش عايزاك تتهور وتعمل حاجة تضرني، أنا لما لجأت ليك، كنت فاكرة إنك هتحل الموضوع بهدوء.

رفع حاجبيه معًا باستفزاز وهو يقول:

-وانتي شايفاني ماسك ميكروفون وبحل الموضوع على الملأ؟!

-لا، بس من الواضح إنك داخل على خناقة.

قالتها بضيق وعبوس، فابتسم ساخرًا منها وقال:

-سيرا!! هو انتي فاكرة إني لو رحت العنوان اللي مبعوتلك، هلاقي حد فيه؟! الواد أذكى من كده، بس أنا هعرف أجيبه بطريقتي.

عقدت ذراعيها أمام صدرها بوجوم وقالت:

-أيوه؟ اللي هو إزاي بردو؟! من حقي أعرف!

ترك النظر إليها ورد بلا مبالاة:

-لا، مش من حقك.

ثم استكمل حديثه وهو يلتفت بجسده نحوها وقال:

-أنا هعرف هاحرق قلبه إزاي! اقعدي واتفرجي.

زفرت بضيق وقالت بغباء وتهور:

-طيب إيه رأيك؟ أنا اللي أتكلم معاه.

أمسكها من مرفقها بقوة وهتف بغلظة ممزوجة بالتهديد:

-وأقسم بالله لو فكرتي تعمليها أنتي حرة!

-آه اوعى يا يزن! أنت بتهددني؟!

قالتها بغضب، فهتف بنبرة عالية محتقنة:

-أيوه بهددك! عشان دماغك باينلها لسعة ولا إيه؟! وبعدين تعالي هنا لما انتي عارفة إن طوب الأرض ممكن يمسك تليفون فاطمة، تبعتي صور زي دي ليها ليه؟!

كشرت عن أنيابها وردت بهجوم:

-أنا حرة ودي صاحبتي وواثقة فيها.

اقترب بوجهه منها وردد بنبرة قاسية من بين أسنانه:

-وحلو لما واحد تاني **** زيه شافك يعني؟!

غلى الدم في عروقها وتوهج خداها باحمرارٍ يعكس مدى إحراجها، لكنها كابرت وردت بعنفوان ساخر:

-بقولك إيه فكك من جو الدروس المستفادة ده! أنت عادي أوبن مايندد يعني، ومصاحب بنات بيلبسوا لبس سافل ومش محترمين، متجيش تعمل عليا شيخ السجادة بقى عشان خاطري!

كان يغلي بصمت أثناء حديثها الأحمق، عيناه تتفحصان ملامحها وكأنهما يُحاسبانها، لا على الفعل، بل على شعورها نحوه، لذا اشتدت قبضته فوق المقود، واختنق صوته في حنجرته وهو يقول بتهورٍ غاضب:

-عشان هما مفيش واحدة كانت تخصني يا غبية! لكن انتي تخصيني، انزلي يلا.

رغم ارتباكها من اعترافه البسيط، إلا أنها أحست بالخوف منه وبالإحراج من طرده لها، فقالت بتعالٍ:

-انت بتشتمني يا يزن؟! وكمان بتطردني؟! أنا مش عايزة أعرفك تاني!

فتحت باب السيارة بعنف ثم نزلت وأغلقته خلفها بقوة، تقصد إغاظته، فضغط على بوق السيارة باستمرار، يُعبر عن غضبه من فعلتها تلك، لكنها لم تعره أي اهتمام ودخلت مدخل منزلها.

وجدت فاطمة جالسة تتحدث مع "سهام" أخت فايق عبر الهاتف وتضحك معها، وما إن رأت سيرا حتى أشارت لها بالصمت، ثم قالت بلطفٍ زائد عن حده:

-خلاص يا سمسم، تعالي عندي نقعد شوية ندردش أنا وانتي والبت سيرا.

رفعت سيرا أحد حاجبيها بتهكم على اقتراح فاطمة، ولكن الأخرى أشارت نحو حذائها كناية عن ضرب سهام به انتقامًا منها، لكن سيرا سارعت بجذب الهاتف وتحدثت بنبرة أشد نعومة:

-ازيك يا سمسم؟ بقولك تعالي عند أبلة حكمت، هنقعد عندها براحتنا... لا لا، ما هو أم فاطمة كانت قايلة إن في حد جايلها زيارة... لا لا متقلقيش، أبلة حكمت هتقعد فوق، وإحنا هنقعد عندها... سلام يا حبيبتي.

أغلقت الهاتف وهي تزفر بقوة شديدة، لكن فاطمة نهضت باستقامة وهي تتساءل بعدم فهم:

-الله!! انتي مجنونة يا بت؟! ما كنا نجيبها عندي في أوضتي، نديها علقة محترمة ونجيب قرارها!

صعدت سيرا الدرج وهي تقول بشرودٍ ممزوج بالانتقام:

-لا... هتهرب مننا، أنا هخليها تقع تحت إيد اللي ما بتسميش على حد!

                             *****

لم يذهب يزن إلى العنوان المرسل لسيرا لنفسه، بل أرسل صديقًا له وقد أخبره صديقه إنها منطقة مهجورة وبنايات على وشك البنيان ولم يجد بها أحد، كما توقع تمامًا....حاول البحث عن فايق ولكنه لم يجد له أثر حتى في الفندق الذي كان يعمل به!! فلم يجد حلاً سوى زيدان أخيه كي يلجأ إليه، لذا عاد إلى منزله بعد أن أجرى به اتصالاً وعلم منه بوجوده في شقة سليم للاطمئنان عليه.

وما إن دخل إلى الشقة وجد عائلته بأكملها موجودة بجانب سليم الذي كان في فترة تعافي واهتمام شمس به من ناحية وتدليل والدتهم له من ناحية أخرى وكأنه طفلاً وليس رجلاً كبيرًا، ولكن ربما هو في احتياج لتلك المعاملة الخاصة كمكافأة بسيطة له بعد أعوام من الجفاء.

القى عليهم التحية بصوت رخيم ووجه حاد ثم جذب زيدان من يده بقوة خلفه ودخلا معًا إلى الشرفة الكبيرة في الصالة، وقبل أن يتحدث زيدان باعتراض كعادته، أخرج يزن ورقة صغيرة مدون بها اسم فايق الرباعي وعنوان منزله وأيضًا مذكور به عمله، حيث حصل على تلك المعلومات من شاب صغير مراهق في شارع سيرا بعد ثرثرة بسيطة أدلى بها الشاب بكل شيء...رغم أنه كان يستطيع معرفة تلك المعلومات من سيرا ببساطة إلا أنه لا زال يشعر بالغضب منها بسبب نظرتها عنه، أتعتقد تلك الحمقاء أنه معدوم النخوة!!  

اخشوشنت نبرته وهو يضع الورقة أمام وجه زيدان وقال:

-عايزك تعرفلي الواد ده فين وبيعمل إيه؟!

انعقد حاجبي زيدان معًا بعدم فهم وتهكم وهو يقول ساخرًا:

-حد قالك إني بشتغل في المخابرات!

زفر يزن بحنق وهو يقول من بين أسنانه:

-اثبتلي مرة إنك ظابط بجد!

تعجب زيدان باستنكار وهو يقول:

-ليه هو أنا كرتون؟!

زفر يزن مجددًا بغضب أكبر وهو يعيد خصلات شعره للخلف:

-يا عم أنا مش فايق لحد ولا فايق لهزارك، هتقف معايا وتساعدني ولا اشوف حد غيرك.

-هو الواد ده اتعرضلك يا يزن؟

وقبل أن يجيب يزن، كان زيدان قد تذكر  الاسم الموجود بالورقة وقال بشبه ابتسامة بسيطة وهو يمسك طرف الخيط:

-ثواني الاسم ده مش غريب عليا، مش ده الواد اللي كانوا اخوات سيرا متخانقين معاه...

بتر يزن حديثه وهو يتسائل بوجوم:

-اه اه هو افتكرته ازاي؟!

رد زيدان ببساطة وتسلية:

-لا أنا حبيت اعمل شو بس عشان تفتكر إن أنا ظابط، ماله الواد ده؟ اتعرض لسيرا تاني؟؟

صمت يزن طويلاً وعيناه مثبتتان في نقطة مجهولة على الأرض وكأنه يحاول جمع شتات أفكاره أو تقييد غضب جامح يكاد ينفجر.

اقترب زيدان إلى جواره قليلاً، متأملًا أخيه الذي لم يعتد هذا الكم من الصمت، شيء ما في ملامحه يوحي بأن النار مشتعلة في صدره، لكن الكبرياء يمنعه من البوح، فعاد يقترب أكثر منه وقال بهدوءٍ ورزانة ونبرة أخوية:

-مش أنا قولتلك وقتها يا يزن، الواد ده لما اتنازل بحسي الامني عرفت إنه هيجيب حقه من اخواتها بطريقة تانية.

رفع يزن حاجبيه فجأة وكأن الكلمات ضربته على غير توقع، ثم زم شفتيه بقوة وقال بغل ظاهر في نبرته:

-حق مين يا عم ده عيل جربان ودماغه تعبانة، وديني لاعلمه الادب على اللي عمله.

سأله زيدان وهو يراقب لغة جسده المتشنجة:

-هو عمل أيه بالظبط؟

أشاح يزن بنظره وتفادى عينيه ثم رد بجفاف:

-مالكش دعوة.

تراجع زيدان نصف خطوة إلى الوراء وقد شعر بخيبة، ثم قال بنبرة نصف مندهشة ونصف غاضبة:

-تصدق ياله أنا غلطان أصلاً إن واقف معاك.

رمقه يزن بنظرة سريعة لكنه لم يرد، فبدا وكأنه في صراع داخلي بين رغبته في تفريغ ما بداخله، وغيرته أن يتدخل زيدان بالأمر ويرى صورها بنهاية الأمر.

-زيدان أيًا كان اللي هو عمله، فهو يخصني وحقي واجيبه بطريقتي وبالطريقة اللي تشفي غليلي.

قال أخيرًا بنبرة منخفضة ولكنها تحمل نيرانًا تحت الرماد:

-الله! هو احنا في غابة يابني انت!! في قانون يقدر يجبلك حقك وفي اخوك موجود هطلع روحه لو كان مسك بحاجة تضايقك.

هز يزن رأسه بنفاد صبر وقال:

-يا عم أنا شايلك لحد اتقل من ده، لكن ده عيل خايب مالوش عندي غير قرصة ودن.

نظر زيدان إليه طويلًا ثم مال عليه قليلًا وهمس متشككًا:

-طيب...ليه مش عايز تقول عمل إيه؟!

ثم ابتسم ابتسامة باهتة وهو يضيف بنبرة متفحصة:

-سكوتك ده بيقول إنه عمل حاجة تخص خطيبتك؟!

تشنج فك يزن للحظة لكنه لم يرد، مما أكد لزيدان ظنونه، ثم أردف يزن بنبرة جافة وكأنه يريد إنهاء الحديث:

-يعني حاجة زي كده مش عايز شوشرة وكلام كتير.

ظل زيدان ينظر إليه لثوانٍ، ثم أدار رأسه ناحيته وقال بنبرة أخف:

-تمام، يلا نطلع عشان سليم بيزغرلنا وحاسه هيطق من وقفتنا لوحدنا.

تحرك الاثنان بخطى بطيئة نحو الصالة حيث تجلس العائلة، بينما خلف ملامح يزن كانت العاصفة لا تزال تدور بصمت، وما زال قلبه يغلي بنار لم تنطفئ بعد.
                             ****

طرقت سهام باب شقة حكمت بحماس، وانتظرت ثوانٍ قليلة حتى فُتح الباب لتطل سيرا بابتسامة بسيطة:

-أهلاً يا سمسم اتفضلي...نورتي.

دخلت سهام إلى الشقة تتلفت بعينيها تبحث عن الوجوه المعتادة، لكنها لم تجد أحدًا في استقبالها، فتقطبت ملامحها في دهشة وسألت بحيرة:

-الله! امال فين البت فاطمة؟

أجابتها سيرا وهي تشير إلى الداخل:

-جوه في أوضة البت دهب بنت اختي، تعالي ادخلي.

استجابت سهام للطلب بخطى واثقة، لكن اللحظة التالية كانت كفيلة بأن تقلب كل توازنها، ما إن وطأت قدماها الغرفة حتى باغتتها ضربة قوية من عصا خشبية انغرست في أسفل ظهرها، فصرخت بألم حاد وهي تدور حول نفسها برعب، لتقع عيناها على حكمت التي كانت تقف خلفها رافعة العصا عالياً، تتشح ملامحها بالغضب والشراسة:

-اخدتي صور أختي تعملي بيها إيه يابت؟ انتي واخوكي متفقين على إيه؟ قولي...

تراجعت سهام خطوة إلى الخلف وهي تلوح بيديها وتنفي بعينيها قبل لسانها، وقد بدأ الخوف يتسلل إلى أوصالها:

-صـ..صور إيه؟ أنا ماعرفش انتي بتتكلمي على إيه؟!

لم تُمهلها فاطمة وقتًا لتبرير موقفها، فتقدمت نحوها تشمر عن ساعديها وقد خيمت نبرة قاتمة على صوتها:

-طلعي تليفونك بالأدب يا سمسم، يا أما وربنا هخلي أبلة حكمت تمدك على رجليكي!

اقتربت حكمت منها وهي تلوح بالعصا يمينًا ويسارًا كأنها تروض أسدًا هائجًا، بينما كانت ملامح وجهها قد تحولت إلى خليط من الشر والعزم، فنفت سهام بإصرار ما تحاول فاطمة إثباته، إلا أن الأخيرة لم تمنحها فرصة إضافية واختطفت الهاتف من يدها بعنف ومضت تفتشه بسرعة ودقة.

في تلك اللحظة اقتربت سيرا وحكمت منها وأمسكتا بها بإحكام لتمنعاها من المقاومة، فاستطاعت فاطمة أن تفتح الهاتف باستخدام بصمة الوجه، وبمجرد ما فتحت تطبيق الصور حتى وجدت خمس صور لسيرا، لم تلبث أن انتقلت بعدها إلى تطبيق واتساب لتكتشف الحقيقة المُرة...الصور أُرسلت إلى فايق شقيقها!

شهقت فاطمة وهي تصرخ بحدة وقد انقلب وجهها إلى كتلة من الغضب:

-اه يا سافلة يا قليلة الادب، انتي فعلاً طلعتي واخدهم من تليفوني وبعتيهم لاخوكي.

صرخت سهام برعب وهي تحاول الدفاع عن نفسها:

-مكنتش اقصد والله...

لكن كلماتها لم تجد أي صدى فقد كانت حكمت قد رفعت العصا من جديد وانهالت عليها بضربات مركزة تُمطر بها مفارق جسدها بلا رحمة، وسط صرخاتها التي ملأت المكان تستنجد برحمة سيرا:

-اي...اه بتوجع يا ابلة..اه ارحميني، اه بلاش تضربي في الحتة دي، اه....يا ناس الحقوني.

زمجرت حكمت وهي تقول بشراسة:

-ده اللي هيحاول يلحقك من تحت ايدي هياخد مكانك العلقة دي.

ثم التفتت إلى فاطمة وهي تلهث من شدة انفعالها:

-ناوليني التليفون يا بت يا فاطمة، اكلم أمها اجيبها!

بدأت سهام تبكي بحرقة وقد رأت أن الوضع يزداد سوءًا، فقالت برجاء شديد:

-لا لا...بلاش أمي لو عرفت هتبهدلني، معلش يا سيرا حقك عليا.

نظرت إليها سيرا نظرة عتاب عميقة وقد امتزج الغضب بالحزن في صوتها:

-حق إيه يا سهام؟! ده انتي خونتي العيش والملح، وسرقتي صوري من عند فاطمة، أنا عملت فيكوا إيه لكل ده؟

لم تكتفِ حكمت بالضرب بل أجبرت سهام على الجلوس فوق مقعد وأحكمت وثاقها بحبل غليظ، رافضة أي محاولة للهروب، فحاولت سهام مجددًا تبرير فعلتها بصوت مرتجف:

-متخافيش والله فايق أخويا محترم مكنش هيعمل حاجة بالصور دي، بس هو كان بيقرص ودنك عشان اخواتك ضربوه وكده، واحدة قصاد واحدة.

لكن كلماتها لم تُجدِ نفعًا، فقد ارتفعت صيحة حكمت بغضب أعنف مما سبق:

-ده عندها....عند أمك واحدة قصاد واحدة دي يا بت يا خاينة، ما عاش ولا كان اللي يقرص أختي يا بت، ده أنا أجيبك واحطك تحت رجلي، خلي أخوكي يبل الصور ويشرب ميتهم...ده نسب إيه ده اللي كنت عايزة أختي تلبس فيه، نسبكم يعر.

وقبل أن تُكمل قاطعتها فاطمة وهي تشير نحو الهاتف:

-أمها ردت يا أبلة.

انتزعت حكمت الهاتف من يدها وقد غير الغضب نبرة صوتها إلى حد أثار دهشة سيرا وفاطمة، وقالت بحدة:

-ايوه ياللي خلفتك تعر بلد، اه...ياختي اسمعي، بنتك الحلوة عندي في شقتي اديتها علقة محترمة، عشان سرقت صور لسيرا اختي واديتهم لابنك ننوس عين أمه، وابنك الصايع بيهدد أختي، فاكرنا مش هنعرف نجيبه، بس على مين ده أخو خطيبها الظابط قالب الدنيا عليه وحالف ليجيبه من قفاه....تعالي دلوقتي عشان انتي ليكي حساب معايا، أصل وربنا انزل في المنطقة أجرسلكم وافضحكم فضيحة تبقى حديث الساعة.

أنهت المكالمة وهي تزفر كأنما تفرغ شيئًا من النار التي تتأجج بداخلها، ثم ابتسمت ابتسامة خبيثة وقد امتلأ صوتها بنشوة الانتصار:

-امك جاية لازم تشوفك مزلولة كده ومربوطة، ولازم هي كمان تاخد اللي فيه النصيب بس من لساني مش من ايدي، عشان تربيكم بعد كده يا تربية ****.

ثم التفتت نحو سيرا تتابع بجدية زائفة ممزوجة بغمزة ماكرة:

-بقولك يا سيرا ابقي قولي للظابك اخو خطيبك على البت دي هي اللي اخدت الصور، عشان يتخدوها يربوها في القسم.

صرخت سهام وهي تئن تتشبث بأمل أخير وهي تلوح برأسها وجسدها:

-لا لا يا سيرا حقك عليا بجد، قسم إيه؟ يا رتني ما سمعت كلامك يا فايق.

لكن لم يعرها أحد أي اهتمام فقد خرجوا ثلاثتهم من الغرفة، وتركوا سهام تبكي بحرقة حقيقية، تندب فعلتها الحمقاء وتعد الثواني انتظارًا للحظة مجيء والدتها، وكأن الزمن نفسه أصبح عقابًا مضافًا إلى ما تعانيه من زل حقيقي.

                            ****
بعد مرور عدة ساعات...في منزل الحاج فاضل.

كانت يسر تنعم بكامل الاهتمام والراحة بعد ما حدث لها، ولم يبتعد عنها نوح لحظة واحدة، إذ ظل مرافقًا لها طوال الوقت، غير أنه ومنذ الصباح اختفى تمامًا، مما أصابها بخيبة أمل ظنًّا منها أنه قد عاد إلى ما كان عليه سابقًا.

لكن رنين جرس الباب متبوعًا بصياح ابنتها معلنةً قدوم أبيها، أعاد الحياة إلى روحها من جديد، فاعتدلت في جلستها تستعد لرؤيته بلهفة،
إلا أن الصدمة اجتاحتها تمامًا عندما رأت الشخص الذي كان برفقته، شخص لم يخطر ببالها يومًا أن تراه واقفًا أمامها في مثل هذا الموقف!!!

★★

في مكان آخر كانت هناك صدمة أخرى بانتظار يزن الذي خرج من سيارته الفارهة ووقف أمام بناية تقع في إحدى المناطق الجديدة بالقاهرة، حيث أرسل له زيدان موقع فايق، الذي كان متواجدًا في إحدى الشقق السكنية برفقة صديق له، رفع بصره إلى الأعلى، يتأمل البناية بشرود وابتسامة خبيثة تحتل وجهه، ثم تحرك بخطوات هادئة نحو صندوق سيارته الخلفي، وأخرج عصا حديدية ضخمة استعدادًا للصعود إلى الطابق المنشود.

لكن فجأة حدث ما لم يكن يتوقعه إطلاقًا، فتوقف في مكانه مندهشًا وهو يخبئ العصا خلف ظهره...
حافظ يزن على ثبات تعابير وجهه أمام سليم الذي كان يقف شامخًا كعادته، وكأن الوعكة الصحية الأخيرة لم تترك أثرًا عليه، فبدا كجبل راسخ لا تهزه العواصف يقف بثبات وثقة، يُشع بهيبته المعتادة وكبريائه الذي لم يتزحزح يومًا.
لم يتحرك يزن من مكانه بل انتظر اقتراب سليم، يُراقب خطواته الوقورة ونظراته الفاحصة، حتى انطلقت كلمات سليم بصوته الأجش الرخيم:

-انت بتعمل إيه هنا؟

حمحم يزن وهو يبتسم نصف ابتسامة زائفة، لم تكن تخفي الغل الذي يشتعل في صدره، بل تؤججه كجمرة تحت الرماد:

-المفروض أنا اللي أسالك السؤال ده يا سليم؟

رفع سليم حاجبًا واحدًا باستنكار وقال بحدة:

-إجابته عندك يا يزن!

عقد يزن حاجبيه باندهاش مصطنع ممزوج بسخرية لاذعة، ثم رد بنبرة تحمل تهكمًا لاذعًا:

-الله! يبقى إجابة سؤالك الأول عندك بردو، جاي ورايا ليه؟ حد قالك إن أنا عيل صغير؟!

نبرة يزن حملت بين ثناياها تمردًا دفينًا، كالمراهق الذي يحاول التملص من عباءة أبيه، كأنما اختنق من سطوة الأخ الأكبر، لم يتفاجأ سليم برده بل تنهد بهدوء متعمد، ثم حرك رأسه بحركة بسيطة وقال ببطء وكأنه يسكب الوقود على نارٍ مشتعلة:

-اه عيل صغير.

كلمات سليم جاءت كصفعة غير متوقعة فاحتدت ملامح يزن فجأة، واحمرت عيناه بنار الغضب قبل أن ينطق بنبرة ساخطة تخفي خلفها إنذارًا وشيكًا:

-الحاجة الوحيدة اللي لا يمكن أسمح لحد إنه يتعدى حدود معايا فيها هو إنه يقلل مني، أنت أخويا الكبير واحترامك ده واجب عليا، لكن متحاولش تقلل مني أبدًا، رد فعلي مش هيعجبك.

ارتفعت نبرة سليم فجأة وتشدد صوته كمَن يُلقي أمرًا عسكريًا:

-انت اتجننت؟! مش واخد بالك أنت بتهدد مين؟

كان يزن يتنفس بصعوبة يحاول السيطرة على الغضب الذي يتفجر داخله، لكنه فشل فانفجر كبركان خامد يُنذر بدمار قادم وصرخ بعنف مكبوت:

-وانت مش واخد بالك أني كبرت وحر في تصرفاتي ومينفعش أبدًا أنت وزيدان تعملوا عليا رباطية لمجرد انكوا عايزني امشي على هواكم!

تقدم سليم منه بخطوة وأشار بوجهه نحو العصا الحديدية التي أخفاها يزن خلف ظهره، وقال بحدة:

-وهو الصح إنك تيجي وجايب معاك عصاية حديد عشان تضرب واحد قاعد في شقة مع واحد صاحبه وسكرانين ومش حاسين بنفسهم؟!

صمت يزن طويلاً ولكن ارتسمت على وجهه ملامح السخط، بينما سليم استغل لحظة الصمت ليستكمل بعنف دفين:

-هتستفاد أيه لو كنت ضربته يا حمار ومات فيها غير إنك هتلبس البدلة الحمرا وتاخد فيها إعدام، طول عمري كنت فاكر إن زيدان متهور، بس أنت طلعت أغبى منه.

لم يتحمل يزن تلك الإهانات المتتالية، فانفجرت شرارات الحنق في عينيه وهو يصيح:

-كفاية إهانات يا سليم لغاية كده!

أخذ سليم شهيقًا عميقًا يحاول فيه امتصاص الغضب، ثم قال بصوت أكثر هدوءًا ولكن نبرته حملت ما يكفي من التوبيخ المغلف بالحكمة:

-أيًا يكن الواد ده عمل إيه فيك أو في خطييتك، فاخد الحق حرفة ولازم عقلك يسبق ايدك، انت راجل ابن سوق مينفعش حد يجي يعرفك ازاي تاخد حقك!

كلمات مموهة لكنها مليئة بإهانات مبطنة، دفعت يزن لحد الغليان فصرخ بشراسة تكشف عن غيرته النازفة داخله:

-لو الزفت ده كان عمل مع شمس مراتك اللي عمله مع سيرا، كان زمانك فرمته بعربيتك.

تجمدت ملامح سليم وظهر في عينيه بريق مريب، ثم اقترب حتى كاد يلامس وجهه، وسأل بصوت منخفض لكنه مشحون بتوتر مرعب:

-عمل إيه؟!

رد يزن باقتضاب يلفظه الحنق من بين شفتيه:

-حاجة متخصش أي حد غيري.

رغم أن الجملة كانت حاسمة إلا أن الغموض فيها كان بمثابة دعوة مفتوحة للفضول، لكن سليم لم يتراجع بل زاد إصرارًا وقال بجفاء:

-خلاص طالما حاجة متخصش أي حد غيرك، يبقى تركب العربية معايا ونروح من سكات ومسمعش نفسك أبدًا أو حتى أي اعتراض منك.

زفر يزن بقوة، ويداه تغوص في خصلات شعره بعصبية ثم قال:

-هرجع واقولك أنا مش عيل صغير يا سليم!

ابتسم سليم بسخرية وكأنه يستمتع بتضييق الخناق عليه:

-لو قولتلي الواد ده عمل إيه بالظبط، هسيبك تطلعله تضربه وتشفي غليلك منه بس بشرط.

رفع يزن حاجبيه وهو يردد باستهزاء:

-كمان في شرط؟!

-ايوه شرط مهم اوي، هطلع معاك فوق متخافش مش هتدخل هقف واتفرج بس وقت لما اقولك كفاية تسمع كلامي.

وقبل أن يرد استكمل سليم بنبرة أكثر عقلانية، لكنها لم تخلُ من سيطرة خفية:

-الضرب هيكون بحدود عشان ده واحد سكران، ومتبقاش غشيم اه تاخد حقك بس تخلي فيه روح.

ثم أنهى كلامه بشرط نهائي:

-بس ده كله مش هيحصل غير لما تقولي عمل إيه؟ ووقتها أنا هحكم تطلع أو مش هتطلع، مش يمكن تكون حاجة تافهة؟!

رمقه يزن بنظرات غيظ وابتسم ابتسامة غاضبة متوترة، ثم حرك رأسه في غضب داخلي وأخبره بكل شيء....بكلمات محددة مباشرة، كأنها تخرج من فم مثقل بالغيرة القاتلة.

عبس سليم فورًا وحرك حاجبيه بتكشيرة حادة، ثم قال بهدوء مشوب بالغضب:

-تمام هنطلع بس العصاية دي حطها في العربية، واستخدم عضلاتك ولا هي ديكور!!

تنهد يزن بقهر، وابتلع الإهانة مرة أخرى دون أن ينبس بكلمة، مستجيبًا لرغبة أخيه في صمت، ثم صعدا معًا درجات السلم للبناية الجديدة، التي ما زالت تفوح منها رائحة الخرسانة حديثة الجفاف، وصلوا أمام الشقة المنشودة فتوقف سليم فجأة، ونظر لأخيه نظرة قاطعة:

-اضرب براحتك بس اوعى ضربة تعدي وتخليه يقابل رب كريم.

رسم يزن ابتسامة خبيثة وهمس بسخرية واضحة:

-حاضر يا أبيه هضربه براحة، هضربه مرة على ايده ومرة على.....

توقف فجأة وهو يرمق سليم بنظرات ماكرة ثم سقطت نظرت خلف ظهر أخيه الأكبر، فما كان من سليم إلا أن أمسك وجهه بقوة وهمس بتهديد ناري خافت:

-واقسم بالله يا يزن انت عايز تتربى من أول وجديد.

تنحى يزن جانبًا وهو يتخلى عن لهجته المشاغبة ويتحدث بجدية واضحة، ونبرة ثابتة كأنما حسم أمره:

-خبط انت يلا، عشان هو غالبًا لو شافني من العين السحرية مش هيفتح.

أطلق سليم حمحمة خفيفة وكأن صدره استعاد شيئًا من خبثه القديم، ثم وقف أمام الباب شامخًا يده اليسرى داخل جيب سرواله، واليمنى ضغط بها على الجرس بحدة، تأمله يزن للحظة ورفع حاجبيه ساخرًا من هيبته التي لا تفارقه حتى وهما على وشك ارتكاب فعل أهوج!

وبعد ثوانٍ معدودة فُتح الباب ببطء، وظهر شاب مترنح يبدو عليه عدم الاتزان، فتح فمه ببطء وتفوه بثقل فاضح:

-نعم؟ مين؟

وقبل أن يكمل جملته تلقى لكمة مباغتة من سليم سقط على إثرها أرضًا مغشيًا عليه! لم يكن هناك تمهيد أو سابق إنذار، فقط يد صارمة ووجه لا يتزحزح، ابتسم سليم بعدها بثقة وهو يشير برأسه إلى يزن كمَن أنجز المهمة بسهولة:

-مش قولتلك مش مستحملين!

تغيرت ملامح يزن فجأة وكأن الأدوار قد انقلبت في لحظة خاطفة، ثم تقدم بخطوة وهو يتحدث بخشونة تحمل نفحة رجاء:

-سليم انت خارج من عملية، متتهورش عشان خاطري الموضوع يخصني، أنا وافقت أنك تطلع معايا عشان تتطمن إن أنا مش غشيم مش زي ما أنت فاكر.

وقبل أن يتمكن سليم من الرد اخترق أذنيهما صوت فايق من الداخل، وهو يتحدث في الهاتف بنبرة ثقيلة واضحة مشحونة بالغضب والصراخ، كأنه يخوض شجارًا دون أن يدري أنه على بُعد خطوات من كارثة:

-والله ما هسيبها لا هي ولا اختها العقربة حكمت، وبعدين بنتك غبية رايحالهم برجليها وهي عارفة أنها عاملة فيها مصيبة، أنا قايلها تاخد حذرها منها.

ارتسمت نصف ابتسامة على وجه يزن فلم تكن فرحة ولا شماتة، بل كأنها ابتسامة ذئب على وشك الانقضاض، دخل بخطوات ثابتة كمَن يقترب من فريسته، عيونه تبحث عن الصوت حتى وجده، فقد كان فايق يقف أمام نافذة عريضة يتحدث عبر هاتفه يشيح بظهره عن الصالة:

-أنا في شغلي يا اما، عشان كده مش قادر اتكلم ولا اركز معاكي، لما اخلص هكلمك.

أنهى المكالمة بسرعة فقد أحس أن هناك أمرًا غريبًا، توتر يسري في أرجاء الشقة، إحساس مفاجئ لم يخنه رغم السكر، زفر بقوة ثم رفع كأسه يتجرعه بغل:

-وحياة أمك ما أنا سايبك يا سيرا يا بنت الـ ****، أنا هنشرلك صور حالاً على الفيس.

وقبل أن يكمل جملته وجد نفسه يدور بسرعة جنونية، يتلقى الضربات من كل اتجاه، لم يفهم من أين تأتي ولا كيف يردها، فكل شيء حوله أصبح ضبابيًا...قبضات يزن انهمرت عليه بلا هوادة، وكأنها تعزف مقطوعة انتقامية فوق جسده الواهن.

حاول فايق المقاومة لكن تركيزه كان في الحضيض، والخمر أسقط سلاحه الوحيد، فصار كخرقة بالية تتلقى العقاب لا حول له ولا قوة.... أما يزن، فكان يهدر بكلمات تخرج من بين أسنانه كما تخرج الحمم من فوهة بركان:

-سيرتها متتجبش على لسانك تاني يا ابن الـ****، أنا مش هسيبك في حالك يالا، أنا هكون عملك الاسود من هنا ورايح.

في تلك الأثناء كان سليم قد توجه نحو الهاتف المحمول الموضوع على الطاولة التقطه بهدوء، ثم جلس فوق أحد المقاعد واضعًا ساقًا فوق الأخرى، وبدأ يُصور بهاتفه الآخر مقطع فيديو ليزن وهو ينهال بالضرب على فايق، وللحظة بدا عليه التسلية لكنه ظل متأهبًا، لا يتخطى حدوده رغم الجنون من حوله!!

وفجأة اندفع يزن لاستكمال الضرب، لكن صوت سليم ارتفع بحدة قاطعة:

-كفاية خلاص، ضربك له بعد كده مش هتستفيد منه بحاجة، تعالى عشان في حاجة أهم.

توقف يزن يتنفس بسرعة، وشعره يتساقط فوق جبهته المشبعة بالعرق ووجهه محتقن، ويده ترتجف من فرط الغضب، اقترب من سليم فأعطاه هذا الأخير الهاتف قائلاً بمكر خبيث:

-خده وجرب تفتحه ببصمة وشه أو صابعه وامسح صور سيرا، ولو مفتحش مش مشكلة هاته وأنا هخلي حد معرفتي يفرمطه.

أخذ يزن الهاتف كأنه يحمل نارًا مشتعلة توجه نحو فايق الملقى كجثة هامدة، وبدأ يجرب بصمة الوجه لكنها فشلت، فجرب أصابعه واحدًا تلو الآخر، حتى نجح أخيرًا في فتح الجهاز.

دخل إلى المعرض بدأ في البحث عن الصور، ووجدها...للحظة توقفت أنفاسه، رغبة جامحة في النظر إلى صورها، فضول قاتل...لكنه قاوم، لم يرد أن يخونها حتى بنظرة.

وفي هذه الأثناء كان سليم قد فتح أحد أدراج الطاولة، فوجد داخله أكياسًا من الهيروين وأنواعًا أخرى من الحبوب المخدرة، فعلم أنها قضية أكبر من مجرد صور، أخرج هاتفه وأرسل لزيدان رسالة قصيرة:

"للأسف ملحقتش اخوك وضربه جامد، ولما طلعت شفت مخدرات فوق، اتصرف انت، المهم الواد ده يبات في الحجز عشان يتعلم يجي تاني على أخوك".

أنهى رسالته وأغلق الهاتف ثم التفت إلى يزن الذي كان يُعدل من ثيابه بصمت، وقد هدأت أنفاسه قليلًا، فقال له بصوت هادئ لكنه مشحون:

-أنا مسحت الصور، بس خد تليفونه وفرمطه بردو عشان أبقى مطمن.

أومأ سليم دون تعليق ثم التقط الهاتف ووضعه داخل جيبه، وقال بعجلة:

-يلا نمشي عشان زمان الشرطة جاية، في مخدرات هنا وأنا بلغت زيدان يتصرف.

ابتسم يزن ساخرًا ونظر نحو فايق، ثم بصق عليه باحتقار شديد قبل أن يتبع سليم نحو الباب، بينما هذا الأخير يتحدث بتعالٍ:

-لازم تتقفل قفلة صح ويتعلم ميجيش أبدًا جنب اللي يخص يزن الشعراوي ولا إيه يا يزن باشا؟

توقف يزن على عتبة الباب وأشار له بسخرية:

-من بعدك يا سليم باشا.

خرج سليم أولاً ثم تبعه يزن، دافعًا ساق صديق فايق الملقاة أمام الباب بكعب حذائه، ثم أغلق الباب خلفه في هدوء قاتل كأن شيئًا لم يحدث.

توقف سليم عند أول الدرج، التفت نحو أخيه بابتسامة خبيثة وقال:

-أنا بعتلك فيديو ممكن تحب توريه لسيرا، أظن هتتبسط بيه!

أخرج يزن هاتفه ليتفقد الرسالة لكن رسالة سيرا الجديدة كانت في انتظاره، أثارت غضبه أكثر مما تخيل:

"خلاص يا يزن، متتصرفش أنا أخدت حقي منه، وأمه هتتصرف معاه"

صر على أسنانه بشدة وغمغم بحنق مكتوم:

-اقسم بالله شايله راسها وحاطه مكانها جزمة.

بحث في الرسائل حتى وجد الفيديو الذي أرسله له سليم، فابتسم بفتور وقال:

-سليم فاكرها هتتبسط!، دي احتمال تمسك فيا في خناقي.

لكنه بعناده المعتاد.قرر أن يرسل الفيديو لها، وأرفق معه رسالة واحدة:

"لو انتي شايفة أنك لما تعرفي أمه يبقى كده اخدتي حقك، فأنا كده أخدت حقي"

أغلق هاتفه بعدها لا يريد مكالمات ولا نقاشات، فقط راحة داخلية استقرت فيه أخيرًا...راحة قاتلة لكنها عزيزة وكأن ثقلًا أزيح من على صدره، انتهت الليلة ولكن بقيت آثارها محفورة في جدران عقله.

                               ***
في شقة سيرا وتحديدًا داخل غرفتها التي يعبق فيها عبير العطور الهادئة، كانت فاطمة تتابع المقطع للمرة الثالثة تنظر إلى الشاشة بعينين لامعتين وقد اتسعتا إعجابًا، وصاحت وهي تصفق بحماسة كأنها تشاهد مشهدًا من فيلم أكشن مفضل لها:

-يا بنتي والله راجل، ده مشهد أسطوري بصي بصي وهو بيقع!

ثم عادت تصفق من جديد لحظة سقوط فايق، غير عابئة بصوت الهاتف المرتفع، وكأنها تعيش المشهد وكأنه انتقامها الشخصي، أما سيرا فكانت في عالم آخر تمامًا تجلس متربعة فوق السرير، مرتدية بيجامتها القطنية ذات اللون الأصفر، شاردة الذهن غارقة في كلماته التي أرفقها مع المقطع.

لم تكن تراه كما رأته فاطمة، لم تهتم للضربات أو اللقطات العنيفة، بل علقت روحها في كلمته التي أرفقها مع المقطع، أيعني هذا أنها... تخصه؟
ابتسمت تلك الابتسامة البلهاء التي لا تخرج إلا من عاشقة، ثم تنهدت بأنوثة حالمة وهي تضغط بأطراف أصابعها على وجنتيها كأنها تتذوق حلاوة الشعور بالامتلاك لا الخوف منه.

ظلت تعيد تفسير اعترافاته وتكرارها تحلل نبرته، وتعيد المشهد من رأسه كل مرة، كأنها تستخرج من كل ثانية فيه معنى خفي جديد.

ولكن قاطعتها فاطمة وهي تشيح بكفها أمام وجهها:

-سيرا وربنا انتي لو اتضايقتي من موقفه هطلع واقول لابلة حكمت تديكي علقة زي البت سهام.

نظرت إليها سيرا مبتسمة وهزت رأسها نفيًا وهي ترد بهدوء خافت، وكأنها تخشى أن تُفسد تلك اللحظة الساحرة بصوتها:

-لا خالص مش متضايقة يعني واحد بياخد حقي هزعل منه يا فاطمة؟!

تنفست فاطمة بارتياح ثم أسندت ظهرها للحائط بجانب السرير وقالت بنبرة حماسية:

-طيب كويس إنك عاقلة، المهم احنا لازم بكرة نصحى بدري نجيب هدية حلوة وورد وتروحيله للأجانص تديهاله وتشكريه.

سكتت لحظة ثم رفعت حاجبيها بفخر وأضافت:

-ومتقلقيش معايا فلوس.

ضحكت سيرا برقة وهي تمسك طرف الغطاء الملفوف حولها، وقالت:

-لا ما أنا معايا بردو، بس انتي شايفة يعني أني لازم اجيب هدية حلوة؟ مش هيبان أني بتلزق فيه.

ردت فاطمة بسرعة وثقة، وكأنها خريجة أكاديمية بروتوكولات:

-لا خالص ده من الذوق يا بنتي انتي لو مجبتيش هيقول عليكي قليلة الذوق أصلاً.

أطرقت سيرا تفكر لحظة ثم عقدت حاجبيها في حيرة لذيذة وهمست:

-لا لو كان كده يبقى لازم اجيب.

ثم نظرت إلى السقف بابتسامة حالمة جديدة، وكأنها تخطط في خيالها شكل الهدية، لون الورد، وردة واحدة؟أم باقة  زهور؟ وماذا ستكتب في البطاقة؟ كلها تفاصيل صارت فجأة أهم من أي شيء!!!

                               ***
لم تكن تتخيل يومًا أن يجلب عائلته فردًا فردًا، يقفون أمامها بوجوه يعلوها الانكسار، وأعينهم تغص بالأسف يعتذرون بكلمات خافتة ومرتجفة، كأنهم يخشون ألا تُقبل منهم، بينما هو وقف إلى جوارهم بكامل شموخه وعيناه لا تفارقها، يراقب ردة فعلها كأنما يبحث فيها عن طمأنينة تخصه هو، فبدا وكأنه هو مَن جُرح لا هي.

وحين انتهوا وغادروا جميعًا في صمتٍ مُربك، لم يتفوه أحد منهم بتبرير أو شرح لما بدر منهم ولا حتى هو، فاكتفى فقط بابتسامة دافئة مبهمة ثم لحق بهم بهدوء، تاركًا خلفه سيلًا من الأسئلة في رأسها، فهي لم تطلب منه أبدًا أن يُحضرهم، بل طلبت منه بوضوح أن تبتعد عنهم، حين رأت أن التجنب أفضل وسيلة للسلام معهم!

مر الوقت بطيئًا ومتثاقلاً وهي تنتظر منه اتصالًا، أو عودة تُفسر ما فعله ولكن يبدو أنه اكتفى فقط بتلك الابتسامة، تلك النظرة التي لم تفسر شيئًا سوى أنها تعني الكثير بالنسبة له هو.

نفد صبرها فقررت أن ترفع الهاتف وتتصل به علها تجد عنده إجابة، رغم أنها حجة لمجرد سماع صوته وعندما جاءها صوته المرهق المحمل بآثار النوم، قالت بإحراجٍ خافت:

-أنا صحيتك؟

قالت العبارة بخجل وبصوت خفيض، وكأنها تخشى أن تزعجه أو تبالغ في قلقها.

-انتي تعملي اللي انتي عايزاه.

قالها بخمولٍ صادق فتسللت نبرته إلى أعماقها، وتسلل معها رجفة لذيذة افتقدتها طويلًا، ابتسمت بخجل وحنان ثم همست بنعومة:

-شكرًا، بس يعني لو مش هضايقك كنت محتاجة أعرف ليه؟

لم تعد مهتمة الآن بسبب إحضاره لعائلته قدر ما كانت تبحث عن أي خيط تتشبث به في الحديث معه:

-هو إيه اللي ليه؟

سأل وهو يحاول أن يستجمع وعيه، لكن نبرته بقيت هادئة مستقرة:

-ليه جيبت عيلتك كلها تعتذرلي رغم إن أنا مطلبتش كده، ولو مكنتش عملت كده، مكنتش هزعل يا نوح.

ساد لحظة من الصمت قبل أن يرد بصوت ثابت ونبرة عميقة تحمل ما وراءها من قتال طويل:

-ده حقك ولازم ده كان يحصل، وعشان ميفكروش يجوا عليكي مهما حصل، أنا لو شايفك وحشة معاهم هديهم عذر، بس مفيش أبدًا اعذار اللي بيعملوه ده، دول أهانوني قبل ما يأذوكي.

أحست بكلماته تهبط عليها مثل ماء دافئ في شتاء قارس، كلمات نُطقت بصدق وبكرامة وبمحبة دفينة، ومع ذلك لم تستطع أن تمنع نبرة الندم التي خرجت منها بصوتٍ متردد:

-يمكن كانت لحظة شيطان أنا بردو غلطت إن اتدخلت في حاجة متخصنيش.

-أنا كلي على بعضي حياتي ومالي يخصوكي، يمكن مكنتش بحكيلك عشان شايف إنهم عمرهم ما هيتغيروا معايا.

قالها بصراحة لا يشوبها زيف لكنه لم يخبرها بالحقيقة كاملة، لم يقل إنه كان يشعر أنها تبتعد شيئًا فشيئًا وكأنها لم تعد تراه كما كان، وأن مراقبتها المستمرة له وتوجسها منه، جعلاه يشعر كالغريب في بيته...كالغريب في قلبها.

-هما في النهاية أهلك يا نوح واللي مالوش خير في أهله مالوش خير في حد، ويمكن انت ربنا كارماك في شغلك عشانهم، فمتحطش دي قصاد دي.

ردت برزانة رغم اختناق صوتها، وكأنها تحاول أن توازن الأمور، فقد كانت تعلم في قرارة نفسها كم جاهد من أجلها، وكم أهانهم لأجل كرامتها، ومع ذلك مشهد إذلالهم أمامها لم يرضها...بل أثار فيها الحزن، فلم تعتد يومًا أن ترى أحدًا منكس الرأس أمامها حتى لو كان يستحق.

-أيًا كان الطريقة انتي اغلى حاجة في حياتي حاليًا  ومعنديش استعداد أبدًا اخسرك بسببهم، يجوا بالتراضي بالعافية المهم أكون جيبت حقك، وهما يعرفوا حدودهم معايا كويس، أنا لو كنت زمان ب
سامح في حقي، بس دلوقتي لا...وبالذات بعد اللي عملوه معاكي.

كانت كلماته كدفعة أمان، كيد تُمسك بها بعدما أصبحت على شفا الانهيار فسألته بتردد طفولي، يحمل في طياته وجعًا:

-بصراحة كنت خايف عليا ولا على ابنك يا نوح؟

ابتسم هو رغمًا عنه ثم قال بهدوء:

-الاجابة دي انتي عارفها كويس، أوقات الكلام عمره ما يوصف حقيقة المشاعر والمواقف اللي بتبين.

-بس انت مواقفك معظهما معايا وحشة!

قالتها وهي تختنق بكلماتها، وكأنها تُفرغ ألمًا طويل الأمد دفعة واحدة.

-انتي اللي دماغك اللي فيها حاجة غلط، يعني نفهم ونكون عندنا شوية عقل، متمسك بيكي وخايف عليكي، ومستعد اعمل أي حاجة وترجعي البيت أعمل أيه تاني طيب!

-تمشي حسناء من عندك وتطردها.

قالتها فجأة وكأنها تسدد ضربة أخيرة، تطلب فيها الدليل الحاسم...الدليل الذي لا يحتمل تأويلاً.

-لا.

قالها بهدوء لكن كلمته كانت كصفعة باردة على قلب مشتعل.

ارتفعت نبرة صوتها، واهتز معها حاجز الصبر:

-هو إيه اللي لا؟ انت بتتكلم بجد؟ نوح أنت عايز تجنني؟ انت في حاجة بينك وبينها؟ 

-تصبحي على خير يا أم لينا، حاولي تنامي وترتاحي وتفصلي دماغك من التفكير شوية.

قالها وهو يختتم الحديث بصوته المتعب، كأنه يستشعر أن أي كلمة بعدها لن تُفهم كما يجب.

-تصدق بالله أنا كل ما اصفالك تيجي وتحرق دمي، أنا غلطانة أصلاً إن افتكرت إنك في يوم ممكن تتغير.

أغلقت الاتصال في وجهه دون تردد، ثم ألقت بالهاتف بعيدًا لتتناثر أنفاسها مع انفجار الغضب، وهي تردد بغضبٍ يتغذى على الألم:

-يعني إيه لا، بيقولي لا بكل بساطة، لدرجادي متمسك بيها، هو عايز إيه؟ عايز يجنني!! 

ثم انهارت على الفراش تمسك بوسادتها كما لو أنها تمسك ما تبقى من كرامتها تبكي بصمتٍ دامٍ، وتهمس بانكسار لا يُحتمل:

-عايز كل حاجة، كل حاجة.

ظلت تبكي لفترة ودموعها تسيل بصمتٍ موجع، كل شهقة كانت تُنقص من رصيد ثقتها بنفسها، لكنها في لحظةٍ خاطفة وسط سكون الغرفة وانطفاء الأمل، زفرت بقوة كما لو أنها تطرد كل هذا الضعف من صدرها دفعة واحدة.

أبعدت الوسادة عن وجهها بحدة، كأنها تُبعد فكرة الحنين له، ثم اعتدلت في جلستها ببطء تمسح دموعها بكفٍ مرتجفة لكنها عازمة، وملامحها بدأت تتماسك تدريجيًا، يتشكل على وجهها تعبير غامض بين الصدمة والعزيمة.

نظرت إلى الهاتف من بعيد لا برغبة في الاتصال، بل بنظرة حسابية باردة، وكأنها تعيد ترتيب الأمور في رأسها، فهمست لنفسها بصوت مخنوق لكنه ثابت:

-لأ مش أنا اللي يتقالي لا وأكمل عادي، مش أنا اللي كل ما أحن ألاقيه بيفوقني على صدمة.

كان واضحًا الآن أنها قررت ألا تستسلم لحنينها، وألا تنكسر أكثر بل تُكمل ما بدأته قبل دخولها المستشفى، ستؤدبه بطريقتها لا بخصام ولا بصراخ، بل بإبعاد حسناء عنه خطوة بخطوة، وبهدوء يُشبه السم البارد.

لن تتراجع عن مخططها، ولن تضعف أمام كلماته مهما كانت صادقة، ستظل قاسية بقدر ما يليق بكرامتها.

                                ****
في اليوم التالي...

سارت سيرا وحدها في الطريق المؤدي إلى معرضه تخطو بخجلٍ بالغ، وهي تحمل في يدها حقيبة صغيرة مخصصة للهدايا، تحوي بداخلها هديته التي انتقتها بعناية فائقة، فقد كانت وحدها منذ الساعات الأولى للصباح، بعدما اعتذرت فاطمة عن مرافقتها مدعيةً الإرهاق الشديد، وأنها تحتاج إلى الراحة والنوم، فلم تجد سيرا حلاً سوى خوض هذه الرحلة منفردة، رغم حيرتها وتشتتها بسبب جهلها بذوقه في الهدايا، لكن وبمحض الصدفة وقعت عيناها على شيء في أحد المتاجر الصغيرة،  شيء بسيط لكنه يحمل روحًا تعبر عنه، فشعرت أنه قد يسعده إن رآه، ثم أضافت عليه لمستها الخاصة واحتفظت به في الحقيبة.

توردت وجنتاها حتى صبغهما الحياء بلونٍ أحمر خفيف كلما اقتربت أكثر من وجهتها، قلبها يخفق كطبول صغيرة خائفة، فهي للمرة الأولى في حياتها تُهدي شابًا إذ لطالما اقتصرت علاقاتها السابقة على صديقاتها الفتيات، دون أن تتجاوز تلك الدائرة الآمنة.

اختلطت مشاعرها بين الخوف والارتباك، ترى هل سيفسر موقفها بشكلٍ خاطئ؟ هل سيراها متهافتة عليه؟ أم سيُدرك أنها فقط تحاول أن تُعرب عن امتنانها لموقفه الأخير معها؟

تملكها التوتر تمامًا حتى قالت هامسةً بصوتٍ متهكم:

-ربنا يسامحك يا فاطمة كنتي تعالي معايا.

وما لم تدركه سيرا أن فاطمة لم تكن متعبة بالفعل، بل تظاهرت بذلك عمداً لتمنحهما مساحة خاصة دون وجود طرفٍ ثالث يعكر صفو الموقف.

زفرت سيرا أنفاسًا عميقة وهي تقف أمام الباب الزجاجي للمعرض، وقد كانت الشمس تتهادى نحو المغيب، جالت بعينيها داخل المكان بحثًا عنه، حتى لمحته يقف مع إحدى الزبائن امرأة في منتصف الأربعين من عمرها، وبرفقتها فتاة تصغرها بسنوات، وكان من الواضح أنه يُحاول إقناعهما بشراء سيارة ما، إذ بدا مسترسلًا في الحديث معهما، وعيناه تلمعان بذلك البريق المعتاد عندما يتحدث مع الجنس الناعم، فيما تزينت ملامحه بابتسامة ساخرة جذابة، تعكس ثقته المفرطة بنفسه.

استجمعت سيرا شجاعتها وخطت خطوة إلى الداخل، ثم خرج صوتها ناعمًا لكنه مهزوز قليلًا:

-يزن.

أدار رأسه نحوها تاركًا الزبونتين، وعلت ملامحه لمحة دهشة خفيفة ثم استقرت عيناه عليها وهي تقف أمامه، تضم بين يديها الحقيبة الصغيرة بقوة، وكأنها تتمسك بها لتستمد منها بعضًا من الثبات، فيما ارتسمت على شفتيها ابتسامة باهتة تعكس ما بداخلها من اضطراب وارتباك.

ابتسم لها برفق ثم اعتذر من السيدتين، وكانت نظرات الأربعينية مليئة بالفضول وهي تحدق في سيرا نظرات متفحصة، خاصةً حين تركهما يزن وتوجه مباشرة نحو سيرا، فبادرت الأخيرة بتبرير حضورها سريعًا:

-معلش لو كنت عطلتك، بس كنت...

ابتسم لها بحنو عندما بدا مرحبًا بوجودها:

-لا أبدًا...تعالي ادخلي جوه في المكتب، وأنا هخلص واجيلك، استنيني شوية بس، ولا انتي وراكي حاجة.

حركت رأسها بنفي وهتفت بخجل واضح:

-لا ابدًا أنا فاضية.

دخلت سيرا المكتب بخطواتٍ مترددة، ثم جلست على أحد المقاعد المقابلة للزجاج بحيث يُمكنها مراقبة المشهد الخارجي دون أن تُلاحظ، فراحت تتابع تفاصيل الحديث بينه وبين السيدتين، ثم شاهدتهما تتجهان إلى أحد المكاتب الجانبية حيث اختفوا عن ناظريها.

زفرت بتنهيدة طويلة يختلط فيها الضيق بالغيرة، فأخذت تراقب عقارب الساعة في صمتٍ ثقيل يُوشك على خنقها، انتظرت كثيرًا حتى شعرت أن الوقت يمر ببطء شديد، فقررت أن تنهض وتخرج لتتظاهر بتفقد السيارات المعروضة، على أمل أن يراها فيتذكر وجودها.

تجولت بين السيارات تمرر أصابعها على مقابض الأبواب وتتفحص التفاصيل الصغيرة، حتى وجدت نفسها داخل سيارة تقع مباشرة أمام المكتب الذي يجلس فيه، فجلست بداخلها تُقلب محتوياتها وتتظاهر بالاهتمام، بينما عيناها لا تكفان عن مراقبته من خلف الزجاج.

ما أثار حنقها أكثر أن مظاهر الإعجاب والتودد لم تكن من الفتاة الصغيرة، بل من السيدة الأربعينية التي كانت تميل بجسدها وتضحك بجرأة مستفزة، فزمت شفتيها غيظًا وهمست بغيظ مكتوم:

-مش راحم لا كبيرة ولا صغيرة.

ثم في لحظة انفعالٍ حادة ضغطت على بوق السيارة بقوة أثارت انتباه جميع العاملين في المعرض وحتى هو نفسه، انطلقت الأنظار نحوها في دهشة، فحاولت استدراك الموقف بحمحمة خجولة وانكمشت أكثر في مقعدها تداري خجلها بابتسامة مهزوزة.

ويبدو أن تصرفها قد أزعج السيدة التي نهضت مغادرةً بصحبة الفتاة وانسحبت من المعرض بوجهٍ عابس:

-يا دي النيلة أنا طيرت له البيعة ولا أيه؟

بحثت عنه بعينيها مجددًا لكنه اختفى عن أنظارها، فراحت تلتفت يمينًا ويسارًا داخل السيارة، حتى فزعت فجأة عندما فُتح الباب بجوارها، فوجدته يقف مبتسمًا بسخرية قائلاً:

-لو خلصتي لعب، انزلي تعالي أنا فضيت.

تركت السيارة بسرعة تتبعه بخجل، ثم دخلت المكتب من جديد، لكنه جلس على المقعد المقابل لها، فيما وقفت هي حائرة تُصارع ترددها، إلى أن قررت إعطاءه الهدية والمغادرة مباشرة، فمدت يدها بالحقيبة الصغيرة دون أن تنطق، مما جعله يرفع حاجبًا بدهشة، ثم قال:

-إيه دي؟

-هدية.

ردت سيرا بصوتٍ خافت يخالطه توترٍ واضح:

-ايوه ما انا شايف لمين؟

رفع عينيه نحوها بسرعة ورغم أن نبرته كانت مرحة إلا أنها لم تُخفَ نظراته الفاحصة المتفحصة لملامحها المرتبكة.

-هتكون لمين يعني؟ ليك.

قالت ذلك بلهجة تنم عن محاولة يائسة لإخفاء ارتباكها، فيما كانت يدها تنقبض وتنبسط بجانبها، كأنها تبحث عن شيء تُمسك به لتستمد منه الثبات.

-بجد، بس عيد ميلادي لسه مجاش، بس هدية مقبولة.

تظاهر بالخفة لكن داخله لم يكن بنفس القدر من الهدوء؛ شيء في تلك الهدية لامس شيئًا أعمق لديه، فقالت بخجل وهي تُخفض رأسها، تُخفي نظراتها عن عينيه:

-دي عشان موقفك معايا، فاطمة قالتلي لازم اشكرك بالطريقة دي.

تجمدت ابتسامته قليلًا وظهر في عينيه بريق استنكار خافت، ثم قال بتساؤل مستنكر:

-نعم؟!

رمشت بعينيها كأنها لا تدرك سبب رد فعله:

-نعم أيه؟!

قال بجفافٍ ساخر وقد قطب جبينه:

-ومجبتيش فاطمة ليه تديهالي هي؟ انتي زي ما يكون حافظة مش فاهمة.

ارتفعت أنفاسها من الغيظ، لم تستوعب كيف تحولت نيتها الطيبة إلى سبب في السخرية، فردت بانفعالٍ مكتوم:

-بقولك ايه احترم نفسك، اشمعنا أنا اللي بتيجي عندي وبتديني كلام دبش، رغم إن أنت واقف مع كل من هب ودب وتضحك وتتكلم بأسلوب كويس.

كلماتها خرجت كدفعة واحدة، تنتظر أول لحظة غيظ ممزوجة بالغيرة لتندفع بلا هوادة، فضحك بخفة وهو يومئ برأسه مستهزئًا:

-ما أنتي مابتقدميش السبت يا حبيبتي عشان تلاقي الحد، أنتي مدمرة الاسبوع كله.

تقدمت خطوة للأمام ونبرة صوتها بدأت تعلو رغم محاولتها التماسك:

-يا سلام! والهدية دي إيه بقى؟ تصدق أنا غلطانة هات هديتي.

مدت يدها نحوه بحركة سريعة لكنها لم تجرؤ على لمس الصندوق، فقط أرادت أن تُظهر له أنها جادة في سحبها، ولكنه رفع الصندوق عاليًا وهو يبتسم كطفل انتصر في لعبة:

-لا...خلاص حقك عليا، هعتبرها عربون محبة.

ضيقت عينيها بغضب مكبوت وقالت:

-لا ده عربون شكر على موقفك وبس مفيش اكتر من كده.

تجمدت ابتسامته عندما ظهرت نظرة غريبة، تحمل مزيجًا من الحدة والتوتر، ثم قال بصوتٍ منخفض لكنه مشحون:

-شكر إيه يا معتوهة انتي؟!

رمشت عيناها مرتين ثم قالت بذهولٍ لا يخلو من حنق:

-انت بتشمني يا يزن؟

-ما انتي غريبة محسساني إن أنا واحد غريب عنك وجيتي طلبتي مساعدتي فأنا كتر خيري ساعدتك، أنتي عبيطة انتي اللي يفكر يأذيكي أعلم أمه الادب.

جملته الأخيرة انطلقت كتصريحٍ ناري حاد اللهجة، لكنه كان يفيض بحماية دفينة، رغبة مكبوتة في الدفاع عنها لم يُحسن التعبير عنها بالكلمات، فخرجت على هيئة انفعالٍ عشوائي.

هزت سيرا رأسها ببطء تائهة بين ما تسمعه وما تشعر به، ثم تمتمت دون أن ترفع نظرها إليه:

-وده كله ليه بقى؟ مش فاهمة إيه يعني اللي بينا عشان تقولي كده؟

ساد لحظة صمت مشبعة بالأسئلة، تبادل فيها كلاهما نظراتٍ خافتة، وكأنهما يتحسسان حدود العلاقة بينهما دون اعتراف صريح، ثم قال بصوتٍ منخفض لكن يحمل يقينًا:

-لا انتي فاهمة كويس بس بتعشقي تلعبي دور العبيطة.

انقبضت ملامحها من عبارته، لكنها تماسكت ورفعت رأسها بثبات فقالت بنبرة صارمة تكتم فيها رجفة مشاعرها:

-يزن لو سمحت متتعداش حدودك معايا.

قطب جبينه كأنه فوجئ بحدتها، لكنه لم يتراجع بل أكمل بنفس النبرة المستفزة:

-وانتي متعاملنيش كده!

انزعجت من غموضه وردت باستغرابٍ حقيقي:

-أنا بتعامل معاك ازاي مش فاهمة؟

-كأني واحد غريب!

رمشت عدة مرات لا تدري ما الذي يقصده تمامًا، لكنها قالت تلقائيًا:

-طيب ما انت غريب.

ارتفع حاجباه بدهشة واضحة وكأن تلك الكلمة نالت من كرامته بشكل لم يتوقعه، فاقترب قليلًا وقال بلهجة متأججة:

-وقراية الفاتحة اللي ما بينا.

شهقت بصوت مكتوم وابتلعت ريقها في ارتباك بسبب اقترابه الشديد منها، فحاولت أن تتمالك نفسها وقالت بتهكم دفاعي:

-بلها واشرب ميتها، مفيش رابط رسمي ما بينا.

وأشارت بأصابعها في وجهه لعدم وجد حلقة ذهبية في إصبعها، ورغم إدراكه لمقصدها إلا أنه مد يده وأنزل يدها بحسم وتملك، ونبرة صوته هبطت لتلامس أعماقها:

-نزلي صوابعك بس، في عرف عيلة الشعراوي قراية الفاتحة زيها زي الجواز بالظبط.

نظرت إليه شزرًا ورفعت ذقنها بكبرياء أنثوي جريح:

-في عرفكم انتم مش عرفنا احنا، وبعدين دي مش قصتي، هتاخد هديتك ولا لا؟!

لم يجبها بل اكتفى بالتحديق فيها بعمق، ثم فجأة قال بنبرة أخف ما تكون بين الجد والدعابة:

-انتي طمعتي فيها ولا ايه؟!

ثم أمسك بالحقيبة السوداء الصغيرة، يفتحها بروية كأنه يتعامل مع كنزٍ دقيق يقدره رغم كل انفعالاته السابقة معها، أخرج منها صندوقًا أسود صغيرًا مخمليًا، فتحه ببطء لتنكشف له المفاجأة.

سيارة صغيرة الحجم لكنها مشغولة بعنايةٍ بالغة، تُحاكي سيارته الحقيقية في كل تفصيلة، حتى إن الطلاء الأسود لمع تحت ضوء المكتب بانعكاس جذاب يُضفي عليها فخامة مدهشة، وكأنها ليست مجرد ميدالية، بل مجسم رائع يعبر عن روحه.

كانت السيارة معلقة بعلاقة معدنية فضية، بها قطعة فضية صغيرة على شكل حرف "الياء"، منقوشة بدقة بالغة، وإلى جانبها وُضعت وردة وردية ناعمة بكامل نضارتها، كأنها اقتُطفت لتوها من بستان ربيع.

ظل يزن يتأمل الهدية في صمت، عيناه ساكنتان وفي قلبه صخب لا يسمعه سواه، رفع بصره نحوها وقال بنبرة رصينة، لكنها تنزف سعادة:

-أحلى هدية جت لي.

ارتسمت ابتسامة صغيرة على شفتيها، وفي قلبها ارتباك لذيذ، وكأن اعترافه منحها جرعة أمل مفاجئة فتقدمت خطوتين وسألته بتردد:

-بجد عجبتك؟

هز رأسه مؤكدًا وابتسامته تتسع على مهل:

-اوي ده ذوقك؟ ولا ذوق فاطمة؟

رفعت حاجبيها سريعًا وقالت مدافعة بنبرة طفولية:

-لا والله دي ذوقي أنا، أنا أصلاً مكنتش عارفة اجيبلك إيه، بس لما شوفتها حسيتها شبهك.

ابتسم لها بحبٍ وامتنان وهو يتأمل تفاصيل الهدية التي فاجأته، ثم أمسك الوردة الوردية بين أنامله بإعجابٍ خالص، لكنها أثارت داخله تساؤلًا بسيطًا، خرج على هيئة همس يغلب عليه التعجب، إذ لم يتوقع أن تختار وردة بهذا اللون، فكان من المعتاد أن يُختار الأحمر للتعبير عن الود أو الحب، لا الوردي.

-طيب والوردة شبهي بردو؟!

ارتسمت على شفتيها ابتسامة خجولة، ثم نظرت إليه بنظرة مازحة وردت بخفة طفولية ممزوجة ببعض الحرج:

-لا دي شبهي أنا، هي الهدية كلها هتكون شبهك ولا إيه؟ متبقاش نرجسي.

انفجر ضاحكًا على ردها العفوي، لكنها عبست على الفور وقد شعرت أن تعليقها أُخذ على محملٍ ساخر، فمدت يدها فجأة وجذبت الوردة منه بحنق طفولي:

-هاتها بقى طالما اتريقت.

لكنه قبض عليها بسرعة وأعاد جذب الوردة نحوه وهو يقول بحسمٍ مرح يماثل طريقتها:

-لا دي هديتي اوعي.

ثم وضعها بعناية داخل الصندوق كأنه يُعيد كل شيء إلى مكانه الثمين، وأغلقه بحرصٍ بالغ ثم رفع عينيه إليها وقد اشتدت ملامحه فجأة وتحول صوته إلى نبرة خشنة، لكنها رخيمة تحمل دفئًا خفيًا:

-صحيح، سليم كان قالي اشوف معاكي يوم مناسب ليكم عشان الخطوبة.

ارتبكت سيرا على الفور ورفعت وجهها إليه بسرعة وقد استقرت على ملامحها مزيج من الذهول والإنكار ثم تمتمت باضطراب:

-خطوبة إيه؟ لا لا...

أمال رأسه وهو يرمقها بثبات، وكأنه لم يتوقع ردها المُرتبك فرد بهدوءٍ لا يخلو من جدية واضحة:

-لا لا إيه؟ هو لعب عيال؟

تراجعت قليلاً إلى الخلف وهي تسأله بوضوح وجرأة لم يتوقعها منها:

-انت متمسك بيا ليه؟!

نظر إليها طويلًا ثم قال بصوتٍ أخف، كأنه يعترف بشيء لطالما أراد إخفاءه:

-مش يمكن أكون معجب؟

ضحكت ضحكة ساخرة مريرة ثم ردت بتلقائية خالية من التصنع:

-معجب ولهان...معلش أصل أنا عمري ما هصدقك يا يزن إنك بتحبني أو تكون معجب بيا بعد اللي عرفته عنك، اكيد كل اللي انت بتعمله ده عملته مع بنات تانية.

انكمشت ملامحه من كلامها ثم قال مستنكرًا، بنظرة حادة ونبرة تنم عن استفزاز حقيقي:

-انتي دماغك دي محطوط مكانها قلقاس؟

شهقت في استياء وقالت بحدة:

-انت لو فضلت على نفس طريقتك دي صدقني...

قاطعها بانفعال وهو يلوح بيده بحنق لم يُخفِه:

-صدقيني انتي بجد، انتي متعبة بشكل غريب وعجيب، اجيلك كده تيجيلي كده، بصي يا بنت الحلال احنا كنا داخلين البيت من بابه وبشكل رسمي، عايزة تفركشي الحوار عندك أبوكي بلغيه وهو يبلغنا، بس نصيحة فكري.

ثم نظر إليها بحدة وصوته هذه المرة حمل قرارًا لا رجعة فيه:

-وأنا من ناحيتي عمري ما هضغط عليكي، وفي الأخر لو وافقتي يبقي كسبتي كنز كل الناس هتحسدك عليه، لو رفضتي يبقى خسرتي فرصة عمرك.

صمتت للحظات تحدق فيه بعينين متسعتين، لا تدري ما الذي يُفترض أن تقوله، لكن الجملة الأخيرة أثارت ضيقها بشدة فقالت:

-أنا ماشوفتش في بجاحتك بجد؟

رفع حاجبيه متصنعًا اللامبالاة، وقال:

-هعمل نفسي كأني مش سامعك، وبالنسبة لهديتك مش هرميها في وشك بعد ما دمرتي فرحتي بيها، هي ملهاش ذنب.

ثم لمس السيارة المجسمة بأنامله برفق، بينما عيناه شردتا قليلًا كمن يُبعد عن نفسه انكسارًا بصمت.

-أنا ممكن اخدها واطلع اجري ويبقى دمرت فرحتك بيها بجد، بس أنا مش هعمل كده وهسيبلك ذكرى مني تفكرك بيا، سلام.

اتجهت بخطواتها نحو الباب فبدت وكأنها على وشك المغادرة دون رجعة، لكنها توقفت فجأة وقالت بنبرة ساخرة وهي ترفع حاجبًا في سخريةٍ طفيفة:

-مكنش له لزوم الفيديو اللي بعته ليا وانت بتضرب فايق، عرفت إن عندك عضلات.

كأن جملتها الأخيرة سكبت فوقه دلوا من الوقود على نار مشتعلة، فأغمض عينيه بغيظٍ مفرط، يتنفس ببطءٍ محاولًا السيطرة على أعصابه المتأججة، يُكبح الغضب بداخله حتى لا ينفجر.

أما هي فحين رأت الشرار يتطاير من ملامحه دون أن ينطق بكلمة، أدركت أن لحظة الانفجار وشيكة، فتحركت بسرعة وفرت من أمامه وكأنها طفلة خائفة من العقاب، تسبق صوته ونظراته ويده التي ربما في خيالها كانت على وشك أن تقذف بها أي شيء.
                           ***
وصلت أخيرًا إلى منزلها بعد وقتٍ ليس بالهين، قضته في السير شاردة الفكر، تائهة بين دهاليز قلبها وعقلها، وبين صراع المشاعر والخوف من المستقبل، فقد أغلقت هاتفها كما لو أنها تغلق على قلبها أبواب الأمل، وظلت تفكر بجدية في وسيلة تُقنع بها والدها بضرورة إنهاء أمر خطبتها من يزن، ولكنها لم تجد مهربًا سوى الصراحة، فكم من الأسرار ما زادت الأمور إلا تعقيدًا!

ورغم الحزن البادي على ملامحها، فقد أدركت أخيرًا أنها تحبه...نعم تُحبه ولكن للأسف جاءت هذه الحقيقة مع الشخص الخطأ، ولحظها العاثر أن أول دقة حب عرفها قلبها، قد خُصصت لمعشوق الفتيات، ذاك الذي تتهافت عليه القلوب وتتنافس عليه النظرات، فهل كانت دقتها مميزة بما يكفي لتصل إلى قلبه؟ أم أنها ضاعت وسط الزحام؟

تنهدت تنهيدة عميقة وهي تُخرج مفاتيحها بتثاقل لفتح باب الشقة، لكن يدها تجمدت حين وجدت الباب يُفتح من تلقاء نفسه، لتقع عيناها مباشرة على وجه أبلة حكمت، التي انطلقت من عينيها شرارات الغضب كأنها تقطر نيرانًا:

-انتي كنتي فين ده كله؟ وقافلة تليفونك ليه؟

ابتلعت ريقها بتوتر بالغ وهي تحاول تحريك لسانها للبحث عن كذبةٍ سريعة أو مبررٍ مقنع يُهدئ من عاصفة الغضب القادمة:

-كنت عند...يعني بدور...

لكن لم تلبث أن أنهت جملتها المبتورة حتى ظهرت فريال شقيقتها من خلف أبلة حكمت، وهي تقول بعجالة واضحة ونفاد صبر:

-مش وقته يا أبلة بجد، يلا بينا بسرعة يا سيرا تحت ننزل تحت عند أبلة حكمت.

ثم أطلت شاهندا من خلفهما تحمل بين ذراعيها فستانًا وردي اللون، براقًا كفستان أميرات القصص الخيالية، جعل حاجبي سيرا ينعقدان من الدهشة وعدم الفهم، وكادت تسأل عن سبب تلك الأجواء غير المفهومة لكن فاطمة قاطعتها من الخلف، وهي تلهث قليلًا وتحمل حقيبة مليئة بمستحضرات التجميل:

-الحمد لله إنك جيتي، أنا متأخرتش اهو يا أبلة.

دق قلبها بعنف لمجرد الشعور بأن هناك أمرًا جللًا يحدث، فتمتمت بارتباك وفضول حذر:

-هو في إيه؟ إيه اللي بيحصل؟

جاءها الجواب من أبلة حكمت كصفعةٍ مباغتة لا تملك لها ردًّا:

-اللي بيحصل إن يزن حب يعملك مفاجأة وجاب اهله وجاب الشقة والفستان وهنعمل الخطوبة النهاردة بس على الضيق.

قالتها بتذمر لا يخفى، فهي لا تريد مثل هذا الاحتفال الصامت لاختها الصغرى، تدخلت كريمة فكانت آخر من تحدثت، لكنها كانت الأكثر حكمةً واتزانًا حين هتفت بهدوء:

-كده احسن يا أبلة عشان الحسد والمنطقة كلها أصلاً مركزة معانا.

نظرت إليهم سيرا بذهول بينما عقلها يحاول استيعاب الصدمة، فقد كانت صدمةً قاسية ليس لقلبها الغض الذي كانت دقاته تتراقص فرحًا لإصراره عليها، بل لعقلها الذي تجمد للحظات أمام اختيارين لا ثالث لهما.
إما أن تستكين وترتضي ما تخشاه لاحقًا معه، أو أن تثور وتُعلن رفضها فتُشعل سعادتهم بنيران اعتراضها!
مرت أصابعها الرقيقة على تفاصيل الفستان الذي احتضن جسدها بانسيابية تُحاكي صنعًا خاصًا لا يُهدى إلا لملكات مميزة، فبدا وكأن خيوطه نُسجت خصيصًا من أجلها، فقد كان الفستان الوردي يُضفي على ملامحها نعومةً طفولية وسحرًا أنثويًا يُخطف الأبصار، حتى بريقه الخافت تحت الضوء انعكس على وجنتيها فجعلهما أكثر توردًا وجاذبية. 

حتى فاطمة لم تبالغ في مساحيق التجميل، بل اكتفت بلمسات خفيفة أبرزت تقاسيم وجهها المتناسقة فأظهرت جمالها الحقيقي دون تكلف.

وقفت أمام المرآة تتأمل نفسها بينما كانت فريال تحدق بها بانبهار شديد، فخرج صوتها تلقائيًا وهي تهتف بإعجاب:

-بسم الله ما شاء الله يا سيرا، مشوفتش في جمالك وحلاوتك.

ابتسمت سيرا بهدوء متواضع، وقد شعرت بالحرج من كثرة المديح، ثم التفتت نحو فريال التي كانت تنظر إليها بنظرة حب أخوي صافٍ:

-مش اوي كده يا فريال.

رفعت حكمت حاجبها بنفاد صبر وهي تضع الكحل في عينيها بتردد:

-اتنيلي على عينك ده انتي قمر، يا بت والله لو كنا عملنا خطوبة واتفقنا على كل حاجة مكنتيش هتطلعي حلوة كده، حقيقي كل حاجة بتيجي مفاجأة بتبقى حلوة.

لم تستطع سيرا أن تبتسم بل مالت شفتيها إلى الأسفل بامتعاض خفيف، وهمست بصوت يحمل بحة حزينة كأنها تخشى الاعتراف:

-انتي بتراضيني يا أبلة عشان مزعلش؟

تبادلت حكمت نظرة مع فاطمة وأخواتها، ثم التفتت إليهن بنبرة أكثر جدية وقد بدا في صوتها غضب ممزوج بالقلق:

-أنا ماشوفتش في حياتي نحس ونكد قد سيرا اختي بجد، يعني خطيبها عسل وقمر وله شغله وما شاء الله مقتدر ماديًا وعيلته حلوة وكلهم حابينها والواد حب يفاجأها ويعملها خطوبة بسيطة بعد الحوارات اللي حصلتلهم وهي زعلانة ومتضايقة، يا بت بلاش تتبطري على النعمة عشان ماتزولش من وشك.

هزت شاهندا أختها الأخرى رأسها بسرعة وهي تؤكد بصوت جاد:

-اه والله كده هتزول، عيب الناس فرحانة بيكي موت، فكي بوزك ده مش ناقصين، هتكسري فرحة بابا بيكي.

رن هاتف كريمة فجأة فقطعت اللحظة وهي تقول بعجلة بعدما نظرت في شاشته:

-بابا اتصل تاني يلا بسرعة نطلع.

تقدمت فاطمة بهدوء ونظرت إلى سيرا بتمعن ثم قالت بلطف:

-طيب اطلعوا انتوا وأنا هجيبها واطلع وراكم، اظبطلها بس عينيها عشان الهانم في دموع في عينيها.

تأففت حكمت منها وخرجت مع باقي الفتيات على مضض، وقد لمعت نظراتهن بالفضول والقلق في آنٍ واحد، ثم أُغلقت خلفهن باب الشقة، وتركن فاطمة مع سيرا التي ما لبثت أن انهارت، فاقتربت فاطمة منها برقة وقدمت لها منديلاً ورقيًا ثم همست بلين:

-في إيه يا سيرا؟

لم تنتظر سيرا أن تُكمل سؤالها بل انفجرت بالبكاء، بكاء مرير لم يُراعِ التجميل ولا الفستان، لم تعبأ بأي شيء سوى ما ينهش قلبها من الداخل، وردت بصوت متقطع محمل بالقهر:

-مخنوقة يا فاطمة؟

نظرت إليها فاطمة بشفقة حقيقية واحتوت وجهها بنظراتها:

-ليه بس يا سيرا؟! المفروض تفرحي.

أخفضت سيرا رأسها كأنها تخجل من فرحتها الناقصة وهمست:

-افرح دلوقتي وبعد كده ارجع اعيط.

لم تتراجع فاطمة بل كانت كلماتها جاهزة:

-ما انتي بتعيطي دلوقتي هي فارقة إيه؟ وبعدين ترجعي تعيطي ليه يا سيرا؟ يا بنتي خرجي كلام حورية من دماغك.

هزت سيرا رأسها في إنكار يائس وابتلعت ريقها بألم:

-المشكلة مش في كلام حورية بس يا فاطمة، كلامه هو مابيطمنيش، مش صريح أبدًا.

تنهدت فاطمة ببطء وهي تحاول أن تكون عقلانية وسط دوامة المشاعر:

-بس تصرفاته معاكي تفرق يا سيرا، انتي مش غبية لدرجادي يعني.

رفعت سيرا نظراتها بعينين دامعتين وقالت بارتباك:

-مش غبية بس يمكن هو جدع كده مع كل الناس، يمكن ده طبعه يا فاطمة، أنا لسه ماحستش من ناحيته إنه بيخصني بحاجة مميزة عن كل اللي بيعرفهم، حتى كلامه ليا مش صريح، ولا اعترفلي اعتراف صريح إنه بيحبني، رغم إن أنا اتنيلت... 

صمتت للحظة وكأنها تتردد في الاعتراف، ثم لفظت الكلمة أخيرًا بانكسار:

-حبيته، وخايفة اكمل معاه ارجع اندم عشان كانت حقيقته بالنسبالي ظاهرة من الاول.

تقدمت فاطمة خطوة إلى الأمام ووضعت يدها على كتف سيرا برفق:

-يا حبيبتي القلب مالوش سلطان، وكل اللي بتقوليه حقك تفكري فيه، سيرا أنا عارفة وفاهمة كويس اوي انك بتدوري على الاستقرار، بس يا حبيبتي هي فترة الخطوبة دي اتعملت ليه ما عشان نحطه في اختبارات ومواقف من خلالها نعرف نفهم شخصيته، وبردو تعرفي تحددي مشاعرك وتقدري تحددي مشاعره من ناحيتك.

صمتت قليلًا ثم أردفت برزانة الصديقة العاقلة:

-ادي نفسك فرصة واديله هو فرصة كمان، وادي اهلك واحنا كلنا فرصة نفرح، احنا مش بنقولك جواز دي مجرد خطوبة وتلبيس دبل يعني، وبعدين انتي محكتيش ليه إيه اللي حصل معاه وإيه اللي خلاه يجي يعملك مفاجأة؟!

زفرت سيرا بقوة وهي تمسح دموعها بمنديلها، ثم بدأت تحكي وهي تتلوى من ضيقها، تسرد كل ما دار بينها وبينه بنبرة مستنكرة وحانقة، بينما كانت فاطمة تتابعها بعينين متسعتين، وحين أنهت سيرا كلامها وقفت فاطمة وهي تضع يديها على خصرها بتهكم واضح:

-انتي هبلة يا بت ما انتي لمحتي زي العبيطة إنه مفيش دبلة في ايدك ولا رابط رسمي، فهو جه جري وجاب الشبكة واهله.

قالت سيرا سريعًا محاولة تبرير الموقف:

-أنا قولتلك قبلها سليم اخوه هو اللي قاله شوف معاد مناسب.

هزت فاطمة رأسها بعناد وردت:

-لا لا الحوار ده مش حوار اخوه خالص، الحوار ده طالع منه هو.

وفجأة فتحت الباب "دهب" ابنة حكمت، وظهرت بنبرة مهددة لاذعة وكأنها وريثة أمها في الحزم:

-ماما بتقولك يا خالتوا لو ماطلعتيش حالاً هتنزل بالشبشب تضربك.

ضحكت فاطمة وقالت مازحة:
     
-يلا ياستي ابلة حكمت ممكن تعملها وميهماش حد ، تعالي اظبطلك اللي بوظتيه.

                             ***
صعدت سيرا الدرج بصحبة فاطمة، تتباطأ خطواتها كلما اقتربت من باب شقتها، وكأن قلبها يزداد ثقلًا مع كل درجة تخطوها ليس خوفًا بل توترًا لا تعرف كيف تُسميه، مزيجًا من الخجل والحيرة والرهبة من المجهول، كانت تمسك بفستانها من الأسفل بخفة، تخشى أن يتعثر أو تتعثر هي في لحظة كهذه.

وما إن دلفت إلى الشقة حتى انطلقت الزغاريد ونظرات الانبهار والاعجاب انهالت عليها من كل الزوايا، وكأن الجميع كان ينتظر قدومها على أحر من الجمر.

أمسكها والدها بسعادة لم تكن بحاجة كبيرة لرؤيتها وتقدم بها حيث بجلس يزن في أريكة ضخمة في منتصف الصالة وحوله عائلته في ثياب رسمية بسيطة يجلسون في رقي يتابعون لحظة تقدم يزن منها وعلى وجهه ابتسامة بسيطة، فتركت النظر إليهم وتعمقت النظر به.

كان به شيء من الجاذبية المختلفة هذه المرة، لم يكن يرتدي كرافته، فقط بذلة رمادية داكنة، وقميص أبيض مفتوح الزر الأعلى، مما أضفى عليه لمسة من الأناقة العصرية، شعره البني كان مصففًا بعناية بينما عيناه كعادته كانتا تسبحان في سحابة من الغموض، لا تقرأ فيهما وعدًا ولا اعترافًا، فقط سكون مربك ونظرة مترددة، جعلتها تُشدد قبضتها على طرف فستانها دون أن تشعر.

حاولت أن تفهم تلك النظرة ولكن عينيه لم تجبها  
بل زادت حيرتها وارتباكها، وبينما هي غارقة في كم التساؤلات التي طرقت عقلها، انتبهت إلى صوت سليم الرخيم وهو يطلب من شمس زوجته تقديم علبة مخملية سوداء اللون إلى يزن، لتبدأ مراسم الخطبة في بساطة شديدة بين العائلتين وسط فرحة خالصة.

وضعتها شمس أمام يزن فوق الطاولة ثم فتحتها بهدوء وهي تنظر إلى سيرا التي أصابها الدهشة من جمال قطع المجوهرات التي اختيرت بعناية:

-على فكرة كلها ذوق يزن، مبروك عليكي يا حبيبتي.

ابتسمت إليها سيرا ابتسامة مهزوزة ثم انتقلت بنظراتها إليه وجدته يجذب عقد ناعم التصميم، تتوسطه قطعة صغيرة من الزمرد الوردي، واقترب منها حتى يضعه حول عنقها فتيبس جسدها بخجل ولم تقترب منه بل ظلت كالصنم عندما وصل إلى أنفها رائحة عطره التي سببت إليها خدر وادخلتها في عالم آخر، فنهضت مليكة تساعده من الاتجاه الآخر في إغلاق العقد.

فهمس إليها بنبرة ناعمة عابثة:

-مطلعتيش انتي بس اللي بتفهمي في الذوق.

ومن بعدها بدأ في تقديم أسورة تشبه تصميم العقد إلى حد كبير ووضعها حول معصمها وتعمد لمس يدها بأصابعه، فسبب لها توتر وخجل ظهر على ملامحها التي توردت بصورة واضحة، وتلاه خاتم بسيط به فص زمردي وردي ثم دبلة رقيقة جدًا، وكأنها اختيرت بعناية لتُشبه ذوقها المتواضع لا تلمع ببهرجة، بل بلمعة صادقة تشبه لمعة الخجل في عينيها.

وجاء دورها لتساعده في ارتداء دبلته الفضية، إلا أنها كانت كالخرقاء وهي تضعها في إصبعه، بينما هو كان على أتم الاستمتاع بها.

وبدأت المباركات والتهاني والتقاط الصور لهما منفردين ومع العائلة، وفي ظل انشغال العائلتين بسعادتهما، انفرد يزن بنفسه في الشرفة ثم أشار إليها لتتحرك خلفه.

للحظة أصابها الخجل وشعرت أن عيون الجميع تتربص بها، ولكن أبلة حكمت كعادتها كانت تستحوذ على انتباه سليم وزيدان مع زوجها صافي، بينما كانت أخواتها يجلسن بجانب شمس ومليكة يتعرفن عليهما بود ومحبة...أما منال فكانت تجلس بجانب والدة سيرا ووالدها، يتحدثن في أمور الشقة وموعد الزواج، حيث أوكل إليها سليم تلك المهمة كي لا يعرف يزن بها.
                            ***
تركت الجميع خلفها ودخلت إلى الشرفة تقترب منه في خجل وتوتر، ولكنها استطاعت رسم العبوس على وجهها كتعبير بسيط عن تجاوزه إليها في أمر خطبتهما، رغم أن قلبها كان يفيض بمشاعر لا يمكن اختزالها في عتاب بسيط.

-ممكن افهم إيه اللي حصل ده؟

ابتعد أكثر في الشرفة متعمدًا التوغل لأبعد نقطة لا تصل إليها أعين المتلصصين، ثم استدار إليها وهمس بتسلية وعيناه يملؤهما مزيج من المشاغبة والثقة:

-مفاجأة يا فوزي.

زمت شفتيها بضيق وهي تعقد ذراعيها أمام صدرها في اعتراض واضح، كأنها تُحكم حول نفسها درعًا من الحماية من عبثه المعتاد:

-يزن أنا نفسي مرة تكلمني بجد!

أدار وجهه نحوها مبتسمًا ووضع يده في جيب سرواله بجاذبيته الخاصة، بينما القميص الأبيض يُظهر جزءًا من صدره العريض، في لمحة لم تكن تخلو من تعمد، واقترب قليلًا وهمس بنبرة ناعمة مزج فيها بين الجدية والعبث:

-بذمتك يا نكدية مش المفروض تفرحي إن خطيبك فرفوش وبيحب الضحك والهزار؟

زفرت بهدوء وهي تحاول لملمة انفعالاتها، ثم تقدمت خطوة نحوه ووقفت بجانبه تستند على السور الحديدي، كأنها تبحث عن توازن فقدته فجأة:

-المفروض افرح لو هو بيعمل معايا أنا بس كده، لكن ازاي اللي ربنا وقعني فيه ماشي بمبدأ "حبيبي على نياته كل البنات اخواته".

ابتسم بسخرية جذابة وعيناه تلمعان بدهاء وهو يردف بخفوت عابث:

-غلبان يعني...والله عندك حق أنا غلبان، واتخلقت مبعرفش اعيش في نكد وغم، فعمرك ما هتلاقيني بنكد عليكي خالص.

ضحكت ضحكة صغيرة لا إرادية سرعان ما أخمدتها وقالت بنبرة متحفظة:

-اممم محاولاتك كلها بتوضح إنك بتجذب انتباهي ليك...

رفع حاجبه بدهشة مصطنعة وقال بتفاخر وهو يشير نحو قلبها:

-اجذب؟! سيرا أنا أكاد اجزم أني قاعد هنا ومربع.

هزت رأسها في امتعاض ساخر:

-ماتخدش مقلب في نفسك يا يزن بس، أنا بس لبست الفستان ورضيت باللي انت عملته عشان ماسببش أي إحراج ليك وفي الأخر تصعب عليا.

رد بسخرية خفيفة وصوته محمل بشيء من الرقة المقنعة:

-أنا وقعت في واحدة قلبها قلب خاسية.

نظرت إليه بحنق طفيف ولم تتلفظ بحرف، فسارع هو بمشاكستها وهو يرقق نبرته لتكون الطف واحن:

-فكي بوزك في حد يبقى خطوبته النهاردة يبوز بالشكل ده؟!

تنهدت بهدوء وهي تحاول أن تخرج من دائرة الانفعالات التي زُجت فيها عنوه بسبب رودوه الساخرة، فهمست باسمه بعد لحظات بسيطة من التفكير:

-يزن.

انتبه إليها وابتسامته الجذابة لا تزال تتعلق بشفتيه فتضيف وسامة ورقي:

-نعم؟

-هو انت بتتسلى بيا؟!

تغيرت ملامحه قليلًا ولكنه رد بجدية مغلفة بالدهشة:

-انتي عبيطة؟، يعني بعد كل الفرهدة دي وفي الآخر بتسلى بيكي.

نزلت عيناها للأرض كأنها تخجل من نفسها، أو من الشك الذي سكن قلبها قبل أن يتحقق الأمان داخله ثم همست:

-لازم تعذرني أنت عمرك ما كنت واضح معايا، وبعدين ما أنت ممكن تكون عملت مفاجآت لبنات قبلي يعني منين هعرف أنا مميزة في إيه؟!

اقترب منها خطوة ورفع حاجبيه وهو ينظر ليدها الموضوعة على السور الحديدي:

-في إن دبلتي في إيدك؟ في إن مابعملش مفاجآت لبنات أصلاً، الحقيقة بيتعملي مابعملش، في إن مفيش أي حاجة عملتها معاكي هعملها مع غيرك.

نظرت له نظرة طويلة وعميقة، كأنها تبحث في ملامحه عن صدق نادر الظهور ثم قالت بهدوء:

-عمرك ضربت حد عشان بنت قبل كده؟، زي ما ضربت فايق عشاني؟!

ضحك وقال بعبث:

-اه طبعًا ضربت، أنا يا بنتي جدع أصلاً.

تسارعت أنفاسها ثم رفعت يدها بتمثيل الغضب:

-شوفت...شوفت ده اللي قولته وبقوله، بتقولي حاجة وبتحسسني إن مفيش زيي، وبعدها في نفس الثانية بتنزلي لسابع أرض.

ابتسم بلطف هذه المرة وقال بهدوء:

-قصدك إن أنا مش واضح؟

أجابت بحنق طفولي:

-الصراحة اه.

هز كتفيه ثم قال بنبرة خفيفة الظل:

-طيب ما دي حاجة حلوة، انك تتخطبي لواحد مش واضح، فتحسي كل ثانية إنك في جديد، عشان الملل وكده، بصي أنا هخليها خطوبة مختلفة تحلفي بيها العمر كله.

للحظة كادت تصرخ من عبثه المستمر، ولكنها تعمدت أن تزفر بضيق وهي تقول بنبرة غاضبة يملأها اللا مبالاة:

-أنا تعبت بص أنا اللي غلطانة وكلت الجبنة.

وكادت تتحرك لتتركه وحده إلا أنه أوقفها سريعًا، ومال نحوها وهو يقول بنبرة هادئة لطيفة، وحنونه رغم لمحة السخرية الملاحقة لصوته:

-خدي هنا انتي هتتقمصي وتمشي، أنا مش عايز ازعلك في يوم زي ده، كفاية اللي عامله فيكي.

رمقته باستغراب لتقلبه السريع، ولكنها لمحته يتأمل يديها وشاكسها بخفوت:

-طيب بذمتك ذوقي مش حلو، الفستان حلو عليكي وشبهك حتى الشبكة....

أمسك يدها بحنان وكأنها كنز بين يديه، يتحسس دبلته ببسمة خفيفة ثم الأسورة، فمرر أصابعه على فص الزمرد الوردي:

-شبهك اوي، عجبتك؟

ابتسمت بخجل لم تستطع إخفاءه وقالت بصوت هامس:

-حلوين اوي، عجبوني.

ابتسم بثقة وهو يغمز اليها بطرف عينيه:

-أنا جيبتها من نفسي فاطمة مقالتليش وعلى فكرة كلهم جايبين هدايا ليكي من المحل عند سليم، بس أنا اللي اختارتها كلها، مفيش حد يجيب على ذوقه طول ما أنا موجود.

نظرت له نظرة طويلة ثم قالت بعدم فهم:

-كتر خيرهم، بس ليه مخلتهمش يجيبوا على ذوقهم، اتدخلت ليه؟

رد بنظرة امتلكت كل ملامحها:

-مابحبش حد يتدخل برأيه في حاجة لحد يخصني.

تسارعت أنفاسها خجلاً، ولكنها حاولت السيطرة على نفسها بسؤالها الذي طرق أبواب عقلها فجأة عندما تذكرت حديث فاطمة إليها:

-يزن.

همهم إليها وهو يستكمل ملامسة دبلتها في شرود تام:

-امممم.

ابتلعت لعابها وهي تسرد مشاعرها بهدوء تام رغم ملامسته لدبلتها ويدها التي سببت لها توتر وخجل كبير:

-بما إنك قولتلي إن مفيش حاجة هتعملها معايا أو عملتها معايا قبل كده عملتها مع غيري، فأنا عايزة احس إن مميزة أكتر.

رفع حاجبيه بدهشة طفولية:

-اشيلك وارميكي من البلكونة عشان تحسي إنك في التميز مفيش حد هيعديكي.

ضحكت وهي تهز رأسها بنفي ثم تمتمت بنبرة شبه راجية يتعلق بطرف خيطها الأمل في تحقيق مرادها الطفولي، فكانت رقيقة جدًا وهي تهمس بنعومة أمام أنظاره المتعلقة بها بشغف:

-بطل هزار، لا طبعًا، أنا عايزاك نتصور بتليفونك وتنزل صورتنا على كل السوشيال ميديا بتاعتك وهسيبلك الكابشن تحط فيه اللي انت عايزه، مش هتدخل طالما مابتحبش حد يتدخل في حاجة تخص حد يخصك.

رغم تأثره الواضح بها ورغم الشرارة التي اشتعلت في عينيه وهو يراها تطالبه بإثبات علني لمكانتها، إلا أنه أخفى ذلك خلف قناع من العبث والسخرية وهمس إليها بنبرة لاهية:

-إيه شغل البنات الهايفة ده؟!

ابتسمت بدلال عفوي وهي تميل برأسها قليلاً نحوه وقد اختلط في نبرتها المزاح بشيء خافت من العتاب الطفولي:

-معلش خدني على قد عقلي، ولا انت خايف الفانز يسيبوك ويخلعوا منك ويعملوا انفولو؟!

ضحك بخفة وهو ينظر إلى عينيها نظرة طويلة، ثم أردف بثقة لا تخلو من التحدي:

-نتراهن لو أنا نزلت الصورة وماجبتش ريتش اعلى من أي صورة عندي يبقي...

رفعت حاجبيها في مكر طفولي، وتقدمت منه خطوة وكأنها تدخل ساحة منافسة:

-يبقى احكم عليك تمسح كل البنات عندك وتسيبني أنا بس.

أشار إليها بإصبعه محذرًا وهو يبتسم:

-ولو أنا اللي كسبت هتعمليلي طاجن بامية.

ضحكت بصوت خافت وهي تهز رأسها موافقة:

-تمام موافقة.

ابتسم واتخذ خطوة للوراء وهو يشير لها بيده:

-تعالي اقفي جنبي وبيني الدبلة.

نظرت له بدهشة متعجبة من ثقته اللا محدودة، وقالت وهي تتقدم نحوه:

-إيه ده انت واثق اوي؟!

أجابها بنبرة ثابتة تملأها الصلابة والتباهي:

-أنا مفيش حد في الدنيا دي قدر ونجح يهز ثقتي في نفسي.

رغم كلماته المتباهية إلا أن دقات قلبها تسارعت، وشعور بالغبطة الممزوجة بالتوتر استولى على كيانها، وكأنها تقف على أعتاب لحظة استثنائية لا تتكرر.

- مغرور.

همست بها بغيظ ناعم وهي تقف بجواره، بينما هو كان قد رفع هاتفه عاليًا وضبط الزاوية بعناية، ثم التقط صورة لهما؛ هو يبتسم بهدوءه الواثق، وهي قد أغلقت عينيها في لحظة فطرية بريئة، ورفعت يدها اليمنى لتُظهر دبلتهما، وقد ارتسمت على شفتيها ابتسامة واسعة، تكاد تُخبر العالم كله بسعادتها.

مرت لحظة من الصمت لم تُرد أن تنكسر، لكن صوت لمسته وهو ينزل الهاتف ويشرع في تحميل الصورة على كل تطبيقات التواصل أعادها للواقع.

تابعته بشغف واهتمام وهي ترى أصابعه تتحرك على الشاشة، وفوجئت به يكتب دون أن يستشيرها، كلماته التي اقتحمت قلبها دون استئذان:

"One moment, one ring, one forever with my new world".

عندها فقط شعرت وكأنها نُقلت إلى عالم آخر...عالم لا يسكنه إلا هي وهو، حيث اعتراف ناعم غير مباشر، لكنه كافٍ ليُطبطب على كل شكٍ اعترى قلبها من ناحيته حتى لو كان مؤقتًا.

                               ****

كانت أجواء الحفل بسيطة للغاية أقرب إلى تجمع عائلي هادئ، تسوده المودة والبساطة بعيدًا عن التكلف أو المظاهر الصاخبة، ومع ذلك أراد "قاسم وعبود" أن يحتفيا بأختهما بطريقة شبابية تنفض عنها عبء الأيام وتزرع البهجة في قلبها، لكنهما لم يحتسبا أن تلك الألعاب النارية التي اشترياها على سبيل المرح ستقع في أيدي الصغار، أولئك الذين امتلأت عقولهم بمقاطع "تيك توك" المتداولة، وقرروا تنفيذ أحدها داخل غرفة سيرا تحديدًا متسللين إليها سرًا، متحمسين لتصوير مغامرتهم وكأنهم أبطال، ولكن لم يدركوا حينها أن ما بدأوه باللعب قد ينتهي بكارثة.

وفي الخارج كانت حكمت تُنادي الجميع لتناول العشاء وصوتها يعلو فوق أحاديثهم، وعيناها تجولان على الأطباق التي رتبتها بعناية، ورغم اعتراضات سليم المستمرة ظلت تُصر بإلحاح مزعج لا يهدأ، عندها همس سليم لزيدان بنبرة ممتلئة بالحنق وكأنه على وشك الانفجار:

-أنا مفيش حد تعبني قد الست دي.

فرد زيدان ساخرًا وهو يطالعها من طرف عينه:

-دي ترهق مديرية اقسم بالله، المفروض ياخدوها عندنا في الشرطة يعذبوا بها المجرمين.

همس بها بغلٍ مكتوم فقد ضاق ذرعًا بتدخلها في كل كبيرة وصغيرة، رغم أنه ما إن تقع عيناها عليه حتى يبتسم مُجبرًا، محاولًا تفادي الاصطدام بها، فابتسامته لا تحمل سوى رغبة في النجاة من ضجيجها.

جلس الجميع على طاولة السفرة الكبيرة والأطباق تتوسطها، لكن سيرا كانت تقف في الخلف قرب نهاية الممر الطويل المؤدي إلى الغرف، فكانت جامدة تمامًا كأن الزمن توقف في عينيها، حدقت نحو الردهة بذهول مريب ونظرتها معلقة بها لا ترمش ولا تنطق، فقد أصيبت خلاياها بخدر غريب كأنها انفصلت عن جسدها، وعجزت عن التعبير أو حتى الحركة.

لاحظ يزن غيابها فالتفت نحو المقعد الخالي بجواره، وسألها بتعجب وهو ينادي عليها:

-سيرا تعالي واقفة ليه؟

لم تجبه فقط رفعت يدها المرتجفة وأشارت نحو الردهة، وعيناها تغرورقان بالدموع حيث كانت على وشك الانهيار عندما رأت خيوط الدخان تتسلل من أسفل باب غرفتها...ثم انفجرت صرختها حادة مرتعشة تمزق الهواء:

-اوضتي بتولع.

خيم الذعر في المكان كالصاعقة صرخات وحركة عشوائية في وجود أصوات متقاطعة، لكن يزن لم ينتظر وتحرك بسرعة خاطفة، مندفعًا نحوها ولحق بها وهو يحاول أن يثنيها عن الاقتراب، فجذبها بذراعه بقوة وهو يصرخ:

-استني يا سيرا ماتقربيش!

لكنها كانت كمَن فقدت عقلها تتلوى بين ذراعيه، تبكي وتصرخ بهستيريا، نظراتها عالقة بالأشياء التي تحترق أمامها السرير....الكتب....الثياب، حتى الصور ومرآتها الصغيرة التي لطالما جلست أمامها تتزين بحياء كلها تحولت إلى رماد.

-اوضتي بتولع يا يزن، اوضتي.

كانت تكررها بصوت مبحوح وممزق كأنها تودع عمرًا كاملًا، تلك الغرفة لم تكن مجرد مكان للنوم، بل كانت وطنها الصغير وحدود عالمها، ركنها الخاص الذي تلوذ به من ضوضاء عائلتها ومن أسئلتهم، من زحام متواجد ومستمر وقيود مفروضة عليها، فقد كانت فيها تبكي بحرية، تضحك وتلهو، وتغفو على وسادة لا تشاركها مع أحد.

أما يزن فكان يحاوطها بذراعيه، يمسكها بعنف خوفًا من أن تندفع نحو النيران وقلبه يخفق بجنون، بينما انطلق أفراد العائلة في سباق مع الزمن، الرجال اندفعوا لإخماد الحريق بما توفر لديهم، والنساء أخذن يخرجن الأطفال بسرعة من الشقة ثم من البناية كلها. 

أما سيرا فقد دفعها يزن نحو الخارج رغم مقاومتها المستميتة، وعندما لمح عبود وقاسم صاح بهما بصوت آمر لا يقبل نقاشًا:

-خرجوها برة خالص، واوعوا تسيبوها لحظة.

تلقفها الشقيقان المرتبكان بينما كانت تتشنج بحرقة، تتمسك بأنفاسها بصعوبة وهي تكرر بجزع:

-اوضتي اتحرقت، لا..اوضتي.

لقد نُزعت من ملاذها كأنها اقتُلعت من جذورها، فرفعت رأسها نحو الأعلى حيث تتصاعد أعمدة الدخان من شرفتها، نظرتها كانت مكسورة مملوءة بحزن ثقيل، فقد كانت الوحيدة التي تبكي، بينما كان أفراد العائلة يُرددون الأدعية أن يُطفئ الله الحريق دون أن يمتد إلى بقية الشقة، لأن الجميع يعلم أن العواقب ستكون وخيمة...لن يكون هنالك بيت وسيتشردون جميعًا.

اقتربت شمس منها وجذبتها إلى حضنها برفق، ثم احتضنتها وهمست بصوت متهدج:

-متعيطيش كده، احمدي ربنا إنك مكنتيش فيها.

لكن عقل سيرا كان قد سافر بعيدًا حيث لا صوت يسمعه أحد فقد كانت تبحث في داخلها عن إجابة أين ستنام الليلة؟ أي مساحة في هذا المنزل المزدحم ستحتضن أنوثتها؟ كيف سترتدي ملابسها وسط أزواج شقيقاتها؟ وأين ستجد متنفسًا بعيدًا عنهم؟ متى ستظل ترتدي إسدال طويل تخنق به حريتها كل يوم؟

وبعد فترة قصيرة استطاع الرجال من عائلة سيرا، إلى جانب يزن واخويه وبعض الجيران، أن يُخمدوا الحريق بمجهودات بطولية، لكن الأضرار كانت جسيمة، فالغرفة بكل تفاصيلها صارت خرابًا، لم يعد يُمكن استخدامها، فقد أصبحت خارج نطاق الحياة وكأنها لم تكن.
                             ****

صعدت سيرا إلى سطح المنزل بعد فترة بسيطة، هاربة من أعينهم المتطفلة التي ظلت تلاحق دموعها، ومن محاولاتهم المستمرة في إسكاتها دون جدوى، وكأن البكاء خطأ في لحظة كهذه! شعرت حينها بثقلٍ مهين من الحرج أمام عائلة يزن، وكأنها باتت عبئًا ثقيلًا في عيون الجميع، حتى فقدت قدرتها على التعبير أو حتى البقاء وسطهم، فكل ما أرادته لحظتها أن تبتعد، أن تُسكت ضجيج تساؤلاتهم وتتجاهل توسلات فاطمة بالذهاب معها للمبيت، وأن تهرب...تهرب من كل شيء.

جلست فوق مقعد خشبي قديم متآكل الحواف، استندت بكفيها فوق رأسها كمَن يحمل أثقال الدنيا فوق عنقه، تنفست ببطء ولكن بثقل، وكأن الهواء نفسه بات خانقًا لا يُحتمل.

وفجأة تسلل صوته إليها هادئًا وناعمًا كنسمة باردة تلامس وجهها في ليلة خانقة حارة:

-لسه بتعيطي؟

رفعت رأسها بتثاقل وجهها غارق بالدموع، عينان محمرتان وأنف متورد من شدة البكاء، فتمتمت بصوتٍ مبحوح متشبع بالحزن:

-لا خلاص مبعيطش.

رفع حاجبيه بدهشة ساخرة ونظر إلى ملامحها المنكسرة بتهكم طفيف لكنه لا يخلو من العطف:

-مابتعيطيش ايه؟! انتي مش شايفة وشك والفستان! ده انتي مغرقة الأرض بدموعك.

مسحت دموعها على عجل بظهر كفها، متظاهرة بالتماسك بينما نبرتها خرجت حادة تختلط بين الغضب والضعف:

-مش لدرجادي!

تنهد بعمق وهو يراقب ارتباكها فاقترب منها قليلًا بحذر، ثم همس بتساؤل خافت أقرب إلى العتاب الرقيق:

-بتعيطي ليه كده؟!

لم تحتمل السؤال فعادت دموعها تنهمر كأنما فتحت السدود من جديد، نظرت إليه بضعف وعيناها تنطقان بمدى حزنها، ثم قالت بصوت مكسور يشبه نغمة الأطفال حين يُخذلون:

-عشان اوضتي اتحرقت.

كاد أن يمد يده لاحتضانها ليحتوي هذا الانكسار ولكنه تراجع، فما بينهما لم يُحسم بعد بزواج، فهناك حدود وضعها العقل رغم أن القلب تجاوزها منذ أن رآها وأعجب بها، لكن يده خانت صمته وامتدت لتُمسك بكفها المرتجف وتربت فوقه بحنوٍ بالغ، فقال بلطف وبصوت دافئ يلامس الجراح برقة:

-طيب يا سيرا ده قضاء وقدر يا ماما، احمدي ربنا إنك مكنتيش فيها، وبعدين هتتظبط تاني متقلقيش.

نظرت إليه بصمت ولم ترد، لكن نظرتها كانت مليئة بتساؤلات لم تجد لها إجابات، فقد كانت غارقة في دوامة صمتها، لذا ارتبك من ردة فعلها وسارع بالسؤال:

-ساكتة ليه؟!

زمت شفتيها وشعرت أنها على وشك الانفجار، فتنهدت بأسى شديد ثم قالت بصوت أشبه بالهمس:

-عشان محدش فاهم حاجة.

شعر أن هناك شيئًا أعمق من مجرد حزن على غرفة، فازداد اهتمامه وربت على يدها مرة أخرى بحنوٍ صادق:

-طيب فهميني؟ في حاجة كانت جوه اتحرقت زعلانة عليها؟

هزت رأسها نفيًا ثم ضحكت بسخرية حزينة:

-لا...بس أنا اللي بقيت مشردة.

ابتسم ابتسامة خفيفة ثم بدأت تتسع تدريجيًا، ولكن سرعان ما واجهته بنظرة غاضبة، وقالت بصوتٍ ممتعض:

-ماتضحكش أنا فعلاً بقيت مشردة.

قبض على كفها برفق وهو يبتسم بمودة وممازحة:

-يا نهار ابيض! مشردة مرة واحدة! خطيبة يزن الشعراوي تتشرد كده وأنا موجود طيب دي تبقى عيب في حقي.

أشاحت ببصرها عنه محاولةً أن تمنع دمعة جديدة من السقوط، ثم قالت بنبرة مجهدة وسردت جزءًا من ألمها بصوتٍ مهزوم:

-انت أصلاً ماتعرفش حاجة، اوضتي دي كل حياتي، باكل وبشرب وبنام وبهرب فيها من دوشة عيال اخواتي، بتنفس فيها بحرية بعيد عن كل شوية لابسة الطرحة عشان لو في جوز واحدة من اخواتي موجود، كنت بفصل فيها من الزن والدوشة، دلوقتي هنام فين؟ ده بعيد عن إن أنا زعلانة على حاجاتي اللي اتحرقت.

نظر إليها نظرة مطولة عندما أدرك وقتها أنها ليست مجرد فتاة مدللة تبكي على غرفة، بل هي إنسانة كانت تحتمي بجدرانها الهشة، فهمس بصوت حنون يشبه وعدًا غير منطوق:

-حاجاتك تتعوض، أما بقى حكاية النوم تعالي معايا لغاية ما اوضتك ترجع تاني.

رفعت حاجبيها بدهشة وكأنها لم تصدق ما سمعت:

-نعم؟!

صمت لحظات ثم قال بنبرة عشوائية ولكن يملؤها الاهتمام:

-أنا بتكلم بجد، تعالي نامي عند شمس وهجيب سليم ينام معانا تحت...ولا اقولك لا سليم مقدرش اقوله كده، زيدان اقدر عليه عادي واقعده معايا تحت بالعافية.

ضحكت من بين دموعها ضحكة صغيرة ولكنها حقيقية لأول مرة منذ ساعات:

-شكرًا يا يزن، بس مينفعش أجي امشي الناس من بيوتها، وبعدين متقلقش أكيد هيشوفولي مكان يعني! مش هنام في الشارع متخافش.

تغيرت ملامحه ولم يعد يبتسم، بل بدا وكأنه يفكر في كل طريقة ممكنة لإسعادها، ثم قال بجدية واهتمام:

-طيب تعالي هحجزلك في فندق تقعدي فيه!

نظرت إليه بعدم رضا ثم قالت بحدة ولكن نبرتها تخفي امتنانًا:

-لا طبعًا مش لدرجادي، هتصرف متخلنيش اندم إن اتكلمت معاك وفضفضت في كلمتين.

أجابها بسرعة وبكل صدق وكأن كل ما يهمه فقط هو أن يطمئن قلبها:

-تندمي ليه؟ أنا عايز راحتك وتكوني مبسوطة، مش عايزك تزعلي ولا تشيلي هم حاجة.

نظرت إليه مطولًا ثم ابتسمت ابتسامة هادئة، كانت تحمل شكرًا صامتًا وشيئًا من المزاح الطفيف الذي أرادت به أن تُخفف توتر الجو الذي حدث بسببها:

-مش زعلانة، معقولة أبقى خطيبة يزن الشعراوي وازعل بردو؟

ارتسمت على وجهه ابتسامة عميقة امتدت بهدوء على ملامحه، لكنه لم يرد فهو لم يكن بحاجة إلى كلمات؛ بل اكتفى بالنظر إليها نظرة طويلة هادئة مشبعة بالعاطفة والحنان، أما عيناه كانتا تتحدثان نيابة عنه وكأنها تخبرها بصمته العميق أنه سيكون دائمًا إلى جوارها.

وبالرغم من أنها حاولت مقاومة أثر تلك النظرة، إلا أنها شعرت بخجلٍ دافئ يتسلل إليها، فخفضت بصرها سريعًا وابتعدت بعينيها عنه كأنها تحمي نفسها من ذوبانٍ مُحتمل في عاطفته، لكنها لم تستطع إخفاء تلك الرجفة الطفيفة التي اجتاحت قلبها للحظة.

ولكن اندفع أحد الأطفال إلى السطح بسرعة وهو يبكي بانفعال، فانتفضت سيرا من مكانها واقفة في توتر، وعينها على وجه الصغير الذي هرع نحوها، ضمت ذراعيها إليه سريعًا تستقبله بأحضانها قبل أن تتساءل بفزعٍ أمومي:

-مالك يا ميمو بتعيط ليه؟

رفع وجهه نحوها والدموع تنحدر على خديه الصغيرين، نظر إليها برجاء طفولي خالص وقال بنبرة مرتجفة:

-خبيني يا خالتو، ماما عايزة تضربني عشان أنا اللي ولعت في اوضتك.

في لحظة سكن الهواء من حولها، وتجمدت ملامحها لثوانٍ قبل أن يندفع يزن بسرعة ويفصل الطفل عنها، وهو يقول بلهجة ساخرة تخفي قلقًا داخليًا:

-انت عبيط يالا؟! جاي تستخبي في حضن الوحش، دي احتمال تقتلك دلوقتي.

بدأت يده تدفع الطفل برفق بعيدًا عنها، لكن صوتها خرج متهدجًا من بين شفتيها، يحمل غضبًا بدأ يتصاعد كسُحب عاصفة:

-بقى أنت يا ميمو يا كلب اللي ولعت في اوضتي؟

كان صوتها متوترًا ومشحونًا، والطفل بدأ يرتجف قليلًا من حدة الموقف، وقبل أن يجيب اندفعت فريال إلى السطح، وهي تلوح بحذاء في يدها وتصرخ بغضب شديد:

-هو فين ابن العبيطة ده؟

سارع يزن ووقف أمام الطفل ومد ذراعيه كحاجز حائل بينه وبين العاصفتين، يتحدث بتوترٍ يحاول تهدئة الأجواء:

-اهدو يا جماعة ده في الاول وفي الأخر عيل صغير، وبعدين احنا المفروض ندور على مين اللي حط العاب نارية في اوضتك.

وقبل أن تزداد حدة الموقف صاح الصغير فجأة بحماس، وكأن الفكرة أنقذته من الغرق:

-خالو قاسم وعبود يا ماما أنا بريء.

التفتت سيرا إليه فاغرةً شفتيها بدهشة لا تخلو من الصدمة، بينما قال يزن بسخرية مرهقة:

-اهو بريء يا جماعة اهدو بقى.

ولكن سيرا لم تملك نفسها فقد شعرت بأن غضبها اقترب من نقطة الانفجار، فتشنج وجهها وانسحب دمها إلى وجنتيها المتقدتين، ثم رفعت طرف فستانها برشاقة وهي تتراجع للخلف خطوتين استعدادًا للركض، وفي لحظة اندفعت كالسهم نحو الدرج، تنوي الانتقام دون تفكير، هاتفه بصوت قوي اخترق ليل السطح:

-قاســــم....عبــــود.

غزت نبرتها لذة انتقام بدت واضحة، وكأن الحريق الذي أكل حجرتها لم يطفئ بعد، بل استقر في صدرها، فركضت خلفها فريال تهتف باسمها وتحاول اللحاق بها، بينما ظل يزن في مكانه يراقب المشهد بخليط من الارتباك والضحك المذهول، وما إن ابتعدتا حتى انخفض يزن قليلًا إلى مستوى الطفل، ينظر إليه وهو يضع يده فوق كتفه بحذر، وسأله بنبرة مرحة ولكنها تحمل فضولًا صريحًا:

-هيعملوا إيه في خالك عبود وقاسم؟!

رمش الصغير بعينيه عدة مرات، ثم نظر إليه بجدية طفولية مدهشة، وابتسامة شريرة بدأت تتسلل إلى ملامحه، وهو يجيب بصوت يضج بالحماس والانتصار:

-مش هما اللي هيعملوا، دي خالتو حكمت هتعلقهم على باب البيت. 

ضحك يزن رغماً عنه ومرر يده فوق شعر الصغير وهو يتمتم:

-لا بقى... احنا لازم ننزل ونتفرج، الحفلة دي مش هتفوتني!
                            ******

مر يومان ولم تتعافَ غرفتها بعد من آثار الحريق، ظلت الجدران عارية تفوح منها رائحة الرماد بينما تم إخراج كل أثاثها المحترق، أما العمال الذين وعدوا ببدء التجديد لم يأتِ منهم أحد، وكعادة بعض عمال مصر الوعد شيء والمجيء شيء آخر تمامًا!

أما سيرا فكانت حرفيًا مشردة، تتنقل بين غرفة والديها أحيانًا، أو غرفة إخوتها عبود وقاسم أحيانًا أخرى، ومرات كانت تُستضاف لدى حكمت، في غرفة "دهب" التي لم تكن لتخلُ من ضجيجها وضحكاتها العالية، ومكالماتها التي لا تنتهي مع أصدقائها، فالغرفة كانت أقرب لمحطة إذاعية مفتوحة على مدار الساعة.

شعرت باختناق وهي جليسة المنزل لا تفعل شيء سوى النظر إلى غرفتها والجلوس أغلب الوقت صامتة تبحث عن عمل عبر وسائل التواصل الاجتماعي ولكن دون جدوى، أما علاقتها مع يزن فكانت هادئة يشوبها المكالمات البسيطة للاطمئنان عليها.

ولكن اليوم لم يأتيها اتصالاً منه كعادة كل يوم، أمسكت هاتفها لتجرى اتصالاً به متظاهرة بكسر حالة الملل التي أصابتها، ولكن رنين هاتفها يفيدها باتصال من فاطمة دفعها للرد سريعًا:

-فاطمة كويس انك اتصلتي، تعالي اقعدي معايا، ولا استني هاجي أنا اقعد معاكي.

جاءها صوت فاطمة النائم وهي تقول:

-أنا مطبقة، بقولك اتصلت عشان بعتلك رقم واحد عنده جيم شوفته على الانستا قبل ما أنام.

تهلهلت أساريرها وهي تقول بحماس:

-اشطا اقفلي هروح أكلمهم.

أغلقت الهاتف والتفتت حولها تحدد مكانًا هادئًا تجري به مكالمتها فلم تجد سوى الشرفة، ولكن ركوض الاطفال خلفها، جعلتها تقف تصدر أوامرها بصرامة:

-وربنا اللي هيجي ورايا هرميه من البلكونة، ابعد يالا منك ليها.
   
                          ***

أما يزن فكان قد قرر الخروج برفقة نوح، إذ زارا عيادة الأخير سريعًا، ثم ألح عليه يزن أن يأخذ قسطًا من الراحة بعيدًا عن ضغط العمل وهموم الأيام المتتالية، فوافق نوح الذي كان مستهلكًا نفسيًا ولم يُمانع، بل شعر أن عقله بحاجة للهدوء أكثر من جسده.

وبينما كانا يمران من أسفل البرج، استوقفتهما يسر التي كانت واقفة أمام محلها الجديد، تحمل في يدها مجموعة من الدعوات الصغيرة، كانت توزعها بابتسامةٍ واثقة وعيناها تبرق كأنها تعلن بدء مرحلة جديدة من حياتها.

اقترب منها نوح وعلى وجهه ملامح الدهشة:

-انتي بتعملي إيه يا يسر؟

نظرت إليه نظرة غامضة خليط بين الفخر والمكر الأنثوي، قبل أن تُحول نظراتها نحو يزن ورمقته بابتسامة هادئة وعندما رأته يلمح لافتة المحل من خلفها:

-مبروك يا يسر.

-الله يبارك فيك يا يزن، هستناك تيجي في الافتتاح أنت وخطيبتك، وبالمناسبة الف مبروك أحسن قرار أخدته، مفيش أحسن من الاستقرار، ولا إيه يا دكتور نوح؟

مدت الدعوة ليزن فتلقاها مبتسمًا بخفة، قبل أن يلتفت إلى وجه نوح المحتقن، لتقول بمزاح خفيف وابتسامة واثقة:

-عايز دعوة يا نوح؟!

-معقول ده صاحب مكان.

قالها يزن بتسلية ثم أكمل حديثه بمشاكسة:

-ولا نفسك في دعوة؟!

رد نوح بغيظٍ مكتوم وكأنه يجاهد لكتم انفعاله:

-نفسي تسكت.

التفت إلى تلك الواقفة تنظر إليه بتحد، فرمقها بغيظ وهو يستنكر فعلتها:

-دعوات إيه يا يسر اللي بتوزيعها، هو فرح؟! 

ابتسمت يسر وقالت بنعومة خادعة:

-طبعًا فرح! دي فرحتي بافتتاح أول شغل خاص بيا، ولا إيه يا يزن؟

بدت نظرات نوح ممتلئة بالغضب والغيرة، مما جعل يزن يشعر بتوتر واضح فقد أدرك أن الأجواء على وشك الانفجار بين الاثنين، فسارع بالتراجع خطوة وقال بسرعة:

-والله أنا رأيي إنها خصوصيات يعني وماليش اتدخل فيها، هروح اتطمن العربية فيها بنزين ولا لا.

وانسحب بهدوء لكن قبل أن يستقل السيارة، وقعت عيناه فجأة على وجه سيرا، كانت تقف أمام إحدى البنايات المجاورة، تتلفت حولها بتوتر واضح ثم دخلت إلى المبنى بعجلة شديدة، وكأنها لا تريد أن يراها أحد.

ارتفع حاجباه بدهشة وأخرج هاتفه بسرعة يجري اتصالًا بها، لكن كل مرة كانت تُغلق الخط فورًا، دون أن ترد، الأمر الذي جعل قلبه يضطرب فقد بدأ الشك يتسرب إليه، ومعه غضب لم يفهم أسبابه بعد، هل تخفي عنه شيئًا؟ ولماذا تتجاهل اتصاله بهذا الشكل؟

بدأت نبضاته تتسارع وفي رأسه ألف سؤال...لكن لا إجابة، حتى قرر التسلل خلفها ليرى ماذا تخفيه عنه.
وقفت أمام المصعد تنتظر أن يستقر بالطابق السفلي لتستقله وتصعد نحو الطابق المنشود، بينما أنفاسها تتسارع بلا سبب واضح سوى توترها الداخلي من المقابلة التي تنتظرها، فقد كانت عيناها معلقة بأرقام الطوابق التي تتغير ببطء، ويدها تعانق حقيبتها الصغيرة كأنها تتشبث بها لطمأنتها.

لكن صوته الذي اخترق المكان بنبرة صارمة وحادة، جعلها تنتفض في مكانها فجأة كمن لُسع بالكهرباء، فامتزج الخوف بالدهشة في ملامحها، وارتسم تعجب واضح على قسمات وجهها:

-سيرا بتعملي إيه هنا؟

وضعت يدها على موضع قلبها تحاول تهدئة خفقاته التي باتت تعلو كطبول تحذرها من كارثة وشيكة، فاقتربت منه بخطوات بطيئة ووجهها يحمل خليطًا من التوتر والخجل، وهمست بصوت رقيق خرج منها رغمًا عنها مصحوبًا برجفة خفيفة فضحت اضطرابها:

-يزن أنت اللي بتعمل إيه هنا؟

نظر إليها بحدة ثم مد يده فجأة يمسك بذراعها بلطفٍ فيه شيء من السيطرة، وجذبها بعيدًا عن الأنظار إلى زاوية منعزلة عن أعين المتوافدين على البرج السكني، وعينيه تفحصتا ملامحها بدقة كأنه يبحث عن شيء لا يُقال، ثم قال بنبرة خشنة خلت من المجاملة:

-كنت واقف مع نوح صاحبي، وشوفتك وانتي داخلة هنا فاستغربت!

عقدت ما بين حاجبيها بدهشة لم تخفها وابتسمت ابتسامة خفيفة ممزوجة بالحيرة:

-استغربت ليه؟!

تغيرت نبرته وازدادت عمقًا وهو يرد بنبرة رخيمة، تحمل في طياتها استنكارًا مغلفًا بغيظٍ دفين:

-يمكن عشان ماقولتليش إنك خارجة مثلاً؟!

كلمات بسيطة لكنها كانت كفيلة بكشف مدى ضيقه، فحاولت تهدئة الموقف وقالت بهدوء ينبع من صدق نواياها، وقد تلألأت عيناها البراقتان بأمانة لا تُنكر:

-عادي يعني، أنا جالي فرصة شغل وجاية أقدم فيها.

رفع رأسه بتلقائية نحو الأعلى كأنه يبحث عن تفسير في سقف المكان، ثم تمتم بسؤال يفيض بالتعجب وهو يطالع أرجاء البرج بنظرة فاحصة:

-هتشتغلي إيه هنا؟!

هزت كتفيها بخفة وردت عليه ببساطة، وكأنها لا تفهم لماذا يُفاجَأ بشيء يعرفه جيدًا:

-مدربة في جيم!

رفع حاجبًا ساخرًا ونظر إليها بعينين تتقدان شكًا، ثم سألها بنبرة غليظة تحمل في طياتها أكثر من معنى:

-وفين الجيم اللي هنا؟ البرج كامل مفيهوش جيم!

اضطرب قلبها بين ضلوعها وشعرت وكأنها تتعرض لتحقيق مفاجئ، فترددت في الرد لوهلة ثم تماسكت وقالت بهدوء تحاول أن تصطنعه:

-أيوه ما أنا استغربت بردو، بس لما اتصلت بيهم من شوية قالولي أنهم مكتب توظيف ولسه هيعملوا مقابلة معايا الاول وعندهم كذا جيم وهنشوف المناسب ليا.

صمت لثوانٍ وكأنه يحاول استيعاب الأمر، ثم أمسك بكفها بإحكامٍ مفاجئ وقال بنبرة آمرة لا تحتمل الرفض:

-طيب يلا هاجي معاكي.

توقفت رغماً عنها تمانع سيره بها، وسألته بنبرة فيها شيء من الدهشة والاستنكار:

-بجد؟ طيب وصاحبك؟

هز رأسه بلا مبالاة وقال بنبرة متملكة تسللت إلى قلبها كنسمة دافئة:

-فكك منه انتي أهم.

كادت تبتسم بل كادت تذوب في تملكه الواضح لها، لكن فضولًا صغيرًا جعلها تتريث، فسألته بعينين تلمعان ببريق خاطف:

-أهم في إيه؟! يعني ده لسه يدوب هشوف هيوفقوا عليا ولا لا؟

اقترب منها أكثر وانخفض بصوته حتى بات رخيمًا يحمل في طياته بحة رجولية آسرة، وقال:

-يعني اسيبك يحصلك مصيبة وانتي لوحدك؟ وبعد كده متتكررش تاني أبدًا تروحي مكان غريب لوحدك، أنتي ماتعرفيش إيه ممكن يكون مستنيكي.

بلعت ريقها بتوتر، وقالت بارتباكٍ ظاهر:

-انت قلقتني بس يعني ان شاء الله خير، متقلقش عليا أنا أقدر اسد في أي حاجة.

ابتسم بسخرية ومال نحوها بشقاوة خفيفة:

-اه من واخد بالي، أنتي بتسدي معايا أنا بس، بس مع غيري فرخة بلدي مبتنطقيش.

رفعت رأسها بتعالي مصطنع وردت بنبرة متجاهلة:

-أنا هعتبر كأني ماسمعتش أي حاجة، وبعدين هو أنا  ليه حاسة إنك متضايق كده؟

رمقها بغيظٍ كمَن ثم أفرغ ما يختلج في صدره من ضيق:

-عشان شايف إن ملهاش لزمة تشتغلي عند حد أصلاً، وقولتلك تعالي اشتغلي معايا، وكده هكون مطمن عليكي.

أغمضت عينيها لثوانٍ تشعر بمدى صدقه رغم صلابته، ثم ربتت على يده القابضة على يدها الأخرى بحنان وابتسمت إليه ابتسامة صافية:

-يزن أنا مقدرة جدًا....

لكن جملتها لم تكتمل إذ انبعثت فجأة أصوات رجال يتحدثون بصخب داخل المبنى، واندفع عدد منهم إلى الداخل، فارتبك المشهد فجأة وتقدم أحدهم بجسد ضخم ليزيحهم عن طريقه، فوضع يزن يده فوق كتفها ليحميها عندما قالت مستنكرة:

-اه في إيه؟ حاسب.

زمجر به يزن بغضب وهو يعلن انتباهه لوجودهما: 

إيه ده؟ في أيه؟ حاسبوا؟

وقد ارتبكت سيرا من المشهد فحدقت في السيارات التي بدأت تصطف أمام البرج، ولاحظت لونها وأضواءها فهتفت بخوف:

-يزن هو في إيه؟ هما طالعين يجروا ليه كده؟

نظر نحوها بنظرة جادة ثم قال بحزم:

-اقفي هنا ثواني واوعي تتحركي، فاهمة..

أومأت برأسها دون نقاش  تتابعه بأنفاس محتبسة، فابتعد نحو رجل يقف عند مدخل البرج، تبادلا كلمات سريعة، ثم عاد بملامح متجهم، الغضب يطل من عينيه والعتاب واضح في قسمات وجهه، فاقتربت منه تسأله بلهفة:

-يزن في إيه؟ مين دول؟!

قال بجمود وهو يرمقها بنظرة ثقيلة:

-دول بوليس الآداب يا سيرا وجاي يقبض على مكتب التوظيف اللي حضرتك اللي كنتي هتطلعيه لوحدك فيه؟ دي طلعت شقة مشبوهة والجيران بلغوا.

اتسعت عيناها بذهول وضغطت بكفها على صدرها بخوف، ثم شهقت وهي تهمس بذعر:

-يا نهار أسود؟ شقة مشبوهة؟ الحمد لله يا رب، الحمد لله، عايز اسجد شكر لله، الحمد لله.

ظل يزن يرمقها بنظرة معاتبة كأنه يحملها كل اللوم، فتفهمت صمته وانكمشت على نفسها بشعور بالحماقة:

-إيه ماتبصليش كده؟ انت اللي مصر اروح اشتغل عند الغريب، مع إن أنا قولتلك كتير اشتغل معاك بس انت بترفض، مع أنك هتكون مطمن عليا على فكرة وأنا معاك.

ابتسم إليها بهدوء، بعينين تحملان الكثير من الطمأنينة، ومد يده ليأخذ كفها الصغير برفق، ثم حركه نحو الاتجاه الآخر بخطى محسوبة، نحو محل يسر الذي تزينت واجهته بالألوان والزينة، استعدادًا لحفل الافتتاح، فأردف بلهجة رخيمة تحمل لمسة من المزاح الدافئ:

-هنروح نخلع من نوح بشياكة ونمشي، وتسلمي على مراته، تمام؟

نظرت إليه برفض خفيف ارتسم على ملامحها، وقطبت حاجبيها وهي تشيح بوجهها عنه:

-لا مش تمام، أنا لا يمكن أخدك من صاحبك، روح معاه أنا هروح.

توقف لحظة عن السير ومنحها نظرة عميقة وكأنها تحمل بين طياتها قرارًا لا رجعة فيه، ثم أردف بنبرة آمرة لا تقبل الجدل:

-لا...واللي قولته هو اللي يمشي.

ترددت لبرهة ثم عادت لتسير بجانبه، وقد اكتسى وجهها بابتسامة خفيفة، فيها شيء من الألفة والدلال ثم قالت بنبرة مشاكسة جديدة وهي تحاول أن تتدلل عليه:

-تمام همشيها بس النهاردة عشان خاطرك.

توقف مجددًا وكأنها فاجأته بتغير نغمتها هذه المرة، فنظر إليها باستغراب وقد ارتسمت على وجهه ملامح الدهشة:

-مستغربك وانتي هادية كده ولسانك مابينقطش كلام زي الدبش معايا.

نظرت إليه بعينين فيهما قدرٌ من الضعف، وأردفت بصوت يحمل براءة زائفة فيها القليل من التمثيل والكثير من النية الطيبة:

-ماليش وش الصراحة، فحبيت الم الدور....

لم تكمل حيث توقف كلامها فجأة حينما لفت انتباهها من خلال زجاج المحل مشهد بدا مقلقًا؛ فقد كان نوح ويسر يتشاجران داخل المحل، من لغة جسديهما وطريقة حركاتهما السريعة والمتوترة، فقالت بتوتر وقلق ظاهر على نبرتها:

-إيه ده؟ يزن الحق دول باين بيتخانقوا؟

نظر في نفس الاتجاه الذي أشارت إليه، وركز بصره على الداخل حيث كانت يسر تلوح بيديها غاضبة، بينما نوح يرد عليها بنبرة حادة وعلى وجهه علامات التوتر والانفعال، فقال بتنهيدة مثقلة كأنها تحمل على كاهلها عبء العلاقات المعقدة مثل علاقة نوح صديقه وزوجته:

-باين إيه!! ده أكيد، تعالي لما ندخل هيتحرجوا.

لكنها لم تتحرك بل ثبتت مكانها وقد ارتسمت على وجهها ملامح العناد وعنفوان أنثوي صلب، كأنها تحارب من أجل قضية لا تخصها وحدها، وقالت بنبرة فيها نبرة احتجاج أنثوية واضحة:

-ونقطع عليهم ليه؟ افرض هو كان  جاي عليها، ما نسيبها تاخد حقها منه.

ابتسم يزن بخفة وهو يرمقها بنظرة خفيفة فيها سخرية لطيفة ثم أردف:

-ما هي بتاخده بالطريقة، ونوح بدأ يولع، وبعدين تعالي هنا دي انتي منهم ولا إيه؟

رفعت حاجبها بدهشة مصطنعة وقالت ساخرة:

-من مين بالظبط؟ عشان هما كتير!

ضحك بخفة وهو يومئ برأسه قائلاً:

-انتي بتسخني بوتاجز خمسة شعله؟!

رفعت رأسها وهي ترد بتحدٍ وقوة:

-لا، بس أنا من أنصار حقوق المرأة.

غمز إليها بطرف عينيه وهو يشاكسها بنبرة ناعمة:

-طيب وحقوق يزن؟ مش هتبقي من أنصاره؟

أجابت وهي ترفع يدها بحركة درامية وتبتسم بمكر:

-لا ما أنا ربنا رازقني بخطيب أنصاره كتير اوووي، لدرجة إن لو وقفت وسطهم مش هيشوفني أبدًا.

رفع حاجبيه وهو يقترب منها خطوة ثم قال بخفة ظل:

-طيب احلفي كده إني مش هشوفك؟ يا شيخة متبقيش عامية القلب والبصيرة!

ضحكت ثم مالت برأسها قليلًا وهي تقول بدلال:

-يعني هتشوفني يا يزون؟

تفاعل يزن معها بحب ثم قال بحماس وقرار نهائي لا رجعة فيه:

-لا بعد يا يزون دي، احنا نسيبهم يولعوا وتعالي افسحك النهاردة اليوم كله.

نظرت إليه بدهشة حقيقية هذه المرة وقد انقلبت نبرتها للقلق:

-أنا مقولتش لبابا! 

قال بثقة مفرطة وهو يفتح لها باب سيارته بعناية، ثم وضع يده على إطار الباب من الأعلى خشية أن يصطدم رأسها بالإطار، وكأن حمايته لها أصبحت أمرًا لا يحتاج لتفكير:

-مالكيش فيه أنا هظبطلك الدنيا، يلا ادخلي.

لم تجبه فقط ابتسمت على استحياء، ثم جلست بهدوء على المقعد، بينما انتقل هو إلى مقعده خلف عجلة القيادة، استقل السيارة وشغل المحرك بسرعة كأنه يهرب بها من كل ما يمكن أن يعكر صفوهما، ثم مال نحوها يسألها بحماسٍ صادق، ظهر جليًا في نبرته ولهجته المشرقة:

-تحبي تروحي السينما الأول ولا نتغدا الاول؟

نظرت إليه بنظرة مشحونة بالغيرة الخفية التي تحاول دومًا إخفاءها خلف ابتسامتها، وقالت بنبرة تحمل مزيجًا من المزاح والتوبيخ:

-لا سينما إيه؟ السينما دي أكيد روحتها مع بنات كتير صح؟!

لمح في عينيها تلك الغيرة المحببة فابتسم بخفة وهو يغالبه ضحك مكتوم ثم رد بلهجة مرحة:

-امممم يا نكدية، عايزة إيه يعني؟

أجابته بنبرة توحي بشيء من التدلل، وكأنها تختبر ولاءه في تلك اللحظة العابرة:

-روحت قبل كده الحسين وشارع المعز؟

ظل صامتًا لحظات يستعيد ذاكرته، ثم أجاب بصدق وهدوء كي لا يثير غيرتها أكثر:

-امممم روحت بس مع نوح مرة ومع زيدان أخويا مرة تانية هو ونهى بنت عمتي.

أطلقت تنهيدة خفيفة وكأنها تحاول أن توازن بين غيرتها وثقتها فيه ثم قالت برضا ظاهر:

-حلو أنا راضية بأي حاجة روحتها قبل كده مع أهلك وصاحبك، بس ماتودنيش مكان روحت فيه مع بنات.

مر شبح ابتسامة على وجهه شعر وقتها أن غيرتها لم تضايقه بل لامست شيئًا رقيقًا بداخله، ذلك الشيء الذي يؤكد له أن مكانته عندها مختلفة، فنظر إليها نظرة حانية وفيها الكثير من الاطمئنان، ثم قال بحزم رقيق:

-حاضر انتي تؤمري يا ست سيرا، بس أنا مكنتش مبسوط في الأماكن اللي بروحها مع أهلى.

رفعت حاجبها الأيسر في تحدٍ مستنكر، متعجبة من طريقته كأنها لم تستوعب بعد طباعه الغريبة، ولكنه هز رأسه ساخرًا من نفسه ثم قال وهو يقود سيارته بسرعة كعادته التي لا يستطيع تغييرها:

-أيوه عادي أنا ابن عاق.

ابتسم بهدوء وهي تغوص في مقعدها للحظات، تتأمل ملامحه الجادة التي يختبئ خلفها ذلك الشاب الذي يشبه الأطفال أحيانًا في طيبة قلبه، فقد كان قلبها ينبض بسرعة غريبة وهي ترى نظراته تتعلق بها رغم انشغاله بالطريق!

فقد تراقص ضوء الغروب على زجاج السيارة بينما كانا يسيران بين الشوارع، وكأن القدر نسج لهما لحظة هادئة تحفظها ذاكرتاهما طويلًا، رغم ضجيج المدينة من حولهما، ولم يدرك يزن حينها أن بأفعاله تلك سيمنحها يقينًا لا يهتز بأنها صارت جزءًا من حياته لن يشاركه فيه سواها.

                            ****
سارت سيرا إلى جواره في شارع المعز، بعد أن توصلا إلى قرار الذهاب إليه، وأخبرا والدها بأنها ستخرج في نزهة قصيرة برفقته وسرعان ما ستعود ولا داعي للقلق.

فقد كان المساء بدأ يُلقي بظلاله والشارع ينبض بالحياة والزحام كعادته؛ حشود من البشر وأنوار المحلات اللامعة وأصوات الباعة المتجولين، وروائح المأكولات الشعبية تعبق في الجو وتمنح المكان دفئًا خاصًا.

كانت تنظر إليه بين الحين والآخر وتبتسم كطفلة صغيرة أُطلق سراحها من قيود الروتين، تسير بحماس واضح وعيناها تجولان في الطرقات كأنها تراها لأول مرة، رغم أنها تحفظ كل زاوية وكل حجر في هذا المكان عن ظهر قلب، بسبب زياراتها المتكررة مع أبلة حكمت، فهما رغم اختلاف أعمارهما وأذواقهما تشتركان في حب هذا الشارع؛ هي تعشق التسوق واقتناء كل ما هو فريد، بينما أبلة حكمت لا تفعل شيئًا سوى التجول والجدال مع الباعة في ثمن كل شيء، تُرهقهم بطريقتها الحادة والساخرة أحيانًا.

قطع يزن شرودها بنبرة هادئة:

-مبسوطة؟

هزت رأسها بدلال طفولي وعلى ثغرها ابتسامة من القلب:

-اوي، أنا بحب أجي هنا كتير، بحب الدوشة اللي هنا والزحمة.

ابتسم إليها ابتسامة شاحبة وقد بدا على وجهه الإرهاق:

-أهم حاجة تكوني مبسوطة بس أنا تعبت من المشي، تعالي نقعد في مكان نشرب حاجة.

توقفت فجأة والتفتت إليه بنبرة اعتراضية أقرب إلى الأطفال:

-لا يا يزن، ده المتعة أنك تمشي وتتفرج، تعالى بس في محل بيبيع حلقان تحفة.

لم يجد أمامه إلا الاستسلام لرغبتها، فذهب معها على مضض  لم يُبدِ اعتراضًا صريحًا، فقط سار إلى جوارها وهو يتأمل تلك السعادة البريئة التي تملأ وجهها، فتوقفت فجأة أمام محل صغير للمشغولات اليدوية وبدت مبهورة وكأنها ترى كنزًا دفينًا، أمسكت بحلقين أحدهما ذهبي صغير والآخر فضي متدلٍ ثم التفتت تسأله بحيرة:

-ده حلو ولا ده؟

تأمل القطعتين دون تركيز ثم قال بنبرة مرتبكة:

-معرفش، بس الصغير ده هيليق عليكي؟

نظرت إليه مترددة ثم اتجهت إلى داخل المحل وسألت البائع بفضول صادق:

-بقولك عندك مرايه؟ عايزة اشوفه بس على وشي.

رد الشاب وهو يبتسم بنظرة مريبة لم تعجبه:

-اه تعالي يا قمر هنا في مراية.

وأشار إلى ركن في نهاية المحل وبه مرآة طويلة وستارة سوداء، وقد ظهرت عينيه وهي تسلل بخبث إلى تفاصيل جسدها من الخلف.

لكن قبل أن تخطو خطوة واحدة، شعر يزن بشيء يتفجر في داخله فقبض على معصمها سريعًا وهمس بغلظة:

- انتي اتجننتي، اهدي تجربي إيه؟!

ثم جذبها إلى الخارج بنظرة حاسمة، والتفت إلى البائع بنبرة خشنة أثارت ارتباك الأخير:

-هات الاتنين دول طالما عاجبنيها، حقهم كام؟

-ميه جنية يا بيه.

أخرج النقود بسرعة ودفعها بعنف ظاهر، ثم أمسك بكف البائع بقوة وألقى المال بداخله عنوة وهمس بتحذير:

-أنا كان ممكن أطربق المحل فوق على دماغك بسبب بصاتك الـ**** دي، بس هعتبر أنك عيل غشيم ولسه ماتعرفش إن أكل العيش مفيهوش ****، فاحترم وقدر النعمة.

أنهى كلماته ونظراته توقد شررًا وكأن بركانًا من الغضب كان يغلي في صدره، فخرج من المحل بخطوات متسارعة نحوها وجذبها من معصمها بهدوء حازم.

-في إيه؟!

وقف أمامها فجأة وكأن كل ما يكتمه انفجر دفعة واحدة:

-هو إيه اللي في أيه؟، هي الطرحة دي ديكور؟! داخلة فين تخلعي طرحتك وتجربي الحلق؟، جربي في البيت يا ماما مش هنا ومع المعتوة اللي هناك ده!!

فتحت فمها لتفسر له موقفها، لتخبره أنها لم تكن تنوي خلع الحجاب، بل لها طريقتها الخاصة التي لا تُظهر شيئًا لكنه قاطعها بنبرة شبه عنيفة:

-بس خلاص يا سيرا وحياة أبوكي أنا مش ناقص كلمة منك دلوقتي، أنا على أخري.

انكمشت ملامحها رغم أنها كانت تعرف جيدًا أنه غاضب لكن لم تتخيل أن تكون قسوته بتلك الحدة، ورغم ذلك وجدت في غيرته لمحة إعجاب، لمعة خافتة أضاءت عينيها للحظة، فهزت كتفيها بلا مبالاة وقالت بعبوس زائف:

-مكنتش هقول حاجة،  ويلا أنا خلصت، يلا نروح.

رفع حاجبيه بضيق من طريقتها:

-اتقمصتي يعني؟! طيب ما تسيبني اهدى مع نفسي،  لا ازاي لازم تنكدي على اللي خلفوني.

قالت بذهول:

-هو مين اللي نكد على مين، مش فاهماك؟

-بس خلاص اسكتى بقى.

قالها وهو يرمقها بنظرة حادة، ثم التفت بعيدًا عنها في صمت يرسم الغضب على ملامحه بقسوة، أما هي فقد شعرت بوخز الحزن في صدرها، الحزن الذي يسكن القلب فجأة دون مقدمات، فقد كانت تنتظر أن تترك أول نزهة حقيقية بينهما ذكرى سعيدة، ولكن تحولت إلى موقف موجع ومحرج في عيون الناس المراقبين إليهما.

تراجعت خطوة للخلف تحاول أن تخفي مشاعرها، لكنها شعرت بالدموع تتسلل إلى عينيها، ترفض أن تستسلم لكنها فشلت في النهاية، أما هو فرغم كل ما شعر به من غضب لم يستطع أن يتمادى ولم يحتمل دموعها ولا ملامحها المرتبكة وهي تحاول التشبث بقوتها أمامه، فاقترب منها وقال بلطف متناقض مع شدته السابقة:

-بتعيطي ليه؟ انتي عبيطة هو أنا قولتلك إيه طيب؟ أنا معملتش حاجة لسه!

رفعت وجهها إليه واكتفت بنظرة دامعة ومرتبكة، ثم أخفت عينيها بكفيها لا تريد أن يراها بهذا الضعف، فاقترب أكثر وقال بصوت حنون خافت:

-طيب خلاص الناس بتتفرج علينا يا ماما....

أعطته ظهرها وهي تمسح دموعها بسرعة، ثم زفرت بهدوء لتستعيد تماسكها لكنه ظل يلاطفها بطريقته:

-لو ماسكتيش والله هحضنك في وسط الناس دي كلها، أنا عادي ومايهمنيش، خدي الحلقان طيب أهي.

أبعدت يده وقالت بحزمٍ مخنوق بالحزن:

-مش عايزة منك حاجة، أصلاً هما وحشين.

لم يجبها بل ابتسم بهدوء، ثم تحرك نحو بائع حلوى غزل البنات، وطلب منه واحدة وردية على هيئة زهرة، ثم عاد بها إليها وهو يبتسم بمشاكسة:

-متزعليش يا سرسورة، مع إنك أنتي اللي غلطانة، ويلا نقعد في الكافية اللي هناك ده، عشان احنا بقينا فرجة للناس خلاص.

تناولت منه حلوى غزل البنات بسعادة كبيرة وقد تناست أمر حزنها منه ومن صوته العالي الذي هاجمهما به في الطريق وسط المارة، ورغم أنها تشع كأن شيئًا من العتب لا يزال مختبئًا في أعماقها، إلا أن الطفلة التي تسكنها كانت أبرع في التمرد على تلك الأحزان وسرعان ما بدأت تلتهم قطعة صغيرة من الحلوى، تدسها في فمها بتلذذ واضح، ثم نظرت إليه وهي تمضغ بهدوء، وقالت برفض عفوي:

-لا ده في بنات قليلة الادب بترقص.

توقف لوهلة ثم ضحك بخفة وهو يدفعها للتحرك إلى الأمام وقد أعجبه ردها المفاجئ الصريح، فقال بتسلية:

-ده انتي حافظة بقى؟!

كان يحاول أن يفتح لها طريقًا للمرح مجددًا، يلهيها عن الضيق الذي تسلل إلى قلبها قبل قليل، فيما كانت خطواتهما تتباطأ وهما يقتربان من ناصية بها مجموعة من الكافيهات، فهزت رأسها بإيجاب:

-باجي كتير مع أبلة حكمت.

قالتها بلهجة واثقة وكأنها تُذكره بأن لديها تاريخًا طويلًا في هذا الشارع، تفوق به تجربته المؤقتة معه.

-طيب نقعد فين؟

سأل وهو يتلفت حوله يبحث عن مكان هادئ، فقد كان ضجيج الشارع لا يزال يطن في أذنيه، تقدمت خطوة وأشارت إلى أحد المقاهي القريبة، ثم أردفت بثقةٍ فيها لمسة احتراز:

-هنا في الكافية ده، نقعد في الدور اللي فوق عشان الدور اللي تحت ممكن تقوم بنت ترقص ولا حاجة.

كتم ضحكته وهو يرفع حاجبيه بدهشة مصطنعة ثم رد ساخرًا:

-اه أمان يعني فوق، بارك الله فيكي يا سيرا، أنا أصلاً راجل محافظ وماحبش اشوف الحاجات القليلة الادب دي.

قالها وهو يضع يده على صدره بتصنع الجدية، يحاول أن يضيف لموقفهما بعض المرح الساخر بعد التوتر الذي حل في البداية، بينما كانت هي تتظاهر بعدم الاكتراث لكنها كانت تستمتع بإيقاع حديثه، وبتلك المشاكسات الخفيفة التي تخفف عنهما وطأة الموقف السابق.

فتوقفت لثوانٍ كأنها تتحضر لسؤال مهم، ثم نادت باسمه فجأة بنغمة توحي بأنها تخطط لتوريطه في شيء ما:

-يزن؟

التفت إليها بنظرة حذرة: 

-اوعي تسأليني شوفت بنات بترقص ولا لا؟

قالها بتحفظ ساخر وهو يرفع إصبعه كأنه يهددها مازحًا، فهزت رأسها نفيًا وهي تضم شفتيها وكأنها تتقمص دور العفيفة المحتشمة:

-لا مش هسأل، مابتكلمش في الحاجات القليلة الادب دي.

-امال؟

سألها بتلك النبرة المتوقعة الممزوجة بالفضول، وقد بدأ يعتاد تقلب مزاجها السريع ما بين الجدية والمزاح، فتوقفت فجأة ووضعت يدها على بطنها بتصنع الألم، ثم قالت بانفعال حقيقي هذه المرة:

-أنا جعانة اوي بجد، وخلاص حاسة هيغمى عليا، وفي واحد هنا بيعمل سندوتشات كفتة تجنن، وبعدها ياريت تعزمني على درة مشوي، وبعدها تقعدني في الكافية اشرب شاي بالنعناع ويبقى انت كده صالحتني وأنا رضيت خلاص.

قالت ذلك بملامح بريئة لكن ماكرة، وكأنها تنتزع التعويضات انتزاعًا وتُحدد شروط الصلح بوضوح لا يقبل التفاوض، أما هو لم يستطع مقاومة ضحكته فقد شعر وكأنه مع طفلة صغيرة ذات مطالب لا تنتهي، ورغم ذلك لم يكره مطالبها بل وجد فيه سحرًا لا يفهمه:

-بس كده من عنيا أنت يا باشا تؤمر وأنا أنفذ، الحقينا بقى ببتاع الكفتة عشان أنا واقع من الجوع.

كانت نبرته مازحة لكنها لم تخلُ من دفء خفي، فكان يحاول جاهدًا أن يضمد الشرخ الذي كاد أن يتسع بينهما قبل لحظات، أما هي فقد ابتسمت في صمت وكأنها تُسلم قلبها لهذا التقلب اللذيذ في مزاجه..

وفي طريقهما نحو عربة الكفتة كانت الأضواء الذهبية المنبعثة من فوانيس المحال القديمة تتراقص فوق وجهيهما، تعكس من ملامحهما طيفًا من الألفة والاعجاب، فقد كان شارع المعز شاهدًا على هذا التدرج العاطفي بينهما.

عندما وقفا أمام البائع كانت سيرا ترمق العربة بنظرة يعرفها جيدًا؛ تلك النظرة التي لا تفرق فيها بين الطفولة والأنوثة، نظرة مَن لا يخجل أن يُبدي سعادته بأبسط الأشياء.

وحين أمسكت ساندويتشها أخيرًا، لم تكن يدها ترتجف من الجوع فقط بل من شيء آخر خفي؛ ربما لأنها شعرت أخيرًا أن مَن بجانبها لا يُجيد فقط العبث، بل يُجيد الاحتواء أيضًا.

أما هو فكان يتأملها من طرف عينه يتظاهر بالانشغال بالطعام، بينما في قلبه جلبة صاخبة من المشاعر لم يعهدها من قبل، لم يتعود أن يضعف من دمعة أو أن يسعى لابتسامة فتاة تدلل عليه، ولكنها فعلت به ما لا يفعله أحد!

بعد الانتهاء، ألقت المنديل الورقي في سلة المهملات القريبة بحركة عفوية، فقال إليها بهدوء: 

-شبعتي؟

نظرت إليه بشيء من البراءة المغلفة بحزم أنثوي:

-الحمد لله، بس منستش الدرة.

ضحك بخفة وهو يتراجع خطوة للخلف مفسحًا لها المجال ليبحثا معًا عن بائع الذرة المشوي، كانت خطواتهما هادئة ولكن يشوبها الحماس، يتبادلان النظرات بين حين وآخر كأنهما يتشاركان في مهمة خاصة لا يعلم بها سواهما، وما إن لمحت عيناهما عربة الذرة المتواضعة في نهاية الزقاق، حتى تقدم يزن بخطوات ثابتة نحو البائع، تتلبسه رغبة خفية أن يُرضيها ويمنحها لحظة سعادة خالصة.

طلب من البائع أن يختار لها كوزًا بعناية كأنما ينتقي جوهرة وقال بنبرة حريصة:

-واحد مظبوط على ذوقك يا ادارة، بس ده مخصوص ليها خلي بالك.

راقب تسوية الكوز بنظراتٍ دقيقة وكأنه يتابع لوحة فنية تُرسم لها فقط، وما إن انتهى البائع حتى التقط يزن الكوز ومده إليها، فمدت يدها وأخذته منه بابتسامة امتنان خافتة دون كلمات، لكن عيناها قالتا ما لم تستطع الشفاه أن تنطق به.

-مش ده الكافية اللي عايزاه، يلا عشان كده ابقى حققت طلبات الأميرة النهاردة.

قالها وهو يشير إلى المقهى الذي لمحته من قبل، مبتسمًا بمكر خفي وكأنه يُضفي لمسة من الدعابة على لطفه، فنظرت إليه بنظرة شبهة غاضبة وكأنها تقرأ ما وراء نبرته وقالت بمزيج من الحذر والمرح:

-حاسة بسينس تريقة بس مش عادي هعمل نفسي مش واخدة بالي.

ضحك وهو يومئ لها برأسه ثم أردف بنبرة أكثر دفئًا تتخللها لمسة من الصدق:

-أبدًا، أنا عايز أفرحك ومش عايزك تزعلي أبدًا، دي أول خروجة لينا.

لم تعلق بل اكتفت بالابتسام بخجل وكأن كلمات الإطراء بدت أكبر من أن تُقابل برد، دخلا إلى الكافية سويًا وخطواتهما متناغمة، بينما كانت عيناها تلتقط كل التفاصيل بفضول الطفلة وسعادة البدايات.

وفجأة اتسعت عيناها وهي ترى في أحد الأركان ما يشبه منصة مخصصة للتصوير، وقد تزينت بملابس مصرية شعبية....ملاءة حرير سوداء مطرزة بخيوط ذهبية تتدلى منها مشغولات تعكس ضوء المكان، وبجوارها منديل من ذات القماش والتطريز، لاحت على ملامحها انبهار ممزوج بحنين وطفولة بريئة، ثم استدارت إليه تقول بحماس طفولي لا يُقاوم:

-يلا يا يزن نتصور.

لم تنتظر رده وكأنها تعرف مسبقًا أنه لن يمانع، بل دفعت إليه حقيبتها وكوز الذرة بكل اطمئنان، ثم أسرعت ترتدي الملاءة وتلفها حول جسدها بخفة أنثوية عفوية، وضعت المنديل فوق رأسها وهي تضحك له ضحكة نقية لا تشبه سواها.

-في تليفوني عشان تصورني؟

نظر إليها بإعجاب لا يُخفى ثم قال وهو يُخرج هاتفه:

-هصورك بتليفوني وابقي خديهم.

أخرج هاتفه وبدأ يلتقط لها الصور وهي تتحرك أمامه بخفة فنانة تؤدي عرضًا خالصًا له وحده، كل حركة منها كانت تحمل روحًا، وكل لقطة من عدسته كانت تحفظ لحظة شعور لا يتكرر.

وبينما هو يتأملها كانت تزداد فتنة مع كل ابتسامة، أوقفها فجأة وشغل الكاميرا الأمامية، ثم اقترب منها وهو يقول بنبرة عابثة تشي بخفة ظل لا تخلو من الإعجاب:

-لازم اتصور مع الفاشونسيتا القمر دي.

اقترب منها ووقف بجانبها ثم رفع هاتفه ليلتقط صورة "سيلفي"، لكنها عبست قليلًا وقالت بضيق خفيف:

-انت بتتريق عليا؟، دي لحظات حلوة ماتتكررش.

نظر إليها للحظة طويلة وكأن الزمن توقف ليرى صدق مشاعرها، ثم قال بنبرة هادئة تفيض بالحنان:

-هو أنا قولت حاجة يا روحي؟ اعملي اللي انتي عايزاه طالما بتعمليه معايا.

كانت كلماته كافية لتُذيب ضيقها فاختفت العبوسة تدريجيًا عن وجهها وكتمت ابتسامتها بصعوبة، ثم نظرت إلى الكاميرا بهدوءٍ أنثوي خجول، تنبع منه أنوثة بريئة وببسمة خافتة وعينين تتلألأ فيهما السعادة.

وعندما انتهى من التصوير، نظرت إليه وسألته بفضول بريء وهي تعيد الملاءة مكانها:

-هتنزلها بردو على السوشيال عندك؟

أجابها بنبرة أكثر رزانة ولكن صوته انخفض وكأن ما سيقوله سرٌ لا يُقال على الملأ:

-مش كل حاجة حلوة بتتشارك يا سيرا، في حاجات لازم نخبيها وتبقى ملكية خاصة.

نظرت إليه بدهشة خافتة يتبعها خجل لطيف، ثم قالت بنعومة وهي تميل برأسها:

-اممم مع أني كنت عايزة أعرف إيه الكابشن اللي هتكتبه عليا المرة دي.

لم يرد بكلمات بل ألقى نحوها نظرة طويلة، ثم انشغل بهاتفه للحظات فلم تفهم ما يفعل، حتى رن هاتفها برسالة واردة منه عبر "واتساب"، فتحتها بفضول لتجد صورتهما معًا، وقد أرفقها بجملة قصيرة:

"That smile is mine....only mine."

 توقفت لثوانٍ تقرأها مرة واثنتين ثم ظهرت على وجهها ابتسامة لم تستطع كتمانها، وضحكة خفيفة خرجت منها كأنها خُطفت منها دون إرادة، ثم رفعت عينيها إليه وقالت بخجل لم تنجح المزحة في إخفائه:

-بس أنا بضحك كده لكل الناس.

اقترب منها خطوة وهمس كمَن يُعلن يقينًا:

-وأنا شايف إن ضحكتك دي مابتظهرش إلا وأنا معاكي.

لم تُعلق بل رفعت حاجبيها بمكر وقالت:

-دي وجهة نظرك بقى وأنا لا يمكن أناقشك فيها، أصل أنا بحترم كل وجهات النظر.

ابتسم وهو يفتح الباب لها قائلاً:

-واخد بالي، اطلعي.

رمقته ببسمةٍ حانية دافئة، تشي بغنجٍ خافتٍ ممزوجٍ بإعجابٍ أسر قلبه في لحظةٍ خاطفة، لكنها لم تكن عابرة الأثر، حيث شعر أنه رغم بساطتها،  أن ابتسامتها وطنٌ صغير لا يطيق أن يشاركه فيه أحد، وفي تلك اللحظة أيقن أن ما يجمعهما لم يكن مجرد وقتٍ يمضي، بل بداية حكايةٍ من الغَنَاء...حكايةٍ من الاكتفاء التام الذي لا يحتاج إلى شيءٍ سواه.

                             ****
في اليوم التالي...

حملت يسر سلةً مصنوعةً من الخيوط الثقيلة، ألوانها مبهجة وتحتوي على بطاقات دعوة تخص افتتاح محلها الجديد، وبها أيضًا بعض الهدايا الرمزية البسيطة ثم صعدت إلى عيادة نوح وهي ترسم على وجهها ابتسامة ماكرة، حيث قررت استكمال خطتها المحكمة رغم المناوشات التي حدثت بالأمس بينهما بسبب تلك البطاقات، وقد أكدت له أنه إن لم يتراجع عن تدخله في كل كبيرة وصغيرة تخصها، فسوف تدعو أحد المغنين الشعبيين لافتتاح المحل عنادًا به.

جذبت أنفاسًا طويلة وهي تدخل إلى العيادة وتتجاهل حسناء، ثم اقتربت من الزائرين وبدأت في رسم ابتسامة رسمية وبنبرة لبقة شرعت في دعوتهم جميعًا لحضور افتتاح المحل، فقالت إحداهن بانبهار بالهدية الرمزية التي كانت عبارة عن زجاجة عطر صغيرة جدًا ومعها ميدالية:

-الله ذوقك تحفة، أكيد الحاجات اللي عندك حلوة زيك، بس هو انتي مش مرات دكتور نوح؟

-ايوه أنا مراته، هستناكم يا جماعة كلكم تشرفوني.

وبدأت في استكمال توزيع البطاقات، فانهالت عليها المباركات وعبارات الشكر لذوقها بسبب الهدايا، وهذا لم يعجب حسناء فقررت أن تدخل إلى نوح وتبث السم في حروفها المرصوصة بعناية وتركيز:

-دكتور نوح في مشكلة برة، مرات حضرتك بتوزع كروت دعاوي عشان افتتاح المحل بتاعها!

رفع رأسه بتعجب ساخر وهو يقول:

-نعم؟!

-اه والله يا دكتور حتى اخرج وشوف بنفسك، أنا مش عارفة اسيطر على العيادة.

وقف سريعًا وتوجه صوب الباب يفتحه، فوجدها كادت تطرق على الباب وهي تبتسم بلطف:

-ممكن ادخل؟

أفسح لها المجال بصمت، فدخلت وأمر حسناء بالخروج من خلال نظراته، تفهمت وخرجت على مضض بينما توجهت يسر صوب مقعد نوح خلف المكتب وجلست عليه، فاقترب منها وهو يضع يده في جيب سرواله، وتساءل بخشونة يقطر منها عدم الرضا:

-ممكن افهم إيه اللي حصل برة ده؟

هزت كتفيها ببراءة مصطنعة وهي تقول بابتسامة رقيقة هادئة:

-حصل إيه؟ كنت بوزع كروت دعاوي الافتتاح، زعلت ولا حاجة؟

زفر بغيظ منها ومن أسلوبها الذي أصبح ملتويًا مؤخرًا، لقد فَقَدَ طرق الوصال معها وأصبح تائهًا وكأنه يتعرف عليها لأول مرة:

-يسر ماتستعبيطيش أنتي عارفة كويس اوي موقفي من حوار الدعاوي دي وشايف ملهاش أي تلاتين لزمة أصلاً.

مطت شفتيها بحزن وهي تردد بضعف:

-وأنا شايفة أن ليها لازمة ومبسوطة بيها، هتكسر فرحتي يا نوح؟

احتدت عيناه بحنق وهو يقول من بين أسنانه:

-استغفر الله العظيم، بقولك إيه متدخليش من نقطة ضعفي وتحاولي تسيطري عليا، عشان أنا حقيقي متغاظ من أم حوار الكروت ده، وبعدين جاية توزيعها برة عندي الناس تقول إيه؟!

لم تجبه بل ضغطت على الجرس المقابل لها وانتظرت دخول حسناء، التي دخلت في لهفة وكأنها كانت تقف خلف الباب.

-محتاج حاجة يا دكتور؟

ابتسمت يسر بسخرية من لهفتها وقالت بنبرة شبه باردة:

-ادخلي يا حبيبتي مش هو اللي محتاج أنا اللي محتاجة؟

دخلت حسناء ووقفت بحيرة وفضول في منتصف الغرفة وسط ذهول نوح الذي نظر إلى يسر بريبة من نظراتها الغامضة:

-وانتي يا حسناء داخلة تفتني للدكتور نوح عليا وتسخنيه مقولتيش ليه إن الناس برة كانت مبسوطة بيا وفرحانين ومحدش كان زعلان خالص، بالعكس شكروني على الهدايا اللي اديتهالهم وقالوا إنها لفتة لطيفة مني، وإني قد إيه كريمة وذوق زي دكتورهم دكتور نوح.

بلعت حسناء لعابها بتوتر وهي تنظر إلى نوح الواقف جانبًا ويبدو عليه التسلية:

-أنا مقولتش حاجة تضرك، أنا كنت ببلغ دكتور نوح بس بوجودك، وبعدين ليه حاسة إن حضرتك ظالماني ومابتحبنيش مع إني ماعملتش فيكي أي حاجة، وبردو رغم كل ده لو احتاجتي مساعدة في افتتاح المحل الجديد أنا معاكي في أي حاجة؟

كانت يسر تتلاعب بالأشياء الموجودة حول مكتب نوح وهي تستمع لتبرير حسناء بلا مبالاة، وعندما لمست شيئًا غريبًا أسفل صندوق صغير، جذب انتباهها فسحبته بهدوء من أسفل الصندوق ونظرت إليه من تحت المكتب دون أن يراه أحد، وقد تبين لها أنه حجاب للأعمال السفلية، فابتسمت بمكر وهي تخرجه وتلوح به مردفة:

-بتعرفي تفكي الاعمال يا حسناء؟!
رفعت حسناء حاجبيها معًا في حركة تنم عن جرأة وتهكم، بينما كانت يسر سعيدة  جدًا وقد ارتسمت علامات الانتصار بوضوح في تلك اللحظة التي بدا فيها تحقيق هدفها أصبح قريبًا، بينما انفعل نوح بغضبٍ خاطف والتقط على إثره الحجاب السفلي من على الطاولة وصوته يحمل نبرة تذمر صارخ:

-مين حط الحاجات دي هنا؟

ارتسمت على شفتي يسر ابتسامة ساخرة ومالت برأسها قليلاً في حركة تمثيلية مدروسة، فيما كانت نظراتها تنضح بالغيظ والانتقام ثم قالت باستهزاء ظاهر:

-ماتظلمش حسناء يا نوح، يمكن السكرتيرة اللي كانت قبلها، ولا إيه يا حسناء؟

تبدلت ملامح وجه حسناء على الفور وبهتت وهي تواجه عنفوان يسر الشرس، الذي وإن كان مغلفًا بالأسلوب الملتوي فإنه كان صريحًا في إيذائها، لكنها ورغم صدمتها اتخذت قرارًا بالمجابهة...ففجأة رسمت على وجهها تعابير ضعف مصطنعة، وأظهرت إمارات الطيبة وحُسن النية ثم أجابت بجُرأة خادعة:

-لا اللي قبلي ماحطتش حاجة، أنا اللي حطيتها هنا يا دكتور.

اتسعت عينا يسر بصدمة من وقاحة هذا الاعتراف وجرأته وقالت باستنكار يفيض سخرية:

-يا شيخة!!! ده أنتي قلبك ميت.

تقدمت حسناء نحو نوح بخطوات ثابتة في حين بدا هو مستنفرًا، كل خلية في جسده مشدودة كوترٍ مشحون ينتظر منها تبريرًا لما قالت وما فعلت، ثم اقتربت أكثر وقالت بنبرة رقيقة وابتسامة مصنوعة بعناية فائقة على ثغرها:

-حضرتك عارف يا دكتور قد إيه أنا بحبك...

توقفت لحظة بعد أن أسقطت كلماتها الأخيرة عمداً، ووجهت نظرة سريعة إلى يسر التي احمر وجهها من فرط الغيرة والغضب، قبل أن تواصل حديثها بنعومة خبيثة تحمل كثيرًا من المكر:

-وكنت قد إيه زعلانة عليك الأيام اللي فاتت من اللي كنت فيه، ولما سمعت إنك عايز تنفصل عن مدام يسر زعلت اوي.

كانت نبرتها المتعمدة تشير بوضوح إلى أن قرار الانفصال جاء من نوح لا من يسر، وكأنها تسدد طعنة مباشرة في صميم ثقتها به، ضربة أرادت بها زعزعة الأرض تحت قدمي غريمتها، ثم أكملت بصوتٍ تخلله ضعف مدروس له وقع خاص على الأسماع:

-كلمت ماما تعملك حجاب عشان ربنا يصلح حالك ويبعد عنك الشر وترجع تاني لمدام يسر وتتصالحوا.

ضحكة عالية انطلقت من يسر، ضحكة تحمل من السخرية ما يفوق الاحتمال فتراجعت بجسدها للخلف وهي تصفق بكفيها وقالت بحماسٍ تهكمي:

-باين كده الست الوالدة عملته يولع في حياتنا مش يصلحها، حقيقي يا حسناء ماشفتش في جمال نيتك وقلبك الصافي، إيه ده يا بنتي؟، والغريب بعد ده كله بتحبي نوح....

سكتت برهة ثم انفجرت من جديد ضاحكة وهي تشير بيدها نحو حسناء:

-لا عشان خاطري اكرهيه، بلاش تحبيه يا حسناء، يا بنتي إحنا من ساعة ما شفنا وشك النحس وحياتنا مقلوبة يا حبيبتي!

تصلبت قسمات وجه حسناء وقبضت يدها بقوة، في محاولة لاحتواء الغل الذي تسرب إلى عينيها بوضوح، فقد كانت إهانة يسر هذه المرة صريحةً، خاليةً من التلميحات ومقصودة بالكامل، غير أن المفاجأة التي تلتها من سؤال يسر لنوح جاءت لتسحب حسناء من غياهب الغضب إلى سطح اللحظة:

-هو أنت مصدق أي كلمة من الكلام العبيط ده يا نوح؟

ساد صمت ثقيل في الغرفة وراحت الأنظار تتنقل بين وجوههم الثلاثة ما بين استهجان وغضب وغموض كثيف يلف المكان، فقد امتزج صوت أنفاسهم بسكون الغرفة حتى بدا أن برودة المكيف لم تعد قادرة على تبديد التوتر، الكل ينتظر الكلمة الفاصلة من نوح الذي قرر أخيرًا أن يطلق العنان للسانه متحدثًا بهدوء مريب:

-اه مصدقها يا يسر، وإيه اللي يخليني مصدقهاش؟ حسناء عندها استعداد تعمل أي حاجة عشاني، هي كانت نيتها خير من ناحيتي وأنا متأكد إنها فعلاً بتحبني.

انتفضت يسر بصوتٍ غاضب:

-حبك برص، ده أنت خسارة فيك أي حاجة، يا رب تلبسك في مصيبة، ولا اقولك يا رب تلبسك قبيلة جن يعفروتك.

ثم غادرت المكان وهي تدفع نوح من أمامها بعنف، والغضب ينهش صدرها ويعصف بأنفاسها حتى صارت غير قادرة على ضبط تنفسها السريع، فيما وقفت حسناء تتأمل المشهد وقد نجحت في جلب طاقة البكاء سريعًا إلى وجهها وقالت بصوتٍ حزين ومكسور:

-أنا عملت فيها إيه لكل ده؟ أنا والله كانت نيتي خير، ربنا يهديها.

اقترب نوح منها بهدوء واضعًا يده خلف ظهره، تسكن ملامحه ثقة هادئة وابتسامة خفيفة ارتسمت على وجهه ثم قال بنبرة رخيمة:

-معلش يا حسناء هي يسر انفعالية شوية، بس قلبها أبيض، أنتي لو شاطرة حاولي تقربي منها.

رفعت رأسها تنظر إليه بعينين ممتلئتين بالدهشة، فتسللت منها ضحكة ساخرة خرجت دفعة واحدة دون أن تفكر في كبحها:

-أنا لو جيت جنبها ممكن تقتلني!

ابتسم نوح بخفة ثم قال بتأن مدروس:

-لا خالص بالعكس، دي مفيش أطيب منها، وأنتي حنونة وجدعة.

رمشت بأهدابها محاولة إظهار الاستعطاف، ثم رققت صوتها أكثر وكأنها تصنع فخٍ جديد تنصبه له:

-شكرً يا نو....قصدي يا دكتور، بس هو حضرتك مش زعلان مني بسبب الحجاب؟!

صمت نوح لثانية يمعن النظر فيها بعينين غامضتين أربكتها، ثم ابتسم ابتسامة رسمية وهو يومئ برأسه نفيًا:

-لا خالص ما أنا عارف إنه لمصلحتي، بس بلاش بعد كده الحاجات دي أنا مابقتنعش بيها.

همست بخضوع:

-حاضر.

ثم التفت نحو مكتبه ليواصل عمله وأردف بجدية:

-المهم يا ريت بقى تلميهم من الاوضة.

توقفت حسناء ثانية وقد بدت عليها علامات الصدمة، تحاول أن تستوعب مغزى حديثه فقالت بتلعثم واضح بعدما أدركت أنه علم أن عدد الأحجبة لم يكن واحدًا:

-المهم؟! هو حضرتك عارف إنه في أكتر من واحد؟

استدار نوح نحوها وعلى وجهه شبح ابتسامة ساخرة، وقال بنبرة عادية لكنها حملت وقعًا مدويًا في نفسها:

-امممم شوفتها من زمان واستغربت وجودهم، بس لما شوفت والدتك إن ليها في الحاجات دي، عرفت أنك أنتي اللي حاطهم، بس دلوقتي عرفت ليه وفرحت اوي أنهم لمصلحتي.

هزت رأسها سريعًا تحاول أن ترد، لكنها لم تُفلح في إخفاء ارتباكها فقالت بتلعثم لم ينجُ من الارتجاج:

-آآ...اه يا دكتور لمصلحتك، بس ليه مقولتليش ومسألتنيش؟!

أجاب بنبرة باردة وهو يجلس على مقعده متكئًا براحة تامة على ظهره:

-ما أنا مكنتش فاضي يا حسناء وكنت مشغول، فنسيتهم.

هزت رأسها بإيجاب وهي تحاول رسم ابتسامة على وجهها ولكن من شدة ارتباكها لم تنجح، فبدت ملامحها مشدودة وكأن أمرها قد كُشف، ولكن البرود المحتل لوجهه هدأ قليلاً من ضربات قلبها المتسارعة، فجمعت شتات نفسها المبعثرة وخرجت سريعًا من الغرفة، متجهة صوب دورة المياه مقررة الاختلاء بنفسها بعيدًا عن أعين المرضى وأي دخيل قد يقطع حبل أفكارها.

بينما كانت يسر تغلي بالمعنى الحرفي داخل محلها، فتملكتها طاقة كبيرة لتكسير المحل بأكمله والصراخ حتى يبح صوتها، ولكنها فكرت بجدية ساخرة، كيف لها أن تخسر تلك الخسارة الكبيرة لمجرد التنفيس عن غضبها الذي كان بسببه؟ لمَ لا تُسبب له تلك الخسائر كمجرد انتقام بسيط منه؟

فخرجت من المحل تبحث حول نفسها بحيرة، حتى وجدت حجرًا كبيرًا فحملته بصعوبة وتوجهت صوب سيارته المصفوفة على جانب الرصيف المقابل للبرج وبكل قوة وغل ولحظات جنونية، ألقته نحو زجاج سيارته الأمامي فتهشم كليًا وسط أنظار المارة المتعجبين، فتوجه حارس البرج إليها بدهشة من فعلها وقال:

-إيه ده يا مدام يسر؟!

التفتت بوجهها المنفعل نحوه وسألته بحنق دفين:

-هي دي عربية مين؟ عربية دكتور نوح جوزززي، اكسرها اتصور جنبها أنا حرة!!!

ابتعد الحارس بخوفٍ منها فبدت كالمجنونة التي توشك على ارتكاب جريمة، فهز رأسه بإيجاب وهو يبعد المارة من حولها، ولكن سيدة مسنة ضربت كفًا فوق الأخرى بتعجب وهي تُصر على التنفيس عن رأيها:

-ليه كده يا حبيبتي، مش خسارة؟

اقتربت يسر منها وهمست بغل:

-بيخوني، ميستاهلش اعمل فيه كده؟

-لا يا حبيبتي طبعًا يستاهل تكسري دماغه هو، خسارة العربية غالية!

عقدت يسر حاجبيها بضيق من نفسها، حقًا... لماذا لم تهشم رأسه هو وتنتهي مأساتها نهائيًا؟ وذلك الألم الواخز في صدرها بسبب غيرتها سوف يتبخر!

ولكن صوت السيدة الهامس أيقظها من لذة انتقامها: 

-لو جوزك قريب من هنا، الحقي اهربي.

التفتت إليها يسر تنظر بتفكير ثم قررت بالفعل الهرب منه، فأغلقت محلها بسرعة كبيرة ثم انطلقت لتوقف أول سيارة أجرة وتهرب إلى منزل والدها، وبالفعل قد نجحت فآخر ما رأته هو خروج نوح بلهفة من البرج، وهو ينظر بحسرة إلى سيارته التي كان سعيدًا جدًا باقتنائها!
                               ***
بعد مرور أربعة أيام...

كانت العلاقة بين يزن وسيرا في أوج نشاطها، إذ توالت المقابلات وتكررت الاتصالات حتى ساعات متأخرة من الليل، في ظل أجواء تشي بانسجام ظاهر وارتياح مبطن بين الطرفين، لكن في المقابل لم تهدأ نيران الخطط الماكرة التي حيكت على يد سيرا وفاطمة إذ استمرت محاولاتهما في الإيقاع بيزن عبر وسائل خفية ومقالب متنكرة ببراءة زائفة.

كانت وسائل التواصل الاجتماعي ساحة هذه الحرب الخفية إذ اخترعتا حسابات وهمية لفتيات، تفيض حساباتهن بالإعجاب ثم تتودد ليزن وتطارده في التعليقات والرسائل، أملًا في كشف  زلاته، لكن ما خيب ظنهما أن يزن لم يبدُ مكترثًا، وقد قل تفاعله على هذه المنصات إلى حد ملحوظ.

وإزاء هذا التراجع قررتا الانتقال إلى مرحلة أكثر تقدمًا، عبر إرسال رسائل إعجاب مباشرة من تلك الحسابات الوهمية، لكن يزن كان يقرأ الرسائل ثم يكتفي بإرسال رموز تعبيرية ضاحكة في إشارة صريحة لسخريته من محتوى تلك الرسائل.

حينها صاحت سيرا وهي تتأمل شاشة هاتفها بتفكير وامتعاض:

-الله دي تالت رسالة من أكونت غريب ويعملي إيموشن ضحك، فاطمة هو قفشني؟

كانت فاطمة في تلك اللحظة منشغلة بتناول قطعة خبز محشوة بالجبنة الرومي تقضمها ببطء، فقالت بتصنع يفترض التفكير العميق:

-أنا من رأيي نروح على خطة جـ، نشوف حد من البنات صحابي الممثلين ونزوقها عليه، لو هو ظبّط أموره معاها يبقى ترمي له شبكته في وشه، أما لو مدهاش وش يبقى انتي تسكتي وتخرسي خالص ومسمعش صوتك، عشان انتي معطلاني على مشواري الفني.

ارتسمت على وجه سيرا ملامح التردد، فزمت شفتيها بتفكير محاولة تقييم اقتراح صديقتها الذي لا يخلو من المجازفة، ثم قالت بصوت يحمل ملامح ضيق طفولي:

-وافرض بقى يا حلوة أعجبت بيه، اعمل إيه بقى أنا وقتها؟

ارتشفت فاطمة رشفة من كوب الشاي بالحليب، وقد علت ملامح وجهها نظرة غامضة ممزوجة بثقة حمقاء ثم أجابت بنبرة فخورة:

-لا  أنا اصحابي الممثلين توب التوب ومخلصين اوي.

زفرت سيرا بتوتر متزايد وقد قررت أن تحسم أمرها أخيرًا:

-ماشي بس اشوف صورهم الاول، واقرر مين اللي هتساعدنا.

-وماله اوي اوي، تعالي افرجك.

تحركت سيرا وجلست بجوارها وهي تزيح صحن السندوتشات جانبًا بغيظ ثم علقت بحنق:

-ما خلاص السندوتشات دي معمولة على اسمي، وفي الآخر انتي اللي بتاكليها، وبعدين خفي شوية في الأكل يا فنانة كده الادوار هتروح منك.

رفعت فاطمة نظرها إليها بازدراء وقد استنكرت اتهامها بلهجتها المعتادة:

-انتي مجنونة؟ هو انتي فاكرني باكل معاكي طفاسة؟! لا ده أنا محتاجة اتخن كام كيلو لدور مهم اوي معروض عليا.

ضحكت سيرا بسخرية وقد بدا على صوتها بعض الحنق:

-اه قولتيلي، يلا وريني يا فنانة صحابك الفنانين.

بدأت فاطمة تعبث في هاتفها المحمول بحثًا عن الصور ثم ما لبثت أن صاحت فجأة وهي تدير الهاتف نحو سيرا، التي كانت تنفخ خديها بعد أن ملأتهما بخبز الجبن:

-في شغل يا بت يا سيرا اهو ده شكله لقطة....

لكن سيرا قاطعتها بحسم فجائي قائلة:

-لا يا ستي انتي بالذات عمري ما همشي وراكي، خلاص لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين.

-يا ختي انتي حرة، المهم إيه رأيك في البت دي؟ دي اسمها فاتن الملوك حتة بت جبارة، بتوقع الولاد في ورشة التمثيل معانا بنظرتها بس.

قطبت سيرا حاجبيها بضيق واضح من هذا الاختيار وقالت بحذر:

-اه منا واخدة بالي، نظرتها كلها....بلاش أقول عشان الرقابة غيرو يا فاطمة!

أطلقت فاطمة زفرة صغيرة ثم عادت تقلب في صور أخريات حتى ارتسمت على وجهها ابتسامة واثقة وهي تشير مجددًا إلى الهاتف:

-بصي بقى البت دي اسمها كاريمان نعيم، عايزة اقولك مشيتها بقى مفيش لا بعدها ولا قبلها، دي اللي اتعمل علشانها اغنية زالزال، بتدخل الورشة كلنا ولاد وبنات بنركز مع مشيتها موديل موديل يعني.

تغير وجه سيرا لملامح امتقاع وقد بدا عليها الامتعاض الشديد من صورة الفتاة ووقفتها التي وصفتها وكأنها خارجة من أحد أفلام الممنوعة من العرض، ثم قالت باعتراض:

-إيه ده يا فاطمة يا حبيبتي، أنا كده بوديه في داهية، ده بوليس الآداب لو شم خبر هيركبه صاروخ للقسم على طول، ركزي عشان خاطري.

راحت فاطمة تتابع تمرير الصور بتأفف ظاهر، وهي تتمتم بتذمر:

-لا دي ماشية مع حودة المونتير، لا دي بقى حسيتها كانت بتظبط مخرج الاعلان الأخير، لا دي مخطوبة وبتمثل من ورا خطيبها، لا دي مبحبهاش رزلة واخدت مني إعلان الشامبو، لا دي بت دي نظراتها مش سالكة.

قالت سيرا وهي تفرك جبينها بملل:

-إيه يا فاطمة أنا عايزة واحدة عادية، إيه البنات الغريبة دي؟

-ما أنا بدور اهو والله؟ اسكتي يا بت يا سيرا البت دي بقى اتخطبت لظابط قامت خانته مع ابن عمها عنده شركة انتاج صغننة، فهو لما اكتشف الخيانة، حبسهم الاتنين.

شهقت سيرا بدهشة وهي تقول وقد ارتسم على ملامحها الذهول:

-ده مجتمع قذر، أنا هقول لأمك تمنعك بجد عن التمثيل ده؟ لما صحابك بالمنظر ده، يبقى أخرتك هتبقى إيه؟ خدي بالك الصاحب ساحب.

لكن فاطمة ردت سريعًا باستهزاء:

-صاحب ساحب إيه، أنا البنات دي كلها ضاربة عليهم  العالي عليهم مابعبرش حد فيهم، انتي عايزاهم يشبهوني؟

هنا لم تملك سيرا سوى الإمساك بوسادة قريبة، وبدأت في ضرب فاطمة بها بعنف وغيظ مكبوت:

-ولما انتي خايفة يشبهوكي، عايزاني أنقي منهم واحدة ليه؟ يا مفترية....

حاولت فاطمة الإفلات من ضربات سيرا المتلاحقة، فقد كانت تتلوى بين الضربات، وتضحك رغم الألم، لكن ما أنقذها من ذلك الهجوم المفاجئ كان رنين هاتف سيرا الذي قطع المشهد.

فقفزت سيرا نحو النافذة عندما ظهر على الشاشة اسم يزن، فأخفت وجهها المتحمس خلف ستارة خفيفة ثم حمحمت بصوتها وتنفست بعمق، قبل أن تجيب بنغمة ملؤها الدلال والرقة التي أدهشت فاطمة، فقد تحولت فجأة وكأن هناك ساحرة ألقت تعويذتها عليها:

-لسه فاكر تتصل؟

رد يزن بنبرة مُجهدة:

-والله متمرمط من الصبح بسبب عربية الزفت نوح، المهم تعالي اخرجك عاملك مفاجأة.

اتسعت ابتسامتها بسعادة كبيرة، ولكنها كبحت صوتها بنغمة هادئة متزنة:

-كلم بابا واستأذنه، لو وافق ماشي.

-تمام، هكلمه وانتي اجهزي.

أنهت المكالمة ثم التفتت نحو فاطمة وهي تلم أشياءها بسرعة:

-سلام يا فاطمة كُلي السندوتشات اللي انتي باصة فيهم براحتك.

غادرت المكان مُسرعة والبهجة ترتسم على وجهها، بينما بقيت فاطمة تحدق في صحن السندوتشات، وتهمس وهي تبتلع آخر قضمة:

-الحمد لله...نسيت الساندوتش.

                            ***
وقف يزن أمام منزل "سيرا" متكئًا على سيارة جديدة لم تراها من قبل، ولم تعرف أن تلك السيارة  صارت الأقرب إلى قلبه في الآونة الأخيرة، راقب باب المنزل بعينين يملؤهما الحماس، وكأنهما تفضحان ما يخبئه من مفاجأة يعتبرها استثنائية، وربما رومانسية بطريقته الخاصة،فقد كان الجو ساكنًا إلا من نبضات قلبه المتسارعة، وحركة أصابعه التي تعانق مفاتيح السيارة في جيبه وكأنه يعد الثواني حتى تظهر.

وما إن انفتح الباب حتى خرجت بخطواتها المتهادية، تحمل في مشيتها شيئًا من الثقة الممزوجة بالخجل، عندها أسرع يزن يعتدل في وقفته وابتسم ابتسامة عريضة ثم خطا نحوها بخطوات محسوبة، وفتح لها باب السيارة بإيماءة خفيفة وهو يقول بإعجاب صريح أخجلها:

-إيه الجمال ده كله، مفيش حد يلبس بعدك أصفر.

توقفت فجأة وضاق بصرها قليلًا في تعبيرٍ يشي بالقلق من نبرة إعجابه الممزوجة بتلك البسمة المعتادة التي طالما أربكتها:

-اوعى تكون بتتريق ده أصفر كناري.

غمز بطرف عينيه ورفع حاجبه بثقة، ثم قال بابتسامة ساحرة ولمعة إعجاب في عينيه:

-اتريق إيه بس؟ ده زغلل عيني من أول ما خرجتي.

تلونت وجنتاها باحمرار طفيف لم تستطع إخفاءه، وكأن حرارة كلماته قد تسللت إليها فجأة، فقررت الهروب من دائرة تركيزه وجلست في مقعدها وهي تحاول إخفاء ارتباكها، وفي الوقت نفسه راحت تتساءل في سرها عن سبب تلك النظرات المليئة بالحماسة، فاستدارت إليه بتوجس لطيف وسألت:

-هو إحنا رايحين فين؟ وإيه المفاجأة؟

جلس يزن خلف مقود القيادة وأشهر مفاتيحه أمام وجهها كأنه يعرض وسامًا ثمينًا:

-المفاجأة يا ستي إن أنا هعلمك السواقة النهاردة.

اتسعت عيناها في ذهول صادق وكأن الفكرة باغتتها على حين غرة، ثم قالت بقلق ممزوج بفرحة خفية لتلك التجربة:

-بجد؟ طيب هي فين العربية اللي هتعلم عليها؟

-على العربية دي طبعًا. 

قالها بثقة تليق بمَن يعرف قيمة ما يملك، وبنبرة فخر لا تخلو من الدعابة، فعندها عقدت حاجبيها بتردد واضح:

-انت متأكد يا يزن؟ العربية دي غالية؟ هات أي عربية ملهاش تلاتين لزمة وأنا هتعلم عليها.

ضحك يزن بخفة وأدار محرك سيارته الذي انبعث صوته العميق في صمت الشارع، ثم قال بإعجاب صريح:

-يا روحي الغالي للغالي ولا يهمك، وبعدين انتي يوم ما تتعلمي السواقة تتعلمي على أحسن وأفخم عربية في السوق.

ارتسمت ابتسامة فخر على شفتيها وجلست في مقعدها بوضعية مَن يستعد لخوض مغامرة استثنائية، بينما كانت تتخيل نفسها خلف عجلة القيادة، فقطع حبل أفكارها صوته وهو يتابع الطريق بنبرة عملية:

-هنروح مكان بس تتعرفي تتعلمي فيه ومتكونيش متوترة.

رفعت رأسها بتعالي مصطنع وكأنها تثبت له أنها لا تعرف الخوف:

-لا توتر إيه! أنا قلبي ميت، وبعدين أنا بفهم بسرعة ماتقلقش.

ضحك وهو يرمقها بنظرة مازحة:

-اه الثقة الزايدة دي نهايتها وحشة، حطي واطي شوية.

من المفترض أن تقلل من حماسها، ولكنها زادت الأمر تمثيلًا فرفعت رأسها أكثر وهي تقول:

-بص انت هتنبهر بيا، وصلنا بس بسرعة، صحيح يا يزون هو انت ينفع تعلمني اسوق بإيد واحدة زيك؟

رمقها بإعجاب لا يخفيه وخفض صوته الخشن حتى صار أكثر رقة وهو يجيب:

-ده أنا هعلمك تسوقي من غير إيد خالص، صبرك عليا يا بيبي عشان في مفاجأة تانية اخطر لما نوصل.

صفقت بيديها كطفلة تنال وعدًا بقطعة حلوى وهي تقول بحماس يفيض رغم أنها تجاهلت تلك الكلمة البغيضة التي نطقها "بيبي":

-يلا يا يزون شكلنا هنولعها.

أما هو فقد همس لنفسه وهو يشعر بارتباك داخلي يعصف به كلما سمعها تنطق اسمه بتلك النغمة المليئة بالدلال:

-هي هتولع فعلاً لو مابطلتيش تقولي يزون دي.
                             ***
لم تمضِ سوى دقائق حتى كانا يبتعدان عن ضوضاء الشوارع، متجهين نحو طريق جانبي تحفه أشجار النخيل وأعمدة الإنارة التي تتناثر على مسافات متباعدة، أبطأ من سرعته حتى توقف تمامًا عند ساحة واسعة شبه خالية، تتسع لتجربة تدريبها، أطفأ المحرك واستدار نحوها بعينين تحملان مزيجًا من الحماس والترقب.

-يلا يا سيرا انزلي عشان نبدل.

رمقته سيرا بنظرة مزيج من الحماسة والتردد، ثم تنهدت وهي تفتح بابها بخطوة مترددة، تنتقل إلى مقعد السائق، جلست خلف المقود وأصابعها تتحسس الجلد الفاخر للمقود، وكأنها تلمس شيئًا ثمينًا تخشى أن تكسره، ولكن جلستها لم تكن مريحة على الاطلاق فتذمرت قليلاً بخفوت:

-إيه ده الكرسي ماله مش مظبوط، لا أنا كده مش عارفة اركز.

ابتسم يزن في صمت وضغط فوق زر مخصص لتعديل المقعد، فشعرت بالمقعد يتحرك للأمام ببطء حتى توقف عند الوضع المناسب، وأصبحت جلستها أكثر راحة وأكثر تمكنًا من الإمساك بالمقود، رفعت ذقنها قليلًا محاولة إخفاء جهلها الذي بدأ يتسلل إلى ملامحها وقالت بكبرياء مصطنع:

-ايوه كده القعدة مظبوطة، كده اسوق وأنا حاطة في بطني بطيخة صيفي، يلا بسم الله الرحمن الرحيم، سيري يا نورمندي تو.

انطلقت ضحكات يزن الرجولية بلا تكلف، فالتفتت نحوه وابتسمت بلطف وكأنها تستمتع بهذا الإيقاع الخفيف بينهما:

-بعملك أجواء، أنا تلميذة فرفوشة على فكرة 

أومأ برأسه إيجابًا وابتسامة ساخرة طفيفة ترتسم على شفتيه، فبدا وكأنه يخطط لرفع مستوى الحماس، أخرج من صندوق متوسط الحجم كاميرا للتصوير، تتلألأ عدستها تحت ضوء الشمس، اتسعت عيناها دهشة وإعجابًا فصاحت وهي تمسك بالكاميرا كما لو كانت جائزة غير متوقعة:

-الله كاميرا.

أومأ إليها بإعجاب صريح وقال بصدق يلامس قلبها:

-ايوه عشان اصورك صور حلوة وانتي بتسوقي، بما إنك بتحبي التصوير.

ضحكت ضحكات صغيرة ثم أمسكت المقود وأخذت تتخذ وضعية القيادة وكأنها نجمة في مشهد سينمائي وقالت بأمر مصطنع:

-بجد طيب يلا صورني.

بدأت تتحرك في المقعد تميل برأسها أحيانًا وتعدل جلستها أحيانًا أخرى لتتيح له زوايا تصوير مميزة، ورغم أنها أطالت في هذا الطقس المرح، لم يُبدِ يزن أي تذمر بل أبدى طول بال مدهش، وكان يساعدها على التقاط صور بأفكار مبتكرة، فيمزج بين دور المصور والمدرب، فقد كانت سيرا في أوج سعادتها وكأنها نسيت أنها جاءت لتتعلم القيادة، وحين انتهت من هذه الجلسة المصورة، قالت بابتسامة واثقة تحمل نفس التحدي:

-يلا هنبدأ بأيه؟ استنى طبعًا هاشغل العربية، أنا قولتلك أنا بفهمها وهي طايرة.

وضع يزن الكاميرا في صندوقها ونظر إليها بابتسامة ممزوجة بجدية طفيفة:

-طيب استني افهمك تدوسي على إيه!

-استنى إيه أنا تلميذة نجيبة.

لكنها لم تنتظر رأيه أو تعليمه فحلم قيادة السيارة كان كبيرًا بما يكفي ليدفعها للاندفاع، وفي ذهنها بدا الأمر بسيطًا تشغيل السيارة وتحريكها يمينًا أو يسارًا، وانتهى الامر، وقد تناست تمامًا أن هناك خطوات أساسية فاستدارت إلى المفتاح وضغطت على زر التشغيل ثم ضغطت بقدمها على البنزين دون وعي، وفجأة انطلقت السيارة بسرعة كبيرة، فارتفع قلبها إلى حلقها واتسعت عيناها وهي تصيح بفزع.

رفعت يديها عن المقود وصرخت، فأصبحت كالطفلة التي ترتكب حماقة ثم تتبرأ منها برفع يديها:

-إيه ده؟! يالهوووي الحقني يا يزن.

مد يزن يديه إلى المقود محاولًا السيطرة على السيارة وصاح بتذمر لا يخلو من قلق:

-قولتلك استني يا ترعة المفهومية...

بمهارة استطاع إيقاف السيارة قبل أن ترتطم بأي عائق، وارتدت سيرا للخلف في مقعدها، تتنفس بعمق وكأنها نجت من حادث محقق:

-لا لا أنا قلبي وقف...احنا كنا في ثانية هنلبس في الشجرة.

ابتسم يزن بهدوء وهو يستدير نحوها كليًا، صوته أكثر رقة مما توقعت:

-عشان متهورة، وبعدين جمدي قلبك يا حبيبتي دي حاجة بسيطة، بصي ده الدريكسون طبعًا اللي بتتحكمي منه في العربية، ودي الفرامل اليد ودي المساحات....

كان يتحدث بإيقاع ثابت لكن عقلها توقف عند كلمة "حبيبتي"، تسللت الكلمة إلى قلبها بخفة، لتزرع فيه شعورًا مختلفًا ولذيذًا، كأنها اعتراف صريح يختبئ في ثنايا حديثه، نظرت إليه ببلاهة حالمة، عيناها تلتهمان ملامحه بلا وعي، وجهه الواثق وأنفه المرسوم، أما عن عيناه اللتان عجزت عن تحديد لونهما في ضوء الشمس، وكأنهما بحيرة تتغير ألوانها مع الموج، وحين وصل بصرها إلى فمه، شعرت بحرارة تتصاعد إلى وجنتيها، فاجأت نفسها وهي تقطع هذا التيار بصوت عالٍ:

-استغفر الله العظيم....

توقف يزن عن الشرح وبدت على وجهه علامات الاستغراب:

-في إيه؟ بتستغفري ليه؟

تلعثمت ببلاهة وهي تنقذ نفسها من ذلك الموقف المحرج:

-آآ....آآ....آآ...الصراحة الكلام اللي انت بتقوله ده كلاك كبير اوي اوي.

تساءل بعدم فهم:

-مافهمتيش حاجة منه يعني؟

رمشت بأهدابها في ارتباك وقالت بنبرة ضعيفة تحمل اعترافًا خجولًا:

-يزن أنا عايزة اقولك الصراحة...بس ماتضحكش عليا.

شد يزن ملامحه قليلًا محاولًا إخفاء فضوله حتى لا يربكها:

-قولي؟ 

همست بخجل ممزوج بحماقة زادت سحرها في عينيه:

-أنا مابعرفش اسوق عجلة أم تلات عجلات، هسوق عربية وافهمها بسهولة اللي انت بتتكلم بيها دي!

رمقها باستنكار ودهشة:

-إيه دخل العجل بالعربية؟

تذمرت وعقدت ذراعيها أمام صدرها وهي تردف بملل:

-كلها عجلات يا يزن، وأنا معنديش توازن للاسف.

ضحك عقب حديثها ضحكة مشاكسة وقال بنبرة تحتمل المزاح والجد:

-ده حقيقي، دايما بحس منك مفيش توازن للأسف.

رمقته من طرف عينها بغيظ ثم أوضحت حديثها بكبرياء فابتسم باتساع:

-ماتتريقش، قصدي أن تلقائيًا تلاقيني بحدف يمين، أو شمال...

ضحك رغمًا عنه وهو يقول بتعجب:

-انتي عايزة إيه مش فاهم؟

تنهدت بعمق مستسلمة بسرعة، وكأنها أسقطت عن كاهلها فكرة خوض التجربة:

-يزن أنا على باب الله، والله كان نفسي افرحك عشان فرحتني، بس صدقني انت لو مُصر اتعلم اليوم هيخلص بعربيتك مخبوطة وأنا مرضاش الخسارة ليك أبدًا.

ابتسم ابتسامة مائلة نصفها جد ونصفها مزاح، ومال برأسه قليلًا نحوها، وكأنه يقرب صوته ليطمئنها:

-ليه هو انتي قاعدة مع توتو، تخبطي العربية؟ يا حبيبتي مفيش حد أنا علمته السواقة إلا لما يكون بريفكت في أول مرة، عيب عليكي.

رفعت حاجبها بتشكك وعيناها تتأمله وكأنها تزن صدقه:

-متأكد؟

أومأ بثقة لا تقبل النقاش وهو يعيد تعديل جلسته وكأنه يستعد رسميًا لبدء التدريب:

-طبعًا، يلا خدي نفس، وركزي في أول درس..

شعرت للحظة أن نبرته الأخيرة تحمل شيئًا أكبر من مجرد تعليم القيادة، وكأنها دعوة للثقة به في كل ما هو آتٍ فتشبثت بالمقود، محاولة إخفاء الخفقة التي تسارعت في صدرها، وأومأت برأسها استعدادًا، بينما الهواء في السيارة صار أثقل قليلًا بفعل الحماس والترقب.

وبعد عدة دقائق استوعبت قليلاً مما قاله، فحاولت 
تجربة القيادة للمرة التي لم تعلم عددها، وها هي قد نجحت بالفعل، فشعرت بذبذبات الطريق تحت عجلات السيارة، وبدأت الابتسامة ترتسم على وجهها وهي تتحرك للأمام:

-الله دي ماشية.

ازدادت ثقتها تدريجيًا فأمسكت المقود بثبات أكبر، لكن يزن كان يراقب عن قرب، مستعدًا للتدخل في أي لحظة، وفجأة مالت قليلًا نحو اليمين، فكاد أن يضع يده على المقود، لكنه بدلًا من ذلك قال بهدوء:

-ركزي في النص…بالراحة، بصي قدام مش على الأرض.

رفعت ذقنها في تحدٍ، وأصلحت مسار السيارة بثقة، ثم التفتت نحوه بابتسامة فخر:

-قولتلك هتنبهر.

أومأ برأسه مؤكدًا حديثها وفي عينيه بريق رضا يشي بأنه يترك لها مساحة الانتصار، وكأنها طفلة لا يود كسر خاطرها، فقال بإعجاب صادق وكأنه يمنحها وسامًا صغيرًا:

-شاطرة، شاطرة اوي...إيه القمر ده يا ناس اللي بيفهم بسرعة ما شاء الله هتعديني في السواقة.

رمقته بطرف عينيها في حذر وكأنها تختبر صدقه أو ربما تحاول قراءة ما وراء ابتسامته، ثم قالت باندهاش فيه لمحة تحدٍ طفولي:

-بجد، استنى احط ايد واحدة...

لكن يزن الذي كان يراقب أدق حركاتها، صاح بذعر وهو يمد يده ليعيد يدها الثانية فوق المقود، وكأن حياته كلها معلقة بهذه اللحظة:

-لااااا...لا ابوس ايدك، سوقي بايدك الاتنين لغاية ما تتعلمي بس كل حاجة.

أطرقت قليلًا ثم هزت رأسها باستسلام خفيف وهي تعيد يدها إلى مكانها:

-ماشي اللي انت شايفه، يزن هي العربية ليه بتيجي يمين؟

ابتسم ابتسامة خفيفة وعيناه ما تزالان تتابعان حركة المقود:

-انتي اللي بتجبيها، اظبطي ايدك كويس...

لكنها قاطعته فجأة بصوت مرتفع بعد أن أحست بالانحراف المفاجئ:

-لا لا لا...اااه، العربية...لا العربية مالها....

في تلك اللحظة ارتطم الإطار الأمامي بحافة صغيرة على جانب الطريق، وارتجت السيارة ارتجافة طفيفة لكنها كانت كافية لتُحدث في قلب يزن صدى أكبر من صوتها الحقيقي، وضع يده على صدره وكأنه يحاول تهدئة نبضه وصاح بأسى مصطنع:

-أنتي سمعتي صوت الخبطة، صوت خبطتها سمع في قلبي، عربيتي...

رمقته سيرا بعينين ممتلئتين بالأسف وانحنت قليلًا نحوه وهي تقول بخفوت، كطفلة تعترف بخطأها:

-قولتلك ماعنديش توزان، أنا أسفة يا يزن.

أدار رأسه بعيدًا عنها وزفر زفرة طويلة، ثم قال بلهجة متوترة تحمل في طياتها حنقًا:

-انزلي...انزلي، أنا أصلاً واحد أهبل عشان فكرت اعلمك السواقة.

لم ترد عليه واكتفت بإلقاء نظرات قصيرة مليئة بالاعتذار، قبل أن تفتح الباب وتنزل من السيارة بخطوات متثاقلة، وقفت على حافة الرصيف تراقب من بعيد تعابير وجهه التي جمعت بين الحنق والأسى، بينما كان يدور حول سيارته بفحص دقيق.

أخرج هاتفه من جيبه ورفعه إلى أذنه ليجري مكالمة قصيرة، بدا خلالها صوته هادئًا على غير ما يظهر على ملامحه، لم ترغب سيرا في البقاء على مقربة منه في تلك اللحظة، فابتعدت بخطوات بطيئة حتى وصلت إلى عربة صغيرة لبيع الطعام، حيث استوقفتها رائحة الخبز الساخن والتوابل الشهية، اشترت سندوتشًا وأمسكته بيديها الدافئتين، ثم عادت بخطوات مترددة وهي تنظر إليه من بعيد بعينين يكسوهما الأسف.

حين لمحها يزن كانت ابتسامتها الخفيفة لا تكاد تخفي حقيقة الموقف، فانعقد حاجباه وتمنى للحظة أن يهشم رأسها على سبيل العقاب، إلا أن نظراته خفت حدتها شيئًا فشيئًا عندما اقتربت منه وهي ترفع السندوتش أمامه كأنها تقدم هدية مصالحة، قائلة بابتسامة ماكرة:

-يزوني متزعلش مني، أنا هصالحك واراضيك.

رفع حاجبه مستفسرًا ونبرته نصف جادة:

-ازاي؟

أجابت وهي تميل برأسها قليلًا وكأنها تهمس بسر:

-تعال بليل عندنا هخلي ابلة حكمت تعملك طاجن البامية اللي انت بتحبه، تاكله لوحدك كله.

ابتسم بخفة لكنه هز رأسه رافضًا العرض:

-لا...عايزه اكله من ايدك، من غير أي مساعدات خارجية، وبعدين ماينفعش بليل، افتتاح محل يسر مرات نوح بليل ولازم نروح.

توقفت عن المضغ لثانية ورفعت حاجبيها بتساؤل:

-نروح؟

أجاب ببساطة:

-اه هي قالتلي اعزمك واجيبك معايا.

تساءلت باهتمام:

-وانت قولت لبابا؟

هز رأسه إيجابًا وقال وهو يدور نحو مقعده ليستقل السيارة:

-اه هروحك تغيري وهنروح ساعة بالكتير ونرجع تاني، عشان اشوف حل للمصيبة دي.

وأشار نحو سيارته بأسى، فهزت رأسها بحماس وانتقلت تستقل بجانبه، وتخطط ما سوف ترتديه.
                            ***
دقت الساعة الثامنة مساءً، وصلا يزن وسيرا إلى المكان فقد كان يعج بالناس وأمام المحل الجديد وقفت يسر بثياب أنيقة تحتضن بعض المدعوين بابتسامات دافئة، وما إن رأت يزن حتى أشرقت ملامحها بالترحاب وأقبلت نحوه بخطوات سريعة.

-نورت يا يزن، شكرًا إنك جيت بجد وقدرتني.

ثم اقبلت نحو سيرا وصافحتها باهتمام وهي تنظر إليها بابتسامة بشوشة:

-كان نفسي اتعرف عليكي من بدري، بس يعني الظروف الايام اللي فاتت مكنتش احسن حاجة.

هزت سيرا رأسها بتفهم بعدما علمت من يزن بعص المقتطفات الأيام الماضية عن صديقه نوح وزوجته وأمر اختطاف ابنتهما، التي ركضت نحو يزن تستقبله بأحضان وصياح طفولي:

-عمو يزن وحشتني اوي.

حملها يزن وهو يقبلها بحب في وجنتيها وقد بدا حنونًا جدًا وهو يحادثها، فتساءلت لينا بحنق طفولي:

-فين أنس؟ مجبتهوش ليه؟ 

-امممم باباه مرضيش أبدًا، بس اوعدك هجيبه ويلعب معاكي، بس هو فين بابا؟

عقدت يسر ذراعيها أمامها واصطنعت الحزن وهي تنظر للأعلى:

-تصور يا يزن، مقدرنيش أبدًا ولا نزل يباركلي ويقف معايا، كتر خيره بابا وماما وابن خالتي منير 
واقف من الصبح على رجليه.

لم تكن بريئة أبدًا في إلقاء كلماتها الحزينة أمام ساحة يزن الذي تفهم فورًا قصدها وهز رأسه يصطنع الاستنكار:

-لا ده اتجنن، أنا هطلعله وانزله طبعًا، متزعليش نفسك، خلي بالك بس من سيرا، لغاية ما اطلع وانزل.

كانت سيرا تقف ببلاهة لم تفهم شيئًا، حتى مال عليها يهمس بتحذير:

-اطلع وانزل الاقيكي قاعدة هادية، بلاش مشاكل، واوعي تشغلي دماغك ابوس ايدك.

رمقته بغيظ ولكنها ابتسمت اليه واشارت نحو عينيها ببراءة، ثم تحركت بجانب يسر لتتعرف على عائلتها، فتعجب يزن الذي كان يقف يراقبها قبل أن يصعد من الود الزائد الذي كانت تتعامل بع مع الجميع حتى يسر كانت سعيدة جدًا بوجودها وانخراطها السريع معها في الحديث.
                           ***
طرق يزن باب غرفة نوح مرة قبل أن يفتح الباب يطل برأسه وهو يبتسم، فنظر نوح إليه بتعجب:

-إيه ده اللي جابك؟

دخل يزن إلى الغرفة وهو يردف بسخرية متعمدة:

-جاي عايزك تخسسني شوية، هو إيه اللي جابك؟ منزلتش ليه لمراتك تقف معاها؟

رفع نوح حاجبيه باستنكار وتساءل بخشونة:

-هي اشتكتلك؟ 

هز رأسه نفيًا وقال بهدوء محاولاً امتصاص الحنق البادي على وجه صديقه:

-لا ابداً، أنا جاي أنا وسيرا عشان اباركلها مالقتكش جنبها، فسيبت سيرا وطلعتلك.

ابتسم بتهكم طفيف وهو يقول بعدم رضا:

-وخطيبتك رضيت تسيبك؟ مخافتش تقعد في حنة بنت ام احمد اللي تحت.

اتسعت ابتسامة يزن بحنق ساخر وهو يقول:

-ياعم صلي على النبي، أنا خاطب واحدة الرهاب الاجتماعي يخاف منها.

اكتفى نوح بابتسامة بسيطة وصمت أمام نظرات يزن المستكشفة، فسارع يزن بقوله الرزين:

-المهم يلا انزل بما إنك معندكش شغل، انزل باركلها وشجع فيها روح الفيمنست اللي جواها.

امتعض وجه نوح وهو يرمق صديقه باستنكار:

-بالله عليك أنت مقتنع باللي بتقوله؟

حرك يزن رأسه نفيًا وارتسمت على ملامحه ابتسامة خفيفة تحمل شيئًا من السخرية، ثم أردف بنبرة رخيمة تنم عن أفكار متشابكة:

-لا طبعًا، بس اللي اكتشفته يا نوح من خلال معاملتي مع سيرا، إن البنات دول مخهم لاسع يعني زيهم زي الاطفال كده، ريحها وبعد شوية هتزهق وتسيبها من جو رائدة الاعمال اللي ماسكة فيه. 

حدق نوح فيه متعجبًا من صديقه الذي لطالما عُرف بعلاقته العديدة مع النساء، فإذا به يتحدث عن سيرا وكأنها أصبحت مركز اهتمامه الأول، فكيف ليزن قاهر قلوب الفتيات صاحب الخبرة الواسعة في عالمهن يظهر وكأنه عديم الخبرة أمام خطيبته هذه؟

-مالك يا يزن؟ متغير ليه يا حبيبي؟ بتتكلم كده وكأنك معندكش خبرة يعني؟ وسيرا دي هي اللي خلتك تتعرف تتعامل مع البنات؟ إيه يا معلم ده أنا لما بعطل باجي أخد منك خبرة في التعامل؟

ابتسم يزن ابتسامة شاردة وعيناه تحملان شيئًا من الاعتراف الصامت:

-لا ما هي مش زيهم، هي غيرهم كلهم.

رفع نوح حاجبيه بعدم تصديق وقال بضحكة مستنكرة:

-والله؟

أومأ يزن برأسه وعيناه تتأملان الفراغ وكأنهما تستحضرانه في ذهنه، ثم قال بنبرة جادة يختلط فيها السخرية بقدر من الانفعال الحقيقي، ذلك الانفعال الذي لم يبدُ على ملامحه من قبل وهو يتحدث عن فتاة:

-اه بجد والله، اقسم بالله وقعت في واحدة غريبة، ملهاش كتالوج يا نوح، حرفيًا بتبهرني معاها، مرة تبقى مفيش زيها مقطعة السمكة وديلها، ومرة تانية تحس مفيش أغلب منها، اوقات بحس إن دماغها تعبانة، واوقات تانية بحس إن مفيش اعقل منها،....

ابتسم نوح باستهجان وهو يرفع حاجبيه وكأنه يحاول اقتناص اعتراف طال انتظاره:

-إيه ياعم حيلك حيلك؟ إيه يا قاهر قلوب العذارى خلاص وقعت؟ انت حبيتها؟

تغيّرت ملامح يزن على الفور وكستها صلابة نافرة:

-لا حب إيه مش لدرجادي؟ يعني معجب بيها عادي، المهم تعالى انزل يلا، بنتك عايزاك، وبعدين انت ازاي سايب مراتك مع البأف منير ابن خالتها تحت؟

شهق نوح وقد اشتعلت الغيرة في صدره كما تشتعل النار حين تصيبها نفحة هواء:

-نعم؟ هو تحت؟

أجابه يزن ببراءة مصطنعة لكن نبرته كانت كسكب الزيت فوق لهيب لا يريد له أن ينطفئ، مدركًا أن هذا المتهور لن يتحرك إلا إذا شعر بالخطر يهدد علاقته:

-اه ده مسيطر على المكان، ده أنا سمعت ناس وأنا طالعلك بيقولوه عليه إنه جوزها، من كتر ما هو واقف جنبها ومش راضي يسيبها.

لم يتمالك نوح نفسه فانطلق نحو الخارج كاندفاعة ثور أُطلق من حبسه، والشياطين تتراقص في رأسه وتغذي ناره، فما كان من يزن إلا أن تبعه بخطوات سريعة وهو يلقي تحذيرًا بنبرة متحفظة:

-اهدى يا وحش الكون، مش عايزين مشاكل تحت، حماك المرة دي هيخليك تطلقها بجد.

أشار نوح بيده في الهواء بعصبية مكتومة:

-يزن..أنا عفاريت الدنيا بتتنطط في وشي، أنا مش راضي أصلاً على اللي بيحصل تحت، وبفكر اكسرلها المحل زي ما كسرتلي عربيتي.

لين يزن نبرته محاولًا امتصاص تلك الموجة العاتية من الغضب:

-لا اهدى كده ومتكسرش بخاطرها، معلش كانت لحظة شيطان يا عم وعديها، وبعدين انت مقولتش انها اختفت عنك اربعة ايام وكانت بتستخبى منك، ده يكفيك إنها خايفة منك.

رفع نوح حاجبيه في استنكار وصوته يقطر من الغضب المغلف بالسخرية:

-انت بتكلم ابن اختك؟ هي سيرا دي لدرجادي مأثرة.

ضحك يزن ضحكة قصيرة ثم هز رأسه كمن يلوم نفسه على محاولة التهدئة:

-تصدق أنا غلطان، انزل اعمل فيها عبدة موته تحت، وطلع البلطجي الصغير اللي جواك عشان ترتاح.

زفر نوح بقوة وهو يمرر أصابعه بين خصلات شعره ثم جذب أنفاسًا عميقة محاولاً تهدئة نفسه قبل أن يهبط لمقابلتها وسط أجواء احتفالها الصاخب التي كان يراها تافهة، في حين كانت أفكاره تتقافز بين الغيرة والغضب وتلك الرغبة الخفية في استعادة زمام الأمور مهما كلفه الأمر.

                            ***
بعد مضي فترة وجيزة حاول نوح أن يوقفها وسط حركتها الدؤوبة بين أرجاء المكان، وهي تستقبل الزائرين بابتسامة حيوية لا تخلو من الفخر، غير أنها لم تُعره اهتمامًا أو بالأحرى كانت تتعمد الفرار منه، هربًا من مواجهته بعد فعلتها بسيارته، وزيادةً على ذلك لما يعتمل في صدرها من حنقٍ عليه بسبب وقوفه مع تلك الحسناء.

تحرك خلفها بخطوات ثابتة لكنها كانت تتملص منه بخفة، حتى ظهر أمامه ابن خالتها منير يتحرك وراءها كفراشة حائرة، فاعترض طريقه نوح قابضًا على ذراعه بقبضة حاسمة ونبرة تحمل جرأة لاذعة:

-اقعد يا حبيبي عشان مايجيلكش دوالي.

فتح منير فمه مستعدًا للرد ومواجهة سخريته الواضحة، لكن نوح همس إليه بنبرة غليظة لا تحتمل الجدل:

-قولتلك اقعد.

وقبل أن يتمكن منير من الاعتراض، شعر بيد قوية تجذبه إلى الخلف فالتفت ليجد يزن يبتسم ابتسامة خالية من الود، ويدفعه نحو مقعد قائلاً بلهجة آمرة:

-اقعد عشان متبقاش سواد على الكل.

أما نوح، فانطلق نحو والدة يسر التي كانت تحمل لينا بين ذراعيها، وقد بدا الضيق على وجهه وهو يقول:

-هي مش ملاحظة إنها حامل وغلط عليها المجهود ده كله؟

ابتسمت الأم بهدوء وكأنها تحاول تهدئته فقالت:

-معلش يا ابني فرحانة، شوية كده وهتلاقي الدنيا خفت.

لكن نوح لم يُخفِ امتعاضه فتابع:

-إيه اللي هي عاملاه ده؟ دي لو حنة لينا مش هتعمل كده؟

فأجابته بابتسامة مقتضبة حاول إنهاء الحديث:

-معلش فرحانة، اقعد بس اشربلك حاجة ساقعة تروقلك بالك.

وفي الجهة الأخرى من القاعة كان يزن يرمق سيرا بنظرات حانقة، آملاً أن تفهم من تلقاء نفسها وتجلس قربه، لكن تلك البلهاء كما كان يسميها في سره، لم تعره أي اهتمام بل تمادت أكثر فوقفت إلى جانب يسر تساعدها في استقبال الزبائن والتحدث إليهم، بعدما طلبت منها يسر ذلك بلطف، فوافقت سيرا بحماس وود.

حاول يزن إيقافها بأي وسيلة حتى ولو بنظرة صارمة لكنها تقدمت نحوه بكل جرأة ومدت إليه حقيبتها قائلة:

-يزون امسك الشنطة، لغاية ما اساعد يسر، اوعى تسيبها لتتسرق.

اقترب منها وهمس بتحذير خافت:

-خدي هنا اقعدي...

لكنها لم تسمع أو ربما تجاهلت عمدًا، فانطلقت بخطى سريعة نحو الزبائن، تتعامل معهم بأريحية تامة، تاركةً إياه يضغط كفه على فمه في غيظ، متوعدًا لها بشجار مؤجل إلى ما بعد مغادرتهما.

أما نوح فقد جلس أمام منير في تحدٍ صريح، وكأن عينيه تنطقان بوعيدٍ واضح إن فكر في الاقتراب من يسر مرة أخرى، وفي الوقت نفسه ظل يراقب تلك الفراشة السعيدة التي ترفرف هنا وهناك، وهي تتحرك بخفة بين الضيوف، تترك خلفها أثرًا من البهجة…وأثرًا من الغضب والغيرة في قلبه.

                          ***
في منتصف الليل كان الصمت يلف أرجاء المنزل كستار ثقيل، لا يقطعه سوى وقع خطوات يزن وهو يحمل كوبًا من الماء في يده، والهاتف مثبت على أذنه، كان صوته يخرج متهدجًا بشيء من الإرهاق، لكنه مشوب باهتمام حقيقي وهو يخاطب نوح ليطمئن عليه وعلى يسر، بعدما قرر يزن أن يغادر الحفل بصحبة سيرا تلك التي أرسل والدها زوج فريال لاصطحابها إلى المنزل، لم تتح له الفرصة لفتح أي نقاش معها بشأن ما فعلته، إذ ما إن غادرت حتى أغلقت هاتفها على عجل، وكأنها تقطع عليه كل طريق للوصول إليها.

فسأل يزن بلهجة متعبة لكنها يقظة:

-يعني روحت مع اهلها؟ طيب محاولتش تتكلم معاها؟

جاءه صوت نوح عبر السماعة غليظًا ممتلئًا بالحنق:

-لا...خلصت وابوها خدها ومشيوا، ومالحقتش حتى اعمل أي حاجة يا يزن؟ اقسم بالله أنا مش هستحمل كتير حوار المحل ده!

أخذ يزن نفسًا عميقًا وهو يخطو داخل غرفته بخطوات متباطئة وكأنه يفكر بجدية في حل يُخرج صديقه من مأزقه، ثم قال بنبرة تحاول التهدئة:

-معلش يا نوح طول بالك، وشوف حد يكلمها ويقنعها.

سكت نوح برهة ثم أضاف متذكرًا:

-بقولك أنا ملاحظ خطيبتك قربت منها في الكام ساعة دول، ما تخليها تكلمها بما إنها هاتشتغل معها؟

جاء رد يزن مشوبًا بالدهشة:

-تشتغل مع مين؟!

أجابه نوح وكأنه يكشف سرًا:

-مع يسر انت ماتعرفش؟ أنا سمعت أم يسر وهي بتقول لابوها إن يسر عرضت عليها وهي وافقت.

اتسعت عينا يزن وكأن كلمات صديقه صبت فوقه ماءً باردًا ممزوجًا بالغضب:

-نعم؟ اقفل يا نوح...اقفل.

أغلق الهاتف بعصبية وبدأ يدور في الغرفة كوحش محاصر، قبضته تنفتح وتنغلق في انفعال، حاول الاتصال بها مرارًا لكن الهاتف ظل مغلقًا، وكأنها تعلن تحديها الصريح له، عندها لم يتمالك نفسه، وقرر أن يذهب إليها فورًا حتى ولو بثيابه البسيطة، ليضع حدًا لهذا التهور الذي قد يمسه شخصيًا.

التقط مفاتيح سيارته بسرعة واندفع خارج الشقة، لكن خطواته توقفت حين وجد سليم أمامه، ذاك الذي اعتاد الهبوط كل ليلة قبيل الفجر، ليطمئن على والدته وعلى وجود يزن في المنزل، ثم يعود بهدوء إلى شقته، كان الأمر سرًا لا يعرفه أحد سواه، فقد اعتاد يزن أن يشعر بحركته حتى وهو مستغرق في النوم.

رفع سليم حاجبيه متسائلًا بنبرة تحمل شيئًا من الريبة:

-رايح فين في وقت زي ده؟

أجابه يزن على عجل، ودون أن يلتفت:

-رايح اجيب حبوب لصداع.

لم ينتظر ردًا وتابع خطواته مسرعًا نحو بوابة المنزل، غير أن صوت سليم ارتفع خلفه يحمل في نبرته تعجبًا ممزوجًا بالحدة:

-يزن!

لكن الأخير لم يبطئ خطاه ولم يلتفت، وكأن كل ما حوله قد غاب عن وعيه، ولم يبقَ في رأسه سوى وجه واحد وقرار لا رجعة فيه، فرفع هاتف يجري اتصالاً بأختها الكبرى "أبلة حكمت".
                             ***
دخلت سيرا وهي تجر إسدالها الطويل خلفها، خطاها كانت متأنية لكنها واثقة حتى بلغت غرفة الاستقبال في شقة "أبلة حكمت"، وما إن وقعت عيناها على يزن الجالس فوق مقعد الصالون الذهبي بثياب بيتية حتى عقدت حاجبيها بدهشة واستنكار وقالت بنبرة حادة:

-يزن أنت ازاي تيجي في وقت متأخر زي ده؟!

لم يمنحها فرصة لإتمام تساؤلاتها بل اقترب منها في لحظة، ومد يده ليغلق الباب خلفه بجرأة أربكتها، ثم انفجرت كلماته من بين شفتيه بعنف وغضب متأجج:

-أنا لو مكنتش وصلتلك، كنت طلعلتك بيتك ودخلت جيبتك من شعرك اقسم بالله ومن جوه أوضتك، على اللي عملتيه؟

رفعت إحدى حاجبيها بتحد واضح، وقد أزعجها أسلوبه الفظ فردت بسخرية لاذعة:

-إيه حيلك حيلك!! أنا ماسمحلكش تكلمني بالطريقة دي!

قبض يده بقوة في محاولة واضحة لضبط انفعاله، لكن الغضب كان يشتعل في نبرته حتى بدت عروق عنقه ويده بارزة فقال من بين أسنانه:

-وكمان ليكي عين تتكلمي؟ يا شيخة أنا مفيش حد مرمطني قدك، أنا مفيش حد خرجني عن شعوري قدك، أنتي جننتيني لدرجة أنك خليتني أجيلك في نص الليل.

رفعت حاجبيها معًا في دهشة حقيقية، ثم تمتمت بارتباك وقد بدت عليها الحيرة:

-رغم اتهاماتك اللي ملهاش أساس من الصحة، أنا بريئة والله من اللي أنا عملته في خيالك وأنا ماعملتوش في الحقيقة.

قطب حاجبيه في حيرة وهو يسألها:

-انتي بتقولي إيه؟!

هزت كتفيها بعدم مبالاة وردت ببرود يغضب الصخر:

-مش عارفة والله، بس بحاول أبرأ نفسي وخلاص.

أطلق زفرة حادة وكأنها تحمل كل ضيقه، ثم شد خصلات شعره بقوة قبل أن يقول بصوت يملؤه الغيظ:

-انتي رايحة تشتغلي عند يسر مرات نوح؟ انتي اتجننتي في دماغك؟ رايحة تشتغلي عند مرات صاحبي؟

أجابت بهدوء وكأنها تتحدث عن أمر عادي:

-لا مسمهماش كده، هي قالتلي تعالي اشتغلي معايا، بس فوافقت.

قطب وجهه أكثر واقترب خطوة ثم قال بتهكم غاضب:

-بس بسيطة اهو انت متعصب ليه وجايلي بهدوم البيت، بشتغل معاها مش عندها لا تفرق الصراحة أبهرتيني، والجميلة مش واخدة بالي إنها بتقل من نفسها ومن خطيبها؟! 

قاطعته فجأة وهي تميل نحوه بخفة، وتمط اسم دلعه بدلال خافت:

-أنا بقل منك إنت يا يزوني؟

رمقها بنظرة غاضبة كأنه يحاول مقاومة تأثيرها عليه وأخفى ارتباكه بنبرة صارمة:

-بلا يزون بلا زفت، حالاً تتصلي عليها تعتذرليها.

أجابته بصرامة لم تخفِ عنادها:

-مش هقدر أنا اديتها كلمة.

وفي لحظة انفتح الباب فجأة، ودخلت أبلة حكمت حاملة عصا خشبية وقد بدت على وجهها علامات الغضب الشديد، فقد كانت استمعت لكل ما دار بينهما من خلف الباب فأعلنت نيتها الحاسمة وهي تلوح بالعصا:

-ده أنا اللي هديكي علقة موت ما يعلم بيها إلا ربنا.
جلست حكمت بجانب صافي زوجها في صالة منزلهما الواسعة، يتابعان معًا بترقب مشوب بالقلق باب غرفة الاستقبال التي يجلس بداخلها سيرا ويزن، فقد كان الصمت يخيم على الأجواء إلا من أصوات أنفاسهما المتوترة فاللقاء لم يكن عابرًا ولا مجرد زيارة عائلية عادية.

حيث اتصل يزن بحكمت منذ قليل بصوتٍ مبحوح يقطر غضبًا، وطلب منها أن ينفرد بسيرا لأمرٍ خاص بينهما، في بادئ الأمر ترددت كثيرًا، لكن التوقيت الذي اتصل فيه ونبرة صوته المتشنجة كانا كفيلين بإثارة قلقها وإيقاد شرارة الريبة في نفسها؛ إذ لم تعهد منه تلك الحدة، فقد كان دائمًا مرحًا خفيف الظل بعكس ما بدا عليه الآن.

انتفضت فجأة عندما شعرت بقرصة حادة على ذراعها، فالتفتت لتجد صافي يرمقها بعدم رضا، وهو يتمتم بصوت خافت مليء بالتوتر:

-حكمت ركزي معايا، أنا مش عاجبني إيه اللي بيحصل ده!

رمقته بنظرات غاضبة وردت بعنف مكتوم، محاولة خفض صوتها حتى لا يُسمع حديثهما مَن داخل الغرفة:

-يعني أنا اللي عاجبني؟! بس أنت شايف الواد جاي منظره ازاي؟ ده يا حبة عيني جاي بهدوم البيت زي الاهبل، ومنظر وشه زي ما يكون سيرا أختي قتلت له قتيل!

هز صافي رأسه في إيماءة بسيطة وكأنه يقر كلامها، ثم قال بنبرة تصديق ممزوجة بتحذير:

-ماشي هو منظره إن في مصيبة حصلت، بس أبوكي لو عرف هيبهدل الدنيا، ابوكي يسمح له بأي حاجة ده في النهاية أبوها، لكن انتي ماتسمحيش بحاجة ليزن عشان أبوكي هيحس إنك بتتعديه وفي الآخر هيخرب الدنيا.

أطلقت حكمت تنهيدة ثقيلة ووجهت نظراتها القلقة نحو باب الغرفة المغلق، قبل أن تهمس بغيظ خافت، كأنها تكلم نفسها أكثر مما تخاطب صافي:

-أنا بس لو اعرف المتنيلة على عينها دي عملت إيه؟

رفع صافي كتفيه بلا مبالاة واضحة، لكن عينيه حملتا ظلالًا من عدم الرضا، كان يشعر في أعماقه بأن الأمر خطير أكثر مما يبدو.

وبينما انشغلا بالتوتر القابع في الهواء، تقدمت حكمت بحذر شديد نحو باب الغرفة ووضعت أذنها عليه، وضيقت عينيها في تركيز حاد، محاولة التقاط أي كلمة من أصواتهما المتحاربة، ما سمعته لم يكن حوارًا هادئًا أبدًا؛ بل نبرات غاضبة، اعتراضات حادة، وانفعال يتصاعد بين يزن وسيرا كريحٍ تسبق العاصفة.

وعلى بُعد خطوات قليلة من هذا المشهد المشحون، وقفت دهب ابنة حكمت، عند باب غرفتها تتابع بعينيها المتقدتين بالفضول ما يجري في الصالة، فكانت تمسك هاتفها وتهمس إلى صديقتها بنبرة تكاد تخفيها عن العالم بأسره:

-يالهوي يا سمسم لو ينفع أصوره هعملها، إيه ده عامل زي بتوع السوشيال ميديا العيال اللي مفيهمش غلطة.

جاءها صوت صديقتها المتحمس عبر السماعة، فأجابتها بابتسامة واسعة ارتسمت على شفتيها وعينيها معًا:

-لا لا اتصور معاه إيه؟ بقولك شكله متضايق اوي، ماعرفش خالتو سيرا دي هببت إيه؟ عشان يجيلنا متضايق كده! أنا لما شوفته بيركن عربيته تحت ونازل بهدوم بيته اووووف عجبني اوي بجد، يابختها طول عمرها حظها من السما.

استرسلت دهب في سرد تفاصيل وسامة يزن، ونثرت كلماتها كما لو كانت حبات لؤلؤ في أذن صديقتها، بينما راحت الأخيرة تثرثر بأسئلة متلاحقة، وفي عيني دهب لمعة إعجاب صافية، بل ربما كانت شرارة هوس مراهقة يتفتح لأول مرة أمام صورة رجل لم تعرف مثله من قبل.

أما في الداخل...

كان الوضع على أشده والأجواء مشتعلة كشرارة نارٍ انطلقت في صمت الغرفة، إذ كان الغضب يكسو ملامح يزن بينما تعاند سيرا برفضٍ متصلب، كمَن يقف في وجه العاصفة متحديًا هبوبها العنيف، ارتفعت أنفاسهما في المكان حتى بدت كأنها تصطدم بجدران الغرفة وكأن الهواء نفسه قد أثقل من حدة التوتر.

قالت سيرا بعنادٍ محتدم وصوتها يرتجف من الغضب أكثر مما يرتجف من الخوف:

-يزن أنت مش من حقك تتحكم فيا بالشكل ده، وبعدين أنا ماعملتش حاجة غلط.

ارتفع حاجباه بدهشةٍ ساخرة واقترب منها خطوة بطيئة كذئب يستعد للانقضاض، وقبض كفه بقوة حتى برزت عروقه متوترة تحت جلده، وصوته يهدر بحدة متحكمة:

-هو إيه اللي ماعملتش حاجة غلط؟؟ ماتبقيش متخلفة بقى، أنتي عايزة تفهميني أنك مش فاهمة أنا بتكلم في إيه بالظبط؟

رمقته باستنكارٍ واضح وردت بامتعاض غاضب:

-لا مش فاهمة، أنت مأفور على فكرة!

كلمتها الأخيرة كانت كصب الزيت فوق النار، فاشتدت ملامحه غضبًا وانطلقت حروفه كالرصاص:

-سيرا بلاش استعباط، يعني إيه اسمحلك تروحي تشتغلي عند مرات واحد صاحبي؟ انتي عبيطة؟ انتي مقامك من مقامي، وماينفعش بأي شكل من الأشكال إنك تقللي من نفسك أبدًا!

ردت بعناد أنثوي متأصل ورفعت رأسها متحدية:

-وأنا هستناك أنت يا يزن عشان تعرفني ازاي ماقللش من نفسي؟! وبعدين قولتلك أنا هساعدها في شغلها، عشان هي حامل وتعبانة، فعادي يعني!

أطلقت تبريرها للمرة الألف ومع ذلك لم ينجح في تهدئته، بل زاد من احتدام صوته المقيد بالغضب:

-لا مش عادي، اغنيهالك مش عادي أبدًا، هي عايزة حد يشتغل معاها تروح تشوف حد غيرك، لكن انتي متشغليش عندها أبدًا.

زفرت سيرا بضيقٍ نافد الصبر وقالت بحدة:

-انت متكبر اوي على فكرة، مش طبيعي كمية الغرور اللي بتتكلم بيها!

اقترب منها فجأة حتى كادت أنفاسه تلامس وجهها وصوته هذه المرة انخفض تلقائيًا يحمل نبرة خطرة على مشاعرها:

-مغرور في اللي يخصني، انت مقامك من مقامي وراسك لازم تتساوى براسها ومحدش يبصلك أبدًا على إنك اقل منه، ولا تاخدي أوامر من أي مخلوق.

ارتبكت خطواتها فتراجعت قليلًا وهي تتحسس حجابها بيدٍ مرتجفة لكن عنادها أبى الانكسار، فقالت بنبرة متلعثمة تحاول أن تكون متزنة:

-ماشي، بس أنا بردو مابقللش من نفسي لو ساعدتها، وبعدين أنا لو كنت حسيت منها زي ما أنت بتقول كده، كنت رفضت لكن الست كانت ذوق وحسيتها وحيدة ومتلخبطة وعايزة حد يقف جنبها..

زمّ يزن شفتيه بقوة ورد بصرامة لا تقبل جدالًا:

-مالكيش دعوة، وتكلميها تبلغيها رفضك ومفيش شغل عند حد لا هي ولا غيرها.

رمقته سيرا بنظرة متقدة وفي داخلها شعلة أنوثة حرة لا تقبل القيد فهتفت بعنفوان:

-لا لو سمحت أنا ليا رأي وماينفعش تلغيه بالشكل ده ولا تكلمني كده، وبعدين أنا هتحرج ابلغها رفضي ومن جوايا حاسة إن نفسي اساعدها.

ابتسم ابتسامة ساخرة لكنها لم تُخفِ قسوته وهو يقول ببرودٍ قاطع:

-لا ماتحسيش بعد كده لو سمحتي.

كلماته تلك أشعلت النار أكثر فرفعت رأسها بكبرياء وتحدته:

-طيب أنا بقى مش هقولها حاجة، وأنا مش مقتنعة بكل أسبابك وكلامك.

في تلك اللحظة انفلتت أعصابه فانقض نحوها بسرعة، قبض على مرفقها بعنفٍ محاولًا تحجيم تمردها وصوته يهدر في الغرفة بأكملها:

-بقولك إيه أنت هتكلميها وهترفضي الشغل معاها يعني هتكلميها، أنا خلقي ضيق وماعنديش مرارة فمتعانديش عشان ماتزعليش مني.

حاولت أن تفلت ذراعها منه وهي تقول بعنادٍ متحدٍ:

-لا وريني بقى هتزعلني ازاي؟!

-سيرا ماتعصبنيش، متخليش جناني يخرج عليكي، أنتي ليه مش مقدرة حجم اللي انتي عملتيه؟

ارتفع صوته قليلًا كحد السيف، فارتجفت أنفاسها وهي تلمح بعينيها باب الغرفة المغلق، تخشى أن تتسلل نبرته خارجه وتصل إلى تلك التي لن ترحمها إن علمت، فقد كانت حكمت قد أبدت اعتراضها مرارًا على فكرة بحثها عن عمل، معتبرة أن مكانة عائلة خطيبها الاجتماعية والمادية لا تسمح بذلك، وأن سيرا يجب أن ترتقي بنفسها لتجابه مقامهم وتثبت جدارتها بهم.

أخذت سيرا نفسًا عميقًا تحاول به تهدئة ارتجاف روحها، ثم أبعدت يده عن ذراعها برفق قائلة بنبرة هادئة تكتم اضطرابها:

-انت متعصب ليه بس يا يزون وجاي لي بهدوم البيت وتاعب نفسك، ماكان ممكن تكلمني في التليفون ونتفاهم بردو؟

ابتعد خطوة للخلف وكأنه يحاول أن يبتلع غضبه، ثم مرر كفه بين خصلات شعره الثائرة بعنف قبل أن يزفر بحنقٍ ظاهر:

-ما أنتي قافلة تليفونك يا هانم، ومش عارف أوصلك، المهم ابعتيلها رسالة بلغيها أنك مش هتقدري تشتغلي معاها.

هزّت رأسها نفيًا في صمت بعنادٍ طفولي يثير الغضب أكثر مما يثير الشفقة، فما كان منه إلا أن عاد لاندفاعه الغاضب، وصوته يخترق المسافة بينهما كريحٍ صاخبة:

-انتي كده بتقللي من نفسك يا سيرا قبل ما بتقللي مني؟ خدي بالك عشان أنا وربي صبري نفذ.

رفعت حاجبيها بدهشة مصطنعة، وقالت بخفوت متلاعب تحاول به تليين الموقف:

-يا خبر أنا بقلل منك يا يزون؟ لا لا متفهماش كده، أنا سبب رفضي إني مكسوفة عشان اديتها كلمة بس.

لكنها لم تكمل جملتها حتى اندفع الباب فجأة بقوةٍ صادمة فاهتز قلبها من الرعب وهي تتراجع خطوة إلى الوراء، فقد دخلت أبلة حكمت كإعصارٍ هادر، وعصاها الغليظة مرفوعة عاليًا، وهي تصيح بصوتٍ كالرعد:

-ده أنا اللي هديكي علقة موت ما يعلم بيها إلا ربنا.

ارتبكت سيرا وارتدت إلى الخلف بخوفٍ واضح، بينما اندفع يزن دون وعي يقف أمامها كدرعٍ واقٍ، يجهل تمامًا ما قد تفعله حكمت في لحظة غضبها الجامح، لكن العصا لم ترحم ذراعه، إذ هوَت بضربةٍ عنيفة جعلت ملامحه تنكمش من الألم، فهتف بدهشةٍ ممزوجة بغضب:

-إيه ده في إيه؟

ردّت حكمت بصوتٍ مرتفع لا يعرف هوادة وعيناها تقدحان شررًا:

-في إن البت دي لازم تتربى، خدي هنا.

كانت سيرا قد اختبأت تمامًا خلف ظهر يزن، حتى أمسكته من ثيابه دون وعي تتوسل بصوتٍ مرتجف وهي تختبئ وراءه كطفلة خائفة:

-بلاش العصاية يا أبلة وأنا هفمهك.

لكن حكمت لم تُصغِ وانطلقت تصرخ بقسوة:

-تفهميني إيه يا منيلة؟ رايحة تشتغلي عند مرات واحد صاحبه يا عبيطة، وكمان بتبجحي!

كلما حاولت حكمت أن تصل إلى سيرا، كانت الضربات تُستقر فوق جسد يزن الذي تحمل الألم في صمت يحاول صدها بيديه بلا جدوى، فيما كان صافي يحاول التدخل بدوره لكنه تلقى ضربة عن غير قصد جعلته يتقهقر إلى الخلف، فصرخت حكمت بعنف وهي تهدر غيظًا:

-سيبني يا يزن عليها، سيبني على البجحة دي.

لكن سيرا اختفت أكثر خلفه تتوسل إليه بصوتٍ مخنوق:

-لا اوعى يا يزن، دي مش هتتفاهم عادي كده.

أدار يزن وجهه نحو حكمت صوته يعلو رغم محاولته كبح غضبه:

-يا ابلة اهدي سيرا خلاص اقتنعت بكلامي، اهدي لو سمحتي، عشان العصاية دي ضربتها تودي القبر، لو نزلت على جسمها هتوجعها.

كان يدافع عنها بشراسة لم يعهدها في نفسه من قبل، بينما سيرا تهز رأسها في صمت خلفه تدرك أن نبرة الضيق في صوته تنذر بغضبٍ حقيقي، ربما ليس على ما فعلته بقدر ما هو غضب من أختها الكبرى، لكنها لم تسلم إذ تلقت ضربة مفاجئة على ذراعها جعلتها تتألم وهي تدلك مكانها بغيظٍ مكتوم، فانحنى يزن نحوها بقلقٍ بالغ، يتفحص أثر الضربة فلاحظ دموعها التي بدأت تتجمع في عينيها، فأطلق تنهيدة مكتومة وهو يهمس بحدة ظاهرة:

-يا أبلة لو سمحتي كفاية، ده موضوع بيني وبينها وخلاص انتهى وهي هتعتذر لمرات صاحبي.

مسحت سيرا دموعها بعنادٍ بين شهقاتها وقالت بصوتٍ متقطع:

-لا...هتحرج منها، الست كانت متعشمة فيا.

التفت يزن نحوها بعنف ورغم أنه نبرته كانت مخفضة إلا إنها كانت تحمل قدر كبير من الحدة:

-واقسم بالله اسيبها عليكي.

-دي يا حبيبي مش هتجيبها لبر، صدقني أنا عارفة دماغها هتتعدل ازاي.

وفي اللحظة التالية رفعت حكمت العصا مرة أخرى، فانكمشت سيرا خلف ظهر يزن وهي تصرخ مستسلمة:

-خلاص...خلاص هعمل اللي انتوا عايزينه.

ثم أكملت حديثها بنبرة متألمة يختلط فيها القهر باستسلام موجع:

-بس يزن يخدني بكرة عندها، وأنا هبلغها عشان بجد هي كانت ذوق اوي وهي بتطلب مني اساعدها فمش حابة اكسر بخاطرها.

سارعت حكمت بالرفض الحاد تقول بأمر لا يحتمل نقاشًا:

-لا كلميها في التليفون، هي كانت من بقية عيلتك؟؟

تلقت سيرا كلماتها كطعنة مباغتة في الصدر، فتجمدت في مكانها بينما مد يزن يده ليخرجها من خلفه وعيناه تعتذران نيابة عنه وكأنه يتحمل وحده كل الضربات التي وُجهت إليها.

فقال بهدوء حاسم محاولًا إنهاء الموقف:

-خلاص يا أبلة أنا هخدها فعلاً عند يسر بكرة، نزلي العصاية دي لو سمحتي كفاية كده.

-عشان خاطرك بس.

تنهّدت حكمت استسلامًا، لكنها أردفت بتهديد مبطن إلى سيرا التي كانت تتسلل بحذر خلف ظهر يزن:

-العصاية دي ربتهم كلهم، أنا مش لسه هتناقش مع حد، ياخدوا كام ضربة ويتعدلوا بعدها على طول ولا إيه؟

تدخل صافي بتعب وقد أثقله النعاس:

-خلاص يا حكمت ما هي سيرا سمعت الكلام اهو.

رفع يزن حاجبيه معًا، مستنكرًا جرأتها على اقتحام الحديث أصلًا لكنه كتم غيظه، وانحنى نحو سيرا يهمس بنبرة حانية:

-روحي اطلعي يلا عشان ابقى مطمن عليكي.

رفعت وجهها إليه والدموع تلمعان بقطرات متلألئة متحجرة في مقلتيها، شعر بألم حاد يعتصر قلبه وندم يتسرب إلى روحه لأنه كان دون قصد السبب فيما حدث لها، لم يكن يدرك أبدًا أن حكمت تحمل كل هذا الجنون!!

بينما تسللت سيرا إلى الخارج بخطوات واهنة، لكن ما إن ابتعدت حتى انهارت تبكي في صمت حارق، لتفاجئها دهب بابتسامة ساخرة وهي تهمس بنبرة لا تخلو من الاستفزاز:

-معلش يا خالتو تعيشي وتاخدي غيرها.

مسحت سِيرا دموعها بسرعة، ترد بغضب مكتوم:

-ابعدي عن وشي، احسنلك.

دفعتها بحدة ومضت إلى الطابق الذي تقع فيه شقة والدها لكن شعورًا خانقًا اجتاح صدرها، فلم تستطع دخول الشقة، وجلست على إحدى درجات السُلم تحتضن ركبتيها ثم أنفجرت ببكاءٍ مكتوم، مزيجٍ من الألم والقهر والحرج خاصةً لحدوث كل هذا أمامه.

وفي الأسفل كان يزن قد استأذن حكمت باقتضاب، وكاد يغادر إلا أن دهب لحقت به حتى الباب، تهمس بنبرة يغلفها إعجاب خفي:

-نورتنا بجد.

ابتسم إليها ابتسامة مقتضبة:

-شكرًا يا قمر، عن إذنك.

لكنها سارعت قبل أن يغادر تسأله بخجل متكلف:

-هو أنا ممكن أبقى اجيلك الأجانص؟

انعقد حاجباه متسائلًا:

-الأجانص؟!

سارعت بتبرير مرتبك:

-يعني أصل أنا بحب العربيات أوي وبحب اشوفهم.

ابتسم ابتسامة عابرة وهو يرد ببرود:

-تعالي تنوري في أي وقت.

ألقى بكلماته دون اهتمام وغادر شقة حكمت لكن ما إن وطأت قدماه أولى درجات السُلم، حتى توقف فجأة، عندما استرقت أذناه صوت شهقات مكتومة صادرة من الأعلى، خفق قلبه بقوة وحدسُه يخبره أنها هي…سيرا.

صعد بخطوات مترددة واحدة تلو الأخرى، حتى لمحها في منتصف الدرج تجلس متقوقعة على ذاتها، رأسها مطأطأ بين ساقيها تبكي بعنفٍ في صمتٍ موجع، لم يتمالك نفسه وانساب اسمها من بين شفتيه همسًا كأنه دعاء:

-سيرا...

رفعت وجهها نحوه ببطء، وقد احمر وجنتاها بشدة وتورد أنفها من كثرة البكاء، بينما الدموع ما زالت تنهمر بغزارة على خديها، اقترب منها بخطوات حذرة وجلس إلى جوارها وصوته يقطر أسفًا:

-حقك عليا، أنا مكنتش اعرف إنها ممكن تسمعني ولا تعمل كده.

ارتبكت أمامه تشعر بتصدع داخلي يكاد يعصف بثباتها، لم تعُد حكمت مصدر خوفها في تلك اللحظة…بل قلبها الذي يخذلها أمامه، شعور غريب ينهشها؛ بين ضعفٍ يستدرجها نحوه، ورغبةٍ عارمة في الاحتماء به، وخوفٍ شديد من السقوط في هاوية المجهول.

مسحت دموعها على عجل تخفي انكسارها خلف عناد طفولي وهي ترد بنبرة خافتة:

-أنا مابعيطش ولا حاجة، أنا كويسة.

ابتسم وكأن صلابتها الصغيرة سحرته:

-ما أنا واخد بالي من الشلالات اللي عمالة تنزل.

رمقته بضيق وأدارت وجهها بعيدًا عنه، تدلك ذراعها المتألم بلا وعي، فلمح حركتها واشتعل الغيظ في صوته:

-معلش أنا مكنتش اعرف إن ابلة حكمت متهورة.

نظرت إليه بسخرية ممزوجة بمرارة:

-أنت ماتعرفش  أي حاجة عنها، دي حاجة بسيطة من اللي بتعمله فينا.

تجهم وجهه يسأل باستنكار:

-هو انتي بس اللي بتعمل معاه كده؟ 

هزت رأسها بابتسامة كسيرة وكلماتها خرجت حذرة كأنها تلمس جرحًا مفتوحًا:

-لا كلنا أنا واخواتي وعيال أخواتي...هي بتحبنا ونفسها تشوفنا أحسن منها، ودايمًا حاسة إنها مسئولة عننا بس بتفسر كده بطريقة غلط زي ما أنت شايف كده، واهو نالك من الحب جانب.

رمق ذراعه حيث تركت حكمت علامات الضرب، فخفضت سيرا بصرها تهمس بإحراج:

-أنا أسفة استخبيت وراك، أنا بعرف اتفادى كويس العصاية، أنا أصلاً عندي خبرة في كده، بس يعني اتفاجأت إنها عملت كده قدامك.

ابتسم ابتسامة ساخرة:

-تتفادي إيه؟! ده كويس إن أنا موجود.

خفضت رأسها بخجل وهي تبرر:

-هي بتحبني والله أنا واخواتي، بس طريقة حبها غريبة شوية، عارف أنا مابزعلش منها خالص عشان عارفة أنها في النهاية بتخاف عليا.

رفع حاجبيه يسألها بصدق:

-امال بتعيطي ليه؟

أجابت في همس متألم:

-عشان وجعتني بس.

كانت نبرتها كافية ليغلي الدم في عروقه، إذ أدرك حينها أن ما يؤلمها ليس الجسد فحسب بل الروح المثقلة بضغط نفسي خانق، تمنى لو يضمها بين ذراعيه يحميها من كل شيء من حكمت…ومن خوفها…وحتى من نفسها.

شعر برغبة لم يعهدها من قبل تجاه فتاة، كأن رؤيتها وحدها تعيد تشكيل قلبه من جديد، فأراد أن يبدد حزنها ويخفف عنها قسوة اللحظة فقال بلطف:

-حقك عليا أنا لو اعرف أن ده كله هيحصل مكنتش جيت، بس كل اللي ضايقني فكرة أنك تشتغلي عند حد قريب مني، محبش أبدًا حد يقلل منك، رغم إن عارف كويس إن يسر محترمة وكويسة، بس أنا مش هكون مرتاح صدقيني، واحتمال يحصل مشاكل بيني وبين نوح واخسره لو حسيت إنها ممكن تضايقك، وهو كمان مش هيستحمل حاجة على مراته، وأنا مش هستحمل عنك الهوا.

أطرقت تفكر في كلماته بجدية ورغم ثِقَل المشهد، وجدت قلبها يتمايل مع اعترافه الضمني بمشاعره نحوها، فنظرت إليه في استسلام رقيق تهمس بخفوت:

-وأنا مرضاش إن علاقتك بصاحبك تبوظ بسببي، بكرة تعالى استأذن بابا وخدني ونروحلها المحل اقعد معاها شوية وابلغها اعتذاري.

رفع يزن نظره إليها بإعجاب عميق وكأنه يراها للمرة الأولى بنظرة مختلفة تمامًا، نبرة صوته انخفضت حتى بدت وكأنها نابعة من عمق قلبه وهو يقول بابتسامة خفيفة تحمل مزيجًا من الحنو والمزاح:

-طيب ما أنتي رقيقة وعسل اهو، بلاش دور المرأة العنادية اللي بتلعبيه ده عشان مش لايق عليكي، أنتي بسكوتاية ويڤر مابتستحمليش يا سيرا.

رمشت بعينيها بدهشة طفولية وهي ترد خلفه بنبرة ممتزجة بالاستنكار والاستغراب:

-بسكوتاية ويڤر؟

اقترب منها أكثر حتى أصبح صوته لا يسمعه سواها، وانحنى قليلًا برأسه وهمس بنبرة رقيقة صادقة كأنها قطرات دافئة تتسلل إلى روحها:

-اممم بحبها اوي وبشوفك دايمًا شبها.

لم تستطع أن تمنع ابتسامة خافتة من التسلل إلى شفتيها، فقد كانت نظرتها إليه صارت أكثر دفئًا وهدوءً وكأن تلك الكلمات نجحت في تخفيف شيء من وطأة انكسارها السابق، فشعرت للحظة أن دفاعه عنها وتلك النبرة الحانية قد أذابا جليد المسافات بينهما.

فأردات بخجل خفي أن تمازحه كمحاولة طفيفة لتخفيف الأجواء ولتعويضه بطريقة غير مباشرة عما بدر من أختها فقالت بعفوية ممزوجة بمرح متردد:

-طيب وامتى هتشوفني زي طاجن البامية؟

رفع يزن حاجبيه بدهشة طفيفة وكاد أن يرد بمزحة أخرى، لكن خطوات ثقيلة قطعت اللحظة فجأة، حيث صعد سليم الدرج ووقف أمامهما بثياب منزله البسيطة وقد بدا القلق واضحًا في ملامحه المتوترة.

فقد كان لحق بيزن منذ مغادرته المنزل، قاد سيارته خلفه في صمت وأوقفها أسفل بيت سيرا دون أن يشعره بوجوده، ظل يراقب من بعيد لدقائق إلا أن طول غيابه أثار ريبة قلبه، فقرر أن يصعد ليتأكد بنفسه مما يحدث.

رفع حاجبيه قليلًا وهو يقول بنبرة جادة يختلط بها العتاب والصرامة:

-معلش هقطع فقرة الأكل اللي انتوا فاتحينها على السلم، بس أظن إن والدك لو شافكوا قاعدين بالمنظر ده رد فعله مش هيكون لطيف أبدًا.

تجمدت سيرا في مكانها وجف حلقها من شدة الحرج، ووقفت بسرعة وهي تلوح بيديها محاولة الدفاع عن نفسها بحماقة ناعمة أقرب للطفولة:

-والله أنا ماليش دعوة هو اللي جه لغاية عندي، مش أنت السبب يا يزن؟

ظل يزن جالسًا مكانه مسندًا ذراعيه إلى ركبتيه، ينظر إلى أخيه ببرود مقصود، لكن عندما لمح كيف تحاول أن تتنصل منه وكأنه ارتكب جرمًا، قرر أن يرد بسخرية لاذعة ونبرة عتاب مغلفة باللعب:

-بعتيني فجأة؟ أصيل يا أبو رحاب!

ضاقت عيناها غيظًا من طريقته فأمسكت بطرف إسدالها ودفعته قليلًا في حدة طفيفة:

-قوم روح ومتجيش بيتنا تاني لو سمحت.

نهض يزن من على الدرج متثاقلًا، بينما كانت هي تبتسم بخجل لسليم الذي بدا جادًا للغاية، وقالت بصوت خافت تتوسل إلى الموقف أن يمر دون تعقيد:

-عن إذنك يا أبيه سليم.

لكنها لم تكد تكمل جملتها حتى انتفض سليم فجأة مستنكرًا وهو يعقد حاجبيه بقوة:

-مين قالك تقوليلي أبيه؟!

تجمدت الكلمات على طرف لسانها وارتبكت بشدة، بدأت ملامحها تتلون بخجل واضح، فهي لم تقصد سوى الاحترام لا أكثر، كما تعودت مع أزواج أخواتها وزوج أختها حكمت.

إلا أن يزن الذي اشتعل داخله شعور بالغيرة والحماية في آن واحد، لم يسمح للموقف أن يثقل على قلبها أكثر، فوقف أمامها بطوله الفارع كجدار حامٍ ونظر إلى سليم بثبات حاد:

-أنا يا سليم، أنا اللي قولتلها تقولك أبيه، عشان هي أصغر بكتير عنك ولازم تحترمك.

ساد صمت قصير فهم خلاله سليم حقيقة نبرتها، وتبددت ظنونه السابقة بأنها تسخر منه، أومأ برأسه في موافقة صامتة نحوها، ثم أشار ليزن بيده إشارة مقتضبة وهو يقول بجفاء معتاد:

-يلا يا بيه ورايا.

وقف يزن للحظة يتابع مغادرة أخيه ثم استدار سريعًا نحو سيرا، يبتسم لها بغمزة لطيفة كأنه يريد أن يطمئن قلبها المرتبك:

-متخافيش من سليم أخويا هو مابيعضش بيخوف بس، وبعدين ما تتعوديش تتوتري وتخافي من حد وأنا موجود، اعملي اللي انتي عايزاه وأنا في ضهرك.

لم تتمالك نفسها من الابتسام ابتسامة صغيرة لكنها دافئة، وهتفت بنبرة نعومة أخجلتها قبل أن تخجله:

-شكرًا يا يزوني.

غادرت سريعًا وهي ترفع طرف إسدالها بخفة لتصعد إلى شقة والدها، وتركت قلبه معلقًا خلفها، فوقف يزن في منتصف الدرج مبتسمًا ببلاهة جميلة، وكأن كلمة "يزوني" حملت له اعترافًا ضمنيًا بالخصوصية…وكأنها دون أن تدري وضعت اسمه في صندوقها الخاص وحده.

أما هو! فكان يشعر للمرة الأولى بأن شعور الانتماء قد وجد له مكانًا في قلبه…وكأنها ببساطة شديدة أصبحت وطنه الصغير الذي لا يريد مغادرته.

                           ****

خرج يزن من بناية سيرا بخطوات ثابتة تحمل من الجرأة أكثر مما يجب دون أن يلتفت خلفه، وكأنه يتحدى كل شيء في تلك اللحظة، لم يتوجه إلى سيارة سليم كما توقع الأخير، بل اتجه مباشرة نحو سيارته الخاصة، وأدار محركها ثم انطلق مبتعدًا في هدوء متعمد يفضح تمرده.

تجمد سليم مكانه للحظة وملامحه تتلبسها غمامة من الغيظ، قبل أن يضيق عينيه وهو يتمتم بين أسنانه بنبرة مكتومة تكاد تشتعل نارًا:

-يا كلب، ماشي أنا هوريك.

لم ينتظر أكثر من ذلك انطلق بسيارته خلف يزن بسرعة جنونية والهواء البارد يصفع وجهه، بينما يزداد صوته الداخلي حدة كلما ازدادت سرعة العجلات،فقد كان قلبه يشتعل غضبًا، ليس فقط لجرأة يزن في الذهاب إلى بيت سيرا بتلك الطريقة، بل لكونه يتصرف خارج كل حدود الأصول والقيود التي تربوا عليها.

مرت دقائق قليلة فقط لكنها بدت طويلة ومتوترة، إذ كان يزن يقود سيارته بسرعة متهورة، يحاول أن يسبق سليم ويتركه خلفه، غير أن سليم بخبرته وتمكنه تمكن من تجاوزه فجأة قبل الوصول إلى المنزل بلحظات، ثم أوقف سيارته بحدة أمامه، مما اضطر يزن أن يضغط على المكابح بعنف ليتفادى الاصطدام.

اهتز جسده قليلًا مع توقف السيارة المفاجئ، وارتسمت على وجهه علامات صدمة، لكن تلك الصدمة لم تدم طويلًا، إذ رأى سليم يخرج من سيارته بسرعة أشبه بانقضاض ضابط شرطة على مجرم فار من العدالة، واقترب منه بخطوات عاصفة حتى بدا ظله يُخيم فوق سيارته، ثم انحنى نحو النافذة وهو يرمقه بنظرة صقر حانق:

-انزل يا بيه، انزل عشان هي هبت منك على الآخر.

تنهد يزن في داخله وهو يدرك تمامًا أن لحظة الحساب قد حانت، فتح باب السيارة بهدوء متعمد ثم ترجل منها ووقف أمام سليم، فبدا كمَن يستعد لتلقي عاصفة من التوبيخ دون مقاومة، لكنه لم يستطع أن يُخفي شرارة التحدي الصغيرة في عينيه.

انفجر صوت سليم حادًا وجافًا، وهو يشير نحوه بعصبية ظاهرة:

-انت مش ملاحظ إنك مابقتش تحترم حد أبدًا، وماشي براسك من غير ما تعمل حسابك لحد؟!

رمش يزن بعينيه ببطء قبل أن يجيب بدهشة مصطنعة ونبرة تفيض لا مبالاة:

-أنا؟!

-اه أنت، أنت من كتر بجاحتك رايح بيت خطيبتك الفجر يا مجرم من غير ما تعمل حساب للأصول ولا لأهلها.

رفع يزن يديه في حركة خفيفة وكأنه يحاول تبرئة نفسه ثم قال بنبرة دفاعية لكنها لم تخلُ من لمحة خفية من المراوغة:

-لا أنا أستأذنت أبلة حكمت اختها ووافقت، وبعدين أنا أكيد مش رايح أقعد معاها قعدة لطيفة، ده كان سوء تفاهم وحليناه مع بعض!

نظر سليم في عينيه مباشرة يبحث عن أي أثر للحقيقة، لكنه اصطدم بالغموض المعتاد في نظرات يزن، كان يعرف أن شقيقه الأصغر لا يفصح بسهولة، وأن ما يراه على وجهه ليس بالضرورة ما يدور بداخله، فأطلق تنهيدة عميقة وهو يرفع يده في وجهه، ثم قال بصرامة واضحة ونبرته تحمل نبرة الأب لا الأخ:

-أيًا كان سوء التفاهم ما بينكم مايوصلش إنك تتصرف بتهور، أنت كده مابتهزش صورتك بس، لا كمان صورة عيلتك، في حاجة اسمها أصول يا بيه ولازم تاخد بالك منها اوي، ولو ماتعرفش اسألنا أنا وأخوك موجودين.

أومأ يزن برأسه إيماءة بسيطة، محاولة منه لتجنب الجدال أكثر، لكن لسانه كعادته أبى أن يظل صامتًا، فأطلق ضحكة قصيرة وسخر بخفة متعمدة ليغيظ سليم أكثر:

-طيب أسألك انت مبلوعة، أسال زيدان ازاي؟ ده مايعرفش إن في حاجة في الكون اسمها أصول أصلاً!

وقبل أن يرد سليم جاءه صوت زيدان من الخلف، يقطر غيظًا وحنقًا:

-والله إنك عيل بارد وسافل وعايز تتربى.

التفت يزن إليه ببطء عيناه تلمعان بالانتصار الطفولي، وهو يشير نحوه بنبرة ساخرة مستفزة:

-شوفت قولتلك ميعرفش حاجة عن الأصول واقف بيتصنت علينا.

زمجر زيدان وهو يتقدم خطوة للأمام، يلوح بيده بعصبية:

-أنا يا حيوان واقف بتصنت عليكوا؟! أنا نازل اتطمن عليكم تفرق يااللي معندكش مفهومية.

رفع سليم يديه بينهما في يأس وهو يزفر غاضبًا:

-بس خلاص اسكتوا، احنا واقفين في الشارع وانتوا خناق خناق إيه عيال صغيرة؟

رفع يزن حاجبيه بخفة قبل أن يجيب بسخرية لاذعة وهو يستدير مبتعدًا:

-أسف يا أبيه، تصبح على خير.

ولم ينتظر ردًا بل انطلق إلى الداخل سريعًا قبل أن ينال نصيبًا آخر من توبيخ سليم، بينما ظل زيدان يرمقه بنظرات غيظ حتى اختفى عن الأنظار، ثم هز رأسه وهو يتمتم بضيق:

-عيل بارد مقاليش تصبح على خير زيك ليه يا سليم؟!

استدار سليم نحوه ببطء يحدق فيه بدهشة مستنكرة قبل أن يهتف بنبرة غليظة كالسوط:

-زيدان! أنت ده كل اللي شاغل بالك؟!

حمحم زيدان بصوت خشن، ثم رد بلامبالاة مصطنعة رغم أن الفضول كان يأكله من الداخل:

-عادي يعني واشغل بالي بحاجة أنتوا مش عايزين تقولوهالي.

أطلق سليم زفرة حادة ثم رفع عينيه للسماء وهو يتمتم بنفاد صبر:

-يا صبر أيوب.

ثم اقترب من زيدان خطوة واحدة، وملامحه يكسوها القلق أكثر من الغضب، وهتف بجدية خافتة لكنها نافذة:

-يزن دماغه هربانه منه، وتصرفاته مجنونة ولو اتعلق بخطيبته ممكن يتصرف بطريقة ماتصحش، أنا جايبه من بيتها، المجرم نزل وراحلها بيتها الفجر عشان مجرد سوء تفاهم! 

اتسعت عينا زيدان بدهشة وهو يقول بصوت مرتفع:

-نعم؟! الواد ده جاحد ازاي يعمل كده؟

لكن سليم لم يهتم بتعجبه بل أكمل بنبرة عازمة وحاسمة:

-المهم مش إنه ازاي يعمل كده؟ المهم إننا ازاي نتحكم في تصرفاته ونخليه يروح لنهاية اللي احنا عايزنها.

عقد زيدان حاجبيه في حيرة واضحة وهو يقول بنبرة متثاقلة:

-لا وضح كلامك عشان أنا كل طاقتي وتفكيري خلصتهم في قضية النهاردة.

أخذ سليم نفسًا عميقًا ثم قال بهدوء مخطط بارع:

-يعني تبعت لي أي أرقام مهندسين ديكور عندك عشان من بكرة يشتغلوا في شقة يزن ونخلص من الموضوع ده، هنجوزه من غير ما يحس.

تسمرت ملامح زيدان لوهلة قبل أن تتسع شفتاه بابتسامة مكر وهو يومئ برأسه بإعجاب:

-اه يعني هتصدمه بجوازة سريعة، هيركب الإكسربيس بسرعة البرق.

-دي الحاجة الوحيدة اللي هتنفع معاه عشان نعرف نلمه، هو من دلوقتي مسحول ورا خطيبته ومش عارف يبص وراه، يبقى يتجوزها عشان تعميه نهائي ومايشوفش حد إلا هي.

ضحك زيدان بخفة وهو يرفع حاجبيه إعجابًا بدهاء سليم:

-ارفعلك القبعة يا سليم باشا، بس معلش عندي سؤال هو أنت مراقب يزن؟!

رمقه سليم بنظرة متعالية ثم ابتسم ببرود وهو يجيبه بثقة نادرة:

-اخباركم انتوا الاتنين بتجيلي لغاية عندي وأنا حاطط رجل على رجل في مكتبي.

ثم ألقى بكلماته وغادر بخطوات ثابتة، متبخترًا كطاووس يتباهى بنفسه، تاركًا وراءه صدى حضوره القوي، أما زيدان فظل واقفًا مكانه يهمس لنفسه بصدمة عميقة:

-ده حتى أنا؟ بيراقبني أنا كمان؟! بيراقب ظابط شرطة!
                           ***
دخل سليم إلى شقته بخطوات مثقلة يزفر بضيق شديد مما حدث في الأسفل، فكان وجهه مشدود الملامح، وجبينه يقطر بعرق الغضب والكبت، وكأن الأحداث التي مر بها للتو تركت داخله ضجيجًا لا يهدأ.

لكن ما إن رفع رأسه حتى اصطدمت عيناه بمشهد شمس، واقفةً بجانب إحدى أعمدة الصالة تستند بنصف جسدها عليه، فقد كانت ترتدي مأزرها الصيفي القصير وتغلقه حول جسدها الممشوق بحركة آلية، بينما خصلات شعرها المتحررة تثور بعشوائية حول وجهها، متطايرةً كما يثور الغضب داخل عينيها.

تنهد سليم ببطء وهز رأسه بيأس وهو يدرك تمامًا سبب ثورتها، بل كان يتفهم غضبها قبل أن تنطق بكلمة واحدة، فأخرج هاتفه من جيبه ونظر إلى شاشته، فوجد عشرين اتصالًا فائتًا منها وعدة رسائل متتابعة تشي بمدى قلقها العارم، رفع عينيه إليها سريعًا وبدأ يبرر بصوت هادئ يخفي وراءه الإرهاق والاعتذار:

-مسمعتش صدقيني، أنا لو كنت عارف إنك بتتصلي مش هرد عليكي ليه يا شمس؟

لكنها لم تجب، بل ظلت واقفة في مكانها صامتة، تحدق في وجهه بعينيها المتسعتين المليئتين بالعتاب والقلق، وكأنها تبحث داخله عن تفسير لم يتفوه به بعد، فاقترب منها خطوة بخطوة حتى صار أمامها مباشرة، ثم جذبها إليه برفق وضمها إلى صدره، كمَن يستمد منها طوق نجاة وهو يهمس بنبرة خافتة غلفها الإرهاق:

-بلاش بصاتك دي، أنا مش ناقص يزن وزيدان خلصوا كل طاقتي تحت.

ابتعدت شمس قليلًا عنه رفعت يدها ببطء وأخذت تمرر إصبعها الرقيق فوق خط وجهه الحاد في لمسة تجمع بين الحب والعتاب، ثم همست بنبرة يغمرها العتاب أكثر من الغضب:

-اممم أنا ملاحظة إن طاقتك بتخلص عندي دايمًا.

-عشان راحتي موجودة بوجودك جنبي.

كلماته وقعت على قلبها كالماء البارد فوق نار القلق المشتعلة داخله، لكنها أخفت ارتباكها بابتسامة دافئة، ثم تعلقت برقبته بدلال طفولي وهي تهمس بخفوت:

-كنت ناوية اتقمص وازعل وانام في أوضة أنس واسيبك لوحدك، بس قلبي مهانش عليه يسيبك لوحدك أبدًا يا سولي.

اتسعت ابتسامته الحقيقية هذه المرة، يدرك تمامًا أنه نجح بدهائه المعتاد في النجاة من شجارٍ وشيك كان سيلتهم ما تبقى من طاقته، فاقترب أكثر وقبل وجنتيها برفقٍ مفعم بالحنان، ثم همس باعتراف لأول مرة يبوح به كمَن يلقي سرًا ثقيلًا لم يتجرأ على قوله من قبل:

-أنا مفيش حاجة بتهون عليا غير سولي اللي بتقوليهالي دي.

وبلا وعي دفن وجهه في عنقها بين خصلات شعرها الثائرة، كل ثقله ينساب خارج جسده، وألقى بهمومه وقلقه المستمر على عائلته فوق أعتاب صدرها، كأنه وجد الميناء الآمن بعد عاصفةٍ عاتية.

هنا يكمن ملاذه…هنا فقط يرسو قلبه، بعيدًا عن صخب العالم وضغوطاته، في أحضانها يجد حنانًا يكفي ليكمل معاركه ويواجه الغد مهما كان قاسيًا.

                               ****
في اليوم التالي...

توقفت سيارة يزن أمام محل يسر، حيث كانت سيرا تجلس إلى جواره تحدق في واجهة المحل بعينين مترددتين، بينما تراقب حماس يسر الواضح وهي ترتب البضائع بعناية فائقة، وابنتها الصغيرة كانت تدور حولها وتلهو في براءة، كأن المحل كان عالمًا صغيرًا يخصهما وحدهما.

نظرت سيرا إلى يزن بعينين متعاطفتين وملامح يغلب عليها العتاب ثم همست بنبرة رجاء متوسلة:

-حرام اكسر بخاطرها يا يزن.

أغمض يزن عينيه للحظة وهو يفرك وجهه بكفيه بعصبية، قبل أن يفتحها ثانيةً ويقول بلهجة ساخرة تُخفي تحتها غضبه الداخلي:

-لا اكسري بخاطري أنا! انزلي يا سرسورة يلا اعملي اللي اتفقنا عليه.

رمقته سيرا بنظرة استعطاف أخيرة تتوسل منه أن يلين قلبه، لكنه تجاهلها عامدًا وأدار وجهه إلى الجهة الأخرى كي لا يضعف أمامها، فزفرت بغيظ وهي تفتح باب السيارة، ثم نزلت بخطوات متثاقلة نحو المحل متمسكة بابتسامة متكلفة وهي تدخل:

-إيه الجمال ده، ما شاء الله المحل منور.

التفتت يسر إليها بسرعة وملامحها تفيض بالحماس والود، فتقدمت نحوها واحتضنتها بود صادق كأنهما صديقتان منذ زمن بعيد:

-اتأخرتي ليه؟ انت وعدتيني تيجي بدري، تتصوري من الصبح مفحوتة مع زباين كتير اوي.

جلست سيرا بتوتر وشعور ثقيل بذنبٍ ينهش صدرها، فهي لم ترغب أبدًا في كسر خاطرها أو إطفاء حماسها، أخذت نفسًا قصيرًا وقالت وهي تتحاشى النظر في عينيها:

-أنا أسفة بس مش هقدر اشتغل معاكي، يعني...بابا رفض وقالي ملهاش لزمة عشان ...

لكن يسر جلست أمامها وهي تبتسم بسخرية رقيقة، وكأنها ترى ما وراء محاولاتها الفاشلة، تعرف الحقيقة دون أن تسمعها، مالت برأسها قليلًا وقالت بنبرة هادئة ممزوجة بالخذلان:

-متكذبيش، يزن السبب كنت عارفة أنه هيرفض.

رفعت سيرا رأسها بسرعة وعيونها متسعة بدهشة حقيقية:

-عرفتي ازاي؟

تنهدت يسر ببطء وابتسامة حزينة تتسلل على شفتيها وهي تهمس بنبرة كسيرة:

-يزن أنا اعرفه من زمان واعرفه من كلام نوح الكتير عنه، هو تلاقيه خاف عليكي أنا أزعلك أو نوح يتعرضلك من غير قصد...

ثم صمتت لحظة وخفضت صوتها أكثر وهي تضيف بهدوء:

-من خلال كلام نوح وأهله عنهم...عيلة الشعراوي عندهم كبرياء وغرور عمرك ما تشوفه على حد، ما بالك بقى لو واحدة تخصهم بيعاملوها كأنها نجمة، فعادي متوقعة خوف يزن عليكي.

خفضت سيرا رأسها في خجل، تبحث عن مبرر يُرضي حيرة يسر وغيظها المكتوم، ثم قالت وهي تعبث بأطراف أصابعها:

-هو بس خايف أنه ممكن يخسر نوح بسببي، أنا ماعرفش في إيه؟ بس يزن مُصر على ده...

نظرت إليها يسر مباشرة وملامحها تُظهر رغبة حقيقية في التمسك بها:

-لو روحت كلمته ووافق توافقي تبقي معايا؟!

ترددت سيرا بشدة قلبها ينبض بخوفٍ من رد فعل يزن، لكنها لم تجب بنفي وهذا هو الأهم، فابتسمت يسر ابتسامة سريعة وغادرت المحل بخطوات حاسمة، تتجه مباشرة نحو يزن الذي كان يقف أمام سيارته في وضع المتحفز، يراقب بخفة توتر حركات الداخل والخارج.

توقفت أمامه وقالت بصوت حاد يملأه العتاب:

-أنا قولت أنك اخويا ودايمًا بتقف في ضهري، المفرروض ماتقفش ضدي.

زم يزن شفتيه وقد أدرك أن محور الحديث سيذهب إلى منطقة لا يريد الدخول إليها:

-وأنا لسه عند كلامي، وبعدين أنا عملت إيه يقف ضدك؟

ارتجفت أهداب يسر وهي تحاول السيطرة على دموعها ثم تساءلت برجاء صادق:

-ليه مش عايز سيرا تشتغل معايا؟ يزن أنا حقيقي محتاجها تقف معايا، دي خطوة جديدة عليا وهي بنت جدعة وطيبة خليها معايا ومتخافش عليها.

ألقى يزن نظرة نحو سيرا التي كانت تتنقل داخل المحل براحة تامة، تمرر أصابعها فوق الأرفف وتتأمل البضائع بفضول طفولي فزفر بحذر وقال بصوت يغلبه القلق:

-أنا مش عايز أزعلك ولا أكسر بخاطرك، بس أنا أصلاً كنت رافض شغلها في أي مكان مش انتي بس، وبعدين سيرا طيبة وجدعة بس مغناطيس للمشاكل والحوادث، فيعني خليها بعيد أحسن، ممكن يحصلك حاجة ونوح مايسيطرش على نفسه، ووقتها أنا وهو ممكن يحصل مشاكل ما بينا.

ابتسمت يسر بتهكم يخالطه انكسار:

-متخافش أنا ونوح مش بالقرب اللي انت متخيله، أنا أغلب الوقت بقضيه لوحدي أنا ولينا في المحل وبعدها بروح بيت بابا، يعني نوح مابشوفهوش ومش هيتعرض لسيرا، هو ذكي كفاية إنه يحافظ على صحوبيتك.

زفر يزن مجددًا وصوته هذه المرة كان أعمق وأكثر وضوحًا:

-يسر انتي مافهمتيش قصدي، هوضحه اكتر بصي أنا خايف سيرا تعرض عليكي حاجة أو تديكي فكرة في حياتك لما تقربوا من بعض تسبب مشاكل بينك وبين نوح أنا مش هكون حابب كده، خليها بعيد، لإن نوح بيحاول بكل الطرق إنه يرجعك.

اتسعت عيناها بدهشة، غير مصدقة أنه يُفكر إلى هذا الحد:

-انت دماغك بتروح لبعيد جدًا.

ابتسم بخفة وهو ينظر نحو سيرا من خلف الزجاج ثم قال بصوت منخفض:

-معاها لازم احط كل الاحتمالات.

تأملته يسر بإعجاب وكأنها ترى في عينيه تعلقًا غير مسبوق:

-لدرجادي متعلق بيها؟ غريبة مع إنك اللي يعرفك 
يعرف كويس إنك مبتتعلقش ببنت اكتر من يومين؟!

ابتسم بفتور وهو يردبحدة ممزوجة بالمرح:

-اهو ده بقى عيب انك تبقى حاكي لصاحبك حاجة عنك، لو روحتي حكيتي ليها حاجة زي دي هتطلع جنانها عليا وتشوفني بخونها مع ١٦ واحدة.

رفعت حاجبيها بدهشة وقالت بصدق:

-هي تعرف عنك كل حاجة؟! أنا والله مالحقتش اقولها حاجة.

رد باستنكار:

-وتبذلي مجهود ليه؟ هي عارفة كل حاجة بقولك بتحلم بيا بخونها.

-طيب يزن عشان خاطري خليها تبقي معايا يس في أول أيام الافتتاح وبعدها لو مش عجبك الوضع متخلهاش تكمل، وبالنسبة لنوح أنا استحالة اخليه يتعرض لها، متخافش خالص.

ظل يزن صامتًا لثوانٍ طويلة، يُحارب داخله بين خوفه على سيرا وبين رغبته في ألا يكسر خاطر يسر، فهو في الحقيقة كان يخطط لشيء آخر… كان يريد سيرا قريبة منه تحت نظره دومًا، لا بعيدة عنه، ولكن نبرة يسر المتوسلة اخترقت صموده:

-يزن هتكسر بخاطري؟

زفر بعمق وصوته جاء مثقلًا بالاستسلام:

-لا مقدرش..ماشي خليها معاكي و....

لكن فجأةً دوى صوت ارتطام عنيف! اندفع منير ابن خالة يسر من مدخل البرج بقوة فاصطدم بالزجاج الذي كانت سيرا تقف خلفه، فتفتت الزجاج إلى شظايا متناثرة في كل اتجاه، تجمد الزمن للحظة…ثم تسارعت الأحداث كالعاصفة.

اندفع الخوف في قلب يزن بقوة، وصرخ باسمها بكل ما أوتي من صوت وهو يركض نحوها بجنون:

-سيـــــــــــــــرا حاسبــــــي...

 في حين كان نوح يقف في الجهة الأخرى كوحش هائج ممسكًا بمقعد حديدي، ينهال به على منير صارخًا بهستيريا:

-عايز تتجوز مين يا روح أمك..........
اندفع يزن بقوة داخل المحل يتخبط بين البضائع المتناثرة والأشياء المكسورة، يبحث عنها بعينين يملؤهما القلق حتى وجدها أخيرًا، فقد كانت سيرا ترقد على ظهرها محاطة بالفوضى والكثير من البضائع قد تساقط فوقها لتكون درعًا غير مقصود حماها من الزجاج المتهشم المنتشر في كل مكان.

اقترب منها بلهفة يكاد قلبه يخرج من صدره، فلم يعد يهمه شيء في تلك اللحظة سوى الاطمئنان عليها، فرأى عينيها المغلقتين عن خوف، ويدها المرتجفة المضغوطة بقوة على صدرها، فمد يده يمسك بذراعها يتحسس سلامتها بصوت حانق متقطع من شدة القلق:

-سيرا انتي كويسة، سيرا.

فتحت عينيها ببطء تحدق فيه بعينين واسعتين غمرهما الرعب الحقيقي، قبل أن تنتفض فجأة وتندفع نحوه بصراخ مكتوم، إذ وقع بصرها على ذلك الشاب الذي نهض مجددًا رغم الضربات، يتأرجح بخطوات متخبطة ثم يقتحم المحل بعنف، وخلفه مباشرةً كان نوح ينقض عليه كالعاصفة، ينهال فوقه بضربات عاتية لا يعرف فيها موضع يده من جسده، وكأنه فقد السيطرة على نفسه بالكامل، فكان كل ما تصل إليه يداه يدفعه بلا وعي ولا إدراك لما حوله.

وقف نوح يصرخ بنبرة خشنة متقطعة، ووجهه محتقن بالعروق البارزة، فبدا أشبه بمجرم هائج لا بطبيب محترم:

-قولتلي عايز تتجوز مين *******، عايزني اطلقها يا  ******، ده أنا هطلع روحك.

تجمد المكان لثوانٍ قصيرة ومع ذلك وجد يزن نفسه مضطرًا أن يساعد سيرا على النهوض بسرعة، لكن الخروج من المحل كان مستحيلًا؛ إذ كان نوح يحتجز منير في المنتصف، يضغطه بين قبضتيه كفريسة عاجزة بينما ينهال فوقه بالضرب، وفي الزاوية الأخرى وقفت يسر تحتضن طفلتها الصغيرة، عيناها تتنقلان بين وجه سيرا المذعور والمحل الذي تحول إلى ركام منثور، وبين ابن خالتها الذي فقدت ملامحه تمامًا من شدة الضربات رغم محاولاته الدفاع عن نفسه.

أما سيرا فوجدت نفسها تنحشر أكثر في أحضان يزن، ترتجف بخوف حقيقي بينما تتابع بعينيها حربًا مصغرة تدور أمامها في منتصف المحل، فقد كانت الأشياء تتطاير من كل اتجاه، وصوت تحطم الزجاج يمتزج بصراخ منير وعلو الأنفاس اللاهثة من قبل نوح، ولولا يد يزن التي أسندها بحزم فوق رأسها لحمايتها، لكان رأسها هدفًا مثاليًا لتلك الشظايا المتطايرة!

حاول يزن أن ينهي هذه الفوضى بأي طريقة، فخرج صوته مشحونًا بالغضب والرهبة، متأرجحًا بين خوفه على سيرا التي ترتجف في حضنه، ونظرات لينا ابنة نوح التي اتسعت رعبًا، ودموع يسر التي انحدرت بحرقة على تعبها الضائع ومحلها الذي تحطم:

-نوح كفاية...نوح اللي بتعمله ده غلط.

توقف نوح للحظة وجهه يشتعل غضبًا وعيناه تقدحان شررًا، بينما كان يمسك منير من تلابيبه ويحركه بعنف يمينًا ويسارًا، ثم قال بصوت متقطع ممزوج بنحيب مكتوم وانفجار قهر:

-بقولك البجح عايزاني اطلق مراتي، عشان هو أحق بيها مني، الـ***** يا ابن الـ****، ده أنا مش هسيبك.

ثم عاد يضربه بجنون وكأنه يصب فوقه تراكمات أيام طويلة من الغضب والكبت، عندها همست سيرا وسط شهقاتها المختنقة بصوت مرتعش بالكاد يُسمع:

-يزن أنا خايفة....

ارتجف جسدها في أحضانه وهي تتذكر فجأةً مشهدًا قديمًا؛ لحظة اندفاع نجلا بالمقص نحو سليم...حيث الدماء...الصراخ والرعب، فغامت عيناها بالدموع وهي تخفي وجهها كليًا في صدره العريض تتمتم بصوت مخنوق:

-أنا خايفة.....اه الإزاز...

وما كادت تُنهي الكلمة حتى دوى صوت تهشم الزجاج الجانبي بصخب، لتنهمر البضائع فوقهم بقوة، اندفع يزن بحركة خاطفة يضمها إلى صدره أكثر ويجذبها بجسده بعيدًا نحو الاتجاه الآخر، يحتضنها بكل ما يملك من قوة وكأنه يحميها بروحه نفسها، تشبثت سيرا بخصره بعنف وهي تبكي بهلع، فلم تشهد في حياتها شيئًا كهذا.

وحين أبعدت وجهها قليلًا عن صدره، وقع بصرها على منير الذي كان بالكاد يلتقط أنفاسه، اتسعت عيناها صدمةً وصرخت بصوت مبحوح، تشير بيدها المرتجفة وهي تهذي برعب:

-يالهوووي بيموت يا يزن...بيموت.

استدار يزن بسرعة إلى حيث تشير، فرأى منير شبه فاقد للوعي بينما وقفت يسر كتمثال جامد، عيناها تشتعلان بالقهر ويقطر منهما انتقام مكتوم وحقد متأجج، حينها أمسك يزن سيرا برفق، دفعها أسفل مكتب يسر ليخفيها هناك، وربت فوق رأسها بحنو وهو يأمرها بصوت حاسم:

-اوعي تتحركي من هنا، فاهمة ولا لا.

هزت رأسها سريعًا بالإيجاب وجسدها كله يرتجف، فهي لم تكن لتتحرك حتى لو أرادت ليس وسط هذه الفوضى المجنونة، ومن زاويتها الضيقة رأت يزن يتقدم نحو نوح بخطوات واثقة قبضتاه مشدودتان ثم اندفع فجأة نحو نوح دفعه بقوة نحو الجدار، وسدد له لكمة قوية ارتج لها المكان وهو يصيح بنبرة عالية حازمة:

-ما تقعد ساكت بقى، عامل زي التور الهايج ومحدش عارف يلمك.

دفعه نوح بعيدًا بغضب مكتوم وهو يصرخ بحدة:

-اطلع برة يا يزن انت، أنا ليا حساب مع الكلب ده.

اقترب يزن منه أكثر، ملامحه متصلبة وصوته يحمل تحذيرًا جادًا:

-حساب إيه؟! هو بقى فيه نفس ولا ملامح حتى، كفاية يا نوح كده مراتك وبنتك خايفين ومرعوبين من اللي بيحصل.

توقف نوح لحظة وأنفاسه تتقطع بعنف، عيناه معلقتان بوجه يسر المبتل بالدموع، فالتقت نظراتهما واشتعلت حرب صامتة بينهما، لكنها لم تدم طويلًا؛ إذ اندفعت يسر فجأة نحو نوح تضربه بكلا يديها بجنون في صدره، وهي تصرخ بصوت باكٍ متقطع تختلط فيه الحسرة بالغضب وبالخذلان العميق:

-بوظت كل حاجة، كسرت كل حاجة، كل حاجة تعبت فيها راحت، حسبي الله ونعم الوكيل فيك.

ابتعد يزن خطوتين للخلف وهو يجذب الطفلة لينا نحوه برفق، احتضنها بحنان وهو يدفن وجهها في عنقه حتى لا ترى مشهد انهيار والديها، وبيده الأخرى مدها نحو سيرا لتنهض من أسفل المكتب وتلتصق به في صمت مذعور، تقبض على ذراعه بقوة بينما تتأمل بعينيها الخراب الذي حل بالمكان، لكن فجأةً دوى صوت نوح غاضبًا ينفجر في وجه يسر الباكية وصوته يزلزل أركان المحل:

-بتتحسبني عليا ومش واخدة بالك من الـ**** اللي جايلي بكل ***** يطلب مني اطلقك عشان هو أحق مني بيكي، شوفي بجاحة ابنة خالتك جاية منين يا هانم؟

وفي لحظة جنونية فقدت فيها يسر كل خيط من خيوط ضبط النفس، اندفع عقلها نحو حافة الانتقام فصرخت في وجه نوح بعنفٍ لم تعهده من قبل، لم تعبأ بنظرات الواقفين ولا بوقع كلماتها على مسامع الجميع، كان صوتها متهدجًا يقطر وجعًا وغضبًا:

-أنا....أنا اللي قولتله يعمل كده، عايز مني إيه تاني؟ دمرت حياتي وعايزاني زي التابلوه جنبك، اعتقني لوجه الله وخليني اشوف حياتي بعيد عن وشك.

كلماتها انفجرت في وجهه كالقنبلة وحطمت آخر ما تبقى من اتزانه، ثم فجأة انطلق نوح نحوها كوحش هائج، قبض على ذراعيها بقوةٍ جنونية جعلتها تصرخ من شدة الألم والخوف، فقد تلبسته شياطين الغيرة حتى بدا على وشك ارتكاب جريمة لم يكن يدرك عواقبها، فكان صوته أشبه بزمجرة غاضبة وعروق وجهه تكاد تتفجر:

-أنتي بتقولي إيـــــه؟ انتي عارفة بتقولي إيه؟! ده أنا اقتلك واشرب من دمك.

ارتج المكان تحت وقع صوته، ولكن تحرك يزن بخطوات متوترة مبتعدًا عن سيرا ولينا الصغيرة، التي سارعت سيرا لحملها بحذر والتصقت بالجدار محاولة حمايتها من المشهد المشتعل أمامها، حيث اقترب يزن بحذر ووقف بين نوح ويسر دون أن يلمسها حتى لا يزيد الموقف اشتعالًا، ثم قال بصوت منخفض لكنه حاد يخفي خلفه صراعًا داخليًا بين الغضب والخوف:

-يا جماعة اقسم بالله اللي بتعملوه ده قلة أدب، بنتكم هتموت من الرعب....

ثم التفت نحو يسر محذرًا بصوتٍ أكثر صرامة:

-وانتي يا يسر متزوديش الطين بلة، كفاية اللي هو فيه...

التفت بعدها نحو نوح يحدجه بنظرة قاسية تشي بالإنذار الأخير، وقال نبرة تقطر عتابًا وغضبًا:

-بنتك يا نوح احتمال ماتقدرش تبص في وشك تاني...

كانت الكلمات كطعنة في صدر نوح، ففجر صرخة مبحوحة مختلطة بين القهر والغيرة المشتعلة في داخله، فبدت نبرته مجروحة حتى العظم:

-انت شايف بتقول إيه؟ هي اللي بعتته!! والله ما هطقلك وهسيبك كده.

ازداد توتر الموقف وازدادت دموع يسر غزارة وهي تبكي بعنف، كأن كل ما في داخلها ينهار دفعة واحدة فأطبق يزن أسنانه محاولًا التماسك، لكنه لاحظ فجأة ارتجاف جسدها ويدها التي أمسكت بطنها البارز في حركة عفوية أقلقته، فهتف محذرًا بصوت قلق:

-نوح مراتك شكلها تعبت...اطلع لو سمحت كفاية كده.

تراجع نوح ببطء يتقهقر إلى الخلف وكأن وقع كلماته أثقله، فرأى يسر تنحني إلى الأرض، وجهها شاحب، دموعها تتساقط بلا توقف، ثم اندفعت سيرا نحوها بخطوات متعثرة، وأمسكت بذراعها بخوف وهي تسألها بصوتٍ يقطر توترًا:

-تروحي المستشفى؟ حاسة بإيه؟

لكن يسر لم تجب بل حدقت فيها بعينين دامعتين قبل أن تنطلق منها صرخة ألم حادة، كادت تمزق القلوب وهي تشد على بطنها بقوة وتهمس بصوتٍ متقطع:

-الحقيني...

وفجأة سقط جسدها المنهك مغشيًا عليه قبل أن تتمكن سيرا من تلقفها ارتطم جسدها بالأرض، وارتطم معه قلب نوح الذي هوى نحوها كالسهم، أمسكها بذراعين مرتجفتين وجذبها إلى صدره، يهزها بعنف لا إرادي وهو يصرخ بجنون:

-يسر...يسر فوقي...

لكنها لم تجب فالتفت بعينين زائغتين نحو يزن الذي كان يحاول العبث بهاتفه بأصابع مرتعشة، وصرخ به بصوت يشي خوفًا لأول مرة منذ بداية الفوضى:

-اتصل بالاسعاف يا يزن بسرعة.

مرت الثواني بطيئة كدهرٍ كامل حتى جاء صوت سيارات الإسعاف يقطع صخب المكان، وفي دقائق معدودة، توقفت سيارتان أمام المحل....
واحدة لنقل يسر الفاقدة للوعي، والأخرى لنقل منير الممدد بلا حراك إثر الضربات العنيفة التي انهالت عليه من نوح.

تجمهر المارة في صفين على جانبي الطريق، تتعالى همساتهم ووجوههم مشدوهة إلى ما يجري، بينما كان المسعفون يسابقون الزمن لإنقاذ الأرواح.

هرع نوح نحو سيارة الإسعاف التي ترقد بداخلها زوجته، يداه ترتجفان وعيناه دامعتان من الخوف والندم، وفي المقابل تحرك يزن مسرعًا ممسكًا بـسيرا المذهولة، وهي تضم لينا الصغيرة المرتجفة بين ذراعيها، ساقهما نحو سيارته بخطوات سريعة.

أغلق الأبواب بعجلة وانطلق خلف سيارة الإسعاف، بينما كان يمسك هاتفه بيد واحدة ويجري اتصالًا عاجلًا بـفاضل والد يسر يخبره بما حدث ويطلب سرعة حضوره إلى المستشفى، ثم أجرى اتصالًا آخر بـزيدان وسليم، طالبًا منهما الذهاب فورًا إلى المشفى ليكونا إلى جانب نوح، فقد يتطور الأمر حد السجن إذا ما أفاق منير وقرر تقديم بلاغ رسمي.
                               *****

في المستشفى كان الصمت ثقيلًا كالرصاص، 
حيث جلس بينهم نوح منكفئًا على نفسه، يضم يديه المتورمتين إلى صدره والدماء اليابسة تلطخ مفاصل أصابعه المتشققة، ترك الطبيب يطالبه مرارًا بالعلاج لكنه رفض رفضًا قاطعًا أشبه بالعناد الطفولي وكأنه يعاقب نفسه، أو ينتظر عقابًا أكبر، فقد كان يشعر بثقل الذنب يطبق على صدره حتى كاد يخنقه؛ كيف أوصل زوجته إلى حد الانهيار العصبي؟ كيف انزلقت الأمور إلى هذا الدرك؟ كل شيء داخله كان يصرخ لكنه جلس هناك يحدق بالأرض في صمتٍ مميت، لا يعنيه شيء سوى أن يسمع خبرًا واحدًا وهو أن يسر بخير.

أما منير فكان الوضع أخطر بكثير، بعدما أخبرهم الطبيب أن حالته حرجة، جروحٌ عميقة وكدمات متفرقة وكسور في مناطق عدة.

وفي نهاية الردهة وقف يزن إلى جانب سليم وزيدان، وقد كان يروي لهما تفاصيل ما حدث من البداية حتى النهاية، كان صوته متوترًا متقطعًا بين الندم والغضب، وكأنه يريد أن يستنجد بعقله كي يصدق أن ما جرى منذ ساعات كان حقيقيًا، فطلب منهما أن يساعداه على تهدئة الأوضاع، خاصةً مع الحاج فاضل والد يسر الذي كان يجلس قريب منهم، يغلي غضبًا وكأنه بركان ينتظر الانفجار.

وعلى أحد المقاعد جلست سيرا منهكة حد الإرهاق، ملامحها شاحبة وعيناها متورمتان من البكاء، تحتضن الصغيرة لينا فوق ساقيها، فكانت تهدهدها برفق، تربت على ظهرها بحنو بالغ، وتهمس بكلمات مطمئنة رغم أن قلبها يرتجف خوفًا.

جذب انتباهها فجأة تحرك سليم بخطواتٍ بطيئة لكنها تحمل من القوة والكبرياء ما جعلها تتابعه بدهشة، فكان يسير كرجلٍ من زمن آخر؛ رأسه مرفوع وملامحه ثابتة أما عن نظراته تحمل وقارًا يجبر الجميع على احترامه، تقدم بخطوات محسوبة نحو الحاج فاضل، الذي كان يجلس على مقربة منها، فتسنى لها أن تستمع للحوار كاملًا.

قال سليم بصوت هادئ واثق:

-ان شاء الله مدام يسر تقوم بالسلامة يا حاج فاضل.

رفع فاضل رأسه إليه ببطء وفي عينيه خليط من الحزن والغضب، وأومأ برأسه إيماءة مقتضبة لكن صوته حين خرج كان محتقنًا بالحنق:

-ان شاء الله، وكل واحد ياخد جزاته.

انتقل بصره إلى حيث يجلس نوح في صمتٍ مميت، لكن سليم التقط فورًا نبرة الغضب المتصاعدة في صوته فسارع بامتصاص حدتها، مستغلًا هدوءه المعهود ورزانته التي يعرفها الجميع:

-لو قصدك على نوح فانت شايف هو خايف ازاي على مراته، فكفاية اللي هو عايشه يا حاج؟

ابتسم فاضل ابتسامة مريرة نصفها استنكار ونصفها قهر، ثم رفع رأسه إلى سليم وكأنه يعلم تمامًا سبب وجوده هنا، لقد أدرك أن خوف يزن على صديقه دفعه للجوء إلى أخيه الأكبر الذي يمتلك من الحكمة والرزانة والمكانة الاجتماعية ما يمكنه أن يطوي الأمر في طي النسيان دون أن يمس نوح ضررًا، لكنه رفض الاستسلام بسهولة وقال بحدة قاطعة:

-لا مايكفنيش، بنتي وهخليها تخلعه، ومنير وهخليه يسجنه عشان اللي عمله.

حينها التفت نوح إليه فجأة، ابتسامة تهكمية غريبة ترتسم على وجهه المتورم، وفي عينيه جنون وسواد لم يُرَ مثلهما من قبل، لكنه لم ينبس ببنت شفة واكتفى بتحويل رأسه نحو باب الغرفة يراقب بصمت ثقيل.

أما عن سليم الذي بدا وكأنه محامٍ في قاعة محكمة، أمسك بخيط الموقف قائلًا بنبرة متماسكة لا تخلو من الحزم:

-السجن مرة واحدة؟؟ يا حاج فاضل ماتخليش الغضب يعميك عن إنه جوز بنتك وأبو حفيدتك.

نظر إليه فاضل نظرة حادة وقال بصوتٍ يقطر استهجانًا:

-وهو ماعملش حساب لمراته وإن ده ابن خالتها ليه يا سليم؟

هز سليم كتفيه بلا مبالاة مصطنعة، ثم قال بنبرة شبه حادة تكشف عن عمق قناعته:

-حساب إيه؟ ده واحد قاعد في شغله لقى واحد دماغه رايحة منه داخل يقوله طلق مراتك وانا احق بيها منك، أنا لو مكانه مكنتش سيبته عايش أصلاً، وبعدين يا حاج فاضل ماتلومش على رد الفعل طالما الفعل نفسه كان غلط من البداية، ده انت تاجر كبير وفاهم يعني!

ارتفعت حدة أنفاس فاضل وقال بحنق لم يستطع كبته:

-رد فعل إيه يا سليم ده دغدغ المحل وماسبش فيه حتة سليمة، حتى منير الله اعلم هيقوم يمشي على رجليه تاني امتى؟

حاول سليم استغلال مكانته لديه بسرعة، فاقترب منه أكثر وقال بنبرة هادئة حاسمة:

-نوح هيتكفل يرجع محل بنتك زي مكان وأحسن كمان، وأنا هتكفل بعلاج منير، عشان الصراحة مش هقدر اقوله عالج الراجل اللي جالك وعايزك تطلق مراته.

زفر فاضل بقوة ووجهه يتقلب بين الغضب العارم والشفقة الخفية، كأن قلبه ممزق بين أن يكون أبًا جريحًا أو رجلًا حكيمًا، وفي النهاية رفع رأسه وأصدر حكمه بصوت حاسم:

-مالوش دعوة ببنتي محل بنتي أنا كفيل ارجعه احسن من الاول ومحدش يدفعلها جنية، بس خلاص مايقربش منها ويمشي من هنا مش عايز أشوف وشه، وبالنسبة لمنير انت مش ذنبك حاجة عشان تتكفل بعلاجه، اللي ضربه الضرب ده هو اللي هيتكفل بعلاجه، حتى يبقى ليا وش وأنا بقول لاهله أنه اعتذر وهيتكفل بعلاجه، وده حكمي ولو مش عاجبه يتفضل يقعد لغاية ما الشرطة تيجي.

تدخل زيدان بسرعة واقترب من نوح بخطوات سريعة وجذبه واقفًا رغمًا عنه، وهو يحذره بصوتٍ منخفض حاد:

-قوم يلا امشي، عشان لو عاندت والشرطة جت، مش هيكون في مصلحتك، انت مدغدغ الواد.

اقترب يزن هو الآخر يدفعه قليلًا نحو الممر الآخر وهو يقول بحدة:

-ماتبوظش اللي أنا عملته، امشي ولم الليلة، لسه أهل منير الزفت هيجوا وهتبقى كده كده مدعكة.

تقهقر نوح للخلف مجبرًا على الامتثال لإصرارهم، لكن صوته خرج ضعيفًا متحشرجًا، وكأنه طفل ضائع لا يدري أين يذهب فهمس بتساؤل شبه مكسور:

-ويسر؟

ربت يزن على كتفه بحنان مكبوت وقال بصوتٍ خافت:

-احنا كلنا معاها وبعدين انت عارف وجودك هنا غلط وهي تعبانة بالشكل ده.

تراجع نوح ببطء ووجهه شاحب، عيناه متعلقتان بباب الغرفة وكأن قلبه معلق خلفه هناك... حيث ترقد تواجه انهيارها العصبي.

استطاع يزن أخيرًا إخراج نوح من المستشفى، وكان يظن أنه سيغادر بهدوء لكن نوح رفض الابتعاد واكتفى بالجلوس على مقعد خشبي بالقرب من بوابة المستشفى.

جلس هناك صامتًا يضع مرفقيه على ركبتيه، ويدفن رأسه بين كفيه للحظة قبل أن يرفعه مجددًا يحدق في فراغٍ مثقل بالذنب والخذلان، حيث كانت عيناه معلقتان على باب الطوارئ في ترقبٍ مضنٍ كأنه ينتظر أي إشارة....أي خبر، أي بريق أمل قد يخفف ضغط ضميره، ليته تحكم في أعصابه وضربه في محيط عيادته فقط، ولكن الجبان كان يركض منه ويحاول الوصول ليسر.

وفي الداخل كان سليم وزيدان يخوضان معركةً من نوعٍ آخر؛ جلسا في مواجهة الحاج فاضل، يحاولان إغلاق الموضوع بهدوء وسط توتر يزداد لحظة بعد أخرى مع وصول عائلة منير التي اندلعت غضبها لما حل به.

فتولى سليم مهمة تهدئتهم، لا بل تهذيبهم بحنكته المعهودة ونبرته الحاسمة، فلم يتردد في مواجهة استنكارهم بنظرات ثابتة وكلمات صارمة، مذكرًا إياهم بجرأة ابنهم الذي اقتحم حياة غيره مطالبًا بما لا يحق له، فكان يدير الموقف كما لو كان قاضيًا ويزن كل كلمة بحذرٍ وحزمٍ في آنٍ واحد.

على مسافة قصيرة ابتعد يزن قليلًا عن الصخب المتعالي في الردهة واقترب من سيرا، التي كانت تجلس منهكة فوق أحد المقاعد، تحتضن الصغيرة لينا النائمة على صدرها، جلس أمامها كالقرفصاء ينظر إلى وجهها الشاحب ونظراتها الزائغة بين أصوات الرجال المرتفعة حولها.

لم يهتم يزن بالفوضى من حوله فقط مد يده ليمسك كفيها برفقٍ حانٍ، وصوته حين خرج كان همسًا مترددًا يقطر قلقًا وحنانًا:

-انتي كويسة يا حبيبتي؟ مالك؟

حولت نظراتها إليه ببطء، بعينين يملؤهما القلق والارتباك، وردت بصوت خافتٍ بالكاد يُسمع:

-هو الموضوع ده هيخلص امتى؟ انا حاسة أنه بيزيد.

أدرك يزن أن الخوف سيطر عليها تمامًا حتى أنه أبعدها عن إدراك كلماته أو ملاحظة دفء نبرته، فقد كانت هشة لدرجة يخشى معها أن تتكسر من مجرد ارتفاع صوتٍ بجانبها، فابتسم ابتسامة باهتة محاولًا بث الطمأنينة في قلبها وهو يجيبها بنبرة مطمئنة:

-ولا بيزيد ولا حاجة، يلا عشان اوصلك زمانك تعبتي.

تعلقت بعينيه لحظة كأنها تبحث في ملامحه عن أمانٍ غائب، ثم همست بترددٍ يشوبه قلق:

-ولينا؟ دي متعلقة بيا، ينفع أخدها معايا؟

رأسه نفيًا بلطف ومد يده ليأخذ الطفلة منها وهو يقول بنبرة هادئة محسوبة:

-أنا هخدها تلعب مع أنس ابن سليم، وهروحك يلا عشان والدك مايضايقش من تأخيرك.

لم تجادله اكتفت بتحريك رأسها باستسلام، ونهضت تتحرك بجانبه بحذر تتلفت حولها خوفًا من أي يدٍ متهورة قد تطالها وسط أصوات الجدال المتصاعدة في الردهة.

أما يزن فألقى نظرة سريعة نحو زيدان، أشار له بعينيه أنه سيغادر، فتفهم الأخير على الفور ورد بإيماءة واثقة وصوت منخفض:

-روح أنت، أحنا هنا ماتقلقش.

وفي الخارج كان نوح لا يزال جالسًا على مقعده الخشبي، رفع رأسه حين لمح صديقه يخرج ممسكًا بخطيبته، تابعه بعينين مثقلتين بالندم، ورأى كيف فتح يزن لها باب السيارة بهدوء، واضعًا يده على مقدمتها ليحميها من الاصطدام قبل أن يتحرك للخلف بخطوات محسوبة، يحمل الصغيرة لينا النائمة ويضعها بحرص في المقعد الخلفي.

وقبل أن يستعد للانطلاق لمح نوح نظرة صديقه تتجه إليه وإشارات حادة صامتة بلغة العيون تشي بعدم دخوله للمشفى، فقد كانت نظراته تحمل في طياتها تحذيرًا قاطعًا، جعل نوح يشيح بنظره بعيدًا ويبتلع غصته في صمتٍ ثقيل.

                              ****
بعد مرور دقائق طويلة بدت أثقل من ساعات…
غرقت سيرا في غفوة قصيرة رغمًا عنها، كأن جسدها المرهق أعلن استسلامه، فلم تشعر بشيء حتى توقف يزن أمام منزله لإيصال لينا أولًا، ثم عاد بسيارته ينطلق في صمتٍ مهيب نحو منزل سيرا.

لم تنتبه حتى حين توقف أمام "السوبر ماركت"، ولم تره وهو يتبضع لأجلها كطفلة مدللة؛ اشترى كل ما قد يرسم على ملامحها ابتسامة صغيرة، حلوى....رقائق متنوعة، جبن رومي مفضل لديها، وحتى بعض المأكولات لأطفال اخواتها كي لا يشاركها أحد في أشيائها الخاصة.

وأخيرًا وصل أمام منزلها، فاعتدل في جلسته قليلًا، ثم مد يده يلمس كتفها برفق وهو يهمس بصوت حانٍ:

-سيرا اصحي.

تململت أمام نظراته الشغوفة بها، وتحركت أهدابها الثقيلة لتكشف عن عينيها المرهقتين، ثم ردت بهمهمة شبه نائمة:

-نعم يا يزن..

كان وقع اسمه على لسانها مختلفًا…ناعمًا وهامسًا، اخترق قلبه مباشرة دون استئذان، فشعر بهزة تسري في أوصاله وكاد يفقد اتزانه لولا أنه تدارك نفسه سريعًا، فحول وجهه بعيدًا عنها يستغفر ربه في صمت، فلم يستطع أن ينكر على نفسه أن لا أنثى من قبل استطاعت أن تثير داخله هذه المشاعر المتدفقة والأفكار الحمقاء المنحرفة.

اعتدلت بصعوبة في جلستها ونظرت حولها بدهشة متسائلة:

-وصلنا؟

مد يده إلى الخلف يسحب حقيبتين بلاستيكيتين كبيرتين ممتلئتين على آخرهما ثم وضعهما فوق ساقيها:

-دي ليكي ودي لعيال اخواتك.

نظرت داخل الحقائب بدهشة وعدم فهم:

-ليه كل ده يا يزن؟ 

ابتسم بخفة وهو يجيب بنبرة مشاكسة:

-دول حاجة بسيطة عشان دمك اللي اتصفى من الخوف النهاردة.

ارتسمت ابتسامة صغيرة على شفتيها رغم ارتباكها، ثم هزت رأسها بخفة وهي تهمس بحيرة:

-دي كانت زي حرب شوارع وحقيقي أول مرة أشوفها، بس هو ممكن الانسان يوصل لمرحلة إن الشيطان يتحكم فيه بالشكل ده

أجابها بواقعية بينما عيناه تلمعان بظلٍ من الغضب المكبوت:

-معرفش بس دي مراته أكيد الدم غلي في عروقه لما سمع الواد ده بيقوله كده.

هزت رأسها بتفهم وإن لم تكن مقتنعة تمامًا، فداخلها كان يقول إن هناك دائمًا مساحة للتعقل مهما اشتدت الأمور…لكن رؤيتها لآخر شخص كانت تتمنى ألا تراه جعلتها ترتجف وهي تهمس باسمه بخوفٍ مكتوم:

-فايق...

التفت يزن بسرعة نحو الاتجاه الذي تنظر إليه، فرأى فايق واقفًا أمام باب منزله، يبتسم لهما ابتسامة باردة ويلوح بيده بتحية عابرة ثم يغادر بخطواتٍ بطيئة، اتسعت عينا يزن صدمةً واستنكارًا فقد كان يظنه لا يزال خلف القضبان، أما سيرا فقد شعرت برعبٍ يزحف داخلها، حتى أفاقت على صوت يزن وقد اكتسى بخشونة وصرامة غير مألوفة:

-ماتخرجيش لوحدك أبدًا، يا أما معايا أو مع حد من اخواتك ولا اقولك معايا أنا بس فاهمة ولا لا؟

رمشت سيرا بأهدابها في بطء محاولة استيعاب نبرته القاطعة وردت بنبرة مستنكرة:

-يعني إيه؟ افرض عايزة اروح لفاطمة اكلمك تيجي لي توصلني.

هز رأسه بقوة وعزيمة لا تقبل الجدل:

-اه كلامي واضح اوعي تخرجي لوحدك، لغاية ما شوف المدمن ده خرج ازاي؟

زمت شفتيها وهي تحاول تهدئة خوفه المفرط، تحركت كلماتها كنسمة لطيفة لكنها لم تخفِ ضيقها:

-يزن ماتخفش هو مش هيقدر يعملي حاجة، هو هيخاف منك.

لكن كلماتها لم تزد النار المشتعلة في داخله إلا وقودًا، فأجاب بنبرة حادة تنذر بانفجار وشيك:

-أنا مش هستنى لما يعمل أساسًا، أنا معنديش احتمالات يا سيرا، اللي اقوله يتنفذ حتى لو رايحة لفاطمة.

أشارت للخلف في محاولة لإقناعه بهدوء:

-فاطمة اللي في الشارع اللي ورايا يا يزن؟ ما ماخرجش من البيت أحسن.

تلبسه رداء العناد تمامًا فرد بقوةٍ أشد:

-اه ماتخرجيش أحسن، سيرا ماتخوفنيش عليكي وحياة أبوكي، أنا أساسًا أول لما شوفته قدامي عفاريت الدنيا بتنطط في وشي...انزلي يلا.

فتح باب السيارة ونزل فتساءلت بدهشة:

-رايح فين؟!

-اطلعك فوق، مش هسيبك تطلعي لوحدك.

توقفت لحظة تحدق به في صمت، تتساءل بين نفسها....أهذا حد الهوس؟ أم أنها تتخيله فقط؟ أم أن وجود فايق بالفعل يثير كل هذا الخوف بداخله عليها؟

كانت أنفاسه تتسارع مع خطواته الصاعدة بجانبها على الدرج، حتى طرق باب منزلها بينما عيناها تتابعانه بدهشة وشيء من الامتنان الخفي.

فُتح الباب من قبل فريال فطلب منها يزن مقابلة والدها على انفراد، لم تمض دقائق حتى خرج حسني بملامح متوجسة ونظر إلى ابنته الشاحبة، لكنه لم يكد ينطق حتى استبق يزن الحديث بصوتٍ جادٍ حاسم:

-سيرا ماتخرجش لوحدها تاني يا حاج حسني يا إما معايا أو مع اخواتها الولاد، فايق جاركم خرج من السجن...

تسمرت نظرات حسني للحظة قبل أن يردد بدهشة:

-هو كان مسجون؟

رد بثبات:

-ايوه، كان مسجون عشان كان بيعبت رسايل تهديد لسيرا واتسجن بس لسه شايفه تحت حالاً، زيدان اخويا قالي قبل كده لما عبود وقاسم عملوه معاه مشكله أنه مش هيسكت وهيعمل مشاكل وغالبًا هتكون لسيرا، فيا ريت طلبي تنفذه يا حاج وسيرا ماتخرجش لوحدها أبدًا..

نظر حسني إلى ابنته بذهول حيث كانت صدمته أكبر من قدرته على إخفائها:

-وانتي امتى كنتي هتقوليلي أن فايق كان بيبعتلك رسايل تهديد يا سيرا؟

قبل أن تجيب انطلق صوت حكمت من الخلف لتتولى الدفاع بدلًا عنها:

-قالتلي يا بابا، بس أنا اللي قولتلها ماتقولش ليك عشان انت تعبان وكتر خيره يزن لما عرف حل الموضوع، ماتقلقش يا يزن يا حبيبي مش هنخرجها لوحدها أبدًا رجلي على رجليها.

تنفس حسني ببطء يخفي غضبًا تحت طبقاتٍ من الهدوء المصطنع؛ أكثر ما يزعجه أن يتخطاه أحد في أمرٍ يخص بناته لكنه سيطر على نفسه وقال بهدوء متماسك:

-كتر خيرك يا ابني وان شاء الله الأمور تعدي على خير...سيرا تعالي ورايا عايزك.

توترت سيرا وهي تلحق به تلقي بكافة نظرات العتاب نحو يزن الذي تهرب من مواجهتها، حول بصره نحو حكمت وهمس لها بنبرة هامسة متوسلة:

-لو سمحتي يا ابلة محدش يجي جنب سيرا النهاردة هي تعبانة وخايفة أساسًا.

ظنت حكمت أنه يقصد خوفها من فايق فردت بحماس مطمئن:

-ماتخافش دي في عيني.

ابتسم يزن ابتسامة باهتة وهمس لنفسه بمرارةٍ مكتومة:

-أنا أساسًا مش خايف إلا منك.
                              ****
مساءً

دخل زيدان شقته وهو يحمل جسدًا مثقلاً بالتعب، صرخاته الصامتة تطلب النوم طلبًا، ولكن ما إن وقع بصره على مليكة جالسة في الصالة أمام التلفاز، حتى تحرك إليها سريعًا يخلص نفسه من كل ما يثقل جسده من متعلقاته، حتى مسدسه وضعه بهدوء فوق طاولة مجاورة، بعيدًا عن مرمى نظرها.
فـ "مليكته" لم تحب يومًا رؤيته ولم تألف وجود سلاحٍ بقربها، بل كانت تخشاه وكأن رصاصة طائشة قد تصيبها منه، أما زيدان على الرغم من قسوته التي يعرفها الجميع فقد كان شديد التفهم أمام مخاوفها؛ فما دام الأمر يخص مليكته، فهو مستعد لأن يلين لأجله مهما كان بعيدًا عن اللين.

اقترب بخطوات ثابتة وقبل أن يجلس بجانبها، لمحت عيناه جسد طفلة صغيرة مستلقية في سلام فوق الأريكة، رأسها مستند فوق ساق مليكة، بينما الأخيرة شاردة الملامح وعيناها محمرتان تذرفان دموعًا صامتة تخفي داخلها من الحزن ما لا يُحتمل.

توقف زيدان في مكانه لحظة وارتسمت على وجهه علامات الاستنكار....ما الذي أتى بـ "لينا" ابنة نوح إلى شقته؟ ولماذا تبكي زوجته بهذا القهر الذي لم يعتده عليها من قبل؟!

تلاقت عيناه بعينيها المتثاقلتين حزنًا، وقد خيم عليهما بؤس لم يره في ملامحها قط، وحين رأى ذراعها ترتفع نحوه في صمت، أدرك على الفور حاجتها إلى حضنه؛ ذلك المأوى الذي تهرب إليه دائمًا، فجلس بجانبها بهدوء ثم جذبها إلى صدره وضمها بقوة، يربت على ظهرها بحنانٍ حريص، بينما الحيرة تكسو قسمات وجهه، كمَن يغرق في بحر لا يرى له قرارًا، لم يستطع أن يطيل صمته فتساءل بنبرة مفعمة بالاضطراب:

-مالك يا روحي؟ مين زعلك؟ 

اشتدت قبضتها فوق سترته ،جذبت جسده نحوها أكثر وهي تبكي بحرقة، وشهقاتها تتلاحق وأنفاسها تتقطع بين كل دمعة وأخرى، فابتعد عنها زيدان قليلًا بتوجس ينظر إليها بحدة، وقد خشُنت نبرته على غير ما يتطلبه الموقف من رفق، لكن ذلك هو زيدان دائمًا يُظهر عكس ما يضج به قلبه:

-في إيه؟ مين زعلك لدجاردي؟ انطقي؟

ولعلمها بطبيعته الحادة التي قد تشتعل في أي لحظة، أرادت تهدئة نيران القلق المشتعلة في عينيه، فهو على أتم الاستعداد لقلب هذا المنزل رأسًا على عقب إن علم أن أحدًا آذاها، فمدت كفها تتحسس وجهه بلطف وهمست:

-أنا كويسة ماتقلقش، أنا بس زعلانة على لينا.

رمق الطفلة بنظرة حائرة ثم عاد بنظره نحو مليكة باستفهام صامت، فتنفست هي بعمق ثم بدأت تسرد ما يثقل صدرها، حين أبصرت الصغيرة وعلمت حجم الاضطراب النفسي الذي تعيشه، خصوصًا بعدما جلبها يزن إليهم، وما إن دخلت حتى بدا الرعب عليها واضحًا؛ ارتجفت بشدة حتى إنها لم تستطع التحكم بنفسها وابتل سروالها بالكامل وهي واقفة خائفة كطائر صغير وقع في قفص المجهول.

قالت مليكة بصوت مبحوح وهي تحدق في الطفلة:

-بتفكرني بنفسي، هو اه قصتنا مختلفة بس شعور الوحدة والخوف هيفضل واحد وهيفضل أوحش شعور ممكن أي طفل يحسه.

تنحنح زيدان بابتسامة صغيرة يحاول بها طمأنتها:

-بس يا حبيبتي هي أبوها وأمها عايشين، بس في شوية مشاكل وهتتحل، الموضوع بسيط.

لكن كلمات الطمأنة لم تصل إلى قلبها فانفجرت تبكي مجددًا وهي تقول بألمٍ مكتوم:

-لا مش بسيط، هما موجودين اه، بس ولا كأنهم موجودين غارقنين في مشاكلهم وسايبين بنتهم كده تحس بالخوف لوحدها، تفرق أيه عني لما أبويا مات وأنا صغيرة وبعدها أمي ماتفرقش حاجة يا زيدان، وحدة وخوف ومفيش حد يطبطب عليك ويريح قلبك...

صمتت لحظة تستجمع أنفاسها المتقطعة قبل أن تهمس بشرودٍ حزين:

-بابا مصطفى مقصرش معايا، بس مفيش بعد أب وأم حقيقين يكونوا حواليك ومعاك في كل خطوة، واهو بابا مصطفى اتجوز وكل فين وفين بيسأل عليا، وأنا مبقاش ليا حد.

اتسعت عينا زيدان بدهشة ممتزجة بالاستنكار، أمسك وجهها بين كفيه بقوة وقال بنبرة مفعمة بالملكية والحب:

-وأنا فين؟! أنا المفروض اكون كل حياتك، وبعدين أنا عيلتي عيلتك واظن انهم كلهم بيحبوكي وبيقدروكي لشخصك مش علشاني على فكرة، فإياكي تنطقي تاني كلمة ماليش حد دي تاني، انتي كده بتلغي وجودي.

ابتسمت وسط دموعها ثم ارتمت في حضنه تربت فوق ظهره بحنو أمومي، تهدئ من ثورته التي يعرفها قلبها جيدًا وهمست بنبرة خافتة:

-ربنا يخليك ليا ويديمك في حياتي يا زيدان، أنا كل اللي اقصده إن مفيش بعد الاهل الحقيقين.

طبع قبلة دافئة فوق وجنتها تبعتها قبلة أكثر حنانًا على جبينها، قبل أن يهمس بصوتٍ رخيم وهو ينظر في عينيها مباشرةً:

-أنا اهلك ودنيتك كلها، زي ما أنتي دنيتي كلها، أنا عشت عمري كله على ذكرياتي معاكي، قلبي مقفول بضبة ومفتاح مستنيكي، عشت عمري كله ندمان على لحظة ضيعتك فيها، كنت بتعذب ليل نهار في بعدك، وجودك غيرلي حياتي ونورها يا مليكة قلبي، لو بتحبيني اوعي تقولي الكلام ده تاني.

أخفضت عينيها بخجلٍ طفولي وارتسمت على شفتيها ابتسامة دافئة، وهمست وهي تمسح دموعها:

-يعني لازم اعيط عشان اسمع الكلام الحلو ده؟

ضحك زيدان بخفة ثم قال بلهجة متحسرة:

-كنت مجهزلك ربع رومانسي يجنن، بس بنت نوح قطعت على اللي خلفوني.

نظرت إليه مليكة بعتابٍ لطيف وربتت فوق وجنته:

-بلاش بصاتك دي، هي مش مجرم عندك مخبي عنك معلومة مهمة، دي طفلة...اقولك اعتبرها أنا وأستحملها.

نظر إليها ثم التصق بها أكثر غارقًا في تفاصيلها، وترك الطفلة جانبًا ثم همس بحرارة صادقة:

-أنتي مفيش زيك ولا بعدك، اتدلعي زي ما انتي عايزة يا مليكتي.

تركت مليكة الطفلة واتجهت نحوه تحتضنه بحنان، ملقيةً بكافة همومها عليه تشعر وكأنها تنعم بين أحضان رجلٍ لن تفقه سطور العاشقين في سرد حالته المهيم بها؛ رجلٌ يتقد شررًا للجميع عداها، رجلٌ له من الوجوه عدة، لكنها عنده وحدها تنهار حصونه ويظهر وجهه العاشق.

                            *****

دخلت حكمت الغرفة سريعًا وهي تغلق الباب خلفها متسائلة بفضول:

-ها بابا قالك إيه؟ وليه طالعة مش طايقة نفسك كده؟

نظرت إليها سيرا بحنق ولم تجب عليها فاكتفت بفترة صمت عقابي، عندها ضيقت حكمت عينيها بغيظ وهي تردد:

-انتي مخصماني يا بت يا سيرا؟

هزت سيرا رأسها بقوة وأجابت بنفس غيظ أختها:

-اه عشان زعلانة منك على اللي عملتيه فيا قصاد يزن امبارح، أنا يا ابلة ترفعي عليا العصاية، من امتى وانتي بترفعي عليا عصاية وبتضربيني؟!

نظرت إليها حكمت ببلاهة وأجابت وهي تتذكر:

-من تلات شهور لما خيبتي في عقلك وروحتي اشتريتي بلوزة بـ ٨٠٠ جنية.

زفرت سيرا بقوة وهي تقف أمامها معترضة على طريقتها وتعمدت تصحيحها:

-كنتي بتهوشي بيها وبعدين ده كله مواضيع عادية، لكن يزن يبقى موجود وانتي تتعمدي تضربيني، كده انتي بتقوليله يمسكني يضربني  لما نتجوز طالما أنا متعودة على الضرب.

شهقت حكمت باستنكار حقيقي وارتسم شر غريب فوق ملامحها وهي تقول:

-ده أنا اقطع ايده لو فكر يلمسك لا هو ولا عيلته يا بت، وبعدين أنا كنت بهوشك بردو عشان تفتكري كلامي لما قولتلك بلاها حوار الشغل ده، وانتي راكبة دماغك.

تنهدت سيرا باستسلام فهي لن تستطيع مجابهة حكمت وإصرارها الرهيب على براءتها، وكأن جميعهم مذنبون في حقها:

-خلاص يا أبلة حصل خير، بس لو سمحتي خدي بالك من تصرفاتك قدام يزن، أنا مش عايزاه يستهون بيا.

-يا اختي اتنيلي ده الواد يا حبة عيني كان مرعوب عليكي ومكنش هاين عليه يمشي ويسيبك.

آه…مهما فعلت وقالت فلن تستطيع زحزحة يزن من عرش تفكير أختها؛ بحالته المادية والاجتماعية وشخصيته الفتاكة بينما هي بجانبه…لا شيء.

-اقعدي احكيلي بابا قالك إيه؟!

-مقالش كان زعلان مني عشان خبيت عليه، بس الحمد لله اتراضي ووعدته مش هخبيه حاجة تاني عليه أبدًا.

هزت حكمت رأسها في إيجاب بينما توجهت سيرا نحو أحد الأدراج لتفتحه وتضع به خاتم خطوبتها، إلا أنها فجأة تسمرت في مكانها ثم صرخت صرخة أفزعت من في المنزل وقالت بفزع:

-شبكتي فين؟ الدهب اللي كان هنا راح فين؟
                                 ****  

جلس يزن بجانب نوح أمام المستشفى التي ترقد فيها يسر، وقد غمره صمت ثقيل كالجدران لم يتحرك ساكنًا منذ أن وصلا، واكتفى بالتحديق في الفراغ بندمٍ يثقل صدره وحسرةٍ تعصف بروحه، كأن عقله يعيد شريط أخطائه مرارًا، فظل هكذا حتى منتصف الليل، حتى لم تعد ملامحه تقاوم الإرهاق، وبينما كان غارقًا في شروده همس بصوت مكسور لا يكاد يُسمع:

-لينا مع مين دلوقتي؟

التفت إليه يزن بوجه متماسك وأجاب بهدوءٍ يخفف شيئًا من قلقه:

-عندي في البيت مع أهلى ماتقلقش واخدين بالهم منها.

زفر نوح تنهيدة طويلة وعاد ببصره نحو بوابة المستشفى، كأنه يريد أن يخترق جدرانها بعينيه ليطمئن على من أحب، انفصل عن العالم من حوله حتى كاد ينسى وجود يزن بجانبه لكن الأخير لم يتحمل طول هذا الصمت، فهز رأسه وقال بنبرة معاتبة جامدة:

-ممكن تقولي إيه وصلك للحالة اللي كنت فيها دي؟

ابتلع نوح ريقه بصعوبة وكأنه يحاول اقتناص أنفاس نقية من الهواء من حوله لكنه فشل؛ حلقه ضاق كأنه يختنق من داخله، أغلق عينيه واندفع عقله إلى الوراء يجره إلى اللحظة التي بدأ عندها كل شيء…إلى مواجهةٍ مع منير التي لم يكن مستعدًا لها.

                               ★★

اطمأن نوح على يسر سريعًا من بعيد، نظرةً خاطفة من خلف زجاج سيارته التي صفها أمام البرج الذي تقبع فيه عياداته، قبل أن يهبط منها عابس الملامح، أراد أن يُظهر لها عدم اكتراثه ليثير غيرتها أو يستفز صمتها الذي بات يطوقه في الفترة الأخيرة، ثم اندفع نحو عياداته يحاول الغرق في عمله ليهرب من أفكاره المشتتة، لكن في منتصف اليوم…طرقت حسناء باب مكتبه ثم قالت بخفوت:

-في حد عايزك برة وبيقول عايزك ضروري.

رفع نوح رأسه دون اهتمام ورد ببرود:

-مين ده؟ دخليه ونبهي عليه مياخدش وقت عشان الناس اللي قاعدة من زمان برة.

هزت رأسها بالإيجاب وغادرت وما هي إلا ثوانٍ قليلة حتى فُتح الباب، ودخل منير بخطوات واثقة وابتسامة استفزازية كفيلة بإشعال شياطين نوح في لحظة وكأن وجوده يحمل معه لعنة غضبه، حاول أن يتمالك أعصابه أمام برود هذا المتبجح، لكن منير بدأ حديثه بنبرة هادئة تحمل خُبثًا واضحًا:

-السكرتيرة قالتلي متأخرش، وأنا فعلاً مش هتأخر هما كلمتين هقالهم وهسيبك تفكر.

عاد نوح بظهره إلى الخلف ثم ترك قلمه بإهمال على المكتب، وقال بملل متعمد:

-طيب بسرعة عشان أنا مابستحملش خلقتك دقيقتين على بعض قدامي.

ارتسمت على شفتي منير ابتسامة ساخرة وقال بتهكم صريح:

-ولا أنا وحياتك، ولولا إن الموضوع يخص يسر مكنتش جيت وشوفتك.

تشنج فك نوح وقبض فوق ركبتيه بعنف، ثم زمجر بخشونة مكتومة:

-وانت مالك بمراتي يا منير؟ مهما كانت درجة قرابتك ليها ماتوصلش أنك تيجي تكلمني في حاجة تخصها أصلاً..

اقترب منير خطوة وعينيه تتلألأ بنظرةٍ متحدية، ثم قال بنبرة قاطعة:

-لا يسر تخصني...تخصني كلها على بعضها مهما حاولت تمنع ده.

غلت الدماء في عروق نوح وصاح بغضبٍ متفجر:

-نعم يا روح أمك...انت بتقول إيه؟ هتبقى مبسوط وأنا بقوم بكسر المكتب ده فوق راسك اللي شبه البطيخة دي؟!

لم يزد منير إلا وقاحة وهو ينطق كلمته المدوية:

-طلقها.

شُل عقل نوح للحظة وتسمر مكانه ثم قفز واقفًا بعنف، وصاح مستنكرًا:

-اطلق مين يالا، أنت ليه مُصر تطلع أسوء ما فيا، منير أوعى تكون فاكراني دكتور محترم، لا ده أنا عليا النعمة أمر من أي بلطجي شوفته في حياتك....أنا غير آدامي يالا، فــــــوق.

لكن منير لم يتراجع ظل واقفًا ببرودٍ قاتل وقال بابتسامة متعالية:

-خليك متحضر يا دكتور يا محترم، أنا طلبي بسيط خالص، طلق بنت خالتي عشان انت من الآخر ماتستحقش جوهرة زيها، أنا أولى بيها منك.

لحظتها لم يعد نوح نفسه، كأنه مارد شرير تلبسه؛ هجم على منير كعاصفة، تراجع الأخير مذعورًا لكن يد نوح طالته قبل أن ينجو، ولسانه أطلق سيلًا من الشتائم القاسية على مرأى ومسمع الجميع، ارتفع صوت التحطيم في المكتب، كل ما وقعت عليه يده تحول إلى شظايا متناثرة، فقد كان جنونًا حقيقيًا جعل الجميع يهرب من طريقه ولم يجرؤ أحد على الاقتراب منه.

                               ★★
عاد نوح من غياهب ذاكرته على صوت يزن المستنكر:

-وانت مش عارف تضربه فوق عياداتك؟ ما كنت تكسره فوق براحتك!

زم نوح شفتيه بغيظ شديد وقال بعصبية متقطعة:

-ابن الـ **** كان بيتعمد يفلت مني وينزل على تحت عندها وأنا مكنتش شايف قدامي يا يزن، أنت عارف يعني إيه جاي يقولي طلقها وأنا اولى بيها منك، وربي لو شوفتها بس قريبة منه لـ....

قاطعه يزن بتهديد صارم وهو يحدق في عينيه مباشرة:

-لـ إيه؟ انت ماتفكرش أصلاً تقرب منها خالص الفترة دي؟ سليم أخويا منبه عليا عشان لو جاله خبر إنك اتعرضلتها هو اللي هيقفلك، وهو ملصم أبوها بالعافية، وبلاش يا نوح تكسر كلمة سليم أخويا...عشان ده الوحيد اللي مضمنش رد فعله.

صمت نوح طويلًا ثم تنهد مستسلمًا، وانحنى رأسه وهو يهمس بصوت مبحوح:

-غصب عني لازم ابعد عنها الفترة دي، مش عايزاها تتعب أكتر من كده.

ولكن فجأةً انبثق في عقل نوح سؤالٌ كالصاعقة، مزق كبرياءه وأشعل فؤاده بلهيب الغيرة، فقد شعر وكأن قلبه ينكمش بين ضلوعه، ورغمًا عنه خرج صوته مترددًا أشبه بالهمس الذي أفلت منه رغمًا عنه:

-معقولة تكون متفقة معاه عشان اطلقها ويتجوزها؟

تجمد يزن لثوانٍ وحدق في صديقه بعينين تقرآن كل ما يعتمل داخله، ثم قال بجرأة ممزوجة بثقةٍ حاسمة:

-مظنش، يسر لو عايزة تهرب منك من زمان كانت هربت، هي بتحبك بس انت مالكش كتالوج في التعامل، عشان كده مش عارف توصل معاها لحل يرضيكوا.

أطرق رأسه في صمتٍ ثقيل عيناه معلقتان بظلمة الطريق الممتد أمام المستشفى، كأنهما تبحثان عن إجابةٍ بين ظلال الليل، وتمنى في أعماقه بكل ما تبقى فيه من قوة، أن يكون ظن يزن صحيحًا،
وإلا فإنهما على حافة غياهب الفراق الأبدي.
                        
                               ****

في اليوم التالي…

جلست سيرا منهكةً على الأريكة، وكأن روحها قد استنزفت بالكامل، التفت العائلة حولها جميعهم مجتمعون يبحثون بلا جدوى عن مجوهراتها المفقودة التي اختفت في ظروف غامضة، لقد كانت العيون متوترة والأنفاس متقطعة، حتى بدا المنزل كله وكأنه يغلي فوق صفيحٍ ساخن.

وبعد ساعاتٍ طويلة من البحث العقيم بدأ الهجوم ينصب عليها من كل اتجاه:

-انتي مهملة أصلاً، في حد يرمي دهبه في الدرج.

وأخرى تهتف بقلق ولوم:

-يعني يا سيرا مش عارفة تحطيهم تحت عن أبلة حكمت في الخزنة.

وأخرى تصيح بتوجس:

-دي تبقى مصيبة لو اتسرقوا هنقول لأهل خطيبك إيه بس؟!

كانت تلك الجمل تتناوب على أذنيها منذ ليلة الأمس، لم يغمض لها جفن ولم تعرف طعم النوم، أمضت ساعاتٍ تبحث في كل ركنٍ من أركان المنزل، تفتش الأدراج والخزائن تقلب أغراضها رأسًا على عقب، بينما الجميع يشاركها البحث…لكن دون جدوى.

كانت حائرة حتى الجنون عاجزة عن استيعاب ما يجري، هي لم تشك لحظة في أيً من أفراد عائلتها؛ فالجميع بالنسبة لها فوق مستوى الشبهات، لكن غموض الموقف كان ينهش عقلها، كيف اختفت الشبكة بهذه الطريقة المريبة؟ كيف تبخر الذهب وكأنه لم يكن؟

وبين كل لحظةٍ وأخرى كانت كلماتهم تلسعها كالسياط...مهملة…حمقاء… غير مسئولة، كأن الجميع اتفق على أن تحمل وحدها عبء هذه المصيبة!

ووسط هذا الجو المشحون، دوى رنين هاتف والدها ليقطع الصمت المتوتر، ارتبك قلب سيرا فهي ترى كيف بهت وجهه منذ أن علم بخبر اختفاء شبكة ابنته وكأنه فقد سنوات من عمره في يومٍ واحد.

رفع الأب الهاتف بيدٍ مرتجفة قليلًا وأجاب بنبرة ثقيلة متعبة:

-أهلا…يا أستاذ سليم...لا لا أبدًا صاحي اتفضل؟

ساد الصمت بين الجميع بينما كان يستمع بتركيز للطرف الآخر، عيناه تزدادان عبوسًا مع كل ثانية تمر، ثم أنهى الاتصال وهو يتنفس بعمق يحاول كبح اضطرابه، فبادرت حكمت بالسؤال بفضولٍ وقلق:

-في إيه يا بابا؟ ماله اخو يزن عايز إيه؟

نظر الأب إلى ابنته سيرا نظرة حاسمة ثم قال بصرامةٍ لا تحتمل الجدل:

-قومي البسي وخدي معاكي عبود وقاسم عشان سليم أخو يزن هيبعت عربية تيجي تاخدك وتروحي تشوفي شقتك عشان المهندس هيكون موجود هناك ويشوفك عايزة إيه؟

ارتبكت سيرا ولم تستوعب ما سمعته، أي شقة؟ أي مهندس ديكور؟ كيف يمكنها أن تفكر في تفاصيل كهذه بينما مصيبتها قائمة لم تُحل بعد؟ كاد عقلها يصرخ بالرفض، حتى همست في داخلها بحماقةٍ:

"طيب…ما تروح أبلة حكمت بدالي؟"

لكن يبدو أن همسها انفضح أو ربما كان هو نفس سؤال حكمت الذي خرج منها بصوتٍ مسموع ليُشعل غضب والدها فجأة:

-لا يا حكمت مش هتروحي معاها....

ثم تابع بنبرةٍ قاطعة حادة:

هتروح مع اخواتها الولاد صد رد وترجع، وكلكوا تفضلوا هنا تدوروا على الشبكة، لغاية ما نشوف حل في المصيبة اللي احنا فيها.

ساد صمت ثقيل في الشقة، لا يُسمع فيه سوى أصوات الأنفاس المتوترة، فقد كانت سيرا تشعر بأن الأرض تميد تحت قدميها، بينما قلبها يخفق بعنف، مزيجٌ من الخوف والارتباك يعتصر روحها، وكأنها محاصرة بين عيونهم المليئة باللوم ودوامة الحيرة التي لا تنتهي.

                             ****

انتبهت إلى تململ أخويها عبود وقاسم في السيارة بل وصل بهما الحال إلى النفخ فالتفتت إليهما تسألهما بشك:

-هو انتوا دافعين حجز كورة؟

نفخ عبود بغيظ:

-اه ٢٠٠ جنية كل واحد فينا وراحت على الفاضي، ده أنا بحوش فيهم من الاسبوع اللي فات.

هزت رأسها باستسلام ساخر ثم قالت للسائق:

-لو سمحت اقف...

ثم التفتت إلى هذين المراهقين تخبرهما بفكرتها:

-انزلوا روحوا الحقوا وأنا هروح بسرعة اشوف المهندس، ولو بابا سألني هقوله أنكم سبتوني لما خلصت.

لمعت عينا الأخوين بحماس ولكن قال قاسم بتوتر:

-وينفع نسيبك لوحدك؟ 

ابتسمت إليهما وهي تمنع نفسها من الصراخ في وجهيهما:

-اه عادي، روحوا عشان أنا عارفة الكورة عندكم أهم من المياه والشرب، أهم مننا احنا عيلتكم.

فتح عبود باب السيارة وهو يقول بحماس:

-طيب كويس إنك عارفة، خلينا على اتصال.

غادر الأخوان إلى لعبتهما المفضلة بينما انكمشت في مقعدها بيأس، تنظر إلى الخارج بتوتر وخوفٍ نهش قلبها…كيف ستخبر يزن بذلك الخبر المشؤوم؟

                           **** 

كان يزن يغفو بسلام غارقًا في نومٍ عميقٍ بعد ليلةٍ طويلةٍ قضاها بجانب صديقه نوح، يحاول تهدئته والوقوف إلى جواره، اضطر في الصباح إلى العودة إلى منزله منهك الجسد مثقل الروح، فلم يتمكن من الذهاب إلى معرضه كعادته بسبب شدة إرهاقه وحاجته الماسة إلى النوم.

لكن هذا الهدوء لم يدم طويلًا…فقد شعر بأصابع صغيرة رقيقة تغزو وجهه تداعب ملامحه بشقاوة، حتى كادت أن تدخل فمه عنوة، فتح نصف عينيه بتثاقل ليبصر وجه قمر ابنة سليم الصغيرة، تتبسم فوقه ببراءةٍ مطلقة وخلفها يقف أنس ولينا يضحكان بحماسٍ صاخب، ابتسم رغمًا عنه وقبل قمر بحب وهو يجذبها إلى حضنه، ثم التفت إلى الصغيرين متسائلًا بنبرة استنكار ناعسة:

-مين جاب قمر هنا؟!

أشار أنس إلى نفسه بحماس وقال ببراءةٍ طفولية جعلت يزن يعجز عن توبيخه:

-أنا بعرف اشيلها وجيبتها هنا عشان تبتعد عن مامي عشان طنط سيرا فوق وماما بتعملها العصير وطالعة.

كاد يزن أن يغلق عينيه ثانية ويستسلم للنوم، لكن الاسم الذي انساب بسهولةٍ من بين شفتي أنس أيقظه من سباته دفعة واحدة، فارتفع جسده فجأة وهو يسأل الصغير بحدةٍ مموهة بابتسامة مصطنعة:

-طنط سيرا مين يا حبيبي اللي فوق؟

                         ****

أما في الأعلى وتحديدًا في شقة يزن التي لم تجهز بعد، كانت سيرا تقف في مواجهة المهندس الذي جاء لوضع اللمسات الأخيرة على تصميم الشقة، لم تكن تسمع معظم ما يقوله؛ تكتفي بهز رأسها بإيماءاتٍ باردة، كمَن يوقع أوراقًا لا يقرأها، لم يكن ذهنها حاضرًا ولا قلبها متسعًا لأي حديثٍ عن ألوان الجدران أو تقسيم الغرف…فكل ما يشغل عقلها هو مصيبتها الكبرى...أين ذهبت شبكتي؟!

بعد مغادرة المهندس توجهت نحو سطح المنزل لتجري مكالمة قبل أن تهبط للشقة مجددًا تنتظر شمس ومليكة اللتان وعدتاها بعصيرٍ منعش، لم تستطع رفض طلبهما هذه المرة، خاصة بعدما رفضت نزولهما الأول معهما إلى شقة والدة يزن للجلوس هناك، فقد شعرت بالحرج الشديد منهن، وتفهمتا هيبتها للموقف فلم تضغطا عليها.

وقفت سيرا بجانب السور، تتأمل الأفق بعينين مثقلتين بالهم، ثم أمسكت هاتفها محاولةً الاتصال بأحد إخوتها للاطمئنان على مصير مجوهراتها، لكن الرد جاء نفسه كل مرة:

"لسه…ما ظهرش أي حاجة."

تنهدت بعمق، كمَن يبتلع مرارة الخيبة، حتى سمعت وقع خطوات شمس ومليكة تصعدان السلالم المؤدية إلى الشقة تبحثان عنها.

قالت مليكة بصوتٍ متوتر وهي تدخل تحمل أطباق الحلوى:

-الله هي راحت فين؟ معقولة تكون مشيت؟

التفتت إلى شمس بنظرة قلقة قبل أن تهمس لنفسها:

-لتكون زعلت من حاجة؟!

وقفت شمس أمام غرفة مجاورة وهي تدير بصرها فيها ثم قالت مترددة:

-ممكن تكون زعلت عشان يزن مكنش مستنيها...

كانت سيرا على وشك أن تطل من باب الشقة لتخبرهما بأنها ما زالت موجودة، لكن الكلمات الأخيرة جمدتها في مكانها، فقد توقفت أنفاسها وهي تسمع ثرثرة مليكة المندفعة بلا وعي:

-أصلاً لو يعرف كان زمانه واقف مستنيها من الصبح! سبحان مغير الأحوال بجد! مين يصدق إن ده يزن اللي كان مغصوب على خطوبتها…وقالب الدنيا حريقة عشان ميخطبهاش؟!

ارتجفت أنفاس سيرا وهي تقف صامتة كتمثالٍ حجري، كان وقع كلمات مليكة أثقل من خطواتها نفسها؛ كل حرفٍ منها نغز قلبها بمرارةٍ دفينة، كأنها لأول مرة تسمع حقيقةً لم تكن تجرؤ على التفكير فيها…

هل حقًا كان يزن مغصوبًا على خطوبتها؟!
هل كل ما ظنته إعجابًا بها كان مجرد سرابًا؟

اختلطت أنفاسها بحزنٍ مكتوم، وشعرت بأن الجدران من حولها تقترب أكثر فأكثر حتى كادت تخنقها.
وضعت سيرا يدها فوق صدرها تحديدًا عند موضع قلبها، وكأنها تحاول كبح ذلك الارتجاف العنيف الذي يهددها بالانهيار، لقد كانت كلماتهم تتردد في أذنها كصفعة باردة أيقظتها من وهمها الكبير، هو مغصوب؟! لم يكن يريدها منذ البداية؟!
إذًا...نظراته الحانية، كلماته الدافئة، وقربه الذي كانت تعده طوق نجاة...لم يكن سوى تمثيل أُجبرت عليه روحه امتثالًا لأوامر العائلة؟!

ارتجف جسدها بعنف ولم تقوَ على كتمان دموعها ولا على إخفاء ذلك الانفجار الوشيك في داخلها، شعرت أن الأرض تهتز تحت قدميها، وأن كل ما آمنت به ينهار أمامها قطعةً قطعة، لم تجد حلًا سوى الهروب...الركض حتى لو تاهت في الطرقات الأهم أن تبتعد....أن تخرج من ذلك المنزل، أن تتنفس بعيدًا لتستطيع التفكير بوضوح.

هبطت الدرج بخطوات متسارعة متعثرة من شدة اضطرابها، بينما حجبت دموعها الرؤية حتى كادت تسقط، فكانت تلهث وكأن وحشًا يطاردها في أثرها، وفجأة...اصطدمت بجسدٍ عريض وقف في طريقها، فأمسكها سريعًا قبل أن تقع وهمس بسعادة غامرة:

-سرسورة بتعملي إيه فـ....

لكنه لم يُكمل توقف لوهلة حين لمح دموعها الغزيرة، اتسعت عيناه في قلق ولم يفهم سبب بكائها، رفع بصره إليها ثم تمتم بصوتٍ مبحوح:

-مالك يا حبيبي مين زعلك فوق؟

هو يحبها...أجل يحبها بصدق، بل اقتحمت قلبه دون استئذان، مهما حاول الابتعاد عنها، كان يجد نفسه ينجذب إليها كالمغناطيس، وكأنها تملك قوة سحرية تشده إليها بلا مقاومة، لم ينطق كلمة "حبيبي" عبثًا بل لأنها خرجت من أعمق نقطة في قلبه، فهو لم يُخاطب أنثى بها من قبل بمثل تلك الكلمات ولم يظن يومًا أنه سيفعل.

لكنها بعكسه رمقته بنظرة حارقة تنزف استنكارًا، ارتعش فكها وهي تحدق فيه بوجهٍ غلبه الانكماش والخذلان، أي وجهٍ هذا؟! ماكر...خبيث...صدقت حورية في كل كلمة قالتها عنه، واكتشفت كم كانت ساذجة حين سلمت قلبها له، وسمحت لعشقها أن يستوطنه بلا حذر.

-ابعد عني.

قالتها بحدة جعلت صوته يختنق قبل أن ينطق بشيء، حاولت دفعه عن طريقها لكنه تشبث بكفها، وأمسكها بقوة وهو يسأل بحيرة:

-في إيه؟ بتعيطي ليه؟

دفعت يده بعنف وكأنها تنزع عن قلبها قيدًا، وأكملت هبوط الدرج دون أن تلتفت إلى نداءاته المتكررة، هرعت منال على صوت صراخه محاولةً إيقافها، لكنها رفضت وبقيت تخطو مسرعةً نحو مدخل البناية، غير آبهة بمَن يلحقها أو يحاول استرضاءها، في تلك اللحظة ظهرت شمس ومليكة يركضان خلفهما، توقفا بذهول عند المدخل عندما سمعا شجارهما الحاد.

-قولتلك اقفي في إيه؟ انتي هنا بتعملي إيه؟ وجيتي ازاي من غير ما تقوليلي؟

ضحكت بين دموعها ضحكة كسيرة ممزوجة بسخرية جارحة، ثم أجابت بصوتٍ مُرتعش ولكنه مشحون بالتمرد:

-اه صح بعمل إيه هنا؟! معلش أصل أنا غبية وفكرت إن خطيبي متفق مع اخوه الكبير على أني اجي اشوف الشقة اللي هنتجوز فيها مع مهندس الديكور، بس مكنتش اعرف أن خطيبي طلع مغصوب على الجوازة واهله هما اللي بيحركوه وهو مايعرفش حاجة عشان كان رافضني.

شهقت مليكة بصدمة ووضعت يدها على فمها، بينما أغمضت شمس عينيها بقوة وارتجفت أنفاسها؛ أدركت أن سيرا قد سمعت كل شيء، أما يزن فرمقها بذهول، تفحص ملامحها من أعلى رأسها حتى قدميها ثم تساءل بحدة نافرة:

-انتي بتقولي إيه؟ شقة أيه؟ و....

لكنها لم تتركه يكمل دفعت يده بعيدًا عنها وهي تشهق بقهر:

-ابقى اسأل اخوك الكبير، وبعدين مش عيب يا يزن تبقى في السن ده وأهلك يغصبوك على جوازة، مش عارف تقولهم لا، ده البنات ليهم رأي عنك....

صرخ باسمها بتحذير لكنها لم تتراجع:

-سيـــــــرا.

توقفت فجأة وواجهته مباشرةً بعينين دامعتين وقلبٍ مهزوم ثم نطقت بمرارة:

-إيه غلطت؟ مش ده اللي حصل؟ مش انت مغصوب عليا ومكنتش حابب تخطبني؟ تقدر تنكر وتقول عكس كده.

لم يستطع يزن أن يتفوه بكلمةٍ واحدة أمام هجومها الناري، كان يشعر وكأنه عالقٌ في كابوسٍ لا يريد أن ينتهي، لا يكاد يصدق أنها تقف في منزله وتواجهه بهذا القدر من الألم والخذلان، ظل صمته طويلًا، ثقيلًا، قاتلًا...صمته الذي خذلها أكثر مما خذلها أي شيء آخر، صمته الذي أكد لها دون أن يدري صحة كل كلمة سمعتها من زوجة أخيه.

ارتجفت شفتاها بمرارة ثم اندفعت نحو باب المنزل، تهرب من كل شيء حتى من نفسها، لكنها توقفت فجأة حين وجدت سليم وزيدان يقفان عند المدخل يتابعان الشجار منذ بدايته، لم تعرهما أي اهتمام بل دفعت زيدان جانبًا بكتفها وهي تمر أسفل نظراته المستنكرة ثم اندفعت خارجة...تركض بكل ما أوتيت من قوة تركض لتبتعد عن وجعٍ أثقل صدرها.

صوت سليم لحقها كسيفٍ يشق الصمت:

-مين قالها إن يزن كان مغصوب على خطوبته منها؟

تجمدت مليكة في مكانها، ابتلعت ريقها بخوفٍ ظاهر ثم انساقت غريزيًا نحو زيدان، تتشبث بكفه كمَن يبحث عن طوق نجاة، لم تكن تتوقع أن يخرج خطأها للعلن بهذه السرعة، كل ما حدث كان مجرد ثرثرةً عابرة بينها وبين شمس، لم تظن أبدًا أن سيرا كانت موجودة لتسمع!

لكن تكرار سليم لسؤاله بنبرةٍ أكثر حدة جعل وجهها يشحب وهي تهمس متلعثمة:

-أنا...أنا اللي قولت...

التفتت إليها العيون جميعها دفعة واحدة، نظرات يزن كانت الأشد قسوة؛ عينان سوداوان تضجان بالغضب ووجهه متشنج حتى كاد يفقد ملامحه، أما سليم فقد أرخى حاجبيه باستنكار، فتح فمه ليقذفها بوابلٍ من عبارات اللوم، لكن سبقت دموعها كلماتها وتشبثت بزيدان أكثر وهي تبكي بحرقة:

-كنت بتكلم أنا وشمس فوق وبنحسبها مشيت وباين سمعت كلامي والله ما كنت اقصد اعمل كده...

رفعت بصرها إلى زيدان ترجوه بنظرات دامعة:

-والله يا زيدان مكنتش اقصد، أنا اتكلمت مع شمس بعفوية ومانعرفش إنها كانت لسه موجودة.

التفتت نحو شمس تستنجد بشهادتها، فتقدمت الأخيرة بخطوة وقالت بهدوءٍ نادر وسط هذا الانفجار العاطفي:

-فعلاً يا سليم احنا كنا مانعرفش انها موجودة، مجرد صدفة.

احتواها زيدان بحنو واضح يربت فوق ذراعها محاولًا تهدئتها، ثم قال بعد تفكيرٍ قصير ونبرة حازمة:

-خلاص يا يزن، أنا هاخد مليكة ونروح نكلمها ماتقلقش الموضوع هيتحل.

أومأت مليكة برأسها موافقة متشبثةً بخيط أملٍ رفيع، لكن صوت سليم اخترق الموقف بصرامةٍ حادة:

-محدش يتدخل، هو يحل مشاكله بمعرفته...

استدار يزن نحوه ببطء وعيناه تلمعان بذهولٍ ممزوجٍ بالسخرية قبل أن ينفجر بصوتٍ جهوري:

-دلوقتي حل مشاكلك بنفسك صح؟ بتتدخل ليه من الاول في حياتي؟ بتتعداني ليه يا سليم؟ شايفني عيل صغير قدامك بتتحكم فيه؟ بتاخد قرارت بالنيابة عني ليه أصلاً؟

تقدم زيدان سريعًا تاركًا مليكة خلفه، ووضع كفه على كتف يزن في محاولةٍ لتهدئته:

-اهدى أخوك مش قصده اللي انت بتقوله ده...

لكن يزن أبعده بعنف وصاح بانفعالٍ غاضب:

-محدش يقولى اهدا، أنا مش مجنون قدامك، أنت نفسك يا زيدان مرضتش تسمع كلامه وروحت عملت اللي في دماغك واتجوزت، فمتجيش تعمل دور العاقل عليا.

أدار سليم وجهه نحوه ببرودٍ وشيء من الغرور الذي زاد النار اشتعالًا وقال بنبرةٍ واثقة:

-لو حابب تروح تتجوزها من غير ماتاخد رأيي اعملها مش هزعل ولا همنعك، ليك مطلق الحرية.

حاول يزن أن يتمالك نفسه لكن الغضب كان أقوى منه، فأمسك مزهريةً كبيرة في مدخل البناية، ثم حطمها بعنفٍ تحت أقدامهم جميعًا ليتناثر صدى انكسارها كصرخةٍ من أعماقه، انطلق بعدها بخطواتٍ عنيفة نحو الداخل، لكنه توقف فجأة عند عتبة الباب والتفت إليهم ثم رفع إصبعه في وجوههم جميعًا قائلًا بصوتٍ هادر:

-محدش يتدخل في حياتي تاني فاهمين ولا لا؟! حياتي خط أحمر، ومحدش يروح يكلمها.

ثم اختفى داخل شقة والدته، تاركًا خلفه صمتًا ثقيلًا وأنفاسًا متقطعة ونظراتٍ حائرة تتقاذفها القلوب، تابعته منال بعينين يملؤهما القلق، ثم لحقت به بخطواتٍ حذرة حتى وجدته جالسًا فوق فراشه، يهز ساقيه بعنف كما اعتاد حين يتوتر أو يشعر بالتهديد، جلست إلى جواره بهدوء، ووضعت يدها فوق ساقه علها تهدئ اضطرابه لكنه زجرها بنبرةٍ خشنة:

-لو سمحتي يا ماما سيبيني في حالي.

ابتسمت والدته بهدوءٍ رغم عنفه ثم همست بكلماتٍ جعلته يرفع رأسه باندهاش:

-لسه في أمل طالما مارمتش الدبلة في وشك.

قطب حاجبيه ثم حدق فيها باستنكارٍ حاد:

-انتي بتقولي إيه؟

لم تتراجع، بل ردت بنفس الهدوء بنبرةٍ تحمل ثقل الخبرة:

-ايوه صدقني والله تقدر تصلح كل حاجة وتراضيها.

ابتسم بسخرية حزينة وردد بنبرة عنيفة:

-اراضي مين؟! دي تقريبًا هزقتني، اقسم بالله ولا هعبرها براحتها تخبط دماغها في الحيط، هي مدتنيش فرصة حتى افهمها ونازلة سلخ فيا.

زفرت والدته بعمق ثم قالت برصانةٍ أمومية:

-حقها يا يزن؟ هي دلوقتي حست أنها كرامتها مهدورة اعذرها...

لكنه قاطعها بصوتٍ غاضب غريبٍ حتى عليه:

-لا مفيش عذر، علت صوتها عليا دي كانت ناقص تشتمني، أنا معملتش معاها إلا كل خير، ماستاهلش أبدًا تعاملني بالشكل ده، المفروض تحترمني.

انغلق قلبه على عنادٍ عنيف؛ شعر بأن كرامته قد اندهست تحت قدميها، وأن تدليله لها جعلها تتمادى وتتعدى حدودها معه، لم يكن ليتحمل أن يقف أمام عائلته بهذا الموقف المهين، بينما سليم ينظر إليه دائمًا كطفلٍ صغير يحتاج من يقوده، حتى أنه يمنح أنس مساحةً أكبر ليقرر في حياته أكثر منه!!

ولم يدرك يزن وسط كل هذا الصخب أن معركته مع الحب قد بدأت للتو...لكن عناده أشعل النار في كل شيء.

                          ****
ارتمت سيرا في أحضان فاطمة، تبكي بحرقةٍ وقهر فيما كانت الأخيرة تربت فوق ظهرها بحنو ممزوج بالحزن على حال صديقتها، ومع ذلك لم يطل صمت فاطمة أمام حيرتها وارتباكها فبادرتها قائلة بقلق:

-طيب والعمل يا سيرا؟ هتعملي إيه؟

رفعت سيرا رأسها ببطء تمسح دموعها المتساقطة على وجنتيها بيد مرتجفة، ثم همست بصوت مبحوح يكاد ينكسر:

-لازم الاقي الشبكة بأي شكل يا فاطمة، لازم الاقيها وارميها في وشه.

ارتبكت فاطمة وضربت كفًا بأخرى وهي تردد بحيرة واضحة:

-انتي فعلاً مش قدامك حل غير كده، بس يا سيرا ازاي؟...ازاي يزن يكون مغصوب؟؟....

قاطعتها سيرا بانفعال وقد بدا الغضب يغلي في صوتها وهي ترد من بين أسنانها: 

-بقولك سمعت مرات اخوه بوداني وهي بتقول كان قالب البيت حريقة عشان مايخطبنيش.

أطرقت فاطمة برأسها ثم أطلقت تنهيدة ضيقة كأنها تبحث عن خيط لفهم الموقف قبل أن تعود لتسألها بفضول:

-طيب ماشي اخوه السبب، بس هو اخوه كان له علاقة بيكي اصلاً ولا تعرفيه!!، الكلام ده لما يكونوا اتنين قرايب بعض يا سيرا، أو بيحبوا بعض قبل كده!!

زفرت سيرا بقوة تحاول أن تستجمع بقايا طاقتها المرهقة ثم قالت بصوت مكسور كأنما انطفأت بداخلها كل جذوة حياة:

-يمكن عشان اخوه شافني قبل كده، لما اهو اخد سلسلتي واتصلحت عنده يا فاطمة، فأخوه شاف إن مناسبة مثلاً...يا نهار أسود!

سكتت لحظة وكأن الخجل كتم أنفاسها قبل أن تهمس باحتمالٍ مرير:

-ليكون أخوه افتكر أننا بينا حاجة عشان كده ضغط عليه!! 

رفعت فاطمة حاجبيها بدهشة ثم تمتمت بحذر:

-طيب انتي ليه مدتيهوش فرصة يتكلم يا سيرا ويوضحلك.

هزت سيرا رأسها بحسم وقد تحولت نبرتها من انكسارٍ إلى إصرارٍ عنيد:

-لا يا فاطمة مفيش كلام ما بينا خلاص، ده مغصوب عليا ومكنش طايق يخطبني، يمكن كان بيعاملني الفترة اللي فاتت دي كده عشان بيجبر بخاطري، أنا لازم الاقي الدهب بأي شكل وافركش كل حاجة، والمرادي لو اخواتي ماتوا  قصادي عمري ما هسمع كلامهم أبدًا.

أنهت سيرا حديثها مع فاطمة ثم قررت العودة إلى منزلها وقد أثقل الحزن قلبها، كان عقلها يدور في دوائر مغلقة يبحث عن خيط يقودها إلى شبكتها المفقودة، حيث بدأت الشكوك تتسلل إلى ذهنها، تهمس لها بأن ما حدث لم يكن فقدانًا عابرًا، بل ربما سرقة متعمدة!

ودعت فاطمة بخطواتٍ مترددة ثم تابعت السير نحو بيتها، متجاهلةً تلك العيون التي كانت تتربص بها من بعيد، أو لعلها رأتها لكنها آثرت التجاهل، فمصيبتها أعظم من أن تسمح لنفسها بالانشغال بـ "فايق" وأمراضه النفسية.

وصلت إلى المبنى وصعدت الدرج بخطوات ثقيلة، وكأن كل درجة تسحب ما تبقى في روحها من طاقة، توقفت فجأة حينما وقعت عيناها على دهب، تقف أمام باب شقتها شاردة، تحدق إلى الأعلى كأنها تبحث عن شيء ضائع بين جدران السقف، استوقفها المشهد فبادرت بسؤالٍ مستنكر:

-واقفة ليه كده يا دهب؟

انتفضت دهب بصدمة كأنها أُخذت على حين غرة، وتنفست بسرعة قبل أن ترد بحنق واضح:

-بسم الله الرحمن الرحيم انتي بتطلعي امتى؟

رفعت سيرا حاجبيها بدهشة وعبست وهي ترد بغيظ مكبوت:

-احترمي نفسك يا دهب هو أنا قدك عشان تكلميني كده!!

قهقهت دهب بخفة ساخرة ثم أردفت وهي ترفع حاجبًا باستهزاء:

-اه اسفة يا خالتو..نسيت إنك خالتو بردو.

قالتها بسخرية لاذعة ثم تركت عينيها تتجولان فوق جسد سيرا الصغير، وبالمقارنة بينهما كانت دهب أطول قامةً وأكثر امتلاءً، لكنها لم تستطع أن تغفل جمال خالتها فوجه سيرا رغم شحوبه بقي محتفظًا بسحره الأخاذ، كان وجهها بيضاويًا متناسقًا، وبشرتها صافية متوجهة بلونٍ حنطيً دافئ، عيناها واسعتان براقتان تتلألآن بلمعة تجمع بين الصفاء والعمق، تحيطهما رموش كثيفة طويلة تزيد من فتنة نظرتها، حاجباها مرسومان بانسياب ودقة، يُضفيان على ملامحها جمالًا طبيعيًا مُرهفًا، أما شفاهها فكانت ممتلئة قليلًا مرسومة بانحناءة رقيقة تمنح ابتسامتها دفئًا خاصًا كأنها تبعث الطمأنينة لمَن يراها.

طالت دهب النظر إليها وتمنت في سرها لو امتلكت نصف ذلك الجمال، لكنها سرعان ما لاحظت آثار البكاء العالقة بعينيها وانتفاخ جفنيها الخفيف، فارتفع صوتها مستفسرًا بفضولٍ حذر:

-انتي كنتي بتعيطي يا خالتو؟ 

رمشت سيرا بأهدابها عدة مرات تمسح بقايا الدموع المتجمعة على رموشها، ثم قالت بهدوءٍ متكلف:

-لا لا مكنتش بعيط...

هزت دهب رأسها إيجابًا وهي تحاول ضبط انفعالاتها ثم ابتسمت ابتسامة مقتضبة وقالت بنبرة حاولت أن تبدو طبيعية:

-اه....اه اعرف طبعًا، يا رب تلاقيها يا خالتو.

كادت سيرا تسألها عن أي أخبار تخص الشبكة، لكن أصوات صراخٍ عالية صدرت من الطابق العلوي، فجذبت انتباهها، عقدت حاجبيها بقلق ثم أسرعت تصعد نحو شقة والدها لتتحقق مما يحدث، بينما دهب كانت تعلم تمامًا سبب الصراخ؛ فالأمر لم يكن سوى قاسم وعبود اللذان كانا يتلقيان عقابًا مؤلمًا من عصا والدتها الثقيلة.

دخلت دهب الشقة ثم أخرجت هاتفها من جيب سروالها الخلفي، وأجرت اتصالًا بصديقتها سمسم، لتسمع صوتها الخامل من الجهة الأخرى:

-يخربيتك قومي من النوم، أنا حاسة أني هتكشف.

ردت سمسم بتثاقل وهي تتنهد:

-تتكشفي ليه يا دهب بس؟ انتي اللي هتكشفي نفسك بتوترك ده!

زمت دهب شفتيها بتوتر وهي تقول بغيظ مكتوم:

-توتر أيه؟ أنا ماعرفتش احط الشبكة في أي مكان فوق كلهم منتشرين في كل حتة ودوروا في كل مكان يا بت حرفيًا وكل ما احط عيني على مكان الاقيهم رايحين يدورا فيه، فمش طبيعي أبدًا اروح أنا واحطها.

تنهدت سمسم محاولة إيجاد حل:

-مش ممكن!! اكيد في مكان مادوروش فيه!!

-لا قالبين الشقة كلها يا سمسم، كلها وحرفيًا محدش نام، كان يوم اسود يوم ما فكرت اخدها واتمنظر بيها في الدروس والمدرسة، اهو لبست في حيطة.

قالت سمسم بعد لحظة تفكير:

-طيب ما تبيعها وشبرقي على نفسك وكأنها اتسرقت وكده كده محدش هيشك فيكي.

شهقت دهب بحدة وهمست بخوف:

-إيه؟؟ يالهووووي لا طبعًا، دي لو أمي عرفت احتمال تعلقني على باب البيت...

ثم أضافت بنبرة مرتجفة:

-أنا كده ولا كده هتعلق بس تعليقة اهون من تعليقة يا ستي، المهم أنا اعمل إيه دلوقتي؟

أجابتها سمسم بلهجة عملية:

-اسكتي خالص لما يبدؤا يزهقوا يا دهب، بعدين حطيها في اوضة خالتك في أي شنطة ولا كده.

تساءلت بخوف وندم على ما فعلته في لحظة تهور:

-طيب افرض قرروا ينزلوا يدوروا تحت عندنا؟

-ما قولتلك هاتيها عندي انتي اللي مارضتيش!

أطلقت دهب زفرة حانقة وهي تقول بشك:

-لا أنا هتصرف واخبيها، يلا سلام عشان اطلعلهم...سلام.
                         ****
أما بالطابق الأعلى...

انتفض عبود وقاسم من شدة الضربات التي انهالت فوق ساقيهما النحيلتين، بينما كانت أبلة عنيفة ترفع العصا وتهوي بها بلا رحمة، تصرخ في وجههما بغضبٍ يزلزل المكان:

-بقى يا كلاب! تسيبوا أختكوا لوحدها في بيت خطيبها وتروحوا تلعبوا كورة؟! هو إنتوا مش عارفين إننا في حالة حرب يا ولاه؟ وفايق متربص بيها ومش سايبها!

صرخ عبود بألمٍ وهو يتلقى ضربة جديدة فوق ذراعه، محاولًا الدفاع عن نفسه بضعف:

-مكناش نعرف يا أبلة والله، كنا زعلانين على ٢٠٠ جنية اللي دافعينها...

وضعت شاهندا اخت سيرا يدها فوق وجهها في يأس وتمتمت بغيظٍ لم تستطع كبته:

-يخربيتك اسكت هتسيب كل حاجة وهتمسك في الـ ٢٠٠ جنية.

لكن حكمت لم تترك لهما فرصة للهرب، إذ اندفعت خلفهما مكملة العاصفة توجه لهما ضربات متتالية وهي تصرخ بعنف:

-٢٠٠ جنية لكل واحد فيكم يا أهبل يا عبيط، ده حجز الملعب كله بـ ٢٠٠ جنية يالا، تعالوا هنا ما هي فلوس سهلة..

وفي تلك الأثناء فتحت سيرا باب الشقة بتوجس، تتلفت حولها بعينيها القلقتين لترى أخواتها الفتيات مجتمعين في الصالة بأطفالهن، يشاهدن المشهد المثير للشفقة بينما الأخوان يتلقيان عقابًا قاسيًا يستحقانه، وقفت سيرا بمنتصف الصالة تسأل باستنكارٍ متوتر:

-هو بابا فين؟

اقتربت فريال وهي تحمل طفلتها الصغيرة بين ذراعيها وقالت بنبرة قلقة:

-بابا ضغطه علي عليه جامد وابيه صافي اخده هو وماما يوديه للدكتور.

لم يمهلها قاسم وعبود وقتًا لالتقاط أنفاسها، إذ اندفعا فجأة نحوها يحتميان خلفها كملاذٍ أخير من غضب حكمت، لكن لسوء حظها جاءت ضربة عصا خاطفة فوق ذراعها، فصرخت بألم حاد وهي تمسك ذراعها بقوة، ارتبكت حكمت للحظة ثم قالت بلهجة آسفة لا تخلو من الغضب:

-معلش يا سيرا جت فيكي...

ثم التفتت من جديد إلى عبود وقاسم وقد عاد الغضب ليتوهج في صوتها:

-خد يالا منك له والله ما أنا سايبكم، هطلع عليكم الـ ٤٠٠ جنية اللي دفعتوها يا كلاب قال ملعب غالي قال...بتلعب في انجلترا يالا...

اندفع الجميع خلف الأخوين في محاولة يائسة لتهدئة ثورة حكمت بينما وقفت سيرا في منتصف الصالة وحيدة، كأنها أصبحت في عالمٍ آخر، نظرت حولها تبحث عن مأمن لكن وجدت نفسها محاصرة بالضوضاء والفوضى، فاجتاحها شعور قاتل بالوحدة كأنها غريبة وسط أهلها.

ضغط الألم على صدرها حتى كاد يخنقها، لكنها تجاهلت وجع ذراعها وانطلقت بخطوات متسارعة نحو غرفتها تنوي البحث مجددًا عن شبكتها المفقودة، دخلت الغرفة وأغلقت الباب خلفها بقوة، ثم بدأت تقلب كل شيء حولها بعنفٍ غير معتاد، وكأنها تُفرغ كل انفعالاتها المكبوتة في حركتها القاسية، كانت الشهقات تتسلل رغماً عنها، عالية ومتقطعة لكنها سرعان ما كانت تكتمها بيدها المرتجفة، وتتمتم بصوت مبحوح يقطر انكسارًا:

-يا رب الاقيها...يا رب لازم اروح واديهاله لو استنيت اكتر من كده هيبقى منظري وحش...الشبكة فين؟

لكن إرهاقها كان قد بلغ أقصاه…فجأة انهارت في منتصف الغرفة تجلس على الأرض الباردة ودموعها تغسل وجنتيها، طال بكاؤها حتى انتفخ جفناها واحمرتا عيناها، ثم غلبها التعب فسقطت فوق الأرضية الصلبة دون وعي، تاركةً روحها التعبة تهرب إلى عالمٍ آخر…

عالم موازٍ مليء بأحلام وردية طالما تمنت أن يكون واقعها شبيهًا بها؛ عالم تتفتح فيه زهور الحب وتتناثر فيه نسمات الوله بينها وبين صاحب أول نبضة إعجابٍ في فؤادها الغض…

                             ****

صباح اليوم التالي...

اجتمع الجميع في صالة شقة منال على مائدة الإفطار، خيم الصمت على المكان فيما تنتظر العيون خروج يزن من غرفته ذلك الذي لم يذق طعم النوم طوال الليل، وأخيرًا انفتح باب الغرفة ببطء وخرج يزن لكن ملامحه لم تكن كما اعتادوها أبدًا؛ وجه متجهم وقسمات مشدودة، وعينان مثقلتان بالإنهاك والغضب معًا.

كان يخطو بخطوات واسعة نحو باب المنزل، يتجاهل وجود الجميع بملامح صارمة لم يألفوها من قبل، فقد كان وجهه دائمًا مرآة للحنان ومرفأً للطمأنينة، توقفت شمس بجانب مقعدها تحدثه بنبرة هادئة بينما كانت عيناه شاردتين:

-مش هتفطر يا يزن؟

لم يلتفت إليها وأجاب بحدة جافة:

-مش عايز زفت...

ثم أغلق الباب خلفه بعنف حتى ارتج الحائط من حوله، فانتفضت مليكة في مكانها من شدة الصدمة بينما هب سليم واقفًا يصرخ بنبرة غاضبة تكاد تتشظى حروفها:

-يزن أنت اتجننت....

لكن شمس أسرعت ووضعت يدها على ذراعه، تجذبه ليجلس وهمست إليه بنبرة راجحة:

-سيبه يا سليم  هو شكله متضايق...

تنهدت منال بحزن ثقيل ثم رفعت رأسها نحو سليم، وقالت بنبرة يختلط فيها العتاب بالحزم:

-أنا هروح النهاردة أنا والبنات لسيرا في بيتها، محتاجة اتكلم معاها.

رفع سليم حاجبيه مستنكرًا ورد بغلظةٍ لم تُعجبها:

-وأنا قولت محدش يتدخل، وسيبه يحل مشاكله بنفسه.

تنفس زيدان بعمق محاولًا كبح انفعاله، ثم قال بلهجة ضيقة مشوبة بالتعاطف مع أخيه الأصغر الذي بدا واضحًا أنه قد تعلق بسيرا بل وأحبها:

-سليم أنت أساسًا السبب في اللي بيحصل ده كله، هو مكنش حابب يخطبها ولما خطبها باين إنه اتعلق بيها، والبنت بردو مصدومة من اللي حصل، يعني حقها تزعل وتضايق، سيب ماما تروح تحل ما بينهم، يمكن الدنيا تهدى ما بينهم شوية.

أبعد سليم الخبز بضيق وأسند ظهره إلى المقعد قائلًا بنبرة جامدة لا تحتمل النقاش:

-براحتكم طالما أنا مابيتسمعليش كلمة، كل واحد نفسه في حاجة يعملها...وطالما أنا السبب في الآخر، فهسكت وهسيبكم تتصرفوا على الله بس ماتعكوهاش فوق دماغه أكتر.

رفعت منال حاجبيها بدهشةٍ وجرحٍ مكتوم ثم قالت بنبرة عتاب رقيقة:

-ليه يا سليم هو انت شايفني عيلة صغيرة عشان أعكها؟ 

لم يكن يقصدها أبدًا لكن كلماتها اخترقت صمته، فأطبق شفتيه عاجزًا عن الرد، وهو يراها تنهض في هدوءٍ مهيب وتتجه إلى غرفتها دون أن تنطق بكلمة أخرى، تابعها بعينيه حتى اختفت خلف الباب شاعرًا بمرارة غريبة تملأ صدره.

عض زيدان على لسانه محاولًا كبح أي جدال قد يفتح بابًا جديدًا للخلاف، ثم قرر مغادرة المنزل متجهًا إلى عمله تاركًا مليكة وحيدة في مواجهة نظرات سليم الجامدة، قبل أن تهرع بدورها نحو غرفة منال لتحتمي بها.

حل صمت ثقيل بالمكان فقطعته شمس وهي تتأمله بنظرة لائمة ثم قالت بصوتٍ منخفض، كأنها تهمس لجدار قلبه:

-مارتحتش انت غير لما تخليهم كلهم يقوموا يمشوا من قدامك.

اقترب منها سليم بجسده حتى أصبح بينهما نفسٌ واحد، ثم همس وهو يلتقط أصابعها بين يديه:

-اممم عشان تفضلي انتي بس اللي معايا.

رفعت شمس يدها تعانق أصابعه في رفق ثم بادلت همسه بهدوءٍ أشد:

-سولي...ماما منال زعلت.

تنهد سليم طويلًا وأسند ظهره إلى المقعد، لكنه لم يترك يدها وكأنه يستمد منها شيئًا من الثبات، ثم قال بنبرة رخيمة خافتة:

-أنا مزعلتهاش في حاجة يا شمس، وعشان خاطرها سيبتها تعمل اللي هي عايزاه وانتي عارفة كويس أنا مبحبش حد يراجعني في كلمة.

أطرقت شمس قليلًا ثم رفعت عينيها نحوه وقالت بصوتٍ عاقل رزين:

-بس هي من حقها بردو يا سليم  تتدخل بالطريقة اللي تعجبها وفي الوقت اللي تشوفه مناسب في الآخر دي حياة ابنها.

هز سليم كتفيه بهدوءٍ وبسمة خفيفة ترتسم على شفتيه وهو يعقب بنبرة بريئة:

-وأنا قولت حاجة يا شمس!

ضيقت عينيها بتفكير ثم همست متسائلة وكأنها تفتش عن سره:

-سليم انت مبسوط باللي بيحصل؟!

اكتفى بابتسامة واسعة تبعها ضحكة رجولية عميقة، ضحكة لم تسمعها شمس إلا نادرًا... مثلاً في الأعياد أو حين يداعب ابنتهما قمر، ولو كان الموقف غير هذا، لكانت قبلته دون تردد لكنها اكتفت بالتحديق فيه بدهشة:

-بجد انت مبسوط؟ أنا عمري ما شوفت يزن بالشكل ده؟

أومأ سليم برأسه إيجابًا ثم اعترف بصوتٍ خافتٍ يقطر مرارة:

-اه، مبسوط فيه بشكل واتمنى إنها تربيه على اللي عمله فينا سنين.

رمقته شمس بنظرة عتاب زائف وقالت بنبرة دافئة:

-قلبك جامد يا سولي.

ابتسم وهو يقترب منها أكثر وهمس بصدقٍ لا يحتمل التأويل:

-معاهم بس...معاكي انتي لا.
                           ****

-أنا كنت مترددة أجيلك واقولك اللي حصل، بس بعد اللي سمعته كان لازم اجيلك واقولك إن الشبكة ضاعت فخد خاتم الخطوبة وأول ما الاقيها هجبهالك...

كانت سيرا تقف أمام المرآة تحدق في انعكاسها بعينين متعبتين ووجه شاحب، تتحدث مع نفسها للمرة الألف وكأنها تخاطب يزن وجهًا لوجه، لم تكن تجرؤ على مواجهته بعد، لكن الكلمات تخنق صدرها وتبحث عن مخرج.

توقفت فجأة زافرةً بقوة وكأنها تطرد اختناقها، قبل أن تغمض عينيها محاولة ترتيب كلماتها من جديد، فتحت عينيها وحدقت في ملامحها المنعكسة في المرآة ثم همست بصوت مبحوح متردد:

-ازيك يا يزن.. لا ازيك إيه؟! المفروض ماقولش ازيك...

ضغطت على شفتيها بقهر كأنها تعاقب نفسها على ترددها، ثم اعتدلت في وقفتها حدقت في عينيها الحادتين المنعكستين في الزجاج وكأنها تراه هو، وقالت بنبرة باردة جافة تخفي ما بداخلها من خوفٍ وانكسار:

-اتفضل خاتمك اهو واللي بينا انتهى وبالمناسبة شبكتك ضاعت ولما الاقيها هجبهالك لغاية عندك، وعشان تضمن حقك همضيلك على وصولات أمانة...

توقفت مجددًا تُطرق رأسها بقلق وهي تتمتم لنفسها بتوجسٍ حقيقي:

-هو ممكن لما يعرف أن الشبكة ضاعت وامضيله على الوصولات يسجني...

صمتت قليلًا ثم أغلقت عينيها كمَن يطرد فكرة مرعبة قبل أن تتجذر:

-لا لا يزن مش كده، مستحيل يعملها..

وبينما كانت تغرق في صراعها مع مخاوفها، شعرت بيد صغيرة تجذب طرف سروالها الأسود الفضفاض، نظرت للأسفل فوجدت الصغيرة "توتة" تتعلق بها بعناد، بينما سيرا قد ارتدت سروالًا أسود فضفاضًا، وفوقه سترة سوداء خالية من أي رسومات، مع حجاب أسود قاتم، كأنها تُرسل للعالم رسالة صامتة عن كم السواد القابع في قلبها الآن، همست بضيق وهي ترفع حاجبيها نحو الصغيرة:

-عايزة أيه يا توتة؟

قالت الطفلة بخجلٍ طفولي لا يخلو من الإلحاح:

-خمسة جنية يا خالتو.

رمقتها سيرا بنفاد صبر وقالت بحدةٍ خافتة من بين أسنانها:

-مش وقته، ماتقطعيش حبل أفكاري يا بنتي.

همست الصغيرة من بين أسنانها:

-خالتو يا رخمة.

لم ترضَ توتة بالرفض وبدلًا من أن تبتعد، قررت أن تثأر لكرامتها الصغيرة، زحفت بخفة نحو حقيبة سيرا الموضوعة فوق الفراش، فتحتها بخبثٍ طفولي ثم جذبت محفظتها الصغيرة وركضت مسرعة نحو إحدى الزوايا لتخبئها، ظنًا منها أنها بذلك تعاقب خالتها التي تذمرت عليها قبل قليل.

أما سيرا فلم تنتبه لتصرفات توتة فقد كانت غارقة في أفكارها، أسيرة تلك اللحظة التي تعلم يقينًا أنها آتية لا محالة، حاولت مرارًا صياغة جملة واحدة تليق بمواجهة يزن، لكنها فشلت في كل مرة، فقررت أن تغامر بكل شيء وتواجهه بما حدث مهما كان الثمن.

الأمر بسيط...هكذا همست لنفسها محاولة طمأنة قلبها المرتجف، رغم أنها تعلم أن لا شيء بسيط في ما هي مقدمة عليه.

التقطت حقيبتها من فوق الفراش، علقتها فوق ذراعها وخرجت من الغرفة بخطوات مترددة لكنها حاسمة، متجاهلةً نظرات شقيقاتها المتسائلة عن وجهتها، حمدت الله في سرها أنها لم تصادف أبلة حكمت في طريقها، فطاقتها اليوم لا تحتمل أي حوار جانبي ولا محاضرات في الأخلاق أو الترتيب.

وقفت أمام باب العمارة أوقفت سيارة أجرة صغيرة بدلًا من استقلال الحافلة المعتادة، فهي لا تملك اليوم صبرًا للازدحام ولا لوجوه الغرباء، جلست في المقعد الخلفي تسند حقيبتها إلى صدرها، تحدق عبر النافذة وكأنها ترى شريط حياتها بأيامه السابقة مع يزن يمر أمامها ببطء فيما تتجه السيارة نحو معرض يزن...حيث ستخبره  بكلمتها الأخيرة.

                               ****

دخل فاضل الغرفة التي يرقد فيها منير داخل المشفى، أصوات الأجهزة الطبية تتداخل مع وقع خطواته الثقيلة، فقد كان منير جالسًا على السرير، نصف مستند إلى الوسائد وجهه متورم، مغطى بكدمات أرجوانية وذراعه اليمنى في جبيرة بينما يضغط بيده الأخرى على ضلوعه المتكسرة.

اقترب فاضل بخطوات هادئة تخفف من وقع القلق في قلبه، ثم تبسم بخفوت وهو يحاول كسر حدة الموقف:

-عامل إيه يا منير دلوقتي؟

أطلق منير أنينًا قصيرًا وهو يشير إلى جسده المرهق قائلاً بنبرة مختنقة بالألم:

-زي ما أنت شايف مفيش فيا حتة سليمة بسبب جوز بنتك المجنون.

لم يستطع فاضل كتم ضحكة قصيرة خرجت رغمًا عنه ثم جلس على طرف السرير واقترب أكثر هامسًا له كمَن يفضح سرًا صغيرًا:

-بقى يا منير اقولك تروح تخليه يحس بالغيرة وتضايقه، تقوله طلقها وأنا احق بيها منك.

ارتسمت على وجه منير ابتسامة مريرة ممزوجة بالقهر والندم بينما لمعت عينيه بخيبةٍ واضحة:

-حبيت اجود يا عم فاضل، مكنتش اعرف إن جواه بلطجي نفسه يطلع، ده ماسابش حاجة إلا وكسرها فوق دماغي ولما حاولت اهرب عند يسر القادر نزل ورايا وحالف ليموتني.

ضرب فاضل كفه على جبينه بأسف واضح:

-يا بني ما انت مش طبيعي في حد يقول الكلام ده، أنا قولتلك حركه من بعيد وخليه يحس بالغيرة عليها عشان يتحرك وينزل من برجه العالي ويتصالحوا.

حاول منير أن يعتدل في جلسته فبادره فاضل بمساعدته حتى استقام قليلًا وهو يضغط على أضلاعه بحذر ثم تنهد قائلاً بنبرة محملة بالندم:

-يا عم فاضل...نوح مفيش حاجة كانت هتحركه إلا الكلام اللي قولته، وبعدين انت قولتلي خرجه عن شعوره، بس باين إن أنا بالغت شوية.

هز فاضل رأسه ساخرًا وقد شبك ذراعيه على صدره:

-شوية بس...قول شويتين...ده كسرك وجاب للبت انهيار عصبي فوق البيعة.

ارتبكت ملامح منير قليلًا شاعرًا بالذنب لسوء اختيارات حديثه مع نوح الذي تعامل بكل همجية، ثم تساءل بصوت ضعيف وقلق:

-هي يسر عاملة إيه؟ وجوزها المجنون ده فين؟ 

تنهد فاضل بعمق وألقى نظرة جانبية نحو النافذة وكأنه يسترجع ما حدث:

-الحمد لله بقت كويسة، والتاني قاعد برة المستشفى ماتحركش من وقتها مستني يشوفها بس على مين والله لأربيه، المهم احنا على نفس خطتنا....

اتسعت عينا منير فجأة وارتجف جسده دون وعي وهو يتذكر تفاصيل ما حدث مع نوح، وكأن صدى الضربات لا يزال يسكن عظامه:

-لا لا شوف حد غيري، أنا لا يمكن اتعامل معاه تاني، ده مختل بقولك لو مكنش صاحبه وقفه عني كان موتني.

وضع فاضل كفه على كتف منير بحزمٍ وهدوء وملامحه جادة لكنها مطمئنة:

-اخدنا منه تعهد مايجيش جنبك ماتقلقش ميبقاش قلبك طري كده، جمد قلبك وأنا هقولك تتعامل معاه ازاي من بعيد لبعيد.

ظل منير صامتًا للحظات وكأن داخله صوتان يتصارعان؛ أحدهما يصرخ بالرفض، والآخر يخشى غضب فاضل زوج خالته الذي لم يجرؤ يومًا على مخالفته بسبب أفضاله عليه وعلى والديه، وأخيرًا تنهد بعمق واستسلم دون اقتناع:

-حاضر يا عم فاضل، بس واقسم بالله لو فكر يعمل فيا حاجة أنا هسجنه بجد المرادي.

                             *****

كانت سيرا شاردةً تمامًا تحدق عبر نافذة السيارة كأنها تهرب بعينيها من كل شيء حولها، منفصلة عن صخب العالم الخارجي حتى بدا الأمر وكأنها خارج الزمن، استوقف السائق السيارة في المكان الذي طلبت منه التوقف عنده، ثم التفت إليها يناديها أكثر من مرة:

-آنسة...يا آنسة.

لكنها لم تجب حتى بدأ يشك في أنها فارقت الحياة لولا أن عينيها كانتا مفتوحتين تحدقان في اللاشيء، ضاق صدره من صمتها المربك فأطلق جملةً ساخرة بنبرة مستفزة:

-يا آنسة...اقسم بالله ما طبيعي أبدًا، انتي شاربة حاجة على الصبح؟!

اخترق صوته شرودها كقذيفةٍ نارية فاتسعت عيناها بصدمة، ثم أشارت إلى نفسها بحدة وهي تقول بانفعال:

-انت بتكلمني أنا كده؟

تجهم السائق وحدثها بنبرة خشنة حادة:

-اه بكلمك انتي!، هو أنا كل ما كلم حد يقولي انت بتكلمني أنا كده؟! انت مش عارف أنا ابن إيه؟؟ في أيه على الصبح؟! إيه اليوم اللي مش باينله ملامح من أوله.

حدجته سيرا بنظرة صارمة وأشارت بإصبعها نحوه محذرة:

-بقولك إيه احترم نفسك عشان....

قاطعها بعنف وهو يلتفت بجسده كاملًا نحوها من المقعد الأمامي صائحًا بصوتٍ مستفز، ونبرة تعج بالاستفزاز:

-عشان إيه يا حلوة؟ هتعمليلي إيه؟! ما تفوقي يا بت على الصبح! أنا خارج من بيتي ومش شايف قدامي ومستعد اطلع عفاريتي عليكي.

اتسعت عيناها من هول وقاحته ثم فتحت حقيبتها بسرعة تبحث عن محفظتها وهي تقول بغيظٍ مكتوم:

-أنا مش هرد على واحد مش محترم زيك، حسابك كام؟....

لكنها توقفت فجأة يدها غاصت في الحقيبة الفارغة...لا محفظة ولا حتى ورقة نقدية واحدة، تجمدت أنفاسها في صدرها وهي تسترجع ما حدث ولكنها لم تعرف أن الصغيرة "توتة" أخذت محفظتها خلسة انتقامًا منها!

رفعت سيرا وجهها إلى السائق وملامحها مذهولة، بينما وجدته هو الآخر يتشنج غضبًا ويكيل لها شتائم لم تسمعها بوضوح من وقع الصدمة.

-انت بتشتمني؟!

سألته بانفعالٍ مكبوت لكنه صرخ يضرب كفه فوق المقعد المجاور له بعنف:

-انزلي يلا يا بت وهاتي حسابي، عشان واقسم بالله أنا ثانية واحدة ومش هحافظ على لساني معاكي اكتر من كده.

ابتلعت سيرا الإهانة وهي تحاول كبح دموعها، ثم لمحت معرض يزن على مقربة منها، لكن كرامتها أبت أن تستعين به، تماسكت بكل قوتها وقالت بنبرة متعالية تحاول فيها تثبيت جذور الخوف في أرضٍ صلبة:

-نسيت الفلوس...ارجع وديني مكان ما جبتني وأنا هحسابك هناك.

كأنها أطلقت تعويذةً ألهبت غضبه فاستدار نحوها يصرخ وعيناه تلمعان بالشر:

-نعم!!! عليا النعمة أنا قولت بتشربي حاجة، انزلي يا بت...انزليلي.

هبط من السيارة بخطوات سريعة يفتح الباب الخلفي بعنف، صائحًا بصوتٍ جهوري جذب انتباه المارة:

-انزلي انتي واحدة مسطولة ولا إيه؟

تجمدت سيرا في مكانها والدموع على وشك الانهمار، فالحرج اشتعل في قلبها كالنار، خاصةً وأن أصحاب المشاريع المجاورة لمعرض يزن بدأوا يتجمعون حول السيارة، يا للفضيحة! لكنها تماسكت وأصرت بعنادٍ متشبث وهي تحاول غلق الباب مجددًا:

-احترم نفسك أنا قولتلك ارجع بيا وأنا هديك حسابك.

لكن محاولتها أوقعتها في فخ الألم؛ إذ أغلق الباب فجأة على كفها الأيمن بقوة فصرخت بألمٍ حاد، وانفرط عقد ثباتها وبكت بانفعالٍ موجع، لم تشعر بنفسها إلا وهي تندفع من السيارة لتنهال على السائق بحقيبتها ضربًا، بينما المارة يحاولون التفريق بينهما في فوضى عارمة.

-أنا هوريك المسطولة دي هتعمل فيك إيه؟

أما داخل معرض يزن...

كان يجلس في مكتبه وحده، وقد أسدل الستائر الثقيلة ليمنع أعين العاملين من رؤية حالته البائسة، عادة يزن حين يختنق يلجأ إلى العزلة، وقد أشعل التلفاز على تلاوة سورة البقرة بصوت الشيخ محمد صديق المنشاوي، تلك العادة التي ورثها عن والده رحمه الله حين قال له ذات يوم:

-القرآن ده دوا لكل هم وكرب ممكن تحس بيه، لو غمضت عينك وركزت مع كلام ربنا يا بني، هتحس إنك سافرت وبعدت عن مشاكل وهموم الدنيا في رحلة لا يمكن تعوضها بكنوز الدنيا.

أغمض يزن عينيه وأسند ظهره إلى مقعده، وغاص في الطمأنينة كغريقٍ يجد شاطئ النجاة بعد طول صراع، لا يريد أن يرى أحدًا لا زبائن ولا موظفين، فقط سكينة خالصة بينه وبين صوته الداخلي.

لم يعرف كم مر من الوقت لكنه كان يردد خواتيم سورة البقرة بخشوع حين قطع الطرق المتواصل على الباب لحظة صفائهه، أذن بالدخول دون اكتراث ليطل صابر أحد عماله وملامحه مرتبكة وصوته متلعثم:

-معلش يا يزن باشا....بس خطيبتك بتتخانق برة والخناقة كبيرة والناس مش عارفة تفضها.

في لحظة واحدة سقط هاتفه من يده والريموت بجانبه، وانطلق يركض خارج المكتب دون تفكير، حتى خرج إلى الشارع، فقد كان المشهد فوضويًا؛ سيرا تبكي بحرقة والسائق يصرخ بشتائم فجة، يحاول رفع يده ليصفعها لكنه اندفع نحوه كالعاصفة صارخًا بصوتٍ غاضب:

-انت بتعمل إيه يا راجل يا مجنون انت...

كل لحظات الصفاء التي عاشها قبل دقائق تبخرت، وشياطينه أفاقت دفعة واحدة، انقض على السائق ينهال عليه بالضرب والسباب حتى انقلب الموقف إلى عراك عنيف، والمارة يحاولون الفصل بينهما بلا جدوى، والسائق في لحظة غضب أخرج سكينًا صغيرة من جيبه يلوح به مهددًا.

لكن صوت صفارات الشرطة التي وصلت فجأة شل حركته، لتقبض العساكر على السائق ويزن معًا وسط دهشة الجميع، وقبل أن تهدأ الفوضى أشار أحد المارة نحو سيرا وهو يلهث:

-البت دي يا بيه سبب المشكلة.

فأمر الضابط بصرامة:

-هاتوها معاهم.

ارتجفت سيرا وعيناها تتسعان من الخوف، بينما الألم يشتعل في كفها المتورم، حاول يزن الاعتراض لكن الضابط قاطعه بنبرة حادة:

-هي مش فسحة يا حبيبي اركبوا وانتوا ساكتين.

تعثرت خطوات سيرا وهي تتجه نحو سيارة الشرطة، أنفاسها تتسارع ولم تعد قادرة على الكلام، ساعدها يزن على الصعود وجلس إلى جوارها، يمسك يدها المتورمة بصدمة صامتة، بينما بدأت هي تشعر بدوارٍ حاد وجفافٍ شديد في حلقها، ولم تسمع تهديده الخافت للسائق وهو يتمتم بأسنان مطبقة:

-وديني ما أنا سايبك.

التفت إليها فجأة حين ألقت رأسها المثقل على كتفه وهمست بصوتٍ متحشرج متقطع:

-يزن...مش.... عارفة....اتنفس.

انطلقت سيارة الشرطة في طريقها بينما وقف صابر وعمال المعرض في صدمة مروعة، قبل أن يمسك صابر هاتفه ويرفعه إلى أذنه بسرعة:

-الو يا زيدان باشا...يزن باشا اتاخد في البوكس دلوقتي هو وخطيبته.

وفي زاوية أخرى كان عامل آخر يتصل بـ سليم، الذي رد بصوتٍ جامد كالصخر:

سليم باشا...الحق اخوك اتاخد في البوكس وهو خطيبته
كادت انفعالات يزن تقوده إلى حافة الجنون وهو يراها فاقدة الوعي شاحبة الوجه، حتى أنفاسها باتت متقطعة ضعيفة، وكأن الحياة توشك أن تغادر جسدها في أي لحظة، ابتلع ريقه بعسر وهو يحدق حوله بقلق صوب العساكر الذين اكتفوا بتوجيه نظرات باردة نحوه، كأنما يشاهدون شخصًا يهذي أو فقد صوابه، وفي المقابل كانت نظرات السائق ملتهبة بالكراهية، يختلط داخلها الغضب بالنفور، جالدًا ذاته ندمًا على افتعاله ذلك الشجار منذ البداية، حاقدًا على زوجته التي دعت عليه صباح اليوم بغلٍ وحقد، مرددة عبارتها التي طعنت روحه وأشعلت نيران غضبه:

-"ربنا ينتقم منك يا بعيد…روح إلهي تلبس في مصيبة!"

أما يزن فزفر زفرة حارة كأنما تخرج معها جمرة من صدره، ثم التفت بحدة إلى أحد العساكر صارخًا:

-ده طريق سفر، مش طريق للقسم...واللي مرمية جنبي دي إيه مش هتودها مستشفى؟!

رمقه العسكري بنظرة باردة وأجاب بلهجة لا تخلو من اللا مبالاة:

-قولت للباشا عليها قالي سيبها لما تفوق لوحدها.

تصلبت ملامح يزن واشتعلت أعصابه حتى فقد السيطرة على نفسه، فهب يضرب بقبضته على حديد السيارة بجنون وهو يزمجر:

-يعني إيه تفوق لوحدها هي بتمثل؟ واقسم بالله لو حصلها حاجة ما أنا سايبكم.

ابتسم العسكري ابتسامة ساخرة تحمل في طياتها تهديدًا مبطنًا وهو يقول بخفوت:

-اقعد ساكت عشان عصام باشا خلقه ضيق لو سمعك بتزعق تاني عشان خطيبتك هيرميك في السجن وأهلك مش هيعرفولك طريق.

لم يتحمل يزن تلك النبرة الاستفزازية، فخرجت منه ألفاظ نابية وسباب حاد موجه للعسكري والضابط معًا، مُهددًا ورافضًا تمامًا فكرة عدم نقل سيرا إلى أي مشفى، وخاصةً عندما تذكر الضابط وهو يزيد في سخريته:

-"مفيش يا ولاد أي مستشفى خاص في طريقنا ننقل السنيورة فيها عشان روميو خايف عليها؟!!"

انتفضت السيارة فجأة وتوقفت بعنف، فالتفت يزن مستغربًا ليجد أحد العساكر يصرخ مهددًا:

-وصلنا يا حلو، والله للتظبط جوه.

هبط الضابط عصام من السيارة متجهًا نحو قسم الشرطة، لكن ما إن اقترب حتى تفاجأ بحالة استنفار داخلية؛ عدد من الضباط يتحركون في اضطراب واضح بعضهم يعرفهم، والبعض الآخر أعلى رتبة وسنًا، لم يكد يستوعب ما يجري حتى اقترب منه ضابط آخر يهمس بغيظ:

-انت مجنون يا عصام قابض على اخو زيدان الشعراوي ومركبه البوكس كمان؟

قطب عصام حاجبيه بعدم فهم ورد بصوت خافت مرتبك:

-مين زيدان الشعراوي؟ وبعدين هو أنا كل ما اقبض على حد هسأله انت مين وابن مين؟

اقترب الضابط أكثر وخفض صوته متوعدًا:

-زيدان الشعراوي ده أرخم ظابط في الوزارة، نابه أزرق ومعندوش تفاهم، واديك شايف يا حلو هو قالب القسم ازاي؟ 

في الجهة الأخرى كان زيدان قد وصل برفقة سليم، فتقدما بخطوات حازمة نحو سيارة الشرطة، أشار زيدان للعساكر بالتراجع فورًا فامتثلوا في لحظة، بينما تحرك السائق معهم في صمت متوتر، وما إن أطل زيدان برأسه داخل السيارة حتى وقع بصره على سيرا مغمضة العينين شاحبة الوجه، رأسها مستند إلى كتف يزن، عقد حاجبيه بحدة والتفت نحو يزن يسأله بلهجة متوترة:

-هي مالها يا يزن؟

أجابه يزن من بين أسنانه بغيظ مكبوت:

-لا أبدًا كانت مرهقة ونامت شوية، أصحيهالك؟

زفر زيدان بعنف والتفت إلى سليم هامسًا:

-شوفته بيقل مني ازاي وسط زمايلي، لما اهزقه دلوقتي، هيبقى حلو؟

ربت سليم على كتف أخيه مهدئًا إياه ثم التفت إلى يزن قائلاً:

-انزل ونزل خطيبتك، وانت يا زيدان شوفلنا دكتور؟ ولا....

لكن يزن قاطعه بنبرة حادة ارتج لها المكان:

-ودوها مستشفى يا عم، ده مفيهاش أي نفس، ودوها مستشفى وأنا هفضل هنا معاكم.

هنا صرخ السائق من الخلف وهو مكبل بين يدي أحد العساكر:

-لا أنا ماليش دعوة البت دي هيتحقق معاها زيي، هي أصلاً اللي غلطانة.

تدفقت الدماء في عروق يزن كالنار المشتعلة، فدفع سيرا التي لا حول لها ولا قوة نحو سليم بعنف وهو يهتف:

-خدها وامشي ومالكش دعوة باللي هيحصل.

ثم انقض على السائق كوحش هائج، يكيل له اللكمات في وجهه وجسده بعنف شديد حتى تدخل الجميع لفصله عنه، واستطاع زيدان إمساك ذراع يزن وأبعده بقوة، زاجرًا إياه بعنف:

-اقف مكانك، خلاص هي مش سويقه، في أيه مالك؟

ابتعد يزن وهو يلهث بشدة يعيد خصلات شعره الثائرة للخلف بأنامل مرتجفة، ثم التفت نحو سليم وهو يصرخ:

-ما توديها يا سليم المستشفى، هي ملهاش أصلاً دعوة أنا اللي متخانق معاه.

لكن السائق المدمى فمه صرخ متحديًا:

-لا هي.

فالتفت إليه يزن وعيناه تقدحان شررًا:

-قولتلك أنا...ولما اقولك أنا اللي اتخانقت معاك يبقى أنا.

كان كل ما يدور في رأسه في تلك اللحظة إبعاد سيرا عن هذا المكان بأي شكل من الأشكال؛ فمجرد صعودها لسيارة الشرطة أفقدها وعيها، فما بالك لو أفاقت لتجد نفسها متهمة داخل قسم الشرطة!

رفع عينيه باحثًا عن سليم فلم يجده في الجموع المزدحمة، ليلمح سيارته وهي تبتعد حاملةً سيرا بعيدًا عن الفوضى فزفر بارتياح عميق، ولم يكد يلتقط أنفاسه حتى شعر بيد زيدان تجذبه بقوة إلى الداخل وهو يهمس بحزم:

-هندخل متفتحش بوقك بكلمة، عشان أعرف الم الدور أنت عاكك الدنيا على الآخر، مش ناقص عك زيادة، فاهم ولا لا؟

رمق يزن الضابط الذي تعنت معه في البداية ومنع سيرا من الذهاب إلى المستشفى، فاقترب من زيدان وهمس بغيظ:

-زيدان، الظابط اللي هناك ده عاند معايا وكل ما اقوله إنك اخويا، يقولي مايهمنيش...

ثم أضاف هامسًا مفتعلًا سبة قذرة ادعى أن الضابط تفوه بها في حق زيدان، فارتفع حاجبا زيدان بدهشة وتحولت نظراته إلى شراسة متوعدة، تاركًا يزن يتذوق لذة الانتصار وهو يشعل نيرانًا داخل أخيه تكفي لإحراق كل شيء.

                               **** 

بعد مرور ساعة كاملة كان سليم يجلس أمام الغرفة التي ترقد فيها سيرا بعد أن استفاقت واستعادت جزء من وعيها، لكن ملامح الضعف ما زالت بادية على وجهها ولم تستعد وعيها الكامل بعد، فالطبيب المعالج طلب إجراء بعض التحاليل للاطمئنان عليها، غير أنه لم يخبر سليم بأي تفاصيل عن حالتها الصحية بعد، الأمر الذي زاد من قلقه.

وفي تلك الأثناء كان يزن يشق طريقه بين ممرات المشفى بخطوات سريعة كأن قلبه يسبقه قبل قدميه، حتى كاد أن يصطدم بالمارة من شدة استعجاله، وعلى الرغم من الموقف المتوتر، لم يستطع زيدان كبح سخريته المعتادة فقال بلهجة لا تخلو من الغيظ:

-براحة يا روميو المستشفى هتقع بينا.

لم يتوقف يزن عن التحرك في الممرات، واكتفى بأن رماه بنظرة خاطفة حادة قبل أن يبتسم ابتسامة استفزازية قائلاً:

-أنا مش عارف حقيقي إيه اللي حاشرك في حياتي، جاي ورايا ليه؟ أنت مش مهتمك خلصت، خلاص خلصنا.

كلمات يزن كانت كشرارة أشعلت غضب زيدان، الذي لم يحتج سوى لحظة واحدة ليقف في وجهه مستهجنًا:

-هو إيه اللي مهمتك خلصت؟ أنت عبيط؟ هو أنا شغال عندك؟ تصدق يالا انت خسارة فيك المعروف، المفروض كنت أسيبك تلبس في قضية ومصيبة انت وهي.

توقف يزن فجأة واضعًا يده في جيب سرواله، ثم نظر إليه بعناد كعادته وقال بتحد:

-مالها هي؟ بتجيب سيرتها ليه طيب؟ مشكلتك معايا أنا، مشكلتك مش معاها عشان تجيبها في جملة مفيدة.

تدخل صوت ثالث فجأة وما كان سوى صوت سليم الذي ظهر من حيث لا يدري أحد:

-في إيه؟ إيه؟ انتوا اتجننتوا؟! بتتخانقوا!!

ابتعد زيدان خطوة إلى الخلف وأشار إلى يزن غاضبًا وهو يخاطب سليم بنبرة مشتعلة:

-اتفضل اتدخل انت يا كبير وشوف عمايل أخوك الصغير، وفهمه إنه يحترمني.

زم يزن شفتيه كاتمًا غيظه، لكنه لم يستطع أن يمنع نفسه من الرد بعنف مماثل:

-أنا محترمك كويس، بس أنت....

قاطعه زيدان باستنكار ساخر:

-انت إيه؟

ثم التفت إلى سليم وكأن لسانه يشكو من كثرة ما تحمله:

-من وقت ما خرجنا يا سليم، وهو نازل تنبيهات فيا كأني عيل صغير، اوعى تقول لحد إنها غلطانة....شوية هي مش غلطانة ده ابن الـ مش عارف إيه هو اللي نرفزها وقفل الباب على ايدها، شوية يقولي لو شوفتها متحسسهاش إنها السبب في حاجة، متضايقهاش...ماتعملش ماتسويش..في إيه؟ قرفتني يا عم انت ومحور الكون بتاعتك امال لو مش هتفركشوا.

رفع سليم حاجبيه بدهشة مصحوبة بعتاب ساخر:

-الملافظ سعد يا زيدان، في إيه هدي أعصابك ده يزن يعني وعارفينه على إيه؟!

-والله؟!

أطلق يزن ضحكة قصيرة ساخرة ثم أشار إليهما بحنق مكتوم:

-انتوا الاتنين لسه حسابي معاكم، إيه اللي عرفكم إن أنا اتقبض عليا، ده أنا لقيتكم قبلي في القسم؟ انتوا بتراقبوني؟ 

زفر سليم بخفة متظاهرًا باللامبالاة:

-مش لدرجادي يا يزن، مش هسيب حياتي ومشاغلي وزيدان هيسيب مجرمينه ونقعد نراقبك يا حبيبي، احنا عرفنا بالصدفة، وبعدين أنا مش هنبهك تاني تاخد بالك من كلامك معايا، ما هو مش هتيجي انت على أخر الزمن عشان تقولي حسابك معايا بعدين، فوق أنا أخوك الكبير.

ساد صمت قصير ثم أطرق يزن رأسه للحظة قبل أن يرفعها مبتسمًا ابتسامة نصف ساخرة قائلاً:

-أسف يا أبية.

ثم تخطاه بخطوات سريعة وكأنه يريد الهروب من ثقل الموقف، قبل أن يسأل بلهجة يغلبها القلق:

-سيرا أخبارها إيه؟!

ألقى سليم نظرة عابرة على زيدان، ثم ربت على كتفه وهو يجذبه خلفه، قائلاً بصوت منخفض يخالطه توتر:

-لسه ماعرفش محدش مفهمني حاجة.

اقترب يزن من باب الغرفة ببطء، ثم طرقه طرقًا خفيفًا، جاءه صوت أنثوي غريب يأذن له بالدخول، ففتح الباب بحذر لكن ما أثار تحفظه أن سليم وزيدان دخلا خلفه مباشرة وكأنهما يُصران على إغاظته، كانا يعلمان تمامًا كم يحتاج للانفراد بها، لكن…لا حياة لمَن تُنادي!

دخلوا ثلاثتهم إلى غرفة سيرا فوجدوها جالسة فوق الفراش، يدها مثبتة بالمحاليل وملامحها شاحبة كظل يتلاشى في الضوء، كان التعب مرسومًا على وجهها، وأنفاسها متقطعة كأنها تخوض صراعًا مريرًا مع الهواء نفسه، اقتربت منها الممرضة بخطوات هادئة ثم مالت نحوها لتساعدها على الجلوس وقالت برفقٍ مفعمٍ بالحنان:

-تشربي؟

فتحت الممرضة زجاجة الماء وقدمتها لسيرا، وفي تلك اللحظة انفتح باب الغرفة ودخل الطبيب الشاب، ملامحه المتوترة تنبئ بحداثة تخرجه، وعلى وجهه ابتسامة واسعة أثارت ريبتهم جميعًا أكثر مما بعثت الطمأنينة في نفوسهم.

لم يتحمل يزن الصمت،ط فالتفت نحو الطبيب بنبرة جامدة وهو يشير بيده إلى سيرا:

-هي عندها إيه يا دكتور؟

ابتسم الطبيب بثقة زائدة وقال بنبرة خفيفة كأنه يزف خبرًا سعيدًا:

-متقلقوش يا جماعة، هي بتدلع بس عشان حامل.

ساد صمت ثقيل في الغرفة كأن الهواء نفسه تجمد في مكانه، لم يصدر أي رد فعل من أحد سوى سيرا التي شهقت بدهشة حادة، ثم بصقت الماء دفعة واحدة من فمها كأن الكلمة نفسها صفعتها قبل أن تصل إلى أذنيها كاملة.

انطلقت ضحكات يزن فجأة عالية حد القسوة، كأنها رصاصات مباغتة مزقت صمت الغرفة، ارتفع صوته حتى احمر وجهه، وانحنى بجسده قليلًا وهو يسعل بخفة بين قهقهاته المتلاحقة، وكأن الخبر الذي سمعه للتو لم يكن فضيحة بل نكتة عابرة!

ثبت الطبيب في مكانه مذهولًا من ردة الفعل الغريبة، بينما تبادلت عينا سليم وزيدان نظرات مشحونة بالحيرة والشك معًا، كان المشهد غريبًا حقًا؛ كيف يمكن لشخص يسمع أن خطيبته حامل، ثم يضحك بهذا الشكل؟!

لكن يزن شعر بثقل تلك النظرات المرتابة، وكأنه محور محاكمة غير معلنة، فلوح بيديه في الهواء بتهكم وهو يلهث من الضحك:

-وربنا أنا لسه مامسكت ايدها حتى!

الجملة التي ألقاها بتلك الخفة لم تُضحك أحدًا… على العكس فجرت داخل سيرا بركانًا مكتومًا، فشعرت بحرارة الدم تتدفق إلى وجنتيها حتى كاد وجهها يحترق، لم يكن هذا ما توقعته منه، كانت تريد منه أن يقف صلبًا إلى جوارها، أن يُظهر رجولته في موقفٍ مربك كهذا…لا أن يسخر منها أمام الجميع وكأنها مادة للتهكم!

لم تكن تعرف أن يزن في مثل هذه المواقف يتأرجح دومًا بين طرفي نقيض...إما أن ينفجر غضبًا حتى العنف، أو يختار السخرية الصاخبة ليتخفى خلفها، تلك "الوسطية" التي كان سليم دائمًا يحدثه عنها لم يفقه عنها شيء!

جمعت شتات نفسها بصعوبة وحاولت أن ترد على الطبيب، لكن صوتها خرج مبحوحًا ممزوجًا بالذهول والغضب:

-حامل إيه حضرتك؟! أنا لسه مخطوبة وبفكر افركش! تيجي تقولي حامل!!

ارتبك الطبيب بشدة وبدت عليه علامات الحيرة وهو يرفع حاجبيه متسائلًا ببلاهة كادت تشعل الموقف أكثر:

-أنتي أنسة؟

رمقته سيرا بعينين تقدحان شررًا، وردت بقوة رغم ضعف صوتها:

-تخيل! تخيل أنا أنسة وبكر رشيد!!

ابتلع الطبيب ريقه وهو يقلب أوراق التحاليل بين يديه في توتر شديد، العرق يتصبب من جبينه بينما الحقيقة أمامه صادمة...التحاليل تؤكد وجود حمل! بدأ قلبه يخفق بسرعة وهو يبحث يائسًا عن تفسير منطقي لما يحدث.

لكن فجأة أنقذته الممرضة وهي تنتزع الأوراق من يده وتتفحصها بعجلة قبل أن ترفع رأسها قائلة:

-اه دي تحاليل مدام فدوة اللي كانت هنا قبل ما الانسة سيرا تيجي الاوضة بعشر دقايق وجوزها طلب تغيير الاوضة عشان التكييف مش عاجبه...

ساد صمت ثقيل حتى أن أنفاس الجميع صارت مسموعة بوضوح، والتفتت الممرضة نحوهم بخجل وهي تضيف بصوت خافت:

-معلش يا بشوات على الغلطة دي أصل دكتور علي لسه طبيب امتياز، واللي كشف على الانسة سيرا ومدام فدوة هو دكتور منذر، بس تحاليل الانسة سيرا لسه مطلعتش أول ما تطلع هنبلغ بيها الدكتور منذر.

رفع سليم يده ببطء كأنه يقطع خيط التوتر، وأومأ برأسه في تفهم بينما كان الطبيب الشاب قد غرق وجهه في العرق وهو يهمس:

-معلش دي غلطة الممرضة اللي بلغتني أن مدام فدوة هنا في الاوضة دي، اتمنى الموقف السخيف ده مايوصلش ادارة المستشفى، عن إذنكم.

وغادر مسرعًا كمن يفر من ساحة معركة لم يكن مستعدًا لخوضها، لكن سيرا لم تغفر له.فقد ظلت تحدق في الباب المغلق بملامح ممتقعة، قبل أن تنفجر بغيظ مكتوم:

-الله!! هو ماعتذرليش ليه؟! هو اللي كانت حامل أنا ولا أنتوا؟!

رفع زيدان حاجبيه بدهشة مكتومة ثم انحنى نحو يزن هامسًا بنبرة مملوءة بالسخرية:

-هدي خطيبتك، أنا حاسس أنها هتضرب الدكتور زي السواق.

رمقه يزن بنظرة حادة توعدية حتى كاد الموقف يتطور لمشادة جديدة، لولا يد سليم التي امتدت فجذبت زيدان للخلف بلطف قائلاً بنبرة هادئة تُناقض احتقان الموقف:

-شوف خطيبتك يا يزن واتطمن عليها قبل ما نمشي، الف سلامة يا سيرا.

ارتبكت سيرا لهيبة صوته وملامحه المتماسكة، فخفضت بصرها وهمست بخجل:

-الله يسلمك يا أبيه.

توقف سليم للحظة شعر فيها بالامتعاض من ذلك اللقب إذ لم يكن يستسيغه، لكنه تجاهل الأمر وخرج يتبعه زيدان الذي لم يلتفت نحوها، والسبب عناده مع يزن، لمحت سيرا ذلك فتساءلت بدهشة بعد أن أُغلق الباب:

-هو زيدان أخوك متضايق مني في حاجة؟

اقترب يزن وجذب أقرب مقعد، جالسًا بجانبها وهو يقول بصوت منخفض مطمئن:

-لا هو متضايق عشان اللي حصلنا بس مش أكتر.

أمالت رأسها ببراءة وهي تقول مستغربة:

-مقاليش الف سلامة زي أبيه سليم؟!

أما يزن ود أن ينفجر ضاحكًا على "أبية سليم" حقًا ذلك اللقب إن تكرر على مسامع أخيه الأكبر سيقتلهما، لكنه سرعان ما اعتدل وهو يميل نحوها قائلًا بهدوء:

-لا مالوش حقك، هبقى اعاتبه فيها، المهم انتي عاملة إيه؟

لم تُجبه بل اتجهت لتعبر عن عتابها كطفلة خُذلت من حبيبها:

-هو ينفع تقعد تضحك كده عليا لما الدكتور قال أنا حامل؟! ده موقف رجولي المفروض تاخده مع اللي كانت خطيبتك؟!

تعمدت أن تؤكد فكرة انفصالها الوشيك بطريقة مبطنة لكن رده فاجأها، حيث تغير وجهه للحظة وتلاشت ابتسامته، وحلت محلها ملامح جادة باردة، قبل أن يرد بصوت منخفض:

-والمفروض كنت أعمل إيه؟!

نظرت إليه بعينين مغرورقتين بشيء من العتاب والحزن:

-كنت تزعقله تفوقه من الجنان اللي بيقوله، شوفت لما زعقتله اتحرج.

ارتفع طرف فمه بابتسامة ساخرة وهو يجيب:

-طيب ما أنا زعقت وضربت اللي اتعرض للي كانت خطيبتي، واتقبض عليا!

ابتلعت ريقها بصعوبة وشعرت بوخز من الإهانة، فتمتمت بصوت منخفض:

-متبقاش تتدخل عشاني في حاجة، معلش عرضتك للمواقف....

لكن صوته قاطعها بحدة لا تحتملها ملامحه الهادئة:

-مش كل المواقف يا سيرا اللي رد فعلي هيكون واحد فيها.

ثم اقترب أكثر حتى صار صوته همسًا عميقًا يلامس عقلها:

-ده واحد وغلط غلطة مكنتش مقصودة فطبيعي اضحك، لما تلاقيني بثور وبضربه وبشك فيكي ابقى اتكلمي، لكن لما لقيت حد بيقل أدبه عليكي وبيتعرضلك أنا ماسكتش.

ارتجفت شفتاها ولم تجد ما تقول سوى:

-أنا....أنا...

لكن كلمتها اختنقت في صدرها، فاقترب أكثر وعيناه تلمعان بخليط من الحدة والعاطفة، وصوته يقطر جدية حين قال:

-انتي إيه؟ عايزة إيه؟

لم تحتمل نظراته فخفضت رأسها بارتباك، ثم أزالت خاتم الخطوبة بصعوبة من إصبعها المتورم، وقدمته له بخجل مرتبك:

-اتفضل أنا بعفيك من أي خطوبة تكون مغصوب عليها، ولما ان شاء الله....

كررت جملتها بلا وعي:

-لما ان شاء الله...

رفع حاجبيه ببطء بينما ابتسم ابتسامة مائلة للدهشة وهو يجيب:

-لما تلاقي الشبكة هتديهالي، صح؟!

ارتبكت سيرا بشدة وتجمدت في مكانها، حتى وجدت ابتسامته الهادئة تطمئنها، فقال بلطف وهو يقترب منها:

-بابكي اتصل وعرفني، مش محتاجة توتري ده كله!

أخفضت رأسها بخجل وهي تهمس:

-هي ماتسرقتش، بس هي ضايعة ولما الاقيها صدقني هجبهالك على طول.

مد يده برفق وأمسك كفها المتورم وأعاد الخاتم إليها، قائلاً بهدوء يحمل دفئًا:

-يعني اتخانقت عشانك، وماشي بتخانق مع دبان وشي عشانك بردو، وناقص انط في النيل عشان تغيري فكرتك عني وانتي دماغك حجر مابيفهمش.

همست بارتباك:

-مابفهمش إيه؟

كانت تنتظر كلمة…كلمة واحدة فقط، كلمة لو خرجت من بين شفتيه لغيرت كل شيء في قلبها، كلمة تُنهي شكوكها وتُسكت ضجيج عقلها، وتطفئ نار القلق المشتعلة في صدرها، لكنه وكعادته تهرب.

تنفس بعمق وأسند ظهره إلى المقعد، وعيناه تتهربان منها وكأنهما تبحثان عن مهرب، قبل أن يقول بصوت هادئٍ يحمل جدية حازمة:

-أني راجل ومفيش حد ربنا خلقه يقدر يغصبني على حاجة أنا مش مقتنع بيها، وكلامك وإهانتك ليا في بيت أهلي أنا مش قادر أنساها، بس هضطر اعديهالك عشان كنتي مصدومة وقتها.

كان وقع كلماته كصفعةٍ مباغتة، فشعرت كأن الهواء قد ثقل فجأة، رمشت بعينيها مرتين محاولةً حبس دموعٍ متأهبة، ثم خرج صوتها متحشرجًا ممزوجًا بخذلانٍ عميق:

-مش دي الأجابة اللي كنت مستنيها يا يزن! مش دي أبدًا.

ظنت أن صراحته ستخفف من ثقل قلبها، لكن ابتسامته التي تعلقت على شفتيه بهدوءٍ مستفزّ أوحت لها أنه متعمد أن يُربكها أكثر، أن يتركها في دوامة لا مخرج منها، فاقترب قليلًا حيث كانت نبرته هادئة لدرجة أشعلت غضبها أكثر:

-كل حاجة بتيجي في وقتها، ماتستعجليش على حاجة مش أوانها...

رفعت حاجبيها بدهشة مصحوبة بانفعالٍ مكتوم، وكأنها لم تعد تحتمل أسلوبه المراوغ:

-وأوانها هيجي امتى؟

أجابها بصوت منخفض متزن، وكأن كلماته محفورة داخله منذ زمن:

-لما أحس إنه هيكون الوقت المناسب واللحظة المناسبة، لما تتقال لازم عمرك ما تنسيها ولا أنا اقدر انساها، عشان وقتها افتكر أن اخترت صح واخترت اتمسك بيه..

تراجعت بجسدها محاولةً السيطرة على اضطراب أنفاسها، قبل أن تهمس بصوت متقطع بين الغضب والخذلان:

-يعني انت عايز تفهمني بعلاقتك دي كلها مع البنات، مفيش واحدة حركت مشاعرك وقررت وقتها إنك تعترف بحبك ليها؟!

كان الاستهجان واضحًا في نبرتها وفي نظراتها التي تقاوم دموعها، لكنه لم يتأثر بحدتها بل ضحك بخفة...ضحكة أربكتها أكثر مما أغضبتها، قبل أن يقول ببساطة أربكت قلبها:

-لا طبيعي كان فيه، مش هنكر كان في بنات اتعرفت عليهم وحركوا مشاعري بس مفيش... مجرد وقت بسيط وبعرف أنه مجرد فقعة إعجاب وخلاص بتنتهي.

ازدادت حيرتها واتسعت عيناها بدهشة كأنها تبحث عن مخرجٍ من متاهة مشاعره:

-وأنا هفضل امتى في الحيرة دي؟ هفضل كأني في امتحان؟ أنال إعجاب حضرتك ولا لا؟!

أطرق برأسه قليلًا ثم رفع عينيه نحوها بصوت منخفض، وكأن اعترافه ينزلق من بين أنفاسه رغمًا عنه:

-انتي نلتي إعجابي يا سيرا ومن زمان من اللحظة اللي شوفتك فيها، انتي عديتي المرحلة دي من زمان.

ارتعشت شفتاها لكنها حاولت أن تخفي ارتباكها خلف جملةٍ ساخرة ممزوجة بالمرارة:

-طيب والله كويس، امتى هجيب عشرة من عشرة؟

زفر ضحكة قصيرة نفدت منها صبره ثم مال برأسه للخلف وهو يهمهم:

-اقسم بالله أنا ما عارف أنا مسحول معاكي السحلة دي ليه؟ ما أنا كنت كويس وبخيري، هتطيري برج من دماغي...بصي احنا مش هتناقش في حاجة وانتي مقفلة دماغك كده، تمام؟

لكنها لم تتراجع بل انحنت للأمام قليلًا، وعيناها تتقدان بعنادٍ موجع:

-لا مش تمام...مش تمام يا يزن.

قالتها بلهجةٍ حادة ارتجفت في نهايتها، كأن روحها المثقلة قد سقطت بين حروفها، وقبل أن يزن جاء صوت طرقات الباب، ودخل الطبيب منذر بابتسامة هادئة، حاملًا بين يديه نتيجة التحاليل، فاقترب بخطوات واثقة، ثم قال مطمئنًا:

-الحمد لله… تحاليك كويسة ومفيش أي حاجة خطيرة، بس عندك انيميا محتاجة متابعة وأدوية هكتبهالك.

كتب روشتة العلاج وغادر بخطوات هادئ ، تاركًا الغرفة مثقلة بما لم يُقال بعد، لكن الموقف انكسر مجددًا بدخول سليم وزيدان معًا، نهض يزن ببطء وهو يقول بنبرة عملية يخفي خلفها اضطرابه الداخلي:

-خلاص روحوا انتوا، لما سيرا تكون كويسة همشي اوصلها وبعد كده هروح على البيت عشان عايزك يا سليم.

لكنها فاجأته بنبرة حاسمة وهي تلتفت نحو سليم دون أن تنظر في عيني يزن:

-لا...أنا همشي دلوقتي مع أبيه سليم، يلا يا أبيه.

ثم نهضت فجأة من على الفراش وكادت أن تفقد توازنها، لولا أن يد يزن أمسكتها بسرعة فأسندها برفق دون تفكير، لكنها دفعته عنها بقسوة وغيظ، وكأن لمسته صارت عبئًا على جرحها، ثم حملت حقيبتها بعصبية وهي تقول بصرامة:

-يلا يا أبيه أنا جاهزة.

وكعادة سليم كان وجهه جامد الملامح يخلو من أي تعبير، فاكتفى بإيماءة صامتة وهو يفسح لها الطريق لتمر قبله، ظل يزن واقفًا مكانه ينظر إليها مذهولًا، لا يدري كيف انقلب الموقف بهذه السرعة، حتى استفزته ضحكات زيدان المكتومة، واقترب الأخير وهمس بشماتةٍ واضحة:

-أحسن..أحسن..يا رب تربيك.

تشنجت يد يزن حول مقبض الكرسي بجواره، وارتسمت في عينيه لمعة غضب، لكنه كتم كل شيء في صدره، وعيناه لا تزال معلقة بباب الغرفة الذي أُغلق خلف سيرا.

                            ****

مرت الدقائق ثقيلة وهي تجلس في المقعد الأمامي للسيارة، ويدها تعبث بقلادتها الصغيرة التي تتدلى من عنقها دون وعي، بينما كان سليم يقود في صمتٍ مهيب.

لم تستطع أن تستشف شيئًا من ملامحه؛ وجهه كان كلوحٍ صخري جامد لا يفضح شعورًا ولا يبوح بسر، حدقت فيه للحظة ثم سارعت بخفض نظرها خوفًا أن يقرأ اضطرابها، لكن قلبها لم يتحمل هذا الكم من الأسئلة المكبوتة، فتشجعت أخيرًا وسألته بنبرة هادئة رغم ارتجاف أنفاسها:

-هو أنت ليه غصبت على يزن يخطبني؟

انحرف بعينيه نحوها لثوانٍ يرمقها بنظرة ثابتة كأنه يزن كلماتها في عقله قبل أن يجيب، ثم أعاد نظره للطريق وهو يقول بنبرة هادئة لكنها لا تخلو من صلابة:

-أنا مغصبتش عليه، ويزن مش عيل صغير عشان اغصبه!

ارتعشت أصابعها قليلًا فوق حقيبتها الصغيرة، ثم تنهدت بضيق وهي تحاول أن تختار كلماتها بعناية، كأنها تخشى أن يفضح صوتها ضعفها:

-طيب ليه طلبت منه يخطبني؟!

لم يلتفت إليها هذه المرة بل تابع قيادته بنفس هدوئه الغامض، وصوته يخرج واثقًا وبسيطًا لدرجة أدهشتها:

-عشان حسيت أنه في مشاعر من ناحيته ليكي، ويزن أخويا مكنش هياخد خطوة زي دي في حياته، إلا لما نديله دفعة مننا وخدي بالك يزن لو الموضوع مش عاجبه وعلى هواه مكنش هيوافق أبدًا، وفي النهاية هو جه خطبك بمزاجه ومحدش غصبه.

شعرت سيرا أن صدرها يعلو ويهبط بسرعة، وكأن كلماته فتحت في عقلها أبوابًا جديدة من الحيرة، هل كان يزن حقًا راغبًا في هذه الخطبة؟ أم أنه استسلم فقط لدفع أخيه؟ بدا حديث سليم صادقًا،
خاليًا من أي محاولةٍ للمجاملة أو التلاعب ومع ذلك قلبها لم يهدأ.

هزت رأسها بصمت كأنها تحاول أن تبتلع كل شيء دفعةً واحدة، واكتفت بالتحديق في الطريق الممتد أمامها بشرودٍ غارق، لكن صوت سليم قطع شرودها فجأة بسؤالٍ مباغت:

-وانتي مسألتهوش أسئلتك دي؟ ماتكلمتوش في اللي مضايقك؟!

ابتلعت ريقها ببطء ثم أطلقت زفيرًا مرهقًا وهي تجيب بصوتٍ خافتٍ مضطرب أقرب إلى الاعتراف:

-لا اتكلمنا بس معرفتش اوصل لقرار وهو دايمًا غامض ومش صريح 

لم يكن صوتها يوحي سوى بجزءٍ يسير مما يعتمل داخلها؛ ذلك الصراع الخفي بين حب متردد، وخوفٍ من الفقد، وكرامةٍ تأبى الانكسار، التفت إليها سليم بنظرةٍ عابرة حملت شيئًا من التفهم، ثم هز رأسه قبل أن يقول بنبرة رزينة عميقة:

-بصي هي شخصية يزن كده، اقصد تبان كدة اللي أول مرة يتعامل معاه، كل اللي هقدر اقولهولك ماتتعوديش تاخدي قرار وانتي متلخبطة أو متوترة، وزي ما عقلك بيتدخل في قرارتك لازم عواطفك يكون ليها جزء من قرارتك دي، دايمًا وازني أمورك وانتي في الآخر هتوصلي لبر الأمان.

كانت كلماته تشبه موجةً هادئة تغمر عقلها، لكنها في الوقت نفسه أشعلت شعورًا دفينًا بالخذلان؛ فهي لا تريد نصائح بل تريد وضوحًا، تريد يقينًا يغلق كل هذه الأبواب المفتوحة في قلبها:

-النصيحة دي متخصش قرارك بيزن أو لا، دي نصيحة لأي قرار وفي أي وقت، مش دايمًا قرارتنا لازم تكون نابعة من عقلنا، أحيانًا المشاعر ممكن تدلنا للطريق الصح.

رمقته سيرا بعينين متسعتين وكأنها تلتقط كل كلمة لتحفرها في ذاكرتها، ثم مالت برأسها قليلًا وهمست بخجلٍ ممزوج بالامتنان:

-شكرًا يا أبيه...هو انت متضايق من كلمة أبيه دي؟ أنا بعاملك زي ما بعامل أبيه صافي جوز أبلة حكمت أختي.

كانت تدرك أنها تبرر الأمر بطريقة طفولية، لكنها لم تجد تعبيرًا أفضل عن ارتباكها أمامه، نظر إليها سليم للحظات ثم حدق في ملامحها المرهقة وكأنه يحاول أن يقرأ شيئًا أعمق من الكلمات، ثم ابتسم تلك الابتسامة الخفيفة النادرة مرةً أخرى وأجاب بهدوء:

-لا عادي قولي اللي يريحك، طالما ده اللي هيريحك.
                               ***

قاد نوح سيارته بسرعة جنونية، تكاد عجلاتها تلتهم الإسفلت التهامًا حتى وصل أمام منزل الحاج فاضل قبل أن تصل سيارة الأخير التي كانت تُقل يسر ومنير ومعهما والدة كل منهما.

توقف نوح فجأة أمام البوابة الكبيرة للمنزل، ركن سيارته على عجل وكأن قلبه هو الذي يركض لا إطارات السيارة، ثم بدأ يتجول أمام باب المنزل جيئة وذهابًا، لا يكاد يهدأ ولا يستقر له حال، تلاحقت أنفاسه ونظراته ازدادت توترًا، بينما يداه تضمان معصميه خلف ظهره في محاولة يائسة لكبح جماح انفعاله.

لم يطل انتظاره حتى وصلت سيارة الحاج فاضل، توقفت ببطء أمام البوابة الحديدية الثقيلة، فرأى يسر جالسة في المقعد الأمامي بجوار والدها، وعيناها شاحبتان، بينما جلس منير في المقعد الخلفي متكئًا إلى النافذة بجانب والدته ووالدة يسر.

زفر نوح بعمق وهو يحاول السيطرة على ارتجاف صدره، وتابع بعينيه خطوات يسر وهي تترجل من السيارة ببطء، يمسكها والدها من ذراعها برفق ليساعدها على الدخول، خفق قلبه بعنف، عندما تجاهلته تمامًا وكأنه لم يكن موجودًا، فقد كان ذلك التجاهل طعنة صامتة في كبريائه لكنه كبح صرخته في صدره.

أما منير فقد تأخر في النزول، وتباطأت خطواته عمدًا وهو يتخذ من والدته ووالدة يسر حاجزًا بشريًا يحتمي بهما من أي هجوم قد يشنه نوح، فقد كان يخشى نظراته أكثر مما يخشى كلماته، حتى إنه لم يرفع عينيه عن الأرض، وما إن خطا داخل بوابة المنزل وابتعد عن مرمى بصر نوح حتى تمتم بصوت خافت لا يكاد يُسمع:

-أنا هفضل في الرعب ده كتير، ربنا يسامحك يا جوز خالتي.

وفي تلك اللحظة همست والدة منير لأختها، وهي تلتفت بقلق إلى الخلف حيث يقف نوح كالبركان:

-يعني هو فاضل كان لازم يحكم دماغه ويجيب منير عندكم، ما كنا نروح بيتنا وخلاص!

أجابتها والدة يسر بهدوء متنهد:

-انتي عارفة فاضل، هو حاسس بالذنب من ناحية منير فحابب يراضيه، وبعدين هو بيحبه، روحي انتي لو عايزة.

شهقت والدة منير بعدم رضا:

-لا أروح وأسيب ابني لوحده، وجوز بنتك المجنون ده يعمل فيه كده تاني.

في تلك الأثناء كانت والدة يسر تتباطأ عمدًا في صعود الدرج، تحاول الإصغاء لأي كلمة قد تُقال في الأسفل بين نوح وزوجها، قلبها معلق بين خوف وفضول.

وأسفل الدرج تقدم الحاج فاضل ليغلق بوابة منزله في وجه ذلك التوتر العالق في الهواء، لكن يد نوح القوية اعترضت طريقه وقبض على طرف البوابة وأوقفها، ثم قال بنبرة مبحوحة تختلط فيها الغضب بالحنق:

-أنا احترمت نفسي وسكت وفضلت ساكت ومدخلتش اتطمنت على مراتي ولا شوفتها، وسكت لما ركبت الـ **** ده معاكم العربية...  

توقف قليلًا وكأن الكلمات تخنقه، ثم أكمل وهو يشير بيده في غضب مكتوم:

-بس معلش يعني طالع عندكم ليه؟!

رفع الحاج فاضل حاجبيه بدهشة واشتدت قبضته على البوابة وكأنه يحاول كبح نفسه هو الآخر:

-هو انت هتتحكم فيا وفي اللي بيدخل بيتي؟

أخذ نوح نفسًا عميقًا محاولًا السيطرة على صوته قبل أن يجيبه بنبرة هادئة ظاهرًا، لكنها مشبعة بالغليان:

-لا طبعًا، بس معلش يعني أنا من حقي أسأل طالما مراتي قاعدة معاك فوق!

أجابه فاضل بقسوة.وعروقه بارزة في عنقه:

-لا مش من حقك، عشان أنا أبوها وبعدين اللي طالع فوق ده مش واحد غريب ده ابن خالتها!

اقترب نوح خطوة، وعيناه تقدحان شر مخيف:

-اللي جه قالي طلقها وأنا هتجوزها وأنا أحق بيها منك؟!

-اه هو نفسه! 
قالها فاضل بلا تردد، ثم أردف ساخرًا:

-أعملك إيه يعني؟!

صك نوح أسنانه وكتم أنفاسه، ثم قال بحزم:

-اللي تعمله ماتخليهوش يختلط بمراتي لغاية ما حالتها تتحسن وترجع بيتي تاني.

ضحك فاضل بضحكة قصيرة خالية من أي دفء وقال بحدة:

-والله؟! لسه عندك أمل أرجعهالك!! ده وهي بعيدة عنك انت مدمرها يا نوح، ارجعهالك ازاي؟!

صاح نوح غاضبًا:

-أنا ماعملتش فيها أي حاجة وسايبها تتدلع براحتها خالص، حتى المشروع اللي انت فتحته ليها محبتش اقفل دماغي واقولها لا مفيش شغل، بس بردو سيبتها براحتها....

رد فاضل بصرامة وهو يحدق في عينيه:

-لا انت مسيبتهاش براحتها، أنت مكسوف من نفسك واللي عملته فيها فسكت، تفرق يا نوح!

هتف نوح متوترًا وكأنه يبحث عن مخرج:

-عملت إيه؟ أنا عمري ما هنتها ولا ضربتها ولا قصرت معاها في حاجة وكل اللي بتعوزه وبتطلبه مجاب، كل حاجة!

أجابه فاضل ببرود قاتل:

-بس جرحت كرامتها وكنت بتجرحها كل يوم وانت بتقولها إنك عايز تتجوز تاني ومعيشها في رعب، ده كله أمر من الضرب والشتيمة، عمومًا أنا من رأيي إنها ماتكملش معاك تاني، كان ليكوا عيش يا ابني واتقطع ما بينكم، لما بنتي تفوق من اللي هي وتقدر تتكلم، هخليك تيجي وتقعد معاها وتسمع بنفسك إنها مش عايزاك!

ساد صمت ثقيل بينهما لكن نوح كسره بصوت متهدج يخالطه الغيظ:

-أيوه بردو زفت ده بيعمل إيه فوق؟

أشاح فاضل بيده وكأنه يريد إنهاء النقاش:

-جبته عشان ناخد بالنا منه مع يسر ويقعد يومين، أصل مكسوف من أهله بعد اللي عملته فيه، عن إذنك ورايا حاجات مهمة لازم اعملها.

ثم أغلق فاضل البوابة بعنف تاركًا نوح واقفًا خارجها، يغلي صدره بالغضب والقهر وعيناه تتبعان نافذة الطابق العلوي حيث يعرف أن يسر موجودة… ومعها منير!!!

                             ****
مر أسبوع كامل لم يحدث فيه شيء يُذكر سوى زيارة عائلة يزن إلى سيرا في منزلها، وقد كانت زيارة مثمرة وناجحة، إذ نجحت إلى حد كبير في تأجيل قرار سيرا بالانفصال، فكان لذلك الماكر دور بارز في ذلك، حيث أرسل لها باقةً من الزهور بألوانها المفضلة الوردي والأبيض، لكنها لم تكن مرفقة سوى ببطاقة صغيرة تحمل إمضاءه فقط!

ابتسمت سيرا وهي تتأمل باقة الزهور التي استلمتها بالأمس، وراحت تلمس بتلاتها بخفةٍ وانسياب، لقد اكتفى بتلك الباقة ولم يُجرِ اتصالًا واحدًا بها حتى رسائله التي كانت تملأ هاتفها اختفت تمامًا؛ في حين أبدت جميع شقيقاتها إعجابهن بجمال الباقة ومدى ذوقه ورُقيه في اختياره.

فكان واحد مثله كما كن يصفنه من الطبيعي أن يثور غضبًا لفقدان الشبكة، لكنه تصرف بعكس المتوقع؛ تعامل بكل رُقي ولم يُبدِ أي غضب بل خفف الأمر على والدها بكل لباقة.

لكن سيرا وسط تلك الأجواء الهادئة، كانت الأفكار تتلاطم في رأسها كأمواجٍ هائجة؛ تخيلت للحظة أنها لو أخبرتهم بما علمت به، وأنه مغصوب على تلك الخطبة، حتمًا لكانوا دافعوا عنه بشراسة واتهموها هي بالتذمر والجحود على النعمة!!

وبينما كانت تتأمل الزهور الغافية أمامها، تذكرت حديث والدته معها ومحاولاتها الدائمة لتجميل صورة ابنها في عينيها والجملة التي علقت في ذهنها ولم تغادر أذنها:

"يزن ابني أحن واحد في عيالي كلهم، هو الوحيد فيهم اللي بيعرف يظهر حنيته، ده غير أنه جدع وشهم، متحمل مسؤولية نفسه من لما كان في اولى كلية، مكنش بياخد جنية من حد ولما حتى فتح مشروعه واخوه ساعده سد كل الفلوس دي بعدين، بصي يا بنتي ابني وأنا أدرى واحدة بيه، قراره من راسه وخطوبته منك لو مش على هواه مكنش هيرضى بيها من الأساس"

حتى مليكة لم ترحل بلا أثر؛ قبل مغادرتهم اقتربت منها بابتسامة خفيفة وقدمت لها اعتذارًا بسيطًا قائلة:

"أنا أسفة، بس انتي لما سمعتي كلامي فهمتيه غلط، بالعكس احنا مبسوطين بالتغيير وإنه بيحبك، على فكرة هو مابيستحملش عليكي كلمة، تصرفاته كلها بتقول إنه بيحبك، عشان كده إحنا مبسوطين، اوعي تفكري إنك تفركشي، بالعكس قليل جدًا لما الواحدة تلاقي في الزمن ده واحد متمسك بيها" 

كانت كلمات مليكة تدق في رأس سيرا كجرسٍ بعيد؛ لم تكن تدري هل تصدقها؟ كل شيء بدا مرتبكًا وكل طريق كانت تحاول أن تسلكه ينتهي إلى غموض جديد.

انتبهت فجأة على رنين هاتفها، فالتقطته لترى اسم يزن يتلألأ على الشاشة، شعرت بقلبها يخفق بقوة ولم تستطع منع ابتسامة صغيرة من التسلل إلى شفتيها رغم كل شيء، فقد كانت أقسمت على نفسها ألا ترد عليه بعد أسبوعٍ كاملٍ من تجاهله لها، لكن شيئًا في داخلها خانها…وضغطت على زر الإجابة، حاولت قدر استطاعتها التحكم بنبرتها، وأحاطتها ببرودٍ مصطنعٍ يُخفي ما يعتمل في قلبها من شوق:

-الو.

جاء صوته دافئًا ومألوفًا يحمل شيئًا من الجدية:

-فاضية، عايز آخدك وتروحي نزور يسر في بيت باباها ونحاول نكلمها تهدي الدنيا مع نوح شوية، لإنه حرفيًا شايط بقاله أسبوع ومانعه عنها بالعافية.

لم تفكر كثيرًا وكأن قلبها سبق عقلها في اتخاذ القرار فأجابته بهدوءٍ رزين:

-كلم بابا لو وافق، تمام هروح معاك.

ثم أغلقت الاتصال بسرعة لتنهض مسرعة نحو خزانتها كي تتجهز لذلك اللقاء، ورغم أنها أقنعت نفسها بأن الدافع هو زيارة يسر ومساندتها، لم تستطع إنكار الحقيقة الخفية في أعماقها،
فحتى لو كانت حجته لرؤيتها واهية…قد جاءت في وقتها تمامًا؛ فهي كانت تهيم شوقًا لرؤيته طيلة الأسبوع الماضي!
                                 ***
جلس نوح على الأريكة في غرفة المعيشة، يهز ساقيه بتوتر واضح وعيناه مثبتتان على باب غرفة يسر، ينتظر خروجها بلهفةٍ تكاد تخنقه، كان يشعر بثقلٍ جاثمٍ فوق صدره منذ أن اتصل به الحاج فاضل في وقتٍ سابق وطلب منه الحضور فورًا، لم يتردد لحظة واحدة، ترك كل شيء خلفه وأسرع إليها، غير آبهٍ حتى باتفاقه مع يزن الذي كان قد وعده بأن يتحدث هو وخطيبته مع يسر أولًا ليُهدئا الأمور قبل أن يتفاقم الموقف.

لكن نوح لم يعرف الانتظار يومًا بل لم يعرف كبح نفسه من الأساس، جال ببصره في أرجاء الشقة يبحث بعينيه الثاقبتين عن منير، كأنه يتوقع أن يراه مختبئًا في ركنٍ ما لكنه لم يجد له أثرًا، عقد حاجبيه وهو يهمس لنفسه بنبرة غليظة:

"أكيد مستخبي مني…كعادته."

وقبل أن يغرق في دوامة أفكاره أكثر، انتبه إلى صوت خطوات خفيفة تقترب، فالتفت بسرعة ليرى يسر تخرج من غرفتها، كانت ملامحها باردة وعيناها خاليتين من الدفء، بدا عليها أنها استعادت جزءًا من صحتها، لكن مظهرها المتماسك أخفى وراءه بركانًا لا يخمد.

سارت بخطوات ثابتة ورأسها مرفوع، وجسدها مشدود وكأنها مقبلة على معركة مصيرية، جلست أمامه على المقعد المقابل دون أن تمنحه حتى نظرة ود واحدة، لم تبتسم ولم تُبدِ أي اهتمام بل كانت ملامحها أشبه بجدارٍ صلد لا يمكن اختراقه.

رغم كل شيء حاول نوح أن يتجاهل ذلك الجليد الذي يحيط بها، فمال بجسده قليلًا إلى الأمام وسألها بصوتٍ هادئ يخفي عاصفة من القلق:

-عاملة إيه دلوقتي؟

رفعت عينيها نحوه ببرودٍ قاتل وقالت بنبرة حاسمة:

-مايخصكش، أنا طلبت من بابا يجيبك هنا عشان تطلقني.

تجمد الزمن لوهلة، لم يستوعب وقع كلماتها على مسامعه، وكأنها أطلقت عليه رصاصة أصابت كبرياءه مباشرة، شعر بحرارة تتصاعد إلى وجهه، وأنفاسه تتسارع بلا تحكم بينما حدق فيها بعينين تقدحان شررًا، يبحث في ملامحها عن أي بادرة تراجع…فلم يجد سوى إصرارٍ قاتل وكرهٍ صريح.

مدت يسر يدها تستند إلى مسند المقعد، ثم قالت بنبرة أكثر قوة وكأنها تلقي بالحكم النهائي:

-من غير كلام كتير يا نوح، ونقعد نجدال في الماضي، والمستقبل اللي عمره ما هيتغير، أنت عمرك ما هتتغير، هتفضل زي ما أنت عايز كل حاجة، وأنا نصحتك قبل كده تعالج الحتة الناقصة اللي جواك عشان تعرف تعيش، مفيش حد بياخد كل حاجة، وأنت مبتتنازلش بالعكس عايز اللي حواليك هما اللي يتنازلوا، وأنا خلاص فاض بيا ومبقتش قادرة أكمل، وأظن إنك مش هترضى تكمل مع واحدة مش عايزاك؟!

كانت كلماتها كسكينٍ حاد ينغرس في كبريائه وجرحًا جديدًا في كرامته…لكنه كان الأعمق الأوجع والأكثر إذلالًا، وقف ببطء وكتم أنفاسه مطبقًا شفتيه بقوة في محاولة لاستيعاب ما سمعه ثم نظر إليها نظرة طويلة، امتزج فيها الغضب بالخذلان والحب بالكره، قائلاً بصوتٍ أجش:

-انتي طالق.

ارتجفت الكلمة في الهواء كصفعة مدوية، فشعرت يسر بوخزة حادة في صدرها، لكن ما لبثت أن رفعت رأسها بابتسامةٍ صغيرةٍ تنم عن انتصارٍ مُر، لقد ثأرت لنفسها ولسنينٍ عاشت فيها تحت وطأة القلق والخوف من أن يتزوج عليها أو يهدم استقرارها في لحظة نزوة، والآن…جاء دورها لترد له الألم ذاته وربما أكثر.
                               **
بخارج الشقة..

في الممر أمام الباب كان يزن يقف متكئًا إلى الحائط، يتحدث بصوتٍ منخفض إلى سيرا التي وقفت بجواره تنصت باهتمام:

-بصي يا سيرا…أياً يكن الكلام اللي هتقوليه، لازم نهديها ونكلمها براحة، متتعاطفيش معاها زيادة، لإن ساعات التعاطف ده بيهدم حياة الناس من غير ما نحس، الكلمة الصح في الوقت الصح ممكن تنقذ حياة كاملة.

ابتسمت سيرا ابتسامة دافئة وهي تشير إلى عينيها قائلة:

-حاضر من عنيا، أنا أساسًا استحالة أشجعها على الطلاق مع إنه يستحق الصراحة. دي

رفع يزن حاجبيه وأشار إليها محذرًا بنبرة خافتة:

-سيـرا الله يهديكي...

لكن قبل أن يُكمل حديثه فُتح الباب فجأة بعنف، وخرج نوح بخطوات سريعة ووجهه متجهم وعيناه تقدحان غضبًا مكتومًا، توقف أمامهما لبرهة، فتجمد يزن في مكانه من الصدمة ثم سأل بارتباك:

-انت بتعمل إيه هنا يا نوح؟ ما أنا قايلك ماتروحش.

 ابتسم نوح ابتسامة ساخرة وهو يربت على كتف صديقه بتراخٍ مفتعل:

-ماتتعبش نفسها خلاص طلقتها.

لم يمنحهما فرصة للرد بل تابع طريقه مغادرًا بخطواتٍ واسعة، تاركًا خلفه ذيولًا من الصدمة  والذهول، تبادلت سيرا ويزن نظرات مذهولة، قبل أن ينقل يزن أنظاره إليها كأنه يبحث عن تفسير، لكنها رفعت كفيها أمامه تدافع عن نفسها قائلة بسرعة:

-صاحبك متسرع اوي، كان يستناني كنت هحلهاله في ثواني، قطع برزقه.

أما يزن فظل واقفًا في مكانه يمرر يده في شعره بتوتر، وعيناه تائهتان بين الباب المغلق ووجه سيرا، كان يعلم أن ما حدث لتوه لم يكن مجرد طلاق عادي…بل بداية عاصفة أكبر قادمة لا محالة.

                           ****
ليلاً… في العيادة.

جلس نوح في عيادته خلف مكتبه العريض، رأسه مثقل بالهموم، يضع كفه فوق جبهته وكأنها تحاول أن تمنع سيل الأفكار من الانهمار، كان الصمت يخيم على المكان إلا من صوت عقارب الساعة وهي تطرق جدران عقله المتعب.

على مقعدٍ قريب جلست حسناء، تتابعه بعينيها اللامعتين بينما ترتسم ابتسامة خفيفة على وجهها تحمل بين طياتها سعادةً خفيةً لم تحاول حتى إخفاءها، فكان في ملامحها شوقٌ ممزوج بترقبٍ وحذر كصياد ينتظر لحظة الانقضاض.

رفع نوح وجهه إليها فجأة، فبدلت ملامحها على الفور كما لو كانت ترتدي قناعًا جديدًا؛ لمحة حزنٍ عميق امتزجت بظل من الشفقة، وقبل أن ينطق مدت حسناء يدها نحوه بفنجانٍ من القهوة، وهي تقول بنبرةٍ لطيفة تخفي فضولًا:

-اتفضل يا دكتور القهوة، بس لو تقولي مالك من الصبح؟ أنا خايفة عليك أوي.

مد يده نحو الفنجان دون حماس وراح يحرك إصبعه فوق حافته كأنه يرسم دوائر من الضياع، ثم رفع بصره إليها وقال بنبرة ساخرة ثقيلة:

-مفيش طلقت يسر النهاردة.

شهقت بعنف وهي ترمقه بعينين متسعتين يُزينها عدم تصديقٍ زائف:

-معقولة يا دكتور ده أنت بتحبها؟ ليه عملت كده بس؟ ده كله بسبب الراجل اللي جه هنا وحضرتك ضربته؟

تنفس نوح بعمق زفر زفرة حارة كأنها تحمل رماد قلبه، ثم أسند ظهره إلى المقعد وهو يهمس بمرارة، وعيناه معلقتان بفنجان القهوة أمامه:

-لا هي اللي طلبت مني اطلقها.

توسعت ابتسامة حسناء تدريجيًا، فرصة نادرة إن اغتنمتها الآن فلن تفلتها يدها أبدًا، وفي داخلها تدفقت الأفكار كالسيل، اقتربت ببطء، تمهلت في خطواتها حتى دارت حول المكتب واقتربت منه أكثر حتى صارت بمحاذاته، انحنت قليلًا وهبطت لمستواه لتواجهه مباشرة، فقد كان وجهه شاحبًا، وملامحه شاردة أما عينيه فقد غشيهما بريق من انكسارٍ عميق لم تره فيه من قبل، همست بصوتٍ متماوجٍ كأنها تُلقي تعويذة:

-واللي يخيلهالك ترجعلك وبإرادتها كمان؟ 

لم يُجب ظل صامتًا وكأنه غارق في دوامة تفكيرٍ لا مفر منها، ابتسمت ابتسامة صغيرة وتقدمت أكثر حتى صار صوتها أقرب إلى الهمس في أذنه:

-اتجوزني...اتجوزني ووقتها هي هتموت من الغيرة وهترجعلك بأي طريقة.

سكنت الغرفة للحظة، وصدى كلماتها ظل يتردد في رأسه كأمواجٍ تضرب شاطئًا مهجورًا، كان يدرك أنها تلعب على وترٍ حساس، لكنها في الوقت نفسه تلمس جرحه الأعمق، رفع عينيه إليها أخيرًا، ملقيًا نظرة ممتزجة بالغضب والتيه، لكنه…..لم يقل شيئًا
جلست سيرا أمام يسر التي بدت صامدة رغم العاصفة التي تدور من حولها، تحمل ملامحها برودًا غريبًا مناقضًا لطبعها اللطيف المعهود منذ أن رأتها، أما الصغيرة لِينا فقد كانت جالسة في طرف الأريكة، تحدق في الفراغ بعينين شاردتين لا تدركان ما يحدث تمامًا، لكن قلبها الصغير كان مثقلًا بظل التفكك الأسري الذي خيم على المكان.

كادت سيرا تهم بقطع حبل الصمت، لولا أن تسلل إلى مسامعهن صوت خافت قادم من الداخل، صوت شجارٍ مكتوم بين فاضل وزوجته أمل، تنهدت يسر بعمق وكأنها تحاول أن تطرد ثقل الهم عن صدرها، ثم ارتسمت على وجهها ابتسامة باردة، تحمل في طياتها خليطًا من الصبر والخذلان، قبل أن تلتفت إلى سيرا قائلة بصوت خافتٍ متكلف الهدوء:

-تعالي نقعد جوه في أوضتي، عشان نبقى على راحتنا أكتر.

هزت سيرا رأسها بتفهم ونهضت تتبعها بخطوات مترددة، تاركتين خلفهما لينا التي ظلت تحدق نحو التلفاز بشرود فيما ارتفع صوت الشجار بين فاضل وأمل حتى صار أكثر حدة.

قالت أمل بصوت مرتجفٍ يحمل الغضب والخذلان:

-أنا قولتلك يا فاضل، قولتلك بلاش تتدخل، أهو اتبسطت لما البت اتطلقت.

ارتفع حاجبا فاضل واشتعلت في عينيه شرارة غضب، فرد بعنفٍ مكتوم:

-أنا كنت بحافظ على كرامة بنتي، نوح مكنش مقدر بنتك كويس يا أمل.

التفتت إليه أمل بنظرة تحمل خليطًا من السخرية والخذلان، ثم تابعت بحركة حادة وهي تقترب من فراشها: 

-اه صح؟! فعلاً مش مقدرها؟! مكنش بيسكت في كل مرة تقوله طلقني، مسبهاش تيجي تقعد هنا براحتها، ولا سكت لما فتحتلها المحل، ولا كان بيجري ويقعد تحت رجليها لما كانت تعبانة، ولا قعد مذلول برة المستشفى باليومين مابيتحركش عشان انت مانعه يدخل يتطمن على مراته، تصدق فعلاً هو مش مقدرها.

اشتد غضب فاضل وارتفع صوته قليلًا مشيرًا إلى صدره بحدة:

-هو عمل كده، لما حس إن يسر بتروح منه، يسر لو كانت فضلت زي ماهي يبيع ويشتري فيها، كان زمانه دمرها، وبعدين انتي عايزة إيه؟؟ ترجعله وهو يروح يتجوز عليها، الله في سماه ما يحصل، أنا بنتي مش معيوبة ولا ناقصها إيد ولا رجل، ولا هي وحشة، أنا يا ستي شايف بنتي مفيش زيها، ومن حقي أحافظ عليها وعلى نفسيتها وكرامتها.

زفرت أمل بضيق وارتعشت شفتاها وهي تقول:

-لا حول ولا قوة إلا بالله، ما هي بنتي بردو يا فاضل!، بس الشهادة لله هو بيحبها وبنتك مش قادرة تفهم جوزها صح، قولتلها قربي منه مية مرة، سيبك من اللي في دماغك، وشوفي جوزك محتاج إيه واملي الفراغ ده، بنتك مش عارفة تتواصل مع جوزها، بنتك اللي في ايدها الحل.

أجابها فاضل بحدةٍ تقطع الهواء:

-يا سلام وهو بريء ما هو معيشها في نكد ورعب، بقولك إيه، أحسن فضينها سيرة، كل واحد يروح لحاله، بنتي تستاهل أحسن منه مليون مرة.

قالها بنبرة قاطعة جعلت أمل تحدق فيه بعدم رضا، ثم أضافت بصوتٍ منخفض أقرب للعتاب:

-يا فاضل دي متطلقة بعيلين وأنا وأنت لو عيشنلها النهاردة، مش هنعيشلها بكرة.

اقترب منها فاضل وصوته هذه المرة حمل مزيجًا من الإصرار والحزن:

-أمل أنا سايب لبنتي فلوس وعقارات تعيشها ملكة، وتقدر تصرف على عيالها وتعيشهم في مستوى أحسن من اللي أبوهم هيعيشهم فيه.

هزت أمل رأسها بأسى قبل أن ترد بلهجة هادئة لكنها مثقلة بالوجع:

-مش كل حاجة الفلوس يا فاضل، المودة وإن حد يحتويها والسند، وإن عيالها يطلعوا في بيت يكون في أب وأم دي حاجات عمر الفلوس ما تشتريهم، راجع نفسك وحاول الفترة دي ماتدخلش في حياتها، يمكن ربنا يحلها من عنده.

ثم التفتت متنهدة قبل أن تغادر الغرفة وهي تتمتم بصوت خافت:

-هقوم اشوف الضيفة اللي برة دي تشرب أيه، عن إذنك.

تركه يواجه ندمًا بسيطًا عندما وجد الأمور تتعقد من حوله ولكن كرامة ابنته فوق كل شيء، وإن كانت قد أخطأت وقبلت بأمر لا يستحق أن تتنازل وتقبل به، فلن يتركها تتخبط في جدران الخوف والترقب ما إن كان نوح سيتزوج عليها أم لا، فابنته ملكة وتستحق معاملةً وحياةً أفضل من ذلك.
                               ****

قالت سيرا بانفعال وقد ارتسمت على وجهها ملامح صدمة وامتقع لونها من شدة الغضب:

-يا نهار أسود لا فعلاً يستاهل والله تتطلقي منه.

نطقتها بحدةٍ وجسدها متشنج، بعدما سمعت القصة من يسر نفسها مباشرةً، غير أن كلمات يزن الصارمة التي كانت تطن في أذنيها دفعتها للتراجع قليلًا، فخفضت صوتها وقالت بنبرة متكلفة تحمل شيئًا من التزييف:

-بس كان ممكن تهدي شوية يا يسر، وتفكري.

تنهدت يسر تنهيدة ثقيلة كأنها تحمل معها كل خيباتها، ثم أطلقت بصرها شاردًا عبر النافذة القريبة منها وعيناها مبللتان بالحزن:

-فكرت كتير وملقتش غير الحل ده، أنا لو كملت كده ممكن أموت من قهرتي.

ابتلعت سيرا ريقها ببطء محاولةً أن تبحث بين الكلمات عن جملة واحدة تُسعف قلب يسر المحطم، ثم تساءلت بحيرة:

-طيب هو انتي لاحظتي إنه بيحبها مثلاً أو اتجوزها في السر؟

نظرت إليها يسر نظرة منكسرة تتأرجح بين الألم والاستسلام، وأجابت بصوت مبحوح:

-نوح لا يمكن يعمل حاجة زي دي في السر، لإنه شايف إن ده حقه اللي ربنا مديهوله، فمن حقه يعملها قدام الناس كلهم، وأنا أبقى مقتنعة وراضية...

ثم صمتت لبرهة وكأن الكلمات تخنقها قبل أن تتابع بنبرة أشد مرارة:

-أنا مش مجروحة لمجرد إنه مقرب من السكرتيرة اللي اسمها حسناء، أنا مجروحة لإن حاطط الشرط ده في حياتنا، ده غير أن كل حياته بنات في بنات، العيادة والمعمل اللي شريك فيه مفيش موظف راجل في حياته، نوح عايز كل حاجة وأنا فوقهم.

انعكس التوتر على ملامح سيرا، واحمر وجهها من شدة القلق حتى بدت كأنها نسخة أخرى من يسر نفسها، قبضت على أصابعها بقوة وهي تحاول صد الصور المقلقة التي بدأت تتسلل إلى ذهنها عن مستقبلها مع يزن، لكن صوت يسر اخترق شرودها وانتشلها من غرق أفكارها:

-متخافيش يزن مش زي نوح، يزن كبر عنده كل حاجة، متربي على الشبع مش محتاج حاجة، فجرب كل حاجة، أظن إنه يوم ما يستقر هيكون دي الحاجة الوحيدة اللي نفسه يعملها وبعدين أنا من خلال كلامي معاه باين أنه بيحبك.

ابتسمت سيرا ابتسامة باهتة ممزوجة بالقهر، وقالت بسخرية مريرة:

-هو يبان للكل كده، بس أنا الوحيدة اللي مش شايفة كده، المهم خلينا فيكي محاولتيش تتكلمي معاه وتعالجي اللي ناقصه واحدة واحدة، لغاية ما توصلوا لبر الأمان انتوا الاتنين وخصوصًا إن في بنت محدش فيكم متزعليش مني فكر فيها، وكمان بيبي جاي في الطريق مالوش ذنب إنه يكبر من غير أب.

اتغرست كلماتها في جراح يسر العميقة، فتجاهلتها كأنها لم تسمعها وأجابت بنبرة باردة تتعمد الصلابة:

-هو اللي مش عايز يتنازل يا سيرا، ربنا مديله كل حاجة وهو بردو ناقم وعايش في جراح الماضي، وبعدين أنا عمري ما هحرمه من عياله، لو عايز يشوفهم في أي وقت براحته، على فكرة كده أفضل للينا تكبر وتلاقي أب وأم متفاهمين حتى لو منفصلين، أحسن ما تكبر ما بين أب وأم عايشين مع بعض وعمرهم ما هيتفاهموا وكل شوية خناق وتجريح.

هزت سيرا رأسها متفهمة لكن صوتها خرج مستنكرًا ومليئًا بالرجاء:

-ده اللي بتحاولي تقنعي نفسك بيه، وبتحاولي تظهري أنك صح بس في الحقيقة إنتي كنتي لازم تبذلي شوية وقت ومجهود عشان تقدروا تتفاهموا انتوا الاتنين، على الاقل كنتي استغلي حبه ليكي واضغطيه عليه بكده، صدقيني كان هيغير فكرته، الطلاق عمره ما كان حل.

ظل الحديث يتشعب بينهما، حتى نجحت سيرا في زعزعة بعض أفكار يسر المتصلبة، لكنها كلما تذكرت كيف استغل نوح حبها، وضغط عليها مرارًا لينتزع موافقتها، غير آبهٍ بأن يدهس كرامتها تحت قدميه عادت لتتمسك برأيها أكثر فأكثر…
فالانفصال بالنسبة لها لم يعد مجرد خيار، بل أصبح هو المخرج الوحيد....حتى لو كان موجعًا.

                               ****

والنقاش كان بين يزن ونوح في أوج حدته، حتى قرر يزن الانسحاب وتركه يهدأ قليلاً، تاركًا إياه جالسًا خلف مكتبه يحمل أثقالًا من الهموم فوق كاهله، واضعًا كفه فوق جبهته وكأنها تحاول أن تمنع سيل الأفكار من الانهمار، كان الصمت يخيم على المكان إلا من صوت عقارب الساعة وهي تطرق جدران عقله المتعب.

على مقعدٍ قريب جلست حسناء، تتابعه بعينيها اللامعتين بينما ترتسم ابتسامة خفيفة على وجهها تحمل بين طياتها سعادةً خفيةً لم تحاول حتى إخفاءها، فكان في ملامحها شوقٌ ممزوج بترقبٍ وحذر كصياد ينتظر لحظة الانقضاض.

رفع نوح وجهه إليها فجأة، فبدلت ملامحها على الفور كما لو كانت ترتدي قناعًا جديدًا؛ لمحة حزنٍ عميق امتزجت بظل من الشفقة، وقبل أن ينطق مدت حسناء يدها نحوه بفنجانٍ من القهوة، وهي تقول بنبرةٍ لطيفة تخفي فضولًا:

-اتفضل يا دكتور القهوة، بس لو تقولي مالك من الصبح؟ أنا خايفة عليك أوي.

مد يده نحو الفنجان دون حماس وراح يحرك إصبعه فوق حافته كأنه يرسم دوائر من الضياع، ثم رفع بصره إليها وقال بنبرة ساخرة ثقيلة:

-مفيش طلقت يسر النهاردة.

شهقت بعنف وهي ترمقه بعينين متسعتين يُزينها عدم تصديقٍ زائف:

-معقولة يا دكتور ده أنت بتحبها؟ ليه عملت كده بس؟ ده كله بسبب الراجل اللي جه هنا وحضرتك ضربته؟

تنفس نوح بعمق زفر زفرة حارة كأنها تحمل رماد قلبه، ثم أسند ظهره إلى المقعد وهو يهمس بمرارة، وعيناه معلقتان بفنجان القهوة أمامه:

-لا هي اللي طلبت مني اطلقها.

توسعت ابتسامة حسناء تدريجيًا، فرصة نادرة إن اغتنمتها الآن فلن تفلتها يدها أبدًا، وفي داخلها تدفقت الأفكار كالسيل، اقتربت ببطء، تمهلت في خطواتها حتى دارت حول المكتب واقتربت منه أكثر حتى صارت بمحاذاته، انحنت قليلًا وهبطت لمستواه لتواجهه مباشرة، فقد كان وجهه شاحبًا، وملامحه شاردة أما عينيه فقد غشيهما بريق من انكسارٍ عميق لم تره فيه من قبل، همست بصوتٍ متماوجٍ كأنها تُلقي تعويذة:

-واللي يخيلهالك ترجعلك وبإرادتها كمان؟ 

لم يُجب ظل صامتًا وكأنه غارق في دوامة تفكيرٍ لا مفر منها، ابتسمت ابتسامة صغيرة وتقدمت أكثر حتى صار صوتها أقرب إلى الهمس في أذنه:

-اتجوزني...اتجوزني ووقتها هي هتموت من الغيرة وهترجعلك بأي طريقة.

سكنت الغرفة للحظة، وصدى كلماتها ظل يتردد في رأسه كأمواجٍ تضرب شاطئًا مهجورًا، كان يدرك أنها تلعب على وترٍ حساس، لكنها في الوقت نفسه تلمس جرحه الأعمق، رفع عينيه إليها أخيرًا، ملقيًا نظرة ممتزجة بالغضب والتيه، لكنه…..لم يقل شيئًا، ثم قرر أن يقطع صمته بضحكةٍ ساخرة، وهو يحدق في عينيها الماكرتين بنظرة نافذة وقال بنبرة تحمل مزيجًا من التهكم والاستنكار:

-ده انتي بتحبيني اوي؟!، لدرجة أنك بتعرضي عليا عرض هيخليني أبعد عن يسر خالص، وفكرة رجوعي ليها تبقى من المستحيلات.

تراجعت حسناء خطوة إلى الخلف وهي ترمقه بدهشةٍ مصطنعة، ثم أشارت إلى نفسها مستنكرةً وابتسامة باهتة ترتسم على شفتيها:

-أنا؟! يا خبر يا دكتور، أنا بس بعرض عليك عرض أنا متأكدة إنه هيحرك أي ست بتحب جوزها، إلا إذا مدام يسر أصلاً مبتحبكش وانت مش فارق معاها وماصدقت تتطلق منك.

وضع نوح كفه أسفل ذقنه متظاهرًا بالتفكير، ثم مط شفتيه بتكاسل قائلاً بنبرةٍ باردةٍ زادت من غضبها:

-حتى ولو زي ما أنتي بتقولي، بس أنا بحبها...بحبها اوي، يسر حبي الاول، أول بنت حبيتها وقررت اتجوزها، هي بتحبني او لا مايفرقش معايا غير أني بحبها.

قطبت حسناء حاجبيها بدهشة حقيقية هذه المرة، ثم سألت بحدةٍ خافتة:

-ولما انت بتحبها أوي كده، بتطلقها ليه؟

تجمّدت ملامحه فجأة، وكأن كلماتها وخزت شيئًا دفينًا بداخله فرد بنبرةٍ حادةٍ بعض الشيء أربكتها:

-حاجة متخصكيش يا حسناء.

أحست بثقل الجملة كصفعةٍ غير متوقعة، فتراجعت قليلًا وقالت بنبرةٍ مترددةٍ تكاد تخنقها:

-أنا أسفة يا دكتور، يعني اتدخلت عشان أراضيك...

قاطعها بصرامةٍ لم تعهدها فيه من قبل:

-أنا مطلبتش منك تراضيني، انتي اللي جيتي عرضتي عليا عرض غريب وأنا رفضتك.

تراجعت خطوةً أخرى إلى الخلف وقد غمرتها صدمة حقيقية فـ للمرة الأولى ترى نوحًا مختلفًا تمامًا عن ذلك الرجل الذي عرفته، لقد كان جامدًا حاد الطباع، عيناه تحملان شيئًا غريبًا وكأن ستارًا من الغموضٍ قد أُسدل فوقهما فمنعها من سبر أغواره، فاحت منه في تلك اللحظة رائحة خيانةٍ خفية، فاقشعر لها جسدها لكنها تماسكت، ووقفت بشموخٍ مصطنع تحمل على شفتيها بسمة نصف ساخرة وهي تقول:

-تمام يا دكتور أسيبك عشان شكلك أعصابك تعبانة، ومحتاج ترتاح ويدوب اروح.

أشار إليها ببرودٍ كامل نحو الباب ثم أعاد دفن وجهه داخل كفيه، غارقًا بين أفكاره المشتتة وهمومه الثقيلة، فغادرت هي بخطواتٍ متثاقلة، لم تلتفت وراءها حتى بلغت الخارج، وحين خرجت من البناية كلها، أطلقت زفرةً حارقة امتزجت بين الخذلان والغضب، ثم أغمضت عينيها لحظة وهي تهمس في سرها بنبرةٍ تحمل وعدًا دفينًا بالانتقام:

-لا وحياة أمك أنا ما هطلع من المولد بلا حمص، ده أنت راجل ديب و ***** بصحيح، وأنا واحدة ***** عشان صدقت إنك ممكن تتجوزني، بس الصبر.

                          ****

بعد مرور يومين…

كانت حسناء جالسة في غرفتها، ساكنة الجسد مشتعلة العقل لا تفعل شيئًا سوى الغرق في بحرٍ من الأفكار المتشابكة، لم تذق طعم الراحة منذ أن أبلغها نوح بأنه سيغلق العيادة ليومين كاملين يأخذ فيهما قسطًا من الراحة، شعرت وكأن الوقت توقف عندها، بينما كل شيء في رأسها يتصارع بلا هوادة.

لم تسلم من سخرية والدتها المستمرة، إذ لم تترك فرصة لدخول غرفتها أو الخروج منها إلا وعلقت عليها بكلمات لاذعة تؤلم أكثر مما تجرح، فما كان منها إلا أن آثرت الانزواء داخل غرفتها، تهرب من أي احتكاكٍ معها لكن يبدو أن والدتها لم تكن لتتركها في حالها طويلًا.

حيث دخلت والدتها وهي تحمل مبخرةً صغيرة، تصدر منها رائحة نفاذة، وبدأت تُبخر الغرفة حتى غمرها الدخان الكثيف وهي تتمتم بكلمات خافتة لا تُفهم كأنها طلاسم قديمة، بينما تعلو وجهها علامات التركيز، لم تحتمل حسناء المنظر أكثر فانطلقت صرختها غاضبةً:

-يا ما قولتلك بلاش الشعوذة دي معايا، أنا عفاريتي موجودة أصلاً مش محتاجة حد يحضرهم.

رفعت الأم حاجبيها في بطء ونظرت إليها بنظرة تحمل مزيجًا من التهديد والشماتة، ثم همست بصوتٍ خافت يقطر وعيدًا:

-بس ليسخطوكي قرد، وبعدين انتي أصلاً حالك واقف عشان طولة لسانك مع أسيادك.

زفرت حسناء بقوة وكأنها تطرد كل ما يثقل صدرها، ثم اتجهت نحو النافذة وفتحتها على مصراعيها لتتنفس بعض الهواء، وقالت بغيظٍ مكتوم:

-طيب ما تخليهم يخلوه يحبني عشان أعرف اتجوزه.

شهقت الأم بامتعاض ثم انفجرت بسخرية لاذعة وهي تقول:

-مالكيش دعوة انتي يا ماما، أنا هعرف ازاي اوقعه واخليه يحبني، هخليه يطلقها ويتجوزني، واهو فعلاً طلقها بس مش هيتجوزك يا عبيطة ولا عمره ما هيتجوزك، واديكي طلعتي من المولد بلا حمص، وماخدتيش جنية واحد منه.

كانت كلماتها كالسكين في صدر حسناء، فمررت أصابعها داخل خصلات شعرها الأصفر المصبوغ بفعل صبغاتٍ متكررة، محاولةً تهدئة الغضب المشتعل في عروقها، قبل أن ترد بنبرة تحمل وعيدًا خافتًا:

-لا على جثتي، طالما مش هيتجوزني، أنا هعرف اسحب منه اللي أنا عايزاه بطريقتي.

اقتربت الأم خطوة منها وقد ارتسم على وجهها مزيج من الفضول والشك، وسألتها بصوتٍ منخفض:

-ازاي يا بت هتسرقيه ولا إيه؟!

ابتسمت حسناء ابتسامة ماكرة ثم قالت وهي ترفع حاجبًا واحدًا بتحد:

-نوح ده الفلوس بتلعب في ايده لعب، ومن كترها هو مابيركزش، انتي عارفة كام واحدة بتيجي العيادة وبتدفع جلسات وكشف، المشاكل اللي هو فيه مش مخلياه مركز في أي حاجة، والفلوس بتتحط في الخزنة اللي مفتحها معايا بردو وقبل ما يغدر هغدر بس بشويش وبرواقة بحيث مايشكش فيا.

شهقت والدتها بصدمة حقيقية مبحلقةً في وجهها، وقالت بصوتٍ متحشرج:

-هتسرقي فعلاً يا حسناء؟

أطلقت حسناء ضحكة قصيرة ثم التفتت إليها بعينين تتلألأان دهاءً، وقالت بنبرة حاسمة:

-هو انتي فاكرة العيشة اللي احنا عيشينها دي من المرتب ولا إيه؟! لا من كان كشف وجلسة بخدهم من وراه كل يوم وهو مش حاسس، بس وديني الهبرة الكبيرة بقى هتكون مفاجأة للكل.

وضعت والدتها يدها فوق قلبها وقد تملّكها الخوف، وهي تقول بصوتٍ مرتجفٍ وهي تهم بالخروج من الغرفة:

-يا خوفي يا بت بطني لتودي نفسك في داهية.

ثم غادرت الغرفة بخطواتٍ متسارعة، بينما بقيت حسناء جالسة في مكانها، تحدق في الفراغ بعينين تلتمعان بوميضٍ مظلم، وارتسمت على شفتيها ابتسامة باردة تحمل بين طياتها مزيجًا من الحقد والعزيمة، وكأنها تُقسم في سرها عهدًا لا رجعة فيه:

-قبل ما هو يغدر…أنا اللي هغدر ومش هيعرفلي طريق.

وفي تلك اللحظة مر طيف نوح في مخيلتها فتشنجت أصابعها، وشعرت بحرارةٍ تتصاعد في صدرها كبركانٍ على وشك الانفجار، لم تكن ترى في المستقبل إلا طريقًا واحدًا طريقًا محفوفًا بالمخاطر، لكنها كانت مستعدة أن تسلكه حتى آخره…مهما كفها الثمن.

                               ****

-انت بتستعبط، بتكسرلي كلامي؟!

دوى صوت سليم غاضبًا كالرعد، وهو يقتحم المكتب بعنفٍ دفع الباب ليرتطم بالجدار خلفه، فتبعثر الهواء في الغرفة كأنه يحمل معه شرارة الصدام القادم، تراجع يزن للخلف في كرسيه بدهشة، فقد كان جالسًا في مكتبه داخل المعرض، يتابع بعض الأوراق بتركيزٍ شديد، قبل أن يفاجئه صوت أخيه وهو يقتحم المكان ملوحًا بيديه، والشرر يتطاير من عينيه، فرفع يزن حاجبيه باستغراب، ورد بنبرةٍ تحمل بعض الهدوء رغم صدمته:

-كلام أيه؟! 

لكن الهدوء لم يُطفئ النيران المشتعلة في صدر سليم بل زاد من حنقه، فازداد وجهه احمرارًا حتى بدا كمَن يكاد ينفجر من الغضب، ولم ير يزن تلك النظرة في عينيه من قبل إلا يوم انفصاله عن 
شمس.

لوح سليم بيديه بعصبيةٍ شديدة:

-بقى أنا أكلم المهندس وأسأله ليه مبدأش لسه شغل في شقتك، يقولي إنك كلمته ووقفت كل حاجة هو لعب عيال ولا إيه؟ واقوله أشتغل يقولي لا صاحب الشأن رفض ومأكد عليا لو انت اتدخلت ارفض!!! إيه الاستعباط ده؟! انت شايفني إيه قدامك؟

نهض يزن من مكانه فجأة وسار بخطواتٍ ثابتة حتى وقف أمام أخيه مباشرة، ثم نظر في عينيه بصرامةٍ لم يعتدها سليم منه من قبل، فبدا صوته متماسكًا، لكنه كان يخفي بداخله خليطًا من الغضب والخذلان:

-شايفك بتتدخل في حياتي وأنا حتى مش مديك أي صلاحيات لكدة.

صُعق سليم من نبرته فتصلبت ملامحه أكثر، ورد بصوتٍ مبحوح من شدة الغضب:

-فوق واحترم نفسك وانت بتكلمني يا يزن، أنا أخوك الكبير.

تردد صدى كلماته في الغرفة كطعنةٍ صامتة، شعر سليم بحرقةٍ في صدره وكأن شيئًا انكسر بداخله من شدة وقع هذه الجملة عليه، فلملم بقايا صبره واستمر في النظر لأخيه الذي لم يتردد وقال بنبرةٍ حادة لم يفلح في كبحها:

-بس مش أبويا، وحتى لو أبويا ملكش الحق إنك تتدخل كده يا سليم، أنا واحد لسه شايف إن لسه بدري على الخطوة دي.

اتسعت عينا سليم وهو يصرخ بغضبٍ عارم، مشيرًا بيده نحو أخيه:

-هو إيه لسه بدري يا بني آدم أنت، انت خاطب يعني الخطوة التانية هي الجواز ويدوب أصلاً تبدأ في شقتك، انت عايز تحرجنا مع الناس!

أخذ يزن نفسًا عميقًا ثم أجاب بهدوءٍ متعمد يخفي وراءه الكثير من التوتر:

-لا أنا عايز امشي حياتي بالطريقة اللي أنا شايفها صح، مش اكتر.

ابتسم سليم ابتسامة ساخرة لكنها كانت مليئة بالخذلان أكثر من الغضب، ورد ببرودٍ لاذع:

-يبقى مكنتش تخطب دلوقتي، طالما أنت مطريها اوي كده.

رفع يزن حاجبيه وقال بحزم:

-أنا مكنتش عايز، وانت اللي أصريت ودخلتني في حوار أنا مش حابه.

سقطت الكلمات على قلب سليم كالصاعقة، فانعكس الألم في صوته حين قال:

-والله!! خلاص يا يزن باشا ولا يهمك، طالما أنا مجرد أخ ومينفعش اتدخل في حياتك يا كبير وياللي مالكش كبير، أنا بعفيك من أي إحراج.

ثم رفع يده في الهواء كأنه يعلن انتهاء المعركة، وقال بنبرةٍ موجوعة رغم ما حاول إخفاءه من صلابته:

-ومن بكرة هتواصل مع أبو سيرا وابلغه اعتذاري ومن غير أي مشاكل بعفيك من الخطوبة دي، عيش براحتك يا كبير، وأنا ولا ليا لزمة في حياتك.

ودون أن ينتظر ردًا استدار وغادر المكتب بخطواتٍ سريعة، تحمل بين وقعها ثقلاً من الجرح والخذلان تاركًا الباب خلفه نصف مفتوح.

وقف يزن في مكانه للحظات عاجزًا عن الحركة، مشدوهًا بما حدث، مد يده في الهواء محاولًا اللحاق به، لكن قدميه لم تتحركا، وعندما استجمع شتاته ركض إلى الخارج، غير أن سليم كان قد اختفى…وكأنه ابتلعته الأرض.

كانت تلك أول مرة في حياته يرى فيها أخاه يهرب من مواجهة، فقد كان دائمًا الطرف الأقوى صاحب اليد العليا، ممسكًا بكل خيوط اللعبة في قبضته، أما اليوم فقد سقطت الخيوط من بين أصابعه، لتترك خلفها مسافةً من الألم.

وعندما فشل في اللحاق به لم يجد يزن حلًا سوى أن يتصل بـ زيدان، لعله ينقذه ويمنع سليم مما ينوي فعله، فهو لم يقصد أبدًا الانفصال عن سيرا، لكنه كان يعبر فقط عن الضغط الذي يشعر به بسبب تدخلات سليم المستمرة في حياته، وكأنه صاحب اليد العليا وليس هو، فلم يكن يزن معتادًا أن يتدخل أحد في شؤونه إلى هذا الحد؛ فمنذ صغره وهو مستقل تمامًا حتى في عمله.

أجرى اتصالًا بـ زيدان فأجابه الأخير وهو يزفر بضيقٍ واضح:

-ها ممسوك انت وخطيبتك في انهي قسم المرادي؟

تأفف يزن وهو يجيب:

-بطل استظراف، أنا وسليم اتخانقنا جامد وعايزك تتدخل عشان تهديه.

وصل له سخرية زيدان الفظة:

-اختيارك موفق، مالقتش غيري اهديه، ولا انت لو عايزه يتعفرت!

زفر يزن بعيظ وقال بحيرة وتوتر داخلي كاد يمزقه:

-يعني اجيب مين يتدخل ما بينا ويهدي الدنيا، ما تتكلم جد شوية يا زيدان، سليم شكله زعل مني، بس...

قاطعه زيدان بنبرة حادة:

-بس إيه انطق، اوعى تكون قليت أدبك على اخوك الكبير؟

عاد يزن لتأففه وأجاب بحنق طفيف:

-انت عبيط، هو أنا عمري عملتها قبل كده عشان اعملها دلوقتي، متخافش أنا مش زيك، كل الحكاية....

قطع الاتصال فجأة، فهمس يزن بنبرة منفعلة وهو يضغط فوق هاتفه بانفعال:

-يا نهارك أسود يا زيدان، انت قفلت في وشي السكة، عليا النعمة ما أنا سايبك.
                                ****

بعد مرور ساعاتٍ طويلة من البحث، عثر زيدان أخيرًا على سليم في ورشة سيف، كان سليم يجلس على أحد المقاعد الخشبية بهدوءٍ شارد، أمامه فنجان قهوة لم يمسه، بينما كان سيف منشغلاً في إصلاح إحدى السيارات، توقف زيدان أمام الورشة بسيارة الشرطة، بينما أطلق سيف زفرةً حارة وهو يلتفت إلى سليم قائلًا بضجر:

-يا عم أخوك هيشبهني بالبوكس، والزباين هتشك فيا، أنا راجل غلبان وعندي عيال عايز أربيهم.

رفع سليم رأسه ببرودٍ ونظرةٍ ساخرة ثم قال بنبرة مشدودة:

-مجرد وقفته بالبوكس قدامك بيعملك قيمة.

زفر سيف باستنكار وهو يمسح يديه من آثار الزيت ثم رد بنبرة حانقة:

-طب خف شوية عشان أنت لما الدنيا بتضيق بيك مابتلاقيش غير ورشتي وريحة زيت العربيات وتيجي تستمع بيها وتفصل هنا.

قطع زيدان حديثهم بدخوله بخطواتٍ باردة ثم وقف يتأمل المكان بنظرةٍ متعجبة قبل أن يعلّق ساخرًا:

-الناس لما بتتضايق بتروح أماكن حلوة يفصلوا فيها، انت يا سليم بتيجي في الورشة عند سيف!!!

رفع سيف حاجبيه وقال بثقةٍ مصطنعة:

-هو إيه اللي بتيجي الورشة عند سيف؟! مالك يا عم، ده أحسن مكان ممكن أخوك يفصل فيه، ده أنا موفرله كل حاجة حتى فنجان القهوة متلاقيش زيه أبدًا.

ألقى سليم نظرة جانبية على الفنجان قبل أن يتمتم بضيق:

-الصراحة ميتشربش.

تظاهر سيف بالانزعاج ورفع صوته قليلًا:

-يعني لما أطردكوا هيبقى حلو؟!

اقترب زيدان منه يربت على كتفه محاولًا امتصاص غضبه ثم ابتسم ابتسامته المستفزة وهو يخفض صوته:

-لا يا عم سيف هو احنا لينا غيرك بردو، دي ورشتك دي يا ما لمتنا في مصايبنا، عايز بس فنجان قهوة من اللي مابيتشربش، عشان لسه ناقص لي حاجة معكرتش مزاجي، وتبقى كده كملت واعرف أكمل كلامي مع التنين المجنح اللي ورايا ده.

دفعه سيف برفق وهو يضحك بخفوت ثم التقط مفاتيحه واتجه نحو مكتبه الصغير ليأخذ أشياءه،  ثم مال بعدها نحو سليم الذي كان جالسًا في كبريائه المعتاد واضعًا ساقًا فوق الأخرى، وقال بلهجةٍ ساخرة:

-أنا طالع اتغدى وسايبلكم المنتجع بتاعي أمانة في رقابتكم....

ثم ابتسم ابتسامة حمقاء، ومال أكثر ليطبع قبلة مفاجئة على وجنة سليم، فاتسعت عينا الأخير وهو ينظر إليه باستهجان:

-والله انتوا ما عارفين قيمة الراجل ده في حياتكم.

ضحك سيف بخبث وهو يغادر بخطواتٍ هادئة كأنه يخشى أن ينفجر ضاحكًا في أي لحظة ثم التفت نحو زيدان:

-هبعتلك قهوة مع إنك متستهلش عشان مبتسألش عليا يا قليل الأصل، مفيش فيكم يا عيلة الشعراوي إلا سليم حبيبي.

وغاب عن أنظارهم بينما جلس زيدان بجوار سليم وهو يقول بنبرةٍ مازحة:

-انت ماسك عليه زلة ولا إيه؟

رفع سليم حاجبيه ببرود ورد بجمود:

-صاحبي وبيحبني وبيقدرني مش زيكم.

تنهد زيدان بضيق وهو يخرج علبة سجائره لكن سليم خطفها منه وألقاها بعيدًا ثم قال بنبرة صارمة:

-مهما كنت راضي عنك وعلاقتنا كويسة، ماتفكرش تدخن قدامي أبدًا.

فرك زيدان وجهه محاولًا تهدئة نفسه ثم ابتسم ابتسامة باهتة:

-مالك يا سليم باشا زعلان ليه كده، ومش مستحمل كلمة؟

أجابه سليم ببرودٍ أكبر:

-بالعكس أنا هادي خالص، وزي الفل أنت اللي جاي ورايا وماعرفش ليه؟

أطرق زيدان رأسه قليلًا ثم قال بنبرةٍ خافتة:

-يزن هو اللي اتصل بيا، وشكله خايف إنك تنفذ قرارك وتتصل على ابو سيرا!

اتسعت عينا سليم غضبًا ورد بحدة نارية:

-يعني ده اللي جايبك عشانه؟!، يعني مش عشان هو قل أدبه عليا وتطاول عليا في الكلام؟!

فتح زيدان عينيه بدهشة وهو ينظر إليه بعدم تصديق:

-يزن قل أدبه عليك؟! الواد ده اتجنن ازاي يعمل كده!!

رفع سليم حاجبيه بغضب وصوته خرج أثقل من أي وقت مضى، وكأن نبراته تحاول أن تمزق الصمت:

-مش بالمعنى الحرفي ده يا زيدان، هو مايقدرش أصلاً، بس كلمني بأسلوب عمره ماكلمني بيه، يزن كبر لدرجة إنه مش عايزني حتى اوجهه للطريق الصح، وشايفني مجرد أخ عادي المفروض اكتفي بنفسي واسيبه في حاله، وبعدين هو أنا بالنسبالكم مجرد أخ عادي؟!

ساد الصمت لحظة، وكان صوت أنفاس زيدان مسموعًا وهو يرمش بأهدابه قبل أن يجيب بنبرةٍ خافتة مليئة بالصدق:

-لا طبعًا.

استدار سليم فجأة بجسده نحو أخيه، وعيناه تتوهجان غضبًا وشكًا ثم قال بنبرة متأرجحة بين الحزن والانفعال:

-من قلبك بجد؟ ولا انت زيك زي يزن وشايف ماليش حق اتدخل في حياتكم، البيه بيقولي انت مش في مقام أبويا؟! هو مين رباه اصلاً، مين كان بيجري وراه في المدارس والجامعة؟! مين فضل شايل همه لغاية ما عرف يوقف على رجله في مشروعه؟! ده كله الكلب ينساه ويكلمني كده؟!

وقبل أن يرد زيدان وجد صوت يزن يتدخل بعتاب ساخر وهو يقف على بعد مسافة قريبة منهما يضع كلتا يداها في جيب سرواله:

-طيب بتشتمني ليه طيب يا أبيه؟ ده أنا جاي وراك عشان اصالحك.

رفع زيدان يديه إلى وجهه وفركه بقوة مجددًا وهو يستغفر بصوتٍ خافت قبل أن ينفجر بنبرةٍ حانقة:

-انت داخل ليه يا بارد؟ مش أنا قايلك متدخلش لما يهدى.

اقترب يزن بخطوات حذرة وعيناه تتنقلان بين أخويه كمَن يخشى أي شرارة انفجار، قبل أن يرد بصوتٍ يحاول أن يبدو مازحًا:

-يا عم ده انت داخل تعكها، وبعدين سيف قالي ادخل ومتسبش زيدان لسليم عشان سليم مش ناقص اللي يسوحه هو متسوح جاهز.

اشتعلت ملامح سليم بغضبٍ مكتوم وهو يرفع يديه ساخرًا وكأنه يسلم بالأمر الواقع:

-شوفت؟! شوفت البيه بيتكلم عليا ازاي؟ ما هو كبر خلاص!!

اندفع يزن فجأة ليدفع زيدان من على المقعد ويجلس مكانه بثقةٍ طفولية، وسط نظرات استنكار من زيدان الذي عقد حاجبيه بضيق، لكنه آثر الصمت وتركه يجلس، بينما انحنى يزن نحو سليم محاولًا تلطيف الأجواء بصوتٍ عذبٍ يشوبه الرجاء:

-حقك عليا يا اخويا يا كبير يا حبيبي يا للي ماليش غيرك، أنا لو لفيت الدنيا كلها ملاقيش أخ زيك، عارف زيدان ده ولا يفرقلي أصلاً، انت الكل في الكل والباقي كنتلوب.

رمقه سليم بنظرةٍ ممتعضة وبدت على شفتيه ابتسامة خافتة لكنه أخفاها سريعًا، بينما اقترب يزن أكثر حتى كاد أن يقبل خده، إلا أن سليم ابتعد عنه بضيق مفاجئ وصوته خرج بحدة:

-ابعد عني، خلاص...خلاص مش زعلان بس أنا لسه عند رأيي، أنا كنت غلط لما ضغطت عليك، لازم اتصل على أبو سيرا الصبح واعفيك من الحوار ده...

ما إن أنهى جملته حتى تحولت ملامح يزن للارتباك، التفت بسرعة إلى زيدان مستنجدًا لكن الأخير اكتفى برفع رأسه إلى الأعلى مطلقًا صفيرًا عاليًا وكأنه ينسحب عمدًا من الموقف، عندها استدار سليم نحوه فجأة وسأله بنبرة هادئة تحمل استفزازًا دفينًا:

-ولا انت رأيك إيه يا زيدان؟

تحركت شفتا زيدان بابتسامةٍ صغيرة وهو يهز رأسه موافقًا، ثم قال بلهجةٍ متأنية وهو يراقب:

-عندك حق في كل كلمة قولتها، أساسًا يزن مبيحبهاش نغصبه يتجوز واحدة مبيحبهاش؟! معقولة ده حتى أخونا الصغير، ومينفعش نتدخل في حياته.

رفع يده فجأة ليداعب خد يزن كمَن يسخر منه أكثر، فانتفض الأخير بحدةٍ وهو يبعد رأسه قائلًا بضيق:

-طيب كملوا جميلكم بقى وزي ما قولتلك يا سليم ما تدخلش في حياتي، ماتكلمش ابو سيرا في حاجة لو سمحت، دي حياتي وأنا حر فيها!

رفع سليم حاجبيه معًا بدهشةٍ ممزوجة باستفزاز ورد بنبرة تحمل مزيجًا من السخرية والاستنكار:

-الله!! ليه بس يا يزن ما انت مش بتحبها وأنا غصبتك عليها من الاول.

تحرك يزن في مقعده بتوتر وألقى نظرة سريعة على أطراف الورشة وكأنه يخشى أن يسمع أحدهم حديثهم، ثم قال بصوتٍ خافت يحاول السيطرة على انفعاله:

-يا عم ما بلاش الكلام ده أحسن الاقيها طالعة من أي مكان، وأنا ما صدقت ابعد الكلام ده عن دماغها.

ضحك زيدان عاليًا وهو يومئ برأسه ساخرًا:

-عملتلك رعب، يزن دنجوان عصره خايف من خطيبته.

رفع يزن حاجبيه مستنكرًا وهو يرد بحزمٍ ممزوجٍ بالحرص:

-اسمها خايف على مشاعرها، وبعدين أنا مش قولتلك مالكش دعوة بيها.

وقبل أن يتمكن زيدان من الرد بحنقه المعتاد، كان يزن قد مال نحو سليم فجأة ليقبل رأسه بانحناءةٍ يغلب عليها الاحترام والاعتذار:

-حقك عليا يا سليم، والله ما كنت اقصد اقولك الكلام ده كله، بس يعني كنت متضايق الصراحة من وقتها لما جيبت المهندس وسيرا من غير ما اعرف، فحسيت إن ماليش لازمة.

نظر إليه سليم مطولًا وعيناه تلمعان بجرحٍ خفي لم يبح به، ثم قال بنبرةٍ مشدودة:

-كان ممكن تقولي كده، ومتروحش تقلل مني مع المهندس، عشان أنا اسمي ووضعي مش قليلين عشان حد يهزهم بالشكل ده!!

ابتسم زيدان ابتسامة خبيثة وهو يتكئ للخلف بارتياح، مستغلًا لهجة أخيه الغاضبة ليؤجج الموقف أكثر:

-اديله فوق دماغه يا سليم، اديله الحيوان ده ازاي يتجرأ ويعمل كده، ده أنا مقدرش اعمل كده، ولا يمكن أكسرلك كلمة.

وفي تلك اللحظة، كان شاب صغير لا يتجاوز السابعة عشرة يدخل بخطواتٍ مترددة يحمل صينيةً عليها أكواب عصير باردة، وضعها على الطاولة الصغيرة أمامهم ثم قال بهدوءٍ متحفظ وكأنه ينقل رسالة حاسمة:

-عم سيف بيقولكم، لو خلصتهم اشربوا العصير وامشوا، عشان هو وراه شغل كتير وورشتة مش مصلحة اجتماعية...عن إذنكم يا بشوات.

ساد الصمت فجأة بينما نظراتهم الثلاثة تتنقل بين العصير البارد والباب المغلق خلف الفتى، فقال لهم سليم بحسم:

-يلا نروح لينا بيت يلمنا، وانت طاجن البامية اللي شمس عملته خسارة فيك ومحروم منه.

انطلق يزن خلفه يهتف بنبرة تميثيلة:

-لا بالله عليك ارحمني من الميراث ولا تحرمني من طاجن البامية.

انطلقت ضحكات الثلاثة تتردد في أرجاء الورشة كأنها تكسر صمتًا طويلاً أثقل قلوبهم، وقد بدا أن كلمات يزن المازحة نجحت ولو للحظة في تبديد حدة التوتر الذي خيم بينهم.

التفت سليم نحو زيدان وأرسل إليه غمزة عابرة، فقرأ الأخير في عينيه ما لم يُقل، وتفهم على الفور سر ذلك التبدل المفاجئ في لهجة يزن واندفاعه السريع لمراضاته، فأدرك أن شقيقهما الأصغر لم يُسارع بالاعتذار خضوعًا لهيبة سليم وحدها، بل لأن قلبه بات معلقًا بفتاة بعينها، ويخشى أن يقف كبرياء أخيه حائلًا بينه وبينها.

بدا يزن في تلك اللحظة كمَن يغرق حتى رأسه في بحرٍ واسعٍ من الإعجاب بها، يحاول أن يوازن بين مشاعره العميقة وخوفه من أن يُغضب مَن كان يومًا له سندًا وملاذًا، فقد كان صوته المرح يخفي خلفه صراعًا صامتًا بينما كان قلبه يخفق بإيقاعٍ لا يسمعه سواه.

                                ****

بعد مرور يومين...

خرجت سيرا بخطواتٍ متهللة لكنها بطيئة من بناية فاطمة بعد جلسة طويلة قضتها معها امتلأت بالأحاديث الدافئة والفضفضة، كانت الساعة الحادية عشر مساءً وخف المارة من الشارع الطويل الموجود بين بناية فاطمة وبنايتها، لمس نسيم خفيف وجنتيها بينما هي تمسك هاتفها وتبتسم وهي تتحدث إلى يزن:

-انت عايزني استنى قاسم ولا عبود لما يجوا ياخدوني، ده كده أنا هبات عند فاطمة.

جاءها صوت يزن حازمًا لكنه لم يخلُ من القلق المحبب:

-سيرا اسمعي الكلام ومتخرجيش لوحدك تاني، وبعدين هي يسر مخلصتش من محلها ما هو مش كل يوم تروحي!

رفعت حاجبيها وضحكت بخفة وفي عينيها لمعة شقية:

-يزن، الست متدمرة ميبقاش انت والزمن وجوزها عليها كفاية، وبعدين أنا الساعتين اللي بروحلها فيهم دول بفصل فيهم من أبلة حكمت وعيال اخواتي اللي بيدوشوني.

ظلت تتحدث معه حتى وصلت إلى بنايتها، توقفت أمام المدخل وابتسمت بخفة قبل أن تغلق المكالمة، لكن ابتسامتها سرعان ما انطفأت حين لاحظت أن مدخل البناية يغرق في الظلام، تقدمت خطوة ورفعت حاجبيها بدهشة وهمست بصوتٍ خافتٍ متوجس:

-مين طفى نور المدخل؟!

مدت يدها تتحسس مفتاح النور لكن فجأةً شعرت بكف خشن يكمم فمها بقسوة، وجذب عنيف يقذفها إلى زاوية جانبية في المدخل شبه مظلمة يتسلل إليها أضواء الشارع، كاد قلبها يقفز من صدرها من شدة الرعب حتى دوى في أذنها صوت منخفض خشن يحمل نبرة شريرة:

-أنا اللي طفيته.

شهقت بعنف وهي تحاول التملص منه فسقط هاتفها أرضًا ليصدر صوت ارتطامٍ خافت على البلاط البارد، حاولت دفعه بكل قوتها لكن ما إن أدركت صوته حتى تجمدت عروقها رعبًا، فما كان سوى فايق، اقترب منها أكثر وهمس بنبرة ناعمة مريبة وكأن الشر يقطر من صوته:

-وحشتيني على فكرة.

اشتعل الغضب في عينيها وهي تدفعه بكل ما أوتيت من قوة، ثم رفعت يدها لتصفعه لكن عينيه كانتا أسرع، إذ أخرج سكينًا صغيرة وصوبها نحو بطنها هامسًا بنبرةٍ خافتة تتشح بالتهديد:

-لو فكرتي تعمليها هتلاقي المطوة بتشق بطنك الحلوة دي.

تسمرت في مكانها والذعر ينهش أطرافها، بينما نظراته القذرة تتجول على جسدها بوقاحة رغم أن ثيابها كانت واسعة مكونة من سترة رياضية سوداء فضفاضة وسروال بنفس اللون، شهقت بغيظ مكتوم وهي تقول بصوتٍ مرتجف لكنه متهدج بالغضب:

-ابعد يا فايق عشان مش هيبقى حلو أبدًا لما اصوت والم الناس عليك، وعيلتي يضربوك.

ابتسم فايق ابتسامةً ساخرة لكنه في الوقت نفسه دفع السكين أكثر نحو بطنها، فانتفضت شهقة حادة من صدرها وهو يهمس ببطء شديد كمَن يتلذذ بخوفها:

-وقتها بردو صوتك هيصرخ من الألم لما المطوة تشق بطنك.

تراجعت خطواتها غريزيًا بينما الرعب يتسلق روحها، لكنها تماسكت قدر المستطاع ثم رمقته بنظرة مصعوقة من الشر الكامن في عينيه وسألته بحدةٍ متقطعة:

-أنت عايز إيه مني؟ أظن انت عارف كويس مفيش بيني وبينك حاجة عشان تتعلق بيا بالشكل ده.

تغيرت ملامحه فجأة واختفى الخبث ليحل محله حقدٌ دفين بينما نفث كلماته بحممٍ من الغضب:

-رفضتيني، وفضلتي حتة عيل مالوش لازمة عليا.

رفعت رأسها بتحدٍ رغم الارتجاف الذي يسري في أطرافها وردت بصوتٍ يحمل قوة وكبرياء:

-يزن ده أرجل منك لإنه استحالة يعمل اللي انت بتعمله ده، واظن إن كان عندي بُعد نظر.

ذكر اسم يزن كان كصب الزيت على النار، إذ اقترب فايق أكثر حتى كاد أنفاسه تلامس شفتيها، وهمس بغيظٍ يقطر تهديدًا:

-فرحانة بيه عشان شكله صح؟ طيب ما أنا ممكن ارميه بازازة ميه نار في وشه اشوهلك ملامحه.

شهقت بعنف كأن الهواء اختفى من حولها، وبدأت عيناها تلمعان بخوفٍ لا إرادي، بينما تابع هو تهديداته وقد اشتدت نبرته:

-ولا أولعلك في المعرض بتاعه ويخسر فلوسه وحياته ويبقى بردو حتة عيل لا راح ولا جه.

همست بصوتٍ منخفض بالكاد خرج من بين شفتيها، وقد اكتسى وجهها بالامتعاض والصدمة:

-انت مريض نفسي ومحتاج تتعالج.

ابتسم بمرارة وصرامة ثم اقترب أكثر حتى شعرت بحرارة أنفاسه الخانقة:

-مريض بيكي،  اه مريض نفسي بيكي ومش هسيبك غير وانتي ليا يا سيرا، انتي الوحيدة اللي أنا حبيتها وانتي رفضتيني وفضحتيني في المنطقة كلها.

حدقت فيه بعينين تملؤهما القوة رغم الضعف وهتفت بحدةٍ حارقة:

-انت اللي فضحت نفسك بعمايلك السودة، ابعد عني بقى.

صرخت بعنف وهي تدفعه بكل قوتها لكن فايق استدار بسرعة وجذبها عنوة ليحتضنها بقسوةٍ فجة، فيما هي كانت تقاومه بشراسة وتضربه وتدفعه بلا هوادة، حتى عضت كتفه بغل شديد، فارتد عنها متألمًا وهو يضغط على جرحه، ورمقها بعينين تشتعلان غضبًا ووعيدًا ثم زمجر مهددًا:

-وربي ما أنا سايبك يا بنت الـ **** حسابك تقل معايا أوي انتي واهلك، وخطيبك الحلو اللي انتي فرحانة بيه ورايحة جاية معاه، أنا مش هسيبه في حاله، وهخليه يرميكي رمية الكلب.

ثم دفعها بعيدًا وغادر البناية بخطواتٍ غاضبة، تاركًا خلفه صدى تهديداته القاتلة يتردد في أذنها، تجمدت في مكانها ووجهها كان شاحبًا كالأموات، وعيناها تلمعان بخوفٍ حقيقي ينهش صدرها، لم يكن الخوف على نفسها بقدر ما كان خوفًا على يزن…خشيت أن ينفذ فايق تهديداته فتبتلعه نيران الانتقام.

صعدت الدرج مسرعة وقلبها يدق كطبول الحرب، حتى توقفت أمام شقة حكمت فسمعت جدالًا حادًا بينها وبين أبنائها حول إهمالهم، تنهدت في صمت ثم فضلت الصعود إلى شقتها مباشرة.

ما إن دخلت حتى وجدت الجميع في عالمٍ آخر؛ ضحكات عالية وصخب عائلي، وأصوات المعلقين الرياضيين تملأ الأجواء، كان والدها جالسًا بارتياح، متابعًا المباراة بوجه متهلل فرحًا بفوز الأهلي، قبل أن يهتف بحماس:

-لو ربنا أراد وكسبنا هعزمكم على أي حاجة نفسكوا فيها.

تعالت صيحات الفرح من أخواتها الفتيات وضحكات أزواجهن، بينما كان عبود وقاسم في عالمهما الخاص، يتابعان المباراة بانفعالٍ وكأن اللاعبين يسمعون حماسهما من خلف الشاشة.

وقفت سيرا للحظة تتأمل هذا المشهد الصاخب، لكنها شعرت بوحدةٍ قاتلة تنهش روحها، وكأنها غريبة وسط أهلها، انسحبت بهدوءٍ إلى غرفتها دون أن يشعر بها أحد وأغلقت الباب خلفها وهي ترتجف.

ألقت بنفسها على السرير وقررت الاتصال بـيزن لطلب المساعدة، لكن هاتفه كان مغلقًا، زفرت بقوة وترددت بشدة؛ فإخبار يزن الآن قد يدفعه للتصرف بتهور، فينفذ فايق تهديده بحقه…وحينها ستعيش بذنبٍ لا يغتفر طيلة حياتها.

                              ****

جلس فايق في غرفته التي تملؤها رائحة دخان السجائر الثقيلة، بينما يعلو صوت مروحة قديمة تدور ببطء، جلس بجانبه صديقه من أبناء المنطقة يحمل الهاتف بين يديه وعيناه تلمعان ببريق مكرٍ خبيث.

كانت الصور التي يراجعانها على شاشة الهاتف صادمة؛ لقطات ملتقطة بخبث توحي زورًا وكذبًا بأن فايق وسيرا على علاقة سرية وكأنهما حبيبان يلتقيان خلسة، تفحص فايق الصور بتركيز شيطاني وعلى وجهه مزيج من الغضب والحقد واللذة، قبل أن يهمس بنبرةٍ خافتةٍ متقطعة:

-لا دي أحسن...

ثم مرر إصبعه على الشاشة يشير إلى صورة أخرى، وانفرجت شفتاه عن ابتسامة نصرٍ باردة، وهو يقول:

-ودي أجمد، ابعتهم بقى لأي واحد في المنطقة متسبش واحد، وابعتهم لعبود وقاسم وعيلتها كلها.

رفع صديقه رأسه نحوه مترددًا صوته يحمل لمحة خوف رغم أنه يحاول مواكبة مكر فايق:

-دلوقتي؟

نظر إليه فايق بثباتٍ حاد ثم أطلق ضحكة قصيرة مشبعة بالشر وهو يميل برأسه إلى الأمام:

-اه طبعًا ده حلاوتها في حموتها.

أما في الخارج…

كانت والدته تجلس في صالة البيت على أحر من الجمر يدها تتشابك بعصبية وهي تفرك كفيها بتوتر، بينما نظراتها القلقة تتنقل بين الباب المغلق لغرفته وبين ابنتها سهام الجالسة بلا مبالاة على الأريكة، تمسك بجهاز التحكم وتشاهد التلفاز وكأن شيئًا لا يحدث، تنهدت الأم بحنقٍ يقطر قلقًا قبل أن تقول بصوتٍ متقطع:

-يا بت قومي قوليله بلاش اللي بيعملوه ده، ده لسه خارج من السجن، وبعدين وربنا حكمت ما هتسيبنا وهتفرج علينا أمة لا إله إلا الله..

لم تُبدِ سهام أي اهتمام رفعت يدها بتكاسل وهي تلوح بإهمالٍ واضح، ثم ألقت بجملتها ببرودٍ جارح:

-وأنا مالي؟! ابنك ماشي بدماغه والله لو الدنيا ولعت أنا ماليش دعوة، كفاية العلقة اللي اخدتها من حكمت ده أنا عندي تروما بسببها.

اتسعت عينا الأم بصدمة وهي تحدق في ابنتها بعدم استيعاب، ثم شهقت قائلةً بغضبٍ حانق:

-تـ إيه ياختي؟ يالهوي بقولها إيه؟! وتقول إيه؟

ثم زفرت بحسرةٍ ثقيلة وهي ترفع يدها إلى السماء وكأنها تستنجد قبل أن تعود لتصرخ بنبرةٍ متوسلة:

-يا بت قومي اتكلمي معاه اخوكي حاله اتغير، ما تتجوز سيرا ولا تهبب احنا ملناش دعوة، ربنا يسترها.

لكن سهام بقيت على أريكتها وعيناها مثبتتان على الشاشة، وملامحها تنطق باللامبالاة القاسية، وكأن عاصفة الخراب التي يخطط لها فايق لم تطرق أبوابهم بعد، وفي داخل الغرفة…كان فايق يبتسم ابتسامة مُنذرة بينما صديقه يشرع في إرسال الصور واحدة تلو الأخرى، لتبدأ شائعة العار في التشكل كشرارة أولى لحريقٍ قد يلتهم الجميع.

                              ****
كانت دهب تعيد ترتيب الصالة بحنقٍ شديد وهي تتمتم بغيظٍ مكتوم تخشى أن يفسد طلاء أظافرها الجديد الذي جلست ساعةً كاملةً في وضعه بعناية، لكن والدتها قطعت عليها تركيزها فجأة فصرخت بها بعنف كي تقوم بمساعدتها.

ولكنها تسمرت في مكانها بصدمةٍ وخوف عندما سمعت صوت والدتها يهتف من خلفها بنبرة استنكار حادة:

-بت يا دهب، شنطة خالتك سيرا بتعمل إيه في اوضتك؟

ابتلعت دهب ريقها بتوتر وهي تلتفت ببطء، لتجد والدتها تعبث بمحتويات الحقيبة بعينين فاحصتين حتى شهقت فجأة بذعرٍ وعيناها تتسعان بصدمة وهي تصرخ:

-يا نهار أبوكي أسود شبكة خالتك بتعمل إيه عندك يا بت؟
قبضت حكمت على يد ابنتها بعنف بينما ارتجفت دهب كغصن هش تلاعبت به رياح عاتية، وقد تلبستها رهبة نظرات والدتها الساخطة، تلك النظرات التي تحمل قسوة تكفي لتهدم قلبًا ضعيفًا، ارتفع صوت حكمت غليظًا كالسوط يخترق السكون:

-بقولك يا بت انطقي، شبكة خالتك بتعمل إيه عندك يا بت؟ سرقتيها؟!

شهقت دهب بخوفٍ بالغ وقد عجزت عن إيجاد مبررٍ يقنع والدتها تلك التي من الصعب إرضاؤها أو صرف غضبها، فتمتمت بنبرة باكية متقطعة كأنفاسها المرتعشة:

-أسرق إيه يا ماما؟ انتي تعرفي عني كده، ده...ده...

لكن حكمت لم تترك لها فرصة فقطعتها بحدةٍ كالسيف وهي تهزها بقوة تكاد تُفتت عظامها:

-ده إيه؟! انطقي بسرعة، عشان مقطعش خبرك دلوقتي.

ابتلعت دهب ريقها بصعوبة تبحث عن خلاصٍ من ورطتها، وعندما وقعت عيناها على حقيبة سيرا، تنفست الصعداء فأشارت إليها برجاءٍ مذعور:

-أنا ماعرفش حاجة عن الشبكة، بس الشنطة أنا كنت طلبتها من خالتو سيرا وهي ادتهالي...

ثم التفتت بسرعة نحو الشبكة فوجدت في إهمال سيرا الشهيرة به حبل نجاة، فاستطردت بنبرة مرتجفة ممزوجة بذكاء فطري:

-شـ...شوفتي إهمال خالتو سيرا، حاطة شبكتها في الشنطة وناسية وادتهالي، افرض بقى كانت وقعت ولا واحدة صاحبتي فتحتها من ورايا وسرقتها يالهوي يا ماما، الحمد لله يارب.....الحمد لله بجد.

رغم توتر الموقف بدت حجتها مقنعة بعض الشيء، خاصة حين عزفت على وتر إهمال سيرا المعروف، ولكن حكمت لم تهدأ بل جذبتها خلفها وهي تقول بأمرٍ صارم:

-انجري ورايا، خلينا نطلع لخالتك الاول نسألها.

ارتبكت دهب أكثر وتراجعت خطواتها المرتعشة تتوسل وهي تلحق بها:

-ليه يا ماما انتي مش مصدقاني؟!

أجابتها حكمت بعصبية وهي تشق طريقها:

-لا مصدقاكي بس سيرا لازم تتهزق وتعرف نتيجة إهمالها، دي كانت هتودينا في داهية، في حد يحط شبكة غالية زي دي في شنطة؟!

حاولت دهب أن تُلين قلبها قائلة بخوفٍ متوسل:

-طيب اهدي يا ماما بلاش تزعيلها، ابقي فهميها بعدين براحة، مش لازم وكله موجود فوق.

لكن حكمت لم تُعرها اهتمامًا فقط زجرتها بعنف:

-بس يا بت مالكيش دعوة انتي.

اندفعت إلى داخل شقة والدها دون استئذان، والخطى الغاضبة تُعلن قدومها قبل أن يظهر وجهها، بينما تتبعها دهب بخوفٍ كاد يُسقطها على الأرض من تعثرها، فتحت حكمت باب غرفة سيرا فجأة وهي تصيح بغضبٍ مكتوم بالكثير من الاتهامات:

-سيرا...انتي اديتي البت دهب شنطتك دي؟

ارتبكت سيرا التي كانت جالسة على فراشها تتحدث مع فاطمة في شأنٍ فايق، فأغلقت المكالمة سريعًا تتطلع بذهول إلى الحقيبة التي ترفعها حكمت عالياً، حاولت التذكر لكن ذهنها كان مضطربًا فقالت بارتباك:

-لا مديتهاش حاجة.

توسعت عينا دهب رعبًا ثم تقدمت بخطواتٍ مترددة نحو خالتها، وأشارت إلى الحقيبة بخوفٍ يتخلله الاستعطاف:

-لا إيه يا خالتو؟ صلي على النبي كده وافتكري، مش أنا كنت طلبت منك شنطة شكلها حلوة وانتي قولتيلي خدي دي.

هزت سيرا رأسها بعجزٍ وقالت بتيهٍ ظاهر:

-مش فاكرة خالص.

حينها انفجرت حكمت كبركانٍ ثائر تصرخ بنبرة عالية جذبت أهل البيت جميعًا:

-مش فاكرة يعني مهملة ومستهترة، اديتي البت الشنطة وانتي حاطة فيها شبكتك وأنا والبت اتفاجئنا بالشبكة فيها، افرض كانت وقعت من البت في الدروس ولا اتسرقت، ده كله عشان إهمالك يا هانم في حد بيحط شبكة غالية كده في شنطة؟! 

هرعت والدة سيرا وقد علت وجهها ابتسامة ارتياح وهي تلتقط الشبكة بيديها تتحقق منها:

-مش مشكلة يا حكمت المهم إننا لقيناها، روحي يا فريال قولي لابوكي ده هيفرح اوي.

لكن كلماتها زادت من غضب حكمت التي صاحت بحنق:

-هو إيه اللي مش مشكلة يا ماما؟! دي مصيبة بنتك كده مش هينفع تفتح بيت ولا تتحمل مسؤولية.

اشتعلت سيرا غضبًا وقد ضاق صدرها بحدة أختها، فردت بنبرة عصبية:

-أبلة لو سمحتي ماتكلمنيش كده، أنا حقيقي مش فاكرة إن قولت لدهب خدي الشنطة دي، أنا أصلاً كنت قالبة الدنيا عليها، وبعدين أنا عمري ما حطيت دهبي في شنطة.

انتفضت حكمت وعينيها تقدحان شررًا:

-يعني إيه يا سير؟! بنتي حرامية ولا إيه؟ ما تاخدي بالك من كلامك.

تدخلت كريمة مسرعة محاولة تهدئة الوضع:

-اهدي يا أبلة، أكيد سيرا ماتقصدش...

ثم التفتت نحو سيرا توجه عتابها بنبرة هادئة:

-وبعدين يا سيرا انتي أصلاً مابتركزيش، وأنا سمعتك قبل كده بتقولي لدهب لو عايزة حاجة منك تاخدها من الاوضة، فتلاقي دهب اتصرفت بعفوية ودخلت أخدتها....بس بردو انتي مينفعش تحطي شبكة بالمبلغ ده في شنطتك.

صرخت سيرا بإصرارٍ ممتزج بالحيرة:

-والله كنت حاطها في الدرج بتاعي والله عمري ما حطيتها في أي شنطة.

فجاء صوت فريال هادئًا كالنسيم:

-معلش يا سيرا اهدي الحمد لله لاقينها، ووارد تكوني نسيتي وحطيتها بس بعد كده ابقي ركزي.

لم تستطع سيرا أن تتحكم بانفعالاتها فانهارت باكية بانفجارٍ موجع، وهي تكرر عباراتها بإصرارٍ كالغريق الذي يتمسك بآخر قشة:

-أنا مانستش ومش مهملة، محدش عايز يصدقني ليه يا ماما؟

كانت كلماتها تنبعث من بين شهقات متقطعة، محملة بثقلٍ يفوق طاقتها وهي تشعر أن الجميع يطوقها بالاتهامات، بينما قلبها يضج برعبٍ أعمق من ذلك، رعبٍ من فايق وما فعله معها ومن صورته التي تطاردها في كل زاوية، فلا تجد ملجأً لتستجير به، أحست أنها محاصرة من الخارج بعائلتها، ومن الداخل بأشباح الخوف والعار وكأنها في سجنٍ بلا جدران.

أما والدتها فقد وقفت عاجزة في المنتصف، عيناها تتحركان بين سيرا المنهارة وحكمت الثائرة، قلبها يتقطع حزنًا لرؤية ابنتها الصغرى غارقة في هذا البحر من الاتهامات واليأس، لكنها في الوقت نفسه ترتجف من مواجهة حكمت التي لا تعرف اللين في كلامها.

وفجأة انشق صراخ هادر كالرعد أطلقه عبود وهو يقتحم الدائرة ممسكًا بمرفق سيرا بعنف يهزها هزًا، ووجهه يقطر غضبًا وجنونا بينما يشير بالهاتف أمام الجميع:

-إيه الصور دي يا سيرا؟ إيه الصور دي؟

ظل يكرر الجملة بصوتٍ مبحوح كالمجنون، يضغط على الكلمات وكأنها طعنات متوالية، حتى بدا أنه فقد السيطرة على نفسه، دفع أخته الكبرى بعنفٍ لم يألفه أحد منه وكأن الدم قد فار منه عقلاً وقلبًا.

وقف قاسم بجانب والده ساكتًا، لكنه يرمق سيرا بنظراتٍ مشبعة بالاتهام، نظراتٍ لا تقل قسوة عن ضربات عبود، وما لبثت أن امتدت يد حكمت لتخطف الهاتف من يد عبود، وحين وقعت عيناها على ما فيه خرجت منها صرخة مدوية مزقت صمت المكان:

-يا نهار أسود، يا نهار أسود ومنيل بستين نيلة، دي فضيحة أكيد الصور دي مش حقيقية ايوة أكيد مش حقيقية مش صح يا بت يا سيرا؟ 

ارتجف الحاضرون جميعًا بينما سيرا تتراجع إلى الخلف كمَن تلقى طعنة غادرة، وهنا تدخل صافي زوج حكمت بصوتٍ غاضب يحمل شيئًا من الدفاع، لكنه لا يخلو من المرارة:

-فايق اتجنن على الآخر وصل به الندالة أنه يفبرك صور ويبعتها للمنطقة كلها.

كانت الكلمات تسقط في قلب سيرا كالماء فوق جمر، لكنها لم تطفئ النار بل زادتها اشتعالًا، لم تستطع أن تصدق ما تراه عيناها صور محترفة التُقطت بخبثٍ يظهرها وكأنها تعيش قصة حب محرمة في الظل، الآن فقط انكشف أمامها سر تلك المقابلة المشؤومة وتهديداته الثقيلة التي كان يرميها في وجهها كقنابل ليشغلها عن نواياه المظلمة.

رفعت رأسها تنظر إلى من حولها؛ إلى أزواج أخواتها الذين يرمقونها بعيونٍ مليئة بالريبة والخذلان، وإلى عبود الذي جلس منهارًا إلى جوارها يلهث بأنفاس عالية، أما والدها فبقي واقفًا عيناه غامضتان كأبوابٍ مغلقة، لا يُدرى إن كان في داخله نار غضبٍ أم صخور خيبة، بينما والدتها لم تحتمل المشهد فانهارت على مقعدٍ قريب، واضعة كلتا يديها فوق رأسها تتأرجح يمينًا ويسارًا، تتحدث بعبارات لم يفهمها أحد سوى أنها تعكس حجم الكارثة.

عم الصمت المكان كأن الزمن توقف لكن قاسم فجر قنبلة جديدة بكلماته التي حملت اتهامًا صريحًا:

-بس الهدوم اللي موجودة في الصورة نفس الهدوم اللي انتي لابساها، انتي شوفتي فايق؟

ارتجفت سيرا وشحب وجهها كمَن سُحبت منه الدماء، صمتٌ طويل لفها، صراع داخلي يمزقها بين الاعتراف والكذب، فهي إن قالت "نعم" ربما يصدقون الصور، وإن أنكرت سيظل الشك قائمًا ويؤكد في أعينهم الجريمة، لم يعد ثمة مهرب الطريقان كلاهما يؤديان إلى الهاوية.

فانفجر صوت والدها صارمًا كالرعد القاصف يقتلعها من صمتها:

-ردي شوفتي فايق؟ والصور دي حقيقية؟!

انتفض جسدها كله وانحنت بخوف، ثم أومأت برأسها إيجابًا بعد ترددٍ طويل، وتلعثمت كلماتها كأنها تخرج من بين شظايا:

-اه شوفته وأنا جاية من عند فاطمة، لقيته في المدخل مستنيني وأنا ماعرفش...

لكنها لم تُكمل إذ جاء رد والدها أسرع من أنفاسها؛ صفعة قاسية اخترقت وجنتها وألقتها إلى هاوية الذل بينما صوته يهدر كالجلاد:

-يعني سمحتيله يقرب منك كده؟ يا خسارة تربيتي فيكي، يا خسارة تربيتي فيكي، فضحتينا.

شهق الجميع وقد جمدت الدماء في عروقهم من هول ما رأوا، فلم يكن أحد يظن أن حسني الذي كان يحمل سيرا في قلبه كأقرب بناته إليه وأكثرهن دلالًا قد يمد يده عليها يومًا.

خيم الصمت ثقيلاً كالكفن، لم يتنفس أحد وكأن الأنفاس تجمدت في الصدور، أما سيرا فقد بقيت ترتجف والدموع تسيل على وجهها تبحث بين العيون المحيطة بها عن حضنٍ يأويها فلم تجد، وحدها حكمت رغم قسوتها اقتربت لتضمها بين ذراعيها بينما انسلت الأجساد من حولها واحدًا تلو الآخر تاركين إياها وحيدة وسط الزلزلة.

في تلك اللحظة لم تستطع سيرا أن تردد سوى جملة واحدة خرجت منها بلا وعي كصرخة مكتومة في وجه الظلم:

-معملتش حاجة غلط.....والله معملتش حاجة غلط.

كانت كلمات سيرا تتساقط في الفراغ كحبات مطرٍ تضيع في صحراء قاحلة؛ فلا تجد أذنًا تصغي إليها، ولا قلبًا يصدقها إلا حكمت التي بقيت تضمها إلى صدرها تربت فوق ظهرها بيدٍ حانية، حتى كادت أن تبكي معها، فقد كان بكاء سيرا يشبه بكاء الأطفال المذعورين، عالياً متقطعًا، لا يخلو من عجز، فقالت حكمت بحزن حقيقي والدمع يترقرق في عينيها:

-بس يا بت بقى، قلبي واجعني والله.

رفعت سيرا وجهها المبلل بالدموع تحدق في أختها بحرقة بعينين تملؤهما رجاءات يائسة:

-أنا ماعملتش حاجة غلط والله يا أبلة، انتي مصدقاني ولا زيهم؟

لكن يدًا أخرى باغتتها وما كانت سوى يد والدتها التي اندفعت إلى الغرفة فجأة تجذبها من أحضان حكمت بعنفٍ وهي تهدر بصوتٍ غاضب:

-المنطقة كلها بتتكلم عليكوا وبيقولوا إنك مواعداه، وإنك بتجري وراه واحنا غصبناكي تتخطبي لواحد تاني.

التفتت حكمت إلى والدتها مبهوتة من كلامها وقالت باستنكارٍ عميق:

-إيه التخلف ده يا ماما؟ مين اللي بيقول كده وأنا اقطع لسانه.

ظهرت شاهندا على عتبة باب الغرفة تقبض بيدها على الإطار الخشبي وقالت بارتباك:

-أعمامك وقرايب بابا اتصلوا عليه ومستغربين اللي بيحصل!

ازدادت حدة الأم وصرخت بعنف وهي تهز سيرا من كتفيها:

-انطقي وقولي إيه اللي حصل ابوكي هيتجنن هيجراله حاجة.

عندها انفجرت سيرا في بكاءٍ مروع وحنجرتها تختنق بالكلمات وهي تسرد ما حدث، تحكي عن تهديدات فايق وعن السكين الذي صوبه نحوها كي يرغمها على الصمت والرضوخ إليه، كأنها تُخرج غصة مسمومة من صدرها، فارتجفت حكمت من وقع الكلمات ثم صاحت بغضبٍ:

-يا ابن الـ **** هو فاكر إيه؟ إننا مش هنعرف نوقف له وربي ما أنا ساكتة لنازلة وجايباه هو وعيلته الارض.

اندفع الجميع لإيقافها لكن الغضب كان يعمي بصرها، لم تنظر في وجوههم بل جذبت سكينًا من فوق المائدة وانطلقت تهبط السلم بخطوات صاخبة حتى وقفت أمام بيت عائلة فايق، والدم يغلي في عروقها، رفعت السكين عاليًا وصاحت بأعلى صوتها:

-اطلعلي يا فايق انت وامك، اطلعلي يا روح أمك، لو راجل اطلع، فاكر يالا الحركات الخايبة دي هتخوفنا يا رد السجون يا خمورجي يا بتاع الكاس والبيرة.

تجمع الجيران حولها في ذهول بينما صافي يحاول جذبها من ذراعها لتعود، لكن حكمت صاحت بصوتٍ أشد والسكين تلمع في يدها:

-يا صايع ياللي مش لاقي حد يريبك أنا أربيك وأربي عيلتك كلها، مش دي السكينة اللي انت مهدد بيها اختي لما استنيتها في المدخل لو راجل اطلع وأنا اشقها في بطنك ومفيش راجل في عيلتك هيتعرضلي.

صرخ صافي بحزن ينهرها:

-حكمت انتي اتجننتي اتدخلي جوه، مش ناقصين فضايح.

لكنها لم تُصغِ بل وجهت كلماتها إلى نافذة الشقة حيث يختبئ فايق:

-الفضايح دي هتحصل لما الشرطة هتقبض عليك تاني يا فايق يا رد السجون، وخلي أمك بكرة تتبسط بيك، أنا أختي أشرف منك ومن عيلتك كلها، محروق يا وله منها عشان رفضت خمورجي زيك، اه ما الحركات دي ماتطلعش إلا من واحد زبالة زيك.

عندها ظهرت والدة فايق من الشرفة بأمرٍ منه وهي تصرخ بأعلى صوتها مستنجدة بالجيران:

-يا عالم يا ناس شوفتوا اهو، حكمت بتهددنا علنًا بأخو خطيب أختها عشان ظابط وهيسجن ابني، ابني يا اختي اللي سجنتوه ظلم عشان بنتكوا تبعد عنه عشان مش قادرين عليها.

قهقهت حكمت بسخرية لاذعة ثم صاحت:

-يا ولية يا بجحة ده أنا مدياكي علقة انتي وبنتك قبل كده عشان قلة أدبكوا، باين محتاجة علقة تاني.

لكن والدة فايق زادت في صراخها:

-ابعدوا عننا يا حكمت وابعدوا اختك عن ابني، أنا ابني مش هيتجوزها وحلفت عليه ما هو متجوزها، أنا مايناسبنيش النسب ده ولا يناسبني بنات تمشي على حل شعرها.

في هذه اللحظة تدخل قاسم وعبود وقد اشتعلت رجولتهم بالانتقام، فهجموا على بوابة العمارة يحاولون اقتحامها بعنف، يوجهون السباب نحو فايق ويقذفون نافذته بالحجارة، تصاعدت الفوضى صراخ النساء مع لهاث الرجال، وحجارة تتناثر في الهواء كرصاصٍ مبعثر

-انزل يلا...انزل واحنا نعلمك الادب ولا خايف.

هرع الجيران لتفريقهم ونجح أزواج أخوات سيرا أخيرًا بعد جهدٍ كبير في السيطرة على عبود وقاسم، بينما أمسك صافي بكتف حكمت بقوة، يجرها عنوة إلى داخل البيت وهي لا تزال تصرخ وتلعن.

وعندما عادوا إلى شقة والد سيرا انطلق صوت حسني متعبًا محطمًا كأن كل ما فيه انهار:

-ربنا يسامحكم فضحتونا زيادة، ربنا يسامحكم، خلاص مابقاش ليا لازمة ولا اعتبار، ربنا يسامحكم، حطيتوا راسي في الارض.

دخل غرفته وأغلق الباب خلفه بعنف كأنما يغلق على نفسه تابوتًا، ساد صمت ثقيل لكن زوج كريمة كسره بصوتٍ غاضب:

-مكنش ينفع أبدًا اللي عملتوه ده، سيرا أصلاً هي اللي غلطانة لما سمحت له يمسكها بالشكل ده ومصوتتش.

انتفضت حكمت كالأسد الرابض وردت بغليظة:

-سكتي جوزك يا كريمة طالما مايعرفش حاجة، كان بيهددها يا حبيبي بالسكينة، يعني تصوت ويشق بطنها بعدها؟!

لكن زوج شاهندا أيضًا لم يسكت وقال بنبرة مستنكرة:

-طيب مقالتش ليه لما طلعت ما كلنا موجودين وبنتفرج على الماتش كنا عرفنا نتصرف وننزل نكلمه!

رفعت حكمت حاجبيها باستهزاء وقالت بلهجة ساخرة:

-يا اخويا وانت كنت هتعمل إيه معلش؟ ما انت قاعد حاطط رجل على رجل ومعملتش حاجة!

زفرت بعدها بقهر والدماء تكاد تنفجر في عروقها، ثم التفتت إلى صافي الذي ظل مطأطأ الرأس، صامتًا كتمثال مكسور:

-أنا نازلة شقتي أصل أنا مرارتي خلاص مبقتش قادرة تستحمل!!!

غادرت حكمت المكان وهي تجر خلفها ذيول غضبها العارم تاركة البيت يغلي كبركانٍ ثائر لم يخمد بعد، ظلت الجدران شاهدة على أصوات الصراخ والدماء المتأججة في القلوب، والعيون التي تتقاذف الاتهامات حتى بدا أن البيت كله يغوص في بحرٍ من الشكوك والفضائح.

أما سيرا فقد انسحبت إلى غرفتها بخطواتٍ متثاقلة كأن قدميها تجران أثقال الأرض، وألقت بنفسها على الفراش المنكمش، وراحت تبكي بحرقة وبكاء يشبه بكاء الأطفال المذعورين؛ شهقات متلاحقة ودموع تتساقط كجدولٍ لا ينضب، بينما قلبها يتقلب بين الخوف والخذلان، كانت كلمات أم فايق ما تزال تطن في أذنيها كإبرٍ مسمومة، وقد نجحت في دس سمومها في صدور أهلها لتزرع الشك فيهم حتى أصبحت سيرا وحيدة كمَن يقف في مواجهة العالم كله.

سألت نفسها بصوتٍ مبحوح، يتردد داخل صدرها، كيف ستتخلص من هذه المصيبة؟ كيف تستعيد ثقتهم من جديد؟ وكيف تمسح تلك الصور التي التصقت بها كعارٍ لا ينفك؟

لكن وسط هذا السواد انبثق بصيص أمل حين انفتح باب غرفتها فجأة وظهرت فاطمة بوجهها القلق، ثم تقدمت بخطواتٍ مسرعة نحوها واحتضنتها بقوة تضمها إلى صدرها كالأم الحنون، وهي تربت فوق كتفيها برفقٍ بالغ والدموع تنحدر من عينيها هي الأخرى، لم تحتمل فاطمة رؤية صديقتها بهذه الحال فشاركتها البكاء، فهمست سيرا بانكسارٍ موجع وصوتها يخرج متقطعًا بين شهقاتها:

-بابا ضربني يا فاطمة، ومحدش مصدقني...محدش مصدقني.

ارتجف قلب فاطمة وهي تسمع اعترافها المر، فشدت من عناقها أكثر تحاول أن تمنحها شيئًا من الأمان وسط طوفان الألم، بينما الغرفة تغرق بدموعهما، وكأنهما تشاركان المصيبة لعلها تخف ثقلها.
                            ****

في اليوم التالي...

زفر يزن للمرة التي لا يعلم عددها يضغط بأصابعه على هاتفه بعصبية وهو يحاول الاتصال بسيرا، لكن لا رد أحيانًا كان الهاتف مغلقًا، وأحيانًا يرن دون إجابة، كل دقيقة تمر كانت تزيد من توتره، وكأن قلبه يُسحب من مكانه، في البداية شعر بالغضب منها لتجاهله منذ الصباح، لكن سرعان ما تغلب على غضبه ذلك الشعور الخانق بالخوف، خوف لا يعرف مصدره سوى أنها قد تكون بخطر ما، لم يهدأ وخاصةً عندما اتصل بيسر وسألها عنها لكن الصدمة كانت عندما أخبرته أنها لم تأتِ إليها كما وعدتها بالأمس، عندها شعر يزن بأن شيئًا غامضًا يحدث، شيء يتجاوز حدود الصدفة.

عاد ليتابع عمله في المعرض محاولًا أن يُغرق نفسه في تفاصيل السيارات عله ينسى قلقه فأشار إلى أحد العمال:

-هاتلي العربية دي هنا مكان دي وعايزين نعمل فيديو جديد ننزله على الصفحة عشان الريتش بدأ يقع ومش عايزين نخسر متابعين.

-يزن.

التفت بسرعة فإذا بالصوت الناعم يخص دهب ابنة حكمت، التي كانت تقف بزيها المدرسي وابتسامة خجولة مرسومة على وجهها، عقد حاجبيه في بادئ الأمر إذ لم يكن في مزاج يسمح بالمجاملات لكنه ما لبث أن ابتسم مجاملةً وقال:

-اهلاً ازيك يا دهب؟

مدت يدها الصغيرة تصافحه وعيناها تلمعان بانبهار ظاهر بوسامته ولباقته، التقطت أنفاسها بصعوبة وهي ترد بابتسامة متوهجة:

-الحمد لله وانت؟

لاحظ يزن ارتباكها ونظراتها التي تحمل إعجابًا طفوليًا فطغى على ملامحه صبر وهدوء محاولًا تجاهل ذلك الشعور الغريب الذي انتقل إليه، فأجاب بنبرة عادية:

-الحمد لله، كنتي فين كده؟

-كنت بزور واحدة صاحبتي قريبة منك هنا ولما لاقتني قريبة قولت آجي واسلم عليك.

هز رأسه بابتسامة مجاملة وكأنه يريد إنهاء الحديث سريعًا:

-شرفتي يا قمر، صحيح سيرا فين من الصبح بحاول اوصلها مش عارف، هي كويسة؟

قبضت دهب على حقيبتها المدرسية بقوة وكأنها تمسك نفسها من قول شيء خطير، ثم تظاهرت بالارتباك لتجذب اهتمامه أكثر:

-خالتو...اممم معرفش، مشوفتهاش!

لكن عينيها خانتاها؛ فيزن لديه خبرة كافية ليلحظ ارتجاف نظراتها، فكان هناك شيء ما تخفيه وهذا ما جعله يضيق عينيه قليلًا ويسأل بهدوء متحكم رغم الصخب الذي بدأ يعصف بداخله:

-في إيه؟

ارتبكت أكثر ورمشت سريعًا بأهدابها ثم تمتمت بنبرة مثيرة للريبة:

-لا ما أنا ماينفعش اقولك طالما هي خبت عليك ومقالتش حاجة! وبعدين ممكن يحصل لي مشكلة.

حاول يزن أن يُظهر هدوءه رغم أن قلبه ينتفض بعنف، وكأن صدره يضيق على أنفاسه فابتسم إليها بلطف مُقنع:

-متخافيش قولي وأنا صدقيني عمري ما هخذلك.

رفعت رأسها نحوه وقد بدت وكأنها تبحث عن أمان في صوته:

-بجد؟

شعر بنفاد صبره بدأ ينتهي فقال بشيء من الضيق حاول تحجيمه:

-اه طبعًا قولي في إيه؟

رققت نبرتها ومالت بها نحو الحزن وهي تلاحظ ملامح يزن التي قد تغيرت وبدت مستنكرة وغاضبة:

-آآ...أصل جدو ضربها امبارح عشان في صور وصلت له وهي مع فايق جارنا في المدخل وكان...وكان تقريبًا حاضنها وحصلت خناقة كبيرة اوي اوي في المنطقة ما بينا وبينهم.

تجمدت ملامح يزن فكلمتها الأخيرة سقطت عليه كالصاعقة، وعيناه تشتعلان بذهول وغضب، وكأن صورًا وهمية بدأت تنغرس في ذهنه، صور سيرا بين ذراعي فايق... مهما حاول أن ينكر قلبه كان يغلي فهمس بصوت متقطع:

-صور؟ حاضنها؟

-اه...حتى بص اهي الصور.

مدت يدها بالهاتف وعيناه التقطتا المشهد القاتل، الصورة أمامه كفيلة بتهشيم كل ثقة بناها، ومع ذلك عقله يصرخ بأنه لا يمكن أن تكون سيرا هكذا، ارتعش جفناه وهو يرفع عينيه إلى دهب غير مصدق، فتداركت هي الموقف وأسرعت تبرر بلهجة ماكرة:

-اكيد يعني ماتعملش كده، بس المشكلة إن جدو سألها وهي قالتله اه كانت معاه فضربها ومستحملش وقعد يقولها يا خسارة تربيتي فيكي.

في تلك اللحظة كان يزن يعيش صراعًا مريرًا بين الغيرة التي تكاد تفتك به، والغضب الذي يهدد أن يُفقده السيطرة، وبين الحب العميق الذي يجعله متمسكًا بسيرا رغم كل ما يسمع ويرى، قلبه يصرخ بالشك لكن عقله يبحث عن أي خيط منطقي يبرر ويُنقذها، ومع كل ذلك كان يشعر أن نارًا لا تُطفأ تحترق داخله، نار الغيرة التي تُدميه أكثر من أي شيء آخر
                           ***
بينما كانت سيرا تجلس في المقعد الخلفي لسيارة الأجرة، يلفها الحزن كغطاء ثقيل ينهك صدرها، لم تستطع كبح دموعها التي انسابت بصمت على وجنتيها، وكأنها تنزف من قلبٍ مثقل بالوجع، كانت تنتظر بفارغ الصبر أن تصل إليه...إلى يزن، الملجأ الوحيد الذي شعرت أنه قادر على انتشالها من هذا الجحيم.

قضت ليلة طويلة وقاسية، لم تعرف فيها طعم النوم، كلما أغمضت عينيها عادت صور الأحداث تطاردها وصدى الكلمات يجلدها بلا رحمة، أحاديث أخواتها الفتيات في الغرفة المجاورة لم تكن سوى سهام تُغرس في صدرها، كل كلمة منهن تُعيد على مسامعها معنى "الخزي" و"العار"، حتى صمت والدتها التي جلست في الصالة شاحبة الوجه، تضع كفها على رأسها وكأنها تحمل الدنيا فوقها، كان أكثر إيلامًا من أي صراخ، أما والدها فقد انزوى في غرفته غارقًا في جرحه وغضبه لا يريد حتى أن يراها.

كانت تشعر أنها تُحاكم بلا دفاع، مُدانة في عيون الجميع ورغم أن قلبها يصرخ ببراءتها، وما زادها وجعًا أن تسمع إحدى أخواتها تُخبر الأخرى بأنها سمعت والدهم يقرر بمنعها من الخروج من البيت، وكأنها سجينة خلف قضبان العار، لحظتها شعرت الأرض تنسحب من تحت قدميها لكن ما أعطاها بصيص أمل أن والدتها توسلت إليه أن يهدأ وألا يتخذ قرارًا متسرعًا رغم أن توسلاتها لم تُبدد الخوف.

شعرت أن جدران البيت تضيق عليها حتى كادت تخنقها، لم تستطع أن تحتمل أكثر فانتظرت لحظة هدوء لتتسلل من المنزل خطواتها مترددة لكنها مصممة، لم يكن بداخلها سوى فكرة واحدة أن ترى يزن، أن تحكي له كل شيء بعينيها قبل لسانها، أن تضع بين يديه أوجاعها الثقيلة، فهو وحده الذي آمنت أنه سيصدقها حين كذبها الجميع، وسيحضنها بصدق حين لفظها أهلها.

جلست في سيارة الأجرة تنظر من النافذة إلى الشوارع التي تمر كخيالات باهتة أمامها، وكلما اقتربت المسافة زاد خفقان قلبها، كأنها تركض نحوه بروحها قبل جسدها، أمسكت بيديها المرتجفتين طرف حقيبتها، وكأنها تستمد منها قوة لتبقى صامدة حتى تصل، لم تكن قادرة على التحدث عبر الهاتف، فلم يكن صوتها قادرًا على نقل ما في داخلها، بل أرادت أن تواجهه وجهًا لوجه...أن تُخرج كل ما أثقلها وأوجعها وأن تجد في عينيه ما فقدته في عائلتها الطمأنينة واليقين!

وما إن وصلت إلى المعرض حتى جالت بعينيها القلقتين تبحث عنه بشغف ولهفة مغموسة بانكسار، حتى وقع بصرها عليه يقف... يقف مع دهب!
توقفت لبرهة وكأن الأرض سحبت أنفاسها، لكن سرعان ما تقدمت بخطوات مترددة وعينيها تضج بالدموع المكبوتة، لتُناديها بصوت مجروح يقطر عتابًا:

-دهب؟

التفتت دهب برعب نحو خالتها التي لم تكن تتوقع مجيئها أبدًا، فارتبكت كلماتها وارتجفت نبرتها وهي تتمتم:

-خالتو..انتي جيتي؟

-بتعملي إيه هنا؟

جاء السؤال من سيرا وجبينها معقود، تحمل ملامحها وجومًا كسيفٍ مسلول، لكن في عينيها سكنت هزيمة دامية لا تُخفى، دموعها المتحجرة على أطراف الأهداب أفصحت عن هشاشتها أكثر من أي كلام.

هنا تدخل يزن بخطوة سريعة وعيناه مثبتتان على ملامحها يقرأ ما تخفيه ثم قال بصوت قلقٍ يخفي تحت سطحه براكين الغضب والغيرة:

-مالك في أيه، انتي كويسة؟

تظاهر بعدم علمه بما جرى كي يحمي دهب من أي عتاب مباشر، وفي الوقت ذاته أراد أن يسمع الحقيقة من صاحبة الشأن نفسها، أما سيرا فاكتفت بهزة رأس صغيرة وهمست بصوت متهدج يكاد يختنق:

-ايوه.

تدخلت دهب محاولة الخروج من الموقف ببراءة مصطنعة وهي تعيد حقيبتها خلف ظهرها وتبتسم ابتسامة مرتعشة:

-أنا كنت عند واحدة صاحبتي بزورها فقولت اعدي اشوف واتفرج على الأجانص، يلا سلام يا خالتو عشان ورايا درس ولا تحبي بلاش اروح واستناكي؟

لكن يزن أنهى الأمر بهدوء محكم وهو ينظر إليها بنظرة تفهم:

-لا روحي انتي يا دهب، أنا هوصلها لما اخلص شغلي، روحي عشان متتأخريش.

أومأت دهب برأسها في استسلام، ورمقته بنظرة خفية تطلب منه أن يفي بوعد غير معلن بألا يُفشي ما دار بينهما، ففهم سريعًا وأجابها بإشارة صامتة، غادرت على عجل تاركة خلفها رائحة شك ثقيل.

أما يزن فأشار إلى سيرا لتتبعه نحو مكتبه، دخلت بصمت وما إن أغلق الباب وأسدل الستائر على الزجاج ليحجب أعين العاملين حتى انهارت خطواتها واستسلمت للأريكة وكأنها تنتظر حكمًا بالإعدام، جلس أمامها على الطاولة الخشبية وصوته جاء هادئًا يحمل نبرة حانية كالنسمة التي تداوي جراحها:

-مالك؟ في حد مزعلك؟ بتصل بيكي من الصبح مابترديش.

رفعت رأسها بصعوبة وعيناها غارقتان في الدموع:

-أنا...أنا واقعة في مصيبة، أنا ماعرفش ليه الدنيا معاندة معايا كده، إيه الغلط اللي غلطته عشان يحصل فيا كده؟

اقترب أكثر يحاول أن يمد لها حبل الأمان بصوته الحاني رغم الغليان الذي يشعر به:

-طيب اهدي؟ واحكيلي في إيه؟

انفجرت الكلمات من صدرها المتعب:

-أنا مخنوقة اوي يا يزن، وحرفيًا مبقاش قدامي غيرك عشان يصدقني، بعد ما كله واقف ضدي ونازلين سلخ فيا.

شد حاجبيه وهو يسألها بجدية مصطنعة:

-ليه؟

شهقت ثم أسرعت بالبوح بما يخنقها:

-فايق...فايق الكلب كان مستنيني امبارح في المدخل بعد ما قفلت معاك وهددني بسكينة عشان مصوتش وكان بيحاول يقرب مني وأنا كنت بحاول امنعه....هددني بيك، أنا بدأت اخاف منه، ده مجنون ومريض نفسي، انت لازم تاخد بالك على نفسك الأيام دي، ده هددني إنه....إنه هيعملك....

قاطعها يزن بنبرة حادة تخفي غضبًا محمومًا:

-سيبك من اللي هددك بيه، هو عملك حاجة تاني؟

أطرقت رأسها وكأنها تخجل من أن تنطق ثم هزت رأسها وأفصحت عن الجرح الأكبر:

-في حد صورني معاه والصور دي اتنشرت في المنطقة وابلة حكمت اتخانقت مع أمه وأمه قالت إن أنا اللي بجري وراه واهلي غصبوني اتخطبلك.

ثم وضعت كفها على رأسها وانفجرت ببكاء موجوع كأنها طفلة خذلها الجميع:

-وبابا ضربني، أول مرة بابا يضربني، أنا زعلانة ومقهورة على نفسي اوي، أنا مغلطتش، أنا خوفت منه كان بيهددني بسكينة...خوفت اصرخ، خوفت اتصل اقولك انت تعمل حاجة تأذيك.

ارتجف قلب يزن مع كل كلمة نطقت بها، كانت الغيرة تنهش روحه كوحشٍ جائع، والغضب يشتعل في عروقه كبركان ينتظر الانفجار، ومع ذلك حين نظر إليها ورأى دموعها المنسكبة وعينيها المرهقتين، أدرك أن ما تحتاجه في تلك اللحظة ليس محاكمةً ولا لومًا، بل حضنًا آمنًا يحتوي هشاشتها، لقد بدت أمامه كزهرة مكسورة ذبلت قبل أوانها، عندها تقدم منها وأمسك كفيها المرتجفتين، وربت فوقهما بحنانٍ يشبه اعترافًا غير منطوق بأنه لن يخذلها:

-طيب اهدي ومتعطيش كده، أنتي لو خايفة عليا يبقى متعيطيش كده، عشان لو فضلتي تعيطي أنا هروح واطلع روحه في ايدي.

كانت كلماته كنسمةٍ دافئة لامست قلبها، لكنها بقيت تحدق فيه بملامح الطفولة الحزينة، تمط شفتيها كطفلةٍ تفتش عن طمأنينة ضائعة، فاستكمل بصوته الحاني الذي يشبه البلسم على جراحها:

-كويس إنك جيتي، انتي لو مكنتيش جيتي كنت هجيلك عشان اتطمن عليكي.

-انت مصدقني يا يزن بجد؟

تردد صدى سؤالها في أعماقه، فكان صوتها المرتجف بمثابة استجداء للنجاة وصرخة مكتومة تبحث عن سندٍ تتشبّث به، طال صمته وهو يمرر بصره عليها بتمعن، كأنما يقرأ في وجهها صفحات الألم حتى شعرت أن أنفاسها متعلقة بأنفاسه، ثم فاجأها بكلمةٍ قلبت موازينها:

-تتجوزيني؟

ارتبكت أنفاسها ورمشت بأهدابها مرارًا محاولةً استيعاب ما سمعت ثم تمتمت بتلعثمٍ يشي بارتباكها:

-مش...مش فاهمة؟ يعني إيه؟

هبط بصرها نحو الخاتم الذي يزين إصبعها تتأمله فهي مخطوبة له بالفعل، قبل أن يقطع شرودها صوته الواضح:

-قصدي نكتب الكتاب اليومين دول ونتجوز في أسرع وقت.

-ليه؟

خرجت منها كهمسةٍ مبحوحة كأنها تخشى أن تجهر بارتجاف قلبها، عندها تنهد بعمق قبل أن يجيبها بحزمٍ لم يخلو من انفعالٍ مكبوت:

-عشان هو مش هيجيبها لبر يا سيرا، وهيفضل كده يعمل بلبلة والطلقة اللي ماتصبش تدوش، ودي سمعتك لو مكنش في حل جذري وسريع الموضوع للأسف هيبوخ.

ارتجف قلبها أكثر وأطرقت رأسها محاولةً استجماع شجاعتها ثم تمتمت بصوتٍ متهدّج:

-انت مش محتاج تلعب دور البطولة يا يزن...

قاطعها كمَن ضاق ذرعًا بمقاومتها وصوته يعلو بحدةٍ تحاكي اضطراب ما في داخله:

-انتي هتبطلي امتى تدبي كلام وانتي مش حاسة، دور بطولة إيه يا سيرا؟! انتي ملزمة مني وخطيبتي لو مخدناش خطوة صح في وقت زي ده ابقى مش راجل...

تورد وجهها خجلًا من حدته فاستجمعت شجاعتها وقالت بارتباك:

-ماتخدهاش على محمل الرجولة يا يزن؟

رمقها بنظرة ممتلئة انفعالًا ثم أجاب بحدة متعمدة:

-امال اخدها على محمل الهزار مثلاً؟! انتي عندك استعداد تسمعي لأي حل من أي حد بس ميبقاش مني!

أسرعت ترد وكأنها تخشى أن يخسرها سوء الفهم:

-لا طبعًا، أنا جيتلك لغاية عندك وحكيتلك، بس عمر الحل ما يكون بالجواز وإنك تتسرع وانت لسه محكمتش على مشاعرك من ناحيتي يا يزن.

كان صوته هذه المرة ثابتًا لكنه مكلوم بالغيرة:

-أنا لو مش حاسس بحاجة ناحيتك، عمري ما هقولك نتجوز، وبعدين ارجع واقولك الكلب ده حطنا في موقف لازم نتصرف فيه بسرعة، على الاقل نكتب الكتاب يا سيرا بس نخرس أي لسان ممكن يجيب سيرتك، عشان وقتها لما ******** أمه وأهله محدش يجي يقولي بتعمل إيه؟!

توسعت عيناها في صدمةٍ ممزوجة بالخجل، أسرعت تخفض بصرها وتوردت وجنتاها، ثم قالت بنبرة رقيقة تحاول أن تحفظ وقارهما:

-يزن أنا ماحبش أبدًا إنك تتعدى حدودك في الكلام معايا واسمع كلام زي ده.

أطبق شفتيه محاولًا ضبط نفسه ثم قال بصوتٍ متماسك يخفي الغليان:

-حاضر هتكلم على واحد بيسوء سمعتك وشرفك بالشوكة والسكينة، بصي أنا ماسك نفسي بالعافية، عشان مروحش حالاً واجيبه من وسط بيته وعيلته وأمرمطه وسط منطقتكم، بس مش هيكون ليا حق لان اهلك موجودين، لكن لما اكون جوزك يبقى حد يقدر يقف في وشي، وبعدين كل اللي بيعمله ده عشان يخليني ابعد عنك، أنا بقى هحرق قلبه واتجوزك.

ارتجفت شفتاها وكأنها على وشك قول شيءٍ ثقيل ثم تمتمت:

-أنا كنت...كنت بفكر في...

انعقد حاجبيه في بادي الأمر يحاول أن يستشف ما يدور في رأسها:

-في إيه؟

همست مجددًا بارتباك وهي تحرك الخاتم في إصبعها بتوتر:

-في...

ابتسم بتهكم عندما أدرك مقصدها فقال بنبرة شبه حانقة مستنكرة:

-في إننا نفصل عشان تهديداته صح؟ ليه شايفاني توتو؟؟ وبعدين هو المفروض يخاف على نفسه لو اخواتي شموا خبر إنه عايز يأذيني، أنا عيلتي تسد عين الشمس، متخافيش لا عليا ولا عليكي طالما هتسمعي كلامي وتوافقي على اللي بفكر فيه.

تساقطت دموعها من جديد وقالت بصوتٍ متهدج:

-خايفة يحصلك حاجة واعيش بذنبك العمر كله.

ابتسم بخفة رغم ثورة قلبه ثم قال بنبرةٍ أقرب إلى العتاب اللطيف:

-ده حب ده ولا إيه؟ ولا إعجاب؟ قولي ماتتكسفيش.

-أنا مابهزرش يا يزن.... انت ماشوفتش هو كان مجنون ازاي وكان بيكلمني وكأنه...كأنه يا قاتل يا مقتول، أنا خايفة عليك، هو نجح في إنه يدمر سمعتي...

زم شفتيه بصلابة وقال بثقةٍ تهبها القوة:

-لا عاش ولا كان اللي يدمر سمعتك، اوعي تخافي ولا تطاطي راسك ولا تعيطي تاني، كل ده كلام فشنك وحله سهل وبسيط بس انتي اللي معقداها.

وفجأة دوى رنين الهاتف بعدها صمتها، فقفز قلبها رعبًا حين رأت اسم والدها على الشاشة، ارتجفت أصابعها وهي ترفع الهاتف وأجابت بصوتٍ مرتجف يكاد ينقطع:

-ايوه يا بابا؟

-أنتي بتعملي إيه عند يزن؟

التفتت نحو يزن ونظراتها تستنجد به ثم قالت بارتباكٍ واضح:

-بعمل أيه....كنت جاية عشان..

لكن يزن لم يمهلها الفرصة، وخطف الهاتف من يدها ثم تحدث بنبرته اللبقة الواثقة:

-ازيك يا حج؟ أنا اللي طلبت منها تيجي، كنت عايز اسالها عن موضوع فايق ده ايه اللي حصل؟

ساد الصمت فكان يزن يصغي بإمعان ثم أجاب بثباتٍ مطمئن:

-لا فايق بعتلي من رقم غريب اللي حصل والصور، فطلبت منها تيجي وتحكيلي عشان نشوف حل، لو فاضي اجيب سيرا واجيلك اقعد معاك شوية.

مرت لحظاتٍ متوترة ثم تنفس يزن بارتياح وهو يغلق الهاتف بابتسامة خفيفة، نهض من مكانه ومد يده إليها بلمسةٍ مشبعة بالحنان والعزم معًا:

-جاهزة تمشي ورايا؟ ولا بردو عايزة تمشي بدماغك.

شعرت سيرا أن قلبها عالق في صدرها، نظرت إلى كفه الممدودة أمامها تتردد بين خوفٍ يكبلها وأملٍ يحررها، إن مدت يدها فهي تسلم أمرها لقدرٍ جديد، وإن رفضت فالعار سيلتف حول عنقها كحبل خانق، أغمضت عينيها لثانية ثم فتحتها وقد اتخذت قرارها، مدت كفها الرقيق المرتجف وأمسكت بكفه القوي، في تلك اللحظة شعرت أنها أسلمت نفسها لأول مرة لرجلٍ قدر ضعفها ولم يحتقره بل جعله سببًا ليحملها معه نحو حياةٍ جديدة ربما تكون هي الخلاص.
                         ***
وصلت سيرا مع يزن إلى البناية وما إن توقفت السيارة حتى هبطت منها وهي تتلفت حولها بقلقٍ وحذر، تحدق في وجوه المارة والجيران الذين بدا وكأن سهام نظراتهم تُصوب نحوها بلا رحمة، فتصيب كبرياءها في مقتل، انخفض رأسها خجلاً؛ خجلًا لم يكن سببه خطيئة ارتكبتها ولا ذنبًا اقترفته، ولكن وجدت يد يزن امتدت إليها، فكانت حانية ودافئة، أنقذتها من اوجاعها حين احتضن كفها بقوة وطمأنينة، مبتسمًا ابتسامة حنون تنبض بالثقة والسكينة، وهمس إليها بصوت منخفض ملؤه العزم:

-متوطيش راسك ابدًا ارفعيها واللي مايعجبكيش  حطي صوابعك العشرة في عنيه.

رفعت بصرها إليه تبتسم ابتسامة وادعة مملوءة بالمحبة والامتنان، ثم سارت نحو الداخل وقد انزاح عن صدرها حمل ثقيل، تشعر أنه ملاذها وسندها الذي لم يخذلها قط، أما هو فقد توقف لحظة عند المدخل وعيناه تحدقان بعمقٍ نحو البناية المقابلة حيث يسكن فايق، كانت نظراته متوعدة، مشحونة بغضب مكتوم وكأنه يراه أمامه ويقسم في صمته أن ساعة الحساب قادمة لا محالة.

صعدا الدرج معًا وكل خطوة تفضح ارتجاف جسدها الصغير المرتعش من الخوف، فأدرك يزن تمام الإدراك حجم انعدام الأمان الذي يحيط بها، كانت تعيش بين عائلة كبيرة مترابطة في الظاهر، ولكنهم فشلوا في احتوائها وبث الطمأنينة في روحها، فلم تجد بينهم أبسط صور الحماية.

توقف فجأة وربت فوق كفها بحنو بالغ ثم همس إليها بلهجة رقيقة:

-متخافيش من حاجة ادخلي على اوضتك وسيبي الباقي عليا.

أجابته بابتسامة صافية واثقة:

-أنا واثقة فيك.

اقترب منها أكثر يحدق في عينيها بنظرات شغوفة تكاد تلتهمها التهامًا وهمس بإعجاب:

-دي عندي أحسن من كلمة بحبك.

كانت كلماته كإعلان صريح أن دعمه وثقته اللامحدودة بها وعدم ارتيابه فيها مهما اشتدت المؤامرات، ما هو إلا ذروة من ذُرى العشق والهوى. ارتبكت خجلًا وطرقت باب الشقة ففتحت لهم "دهب" التي بدا أنها غيرت ثيابها بعناية، وزينت شفتيها بالقليل من اللمعان وأسقطت خصلة شعر متعمدة على جبينها، فاستقبلتهم بحماس مصطنع:

-اهلا يا يزن اتفضل جدو مستنيك.

دخل يزن بخطوات ثابتة وهز رأسه ببرود ممزوج باللامبالاة، متوجهًا حيث أشارت فيما التفتت سيرا إلى دهب تعاتبها بحدة:

-هتفضلي فتانة لغاية امتى؟ 

ردت دهب ببرود وقد زمت شفتيها:

-والله يا خالتو ماما لما عرفت مني راحت قالت لجدو.

نظرت إليها سيرا بضيقٍ ظاهر ثم أضافت بحزم:

-قوليله أبيه يزن عيب لما تناديه باسمه هو كبير مش صغير على فكرة!

أجابتها دهب ببرود أكثر ونبرة متحدية:

-أنا سألته وهو قالي قوليلي يا يزن، وانتي عارفة يا خالتو موتي وسمي الالقاب طول عمري مبحبهاش.

ثم تركتها وانسحبت إلى المطبخ فيما تبعت سيرا خطواتها نحو المجلس حيث كان يزن يجلس في حضرة والدها، وقد وقفت على مسافة تستمع إلى الحوار، لكن سرعان ما فوجئت أن جميع إخوتها متخفين حول المكان يتجسسون السمع، تجاهلتهم ووقفت إلى جانب حكمت التي رغم تناقض شخصيتها في أحيان كثيرة إلا أنها كانت الأقرب إلى قلبها تعاملها بحنان الأم رغم حدتها.

رفع حسني صوته وهو يوجه السؤال إلى يزن بضيق ظاهر:

-يعني مش سيرا اللي جت وحكتلك؟

أجاب يزن بثبات:

-لا لا خالص أنا قولتلك فايق بعتلي صور وكلام مش مظبوط وفاكر إني كده هشك فيها، فبعت وسألتها إيه اللي حصل وخصوصًا أنها مكنتش بترد عليا.

زم حسني شفتيه وهو يتمتم بغضب:

-الكلب مش عارف عايز إيه؟

أجاب يزن ببرود يحمل بين طياته إصرارًا:

-هو عايز يدمر سمعتها عشان رفضته، كرامته تمنعه إنها ممكن تفضل واحد عليه، بس عادي ولا يهمني كل اللي بعته، أنا عارفها على إيه كويس وواثق فيها.

كانت الكلمات كالرصاص تخترق صمت الغرفة، وأحدثت رجة في قلب حسني الذي شعر للحظة أنه تسرع في غضبه وخانته حكمته التي طالما تباهى بها، فتمتم بضيق وحرج:

-أنا كل اللي زعلني منها إنها طلعت ومحكتش، يمكن كنت اقدر انزله...

قاطعه يزن بحدة وقد تذكر دموع سيرا المقهورة:

-تنزل لمين يا عم حسني، ده واحد هو عارف بيعمل إيه حتى لو كنت نزلتله بردو كان عمل اللي عمله، مكنش هيستناها  ويهددها بالسكينة معلش الراجل فكر وتعب ونفذ...تعبه مش هيروح بكلمتين منك ومتزعلش مني ولا بخناقة مع قاسم وعبود وده اللي خلاها تخاف تحكيلكم، هي كانت خايفة عليك لإنك بتتعامل مع واحد مش مظبوط اساسًا، وخايفة على اخواتها هيضيعوا مستقبلهم في لحظة تهور.

تنهد حسني بعمق وسأله بقلق:

-امال ايه الحل يا بني في المصيبة دي؟

ابتسم يزن بثقة:

-ولا مصيبة ولا حاجة، أنا اصلاً كنت قولت لسليم من فترة يكلمك نكتب الكتاب ونستعجل في ميعاد الفرح بس كان في شوية مشاغل منعته، بس جه الوقت المناسب ويا ريت نكتب الكتاب بكرة.

اعترض حسني بانفعال:

-لا لا أنا كده هيبقى بأكد على كلامه وبداري على بنتي وكلام الناس هيزيد.

ابتسم يزن ابتسامة واثقة وقال بلهجة قاطعة:

-كلام الناس مابيقدمش ولا بيأخر يا عم حسني، وبعدين احنا ميهمناش الناس قد ما يهمنا نحط على فايق ومنخلهوش يحقق اللي هو عايزه، هو هيتقهر لما يشوفنا بنكتب الكتاب وبنفرح ومبسوطين وكل اللي عمله راح في الهوى ولما سيرا تبقى على ذمتي أنا عايز اشوفه وهو بيفكر بس يقرب منها، قرصتي له المرة اللي فاتت عدت بس المرة دي مش هيقوم منها.

أطرق حسني رأسه حائرًا وتتنازعه مشاعر متناقضة، إلى جانب إعجابه بعزم يزن وصرامته في الدفاع عن ابنته، فأدرك أن الحل الوحيد هو المضي قدمًا وأن تجاهل فايق والرد عليه بالفرح أقوى انتقام، فتمتم أخيرًا باستسلام:

-مش عارف يا بني، بس مقدمناش حل غير كده.

ربت يزن على كتف الرجل قائلاً بحزم:

-ومالك بتقولها ياعم حسني وانت مكسور ليه، هي مغلطتش في حاجة عشان تحس بكده، بالعكس افرح وهنعمل حفلة صغيرة اعزم فيها حبايبك واعملوا نور كمان على العمارة من برة، احنا مابنعملش حاجة غلط ولا حرام ولو على التجهيزات متقلقش كل حاجة هتحصل وعلى اكمل وجه متقلقش من حاجة.

ابتسم حسني أخيرًا وقال:

-ماشي يا ابني على خيرة الله.

أضاف يزن بلهجة وصية أخيرة:

-رجائي منك محدش يضايقها ولا يزعلها بحاجة هي مغلطتش محدش يلوم عليها طالما هي كانت خايفة، الخوف أحيانًا بيخلينا مابنعرفش نتصرف، أنا معجبنيش منظرها وهي جاية ليا المعرض.

ثم ساد صمت مهيب في المجلس كأنما كانت كلماته وصية مقدسة، قطع بها آخر خيط يربط سيرا بشك عائلتها بها، وأرسى مكانها في قلبه سندًا لا يتزعزع.

أما سيرا فقد شعرت وكأن العالم كله تراجع إلى الخلف ولم يبقَ أمامها سوى صوته، ينساب داخلها بثقل ودفء معًا، لم يكن رجاؤه مجرد وصية؛ كان اعترافًا بإنسانيتها وإقرارًا ببراءتها، وإعلانًا صريحًا أمام الجميع أنها ليست مخطئة وأن دموعها التي أهرقتها بالأمس لم تذهب هدرًا.

لزمت الصمت وهي تنظر لاخواتها، تكتفي بدمعة ساخنة انسلت من عينيها، دمعة لم تكن ضعفًا بل كانت شكرًا وامتنانًا، دمعة شعرت معها أن القدر أنصفها أخيرًا.

ولكن حكمت لم تستطع الصبر فأطلقت الزغاريد المصرية عاليًا واحدة تلو الأخرى بلا انقطاع وكأنها في مسابقة، ثم قالت بسعادة وهي تنظر لوالدتها:

-وربنا...بكرة المنطقة كلها لتشرب حاجة على حسابي وفايق لوحده هو وأمه الحرباية هجيب له كراتين حاجة ساقعة عشان يشربها بالسم الهاري.

                             ****

في اليوم التالي ارتدت بناية الحاج حسني ثوبًا جديدًا من البهجة؛ فقد غمرتها الأضواء الملونة التي تزينت بها الجدران والشرفات، وترددت بين أرجائها أصوات الزغاريد التي لم تهدأ منذ ليلة الأمس، وكأنها تريد أن تعلن للعالم بأسره أن الفرح قد حل بهذا المكان، لم يترك يزن تفصيلاً صغيرًا إلا اهتم به بعناية فأمر بتزيين صالة المنزل بالزهور والأنوار، ثم لم يكتفِ بذلك بل أوصى بتزيين الشارع المقابل للبناية بزهور وردية وبيضاء امتزجت مع أضواء لامعة تنسج خيوطًا من الجمال والبهجة.

جاءت عائلة يزن بأكملها بسياراتهم الفارهة، تحمل كل سيارة منها الهدايا للعروس كأنها مواكب مهيبة تُعلن قدوم حدث عظيم، وقفت سيرا خلف زجاج شرفتها، تترقب بلهفة وابتسامة لم تفارق شفتيها، وبجانبها فاطمة ويسر، لقد كانت نظراتها مليئة بالامتنان والسعادة وكأنها للمرة الأولى تتذوق طعم الفرح الخالص بلا شوائب من خوف أو شك.

أرسل إليها يزن في الصباح فستانًا ورديًا رقيقًا يناسبها تمامًا ومعه باقة زهور صغيرة تمسكها في يديها، ترك لها زمام السعادة مطلقًا ولم يثقل عليها بشيء، فاستسلمت للبهجة ووقفت تنتظر لحظة نزوله من السيارة.

وها هو يطل من سيارة فارهة بيضاء، لم ترَها من قبل إلا في أفلام أو صور، يرتدي بذلة كحلية اللون مصفوف الشعر بعناية، فزادته وسامة وهيبة حتى شعرت سيرا أن قلبها يكاد يخفق من صدرها لفرط سعادتها، وبجانبه كان نوح يرتدي قميصًا أبيض وبنطالًا أسود، يرافقه بخطوات واثقة مع باقي أفراد العائلة الذين بدا أن عددهم قد ازداد بوجوه لم تألفها من قبل.

بدأت العائلة تصعد الدرج بخطوات متسارعة، ولكن خطوات "نهى" كانت مثقلة ببطء واضح؛ فقد كانت في شهرها الأخير من الحمل، وبطنها المتفخة تصعب عليها الحركة، ورغم تحذيرات الطبيب المتكررة بعدم السفر أو بذل مجهود، فإنها أصرت على الحضور، لا لشيء إلا لتشارك يزن لحظته التي اعتبرتها لحظة عائلية لا يمكن تفويتها، كان زوجها خالد يرافقها بقلقٍ بالغ، يعينها على صعود الدرج درجة بعد أخرى، ولم يخفِ ضيقه وهو يقول لها بعتاب ممزوج بالخوف:

-انتي مش قادرة تطلعي يا نهى، اشيلك طيب؟

ضحكت رغم التعب وقالت بصوت متهدج:

-عايز تفضحني قدام ولاد خالي؟

زفر بقلق وهو يتمتم:

-يعني عاجبك منظرك ده؟

ثم اقترب منها أكثر وهمس بجدية:

افرض ولدتي في أي لحظة، أحنا متابعين مع دكتورنا في مرسى مطروح ومانعرفش حد هنا.

ابتسمت له وهي تحاول التخفيف من قلقه:

-خالد أنا لسه قدامي خمس أيام ماتقلقش، وبعدين سيبني افرح الأجواء دي حلوة اوي.

هزت رأسه بيأس وهو يرمقها بعين نصف غاضبة نصف عاشقة:

-طيب اطلعي على مهلك ، عشان ولاد خالك عندك استعداد تبيعيني أنا شخصيًا.

ضحكت بخفة ثم قالت بدفء:

-أنا يا خالد معقولة تقول كده؟ كل الحكاية إن أنا بفرح بتقديرهم ليا، وأنهم مافكروش يفرحوا إلا وأنا موجودة وأصروا عليا أحضر، وبعدين يا خلودي ماتحطش نفسك في مقارنة مع حد.

ابتسم رغم ضيقه الداخلي ثم أمسك بيدها بحنان وصعدا معًا حتى وصلا حيث كان في استقبالهم أفراد عائلة سيرا، تقدم سليم وبدأ يعرفهم على عائلة العروس التي بدت ودودة ولطيفة.

سرعان ما وجدت نهى نفسها تنخرط في حديث جانبي مع مليكة، التي كانت تتحدث بحذر وتفحص المواقف بعين متوجسة، حيث بدا لها أن نهى واضحًا حبها الكبير لزوجها وتقربها منه، وانعكس ذلك في سعادتها بحملها، وفي لحظة صامتة وقعت عين مليكة على بطن نهى المنتفخة، ثم التفتت إلى زوجها "زيدان" فوجدته لا يعير شيئًا من الاهتمام إلا لأخيه يزن، يقف خلفه ويسانده في كل خطوة، تلك اللمحة بثت في نفسها راحة غير متوقعة، فأحست أن وجود زيدان إلى جوار يزن يعني أنها في مأمن من أي تصرف قد يجرحها أو يثير غيرتها.

كانت اللحظة مفعمة بالمشاعر المختلطة، فرح يملأ الأجواء وقلق يلوح في العيون، حب يتوهج في القلوب، وأمل يولد مع كل زغاريد تتعالى من النوافذ والشرفات، بدا المكان وكأنه قطعة صغيرة من عالم آخر، عالم أصر يزن أن يصنعه لسيرا، التي خرجت بفستانها المناسب لجسدها تحمل ابتسامة رقيقة جدًا تناسب رقة ملامحها التي لم تضع بها مساحيق تجميل فجة بل كانت هادئة تناسب الوان فستانها، جلست بجانب والدها وبدأ المأذون في إجراءات عقد القران التي انتهت بعد دقائق بسيطة بـ...

"بارك لهما لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير"

تعالت الزغاريد في أرجاء المكان فرحًا بسيرا، فاندفع أخواتها نحوها ينهالون عليها بالقبلات والعناق، تغمرهم السعادة الغامرة، أما يزن فكان يتلقى التهاني والمباركات وقد ارتسمت على محياه ابتسامة صافية تُشع بفرح حقيقي، ابتسامة لم يرها أحد عليه من قبل بهذا الصفاء، وفي زاوية الصالة جلست منال تبكي في صمت، ودموعها تنساب كجدول رقراق، لا دموع حزن بل دموع أم أرهقها الزمن ثم أعاد لها القدر معنى الفرح، لمحها سليم، فأسرع إليها واحتواها بذراعيه هامسًا بحنان:

-بتعيطي ليه؟

رفعت أنظارها إليه وعيناها متلألئتان بالدمع ثم تمتمت بابتسامة مرتجفة:

-أنا كده لو موت هبقى مرتاحة الحمد لله يا ابني.

قطب سليم حاجبيه ضيقًا وقال بعتاب يختلط بالرجاء:

-بعد الشر عنك، هو ده وقته كلامك، افرحي واتبسطي بيه.

مدت يدها المرتعشة تربت فوق كفه وهي تنظر إليه بعينين غارقتين في الامتنان:

-ربنا يسعدك يا سليم ويراضيك دايمًا في مراتك وعيالك وتشوف عيالك أحسن الناس، زي ما وقفت وراه اخواتك وكنت ليهم السند والعوض.

ارتجف قلبه لصدق دعائها وشعر أن كلماتها خرجت من أعماق روحها، لأول مرة لم يتمالك نفسه فطبع قبلة وقورة على رأسها هامسًا بحنو عميق:

-ربنا يخليك لينا يا ست الكل، كفاية عياط بقى عشان محدش ياخد باله.

أومأت برأسها استسلامًا وجلست تمسح دموعها بابتسامة هادئة، فيما أحاطها بذراعه وظل يربت على كتفها برفق، لكن ما هي إلا لحظات حتى اقتربت حكمت تحمل صينية عصائر مثلجة وأطباق حلوى قائلة بصوتها المرتفع الحاد:

-عارف لو قولتلي مش عايز وشكرًا، هأكلهالك بنفسي.

اتسعت عينا سليم ذعرًا وتراجع خطوة إلى الخلف، فيما كانت شمس تقف إلى جانب مليكة تتبادلان الضحكات المستمتعة بمشهد جداله مع حكمت.

أما يزن فكان لا يزال يتلقى التهاني من الجميع، وكان آخر المهنئين زيدان، وما إن اقترب منه حتى أمسك يزن بذراعه وهمس متسائلاً بلهفة ظاهرة:

-الله يبارك فيك يا زيزو يا حبيبي، بس قولي بسرعة لما اسلم عليها، اسلم عليها ازاي؟ 

أطرق زيدان برهة ثم قال في حيرة:

-يعني تسلم عليها ازاي؟ ما تسلم عادي.

قطب يزن حاجبيه وقال بسخرية:

-اقسم بالله انت اخرك مخبر ما ظابط وبتفهمها وهي طايرة، قصدي احضنها عادي قدامكم.

اتسعت عينا زيدان بدهشة وهو يرد بصدمة:

-يخربيتك، انت يابني خف شوية، انت عايز تفضحنا، سلم عليها عادي خالص.

زفر يزن بغيظ وقال بعناد:

-ليه هي مش كده مراتي ومن حقي احضنها! نوح...زيدان بيقولي لا.

ضحك نوح بخفة ثم قال ساخرًا وهو يشير نحو نفسه بفخر:

-مستعجل ليه ما انت بكرة تفرح يومين وتبقى مطلق زيي كده.

رمقه يزن بازدراء وقال:

-إيه القرف ده؟ تصدقوا أنا غلطان أني باخد رأيكم، أنا هروح واسلم عليها واحضنها عادي.

تقدم بخطوات متلهفة وعيناه متوهجتان بالشوق، وما إن لمحته سيرا حتى أدركت قصده، فأشارت إليه بخفة رافضة ثم انسحبت إلى الشرفة بخطوات مترددة، توقف يزن مذهولًا من تصرفها، وراح يتبعها ببطء فيما وجدها هناك مع يسر، التي كانت تتظاهر بالانشغال بهاتفها لكنها في الحقيقة كانت تراقب نوح بعينين خجولتين، فهمست سيرا إليها بخوف:

-يسر الحقيني.

نظرت إليها يسر بقلق وقالت:

-في إيه؟ 

لكن يزن دخل مبتسمًا ابتسامة بريئة متصنعة وقال:

-يسر ازيك محضرتيش كتب الكتاب ولا ايه؟

أجابت بتوتر:

-لا كنت واقفة هنا في البلكونة عشان الزحمة بس.

ابتسم ماكرًا وقال:

-طيب أبلة حكمت بتنادي عليكي عايزاكي تاكلي جاتو.

ضحكت يسر بإحراج وغادرت رغم همس سيرا المتوسل:

-لا لا لا...

خرجت في الصالة تتخطى المدعوين وهي تحاول الوصول إلى غرفة سيرا تختبيء بها ولكن وجدت فاطمة تصيح بأعلى نبرة لديها لتجذب انتباه الجميع إليها:

-يسر تعالي اعرفك على ماما.

توقفت بغضب وهي تنظر إليها، والزمت عيناها ألا تركض وتبحث عن نوح وسط المدعوين، ثم تحركت نحو فاطمة ووالدتها وهي تبتسم باقتضاب.
                   
وعندما خرجت تركت سيرا في مواجهة مباشرة مع يزن، فاقترب منها وأمسك يدها هامسًا بعتاب لطيف:

-بتهربي مني ليه؟

ارتبكت وهي ترد:

-آآ..أصل مكسوفة وكلهم هيبصوا علينا وكده.

ابتسم بإصرار وقال:

-طيب إيه مش هنبارك ونهني؟

أخفضت بصرها وتمتمت بارتباك:

-الله يبارك فيك يا يزن عقبالك.

نظر إليها باستغراب وقال:

-انتي بتقولي إيه؟

حاولت أن تتملص بخجل: 

-مش عارفة....مش عارفة بص أنا مكسوفة، متحرجنيش.

لكنه تشبث بعزمه وقال مبتسمًا:

-لا بس أنا هسلم أنا قتيل اللحظة دي.

الله يبارك فيك يا يزن كده حلو؟

مدت يدها تصافحه محاولة إنهاء الموقف، غير أنه جذبها بقوة إلى صدره يضمها بلهفة، ثم طبع على جبينها قبلات متتابعة، جفت الكلمات على شفتيها، وتصلبت في مكانها تتشبث بثوبها خوفًا من أن يراهما أحد، أحاطها بكيانه كله، وهم أن يبوح بما أراد قلبه ولكن فجأة دوى صراخ مرتفع من الداخل.

تباعدت عنه مذعورة واندفعت إلى الداخل بخطوات متسارعة، كادت تتعثر لولا يده التي امتدت تدعم خصرها وهو يهمس بضيق:

-حاسبي يا سيرا..

توقفا عند عتبة الشرفة فإذا بالجميع ملتفون حول نهى التي جلست تبكي بحرقة، وخالد واقف إلى جوارها مذهولًا ينظر إلى الماء المتساقط أسفلها، اقترب زيدان وهو يحاول كتم ضحكته وقال بصوت منخفض موجهًا حديثه ليزن:

-نهى بتولد، اقسم بالله ما شفت أنحس منكم انتوا الاتنين.
تحركت سيرا بخطواتٍ بطيئة في ردهة المستشفى، كأنها تخشى أن تُحدث صوتًا يكشف توترها الداخلي، كانت عيناها تلتقطان ملامح الوجوه الجالسة في الانتظار؛ وجوهٌ يغمرها القلق والترقب، وكلها مشدودة إلى اللحظة الحاسمة التي تلد فيها نهى، بينما خالد الذي لم يحتمل وطأة الموقف قد سقط مغشيًا عليه من فرط التوتر في غرفة العمليات، فلم ينجح في أن يكون بجوار زوجته كما تمنت.

ترددت سيرا للحظة ثم ابتلعت ريقها محاولةً أن تطرد رهبتها من أن يكتشف أحد نيتها، فهي لم ترد أن تصبح مادةً لضحكاتٍ خفيفة بسبب سعيها المتكرر للحديث مع يزن، ذاك الذي كان منشغلاً بالجميع عداها منذ وصولهم إلى المشفى.

لكن ما إن التقت عيناها بعيني نوح حتى شعرت بأن الأمر أسهل قليلًا؛ فقد قرأ نيتها بذكاء وابتعد بخطواتٍ مقصودة ليمنحها المساحة مع يزن، فبدا كأنه يتسلل بعيدًا كي لا يفسد عليها تلك اللحظة، فيما كانت هي تستجمع شجاعتها لتقترب أكثر.

اقتربت سريعًا متفاديةً نظرات الآخرين، حتى وقفت إلى جوار يزن، تناديه بصوتٍ يكاد يذوب خجلًا:

-يزن.

التفت يزن بتظاهر وكأنه لم يسمع، ثم رمقها بغمزةٍ خفيفة:

-ايوه مين بينادي؟

ضحكت سيرا بخفة مودعة لهجتها الطفولية بالمزاح، وذراعاها متقاطعتان أمام صدرها:

-مش ناسي حاجة؟

مد يده وأشار إلى بابٍ جانبي ثم دفعها بلطف إلى الداخل، وقفا معًا عند سلم الطوارئ؛ هو بحضورٍ هادئٍ وهي بارتعاشة مختبئة في صدرها، فلم تمضِ لحظة حتى لمس أطراف أصابعه أنفها بدعابةٍ ناعمة وهمس بإغراء موزون:

-امممم احضنك.

حمحمت سيرا خجلاً وتراجعت خطوة متظاهرة بالاستنكار:

-والله؟!

ارتسمت على وجهه إشارات استغرابٍ مزيفة، ثم بعتابٍ مدلس قال: 

-لا لا يا سيرا معندكيش اخوات ولاد؟ لو سمحتي حافظي على مشاعري البريئة.

ضحكت من جديد ثم لاحت في كلامها نبرة تهديدٍ ملفوف بالمزاح وهي تشير بإصبعيها في وجهه:

-عيب على فكرة أنا ممكن ....

لم تكمل؛ فقد حاوطها يزن من خصرها فجأةً ولصقها بصدره، فارتجفت شفاهها بخجل حين همس لها على نحوٍ حنونٍ:

-إيه ممكن ترمي الدبلة في وشي؟! بس لا خلاص ده كان زمان، انتي دلوقتي بقيتي مراتي.

حاولت سيرا دفعه لكنه تمكن من التشبث، وكأن وجوده وحده كافٍ ليمنعها من الابتعاد، استغلت ذلك لتثير استفزازه قائلةً بتكرارٍ ومسرحية:

-طيب ما أنا ممكن اقولك طلقني!

تغير وجهه فجأةً من المزاح إلى الحازمية، وأجابها بسرعةٍ أدهشتها:

-اخرسي....

ثم أخذ يداعب خدها بلطف متلاعبًا بمشاعرها كما يلعب النسيم بأوراق الخريف، وبعد لحظةٍ من الحنان المفاجئ قال بغمزةٍ مازحة تتناقض مع حنوه:

-أنا راجل والرجال قليلون.

دفعته بقوةٍ ونجحت في فك ذلك الحصار الجزئي، بينما هو نجح في أن يحجم انفعالاته ونفسه التي مالت لفعل قد يندم عليه لاحقًا، فاستعاد رباطة جأشه وأخمد ثورته الداخلية، بينما تكلمت سيرا بسخريةٍ لكنها تخفي ارتعاشًا في صوتها:

-طيب بلاش غرور، ده انت ناسي أهم حاجة في يوم كتب كتابنا.

تنهد يزن ببطءٍ ثم ابتسم ابتسامةً نقية كمَن يريد أن يخفف من وقع كل الكلمات الثقيلة:

-بعيدًا عن اليوم المضروب ده، براحة عليا عشان أنا مابحبش اختبارات البنات دي.

نظرت إليه باستنكار:

-لا لا ده انت المفروض خبرة وتلقطها وهي طايرة.

رمقها بسخريةٍ قبل أن يعود إلى جديةٍ مصطنعةٍ:

-شوفي بعيدًا عن التقليح اللي نازلة بيه في نشرة الساعة تسعة، أنا مكنتش عايز اصدمك، بس الحقيقة أنا معاكي زيرو خبرة.

اقتربت خطوة وهي تهز يدها بقليلٍ من الغيظ:

-ليه بقى عملت فيك إيه عشان امسح خبرتك العظيمة؟!

اقترب هو من وجهها وحاوطه بهمسٍ رقيقٍ:

-خطفتي قلبي وعقلي، خلتيني بحس معاكي بحاجات عمري ما حسيتها مع أي بنت قبلك، ببساطة عشان أنتي لا جه قبلك ولا هيجي بعدك.

اكتمل وجهها بابتسامةٍ خجولة وصفاء في عينيها كاد يخرج قلبها من مكانه من فرط السعادة، فهمست بصوتٍ مرتعشٍ:

-يزن، هو الكلام الحلو ده بيخرج تلقائي يعني من قلبك ولا انت اصلا لسانك حلو؟

صمت للحظةٍ ثم غمزة لطيفة وبسمة عريضة:

-التانية.

-مش فاهمة!

هبطت ملامحها ولم تفهم، فهز كتفيه ببرودٍ متصنعٍ وأضاف:

-أنا أصلا لساني حلو فـ هتلاقيني بغرقك كل شوية بكلام حلو.

تراجعت بضع خطوات قائلة بغضبٍ مكتومٍ:

-تصدق بقى أنا مش عايزة اسمع كلام حلو، أنا بعشق الكلام الدبش قولهولي.

وقبل أن تبتعد أمسكها فجأة وهمس بلهجةٍ حانية بجانب وجهها:

-خدي هنا انتي اتقمصتي؟!

هزت كتفيها بدلال ثم ردت بمكر أنثوي:

-نص نص يعني، لو قولتلي كلام او كلمة عمرك ما قولتها لحد يمكن افكر ارضى عنك واسامحك.

أطرق رأسه لوهلة ثم أخرج هاتفه واقترب منها بنبرةٍ أكثر دفئًا:

-تعالي ناخد صورة مع بعض.

أبعدت يده بعيون غاضبة وهي تعترض بحنق:

-بقولك قولي كلام حلو!!

عاد هو ليضع ذراعه حول كتفها وضمها إليه ثم همس بحنو بالغ ورقة يملك أساليبها للعب فوق أوتار حنينها ومشاعرها المتلهفة:

-ما ده يا روح قلبي الكلام اللي عمري ما قولته لأي واحدة، عمري ما طلبت من بنت إننا نتصور، بس معاكي انتي ببقى عايز اتصور معاكي كل لحظة.

رمشت عيناها وهي تسأل بترقب وقلب يدق بقوة:

-بجد يا يزن الكلام ده من قلبك ليا؟

أمسك بنظرها بثبات وأجاب بصدق واضح وهو يبتسم ابتسامة ناعمة:

-أي كلمة قولتهالك وهقولهالك هتفضل تطلع من قلبي لغاية أخر لحظة في عمري.

تجرأت للمرة الأولى وأمسكت بيده التي تمسكت بالهاتف ثم همست بخجلٍ وارتباكٍ:

-يعني لا جه قبلي ولا هيجي بعدي، ده كلام عادي ولا من قلب يزن بجد؟

اقترب وطبع على خدها فقد كانت قبلته هادئة ودافئة ثم همس بصوت مفعم بالحب:

-دي من عقل يزن، دي بتوصف يزن الغلبان اللي وقع ومحدش سمى عليه.

ارتبكت سيرا وكأنّها لدغت بعقرب، فتوسعت عيناها من أثر القبلة؛ وتحجرت كلماتها ثم جاءت بتهديدٍ متقطع وخجل:

-مـ...متـ...متعملش كده تاني.

ظل يزن يضحك في صمت وكان في عينيه ما يُشي بأن كل العالم لا يهمه إذا كانت هي معه، ترددت كلمات بسيطة على شفتيها باعترافٍ خافتٍ وهي تتجنب النظر المباشر:

-تعرف إنك طلبت مني الحاجة اللي أنا بقولك عليها أنها أهم حاجة في كتب كتابنا.

صمت يزن قليلاً ثم سألها بهدوءٍ حنون:

-قصدك نتصور مع بعض؟

هزت رأسها بابتسامة بريئة وعيناها معلقتان بإصبعها الذي ما زال يحمل أثر الحبر الأزرق من بصمتها بسبب عقد القران، فبدت وكأنها تسترجع تلك اللحظة بكل تفاصيلها ثم قالت بصوتٍ خافتٍ يتسلل من بين أنفاسها الممزوجة بالحنين:

-خوفت ننسى نوثق اليوم ده زي ما وثقنا قبل كده.

اقترب يزن منها أكثر، حتى كاد صوته يلامس قلبها قبل أذنها ثم همس بمزاحٍ لطيفٍ يكسوه دفء حقيقي:

-انتي عايزة تقطعي عرق وتسيحي دمه يا سرسورة ، أنا فاهمك، بس يعلم ربنا أنا من اليوم اللي شفتك فيه لا فاضي ابص ورايا ولا قدامي حتة، للأسف أنا مش شايف غيرك.

ارتجفت عيناها بدهشة وامتزجت بريقهما بنبضٍ لم تعرفه من قبل ثم سألت بعنادٍ رقيق:

-طيب وليه للأسف، هو في أحلى من أنك متشوفش غيري؟

ابتسم يزن ابتسامةً أنهكها الصدق وقال بصوتٍ يحمل أثر الهزيمة العذبة أمام حبها:

-دورت كتير ومالقتش عشان كده رجعتلك وأنا مهزوم وبعلن استسلامي قدام أقل ضحكة منك، أو همسه من صوتك باسمي.

هذه المرة لم تُبعد سيرا بصرها عنه كما كانت تفعل سابقًا، بل ظلت تنظر إليه بحبّ وإعجاب واضح، وكأنها تُسلم نفسها طواعيةً لأسر عينيه، فشعرت بيده تحاوط كتفها برفق، يجذبها نحوه بطمأنينةٍ تُذيب الحواجز الأخيرة بينهما، ثم رفع هاتفه يعبث في زوايا الكاميرا، وهمس بحماسٍ خافت:

-يلا نتصور ونوثق اللحظة بكابشن يليق بمرات يزن الشعراوي.

اتسعت ابتسامتها على الفور وتألقت في ملامحها براءة طفلة تنتظر مفاجأتها، فسألته بلهفة:

-ايوه هتكتب إيه بقى المرادي؟

ضغط على زر التصوير مراتٍ متتالية وفي اللقطة الأخيرة مال ليطبع قبلةً دافئة على رأسها بينما أغمضت عينيها بخجل، وكأنها تحاول أن تخبئ سعادتها التي فاضت في ملامحها، كانت الصورة نقيةً وبريئة، تحمل في طياتها كل ما لم يُقال من حبً وامتلاك؛ صورة لا توثق مجرد لحظة بل تعكس قلبين تملك أحدهما الآخر.

خفض يزن الهاتف بعد ذلك وكتب تعليقًا قصيرًا بالإنجليزية على الصورة التي نشرها في وسائل التواصل الاجتماعي، فقد كانت كلماته قليلة، لكنها حملت ثقل وعدٍ أبدي:

-my forever...my peace...my everything...Mrs.Yazn Al-shaarawi.

ولم تكن الكلمات حبرًا على شاشة، بل كانت اعترافًا صريحًا ووعدًا علنيًا بأن هذه اللحظة لن تُمحى من قلبه ما دام حيًا.
                               ***

بعد مرور وقتٍ قصير خرج الطبيب من غرفة العمليات وهو يحمل بين ذراعيه طفلًا صغيرًا بالكاد يُرى من بين ثنايا الملابس الملفوف بها، كانت يداه تتحركان بعصبية وخرج من حنجرته بكاءٌ خافتٌ كأنه احتجاجٌ على قدومه المفاجئ إلى هذا العالم، ابتسم الطبيب بابتسامةٍ رسمية وهو يمد الصغير إلى خالد قائلاً بتهنئةٍ صافية:

-الف مبروك...ولد جميل ربنا يباركلك فيه، عشر دقايق ومامته هتكون في اوضتها وتقدروا تشوفوها.

ثم التفت إلى الجمع المتراص في الردهة الطويلة، وقد بدا عليه الاستغراب من هذا العدد الكبير الذي حضر للولادة فعقب متلعثمًا بنبرةٍ يغلبها الارتباك:

-مش كلكم طبعًا..يعني القريبين بس.

غادر الطبيب تاركًا خلفه مشهدًا تتداخل فيه الدموع بالابتسامات، ظل خالد صامتًا وهو يضم طفله بين ذراعيه وعيناه مثبتتان على ملامحه الصغيرة المرتجفة، كأنهما تكتبان على صفحةٍ بيضاء قصة عمرٍ جديد، لم ينطق لكن نظراته كانت أبلغ من أي حديث، إذ عبرت عن لهفةٍ مكبوتة وسعادةٍ لا تسعها الكلمات، وضع سليم يده على كتفه برفق وقال بهدوءٍ مشفق:

-يلا أذن في ودانه يا خالد عشان مننساش.

ارتجف صوت خالد وهو يرد بنظرةٍ باهتة كأنه لم يفهم للوهلة الأولى، ثم استجمع نفسه وابتعد خطواتٍ قليلة ومال على أذن ابنه وأذن بصوتٍ متهدجٍ يملؤه الدفء والرهبة، وما إن تسللت الكلمات إلى أذن الصغير حتى هدأ بكاؤه، وفتح عينيه قليلًا كأنه يصغي باهتمامٍ بالغ لصوت والده، قبل أن يغلقهما من جديد في استسلامٍ مريح.

وعلى مقربةٍ من هذا المشهد المليء بالرهبة، كانت أبلة حكمت قد نجحت بطريقتها الفريدة في محاصرة يسر إلى زاويةٍ جانبية، فتغلغت بأسلوبها الفضولي في تفاصيل حياة يسر حتى بلغ السبب المؤلم لطلاقها، فأخذت تفتش في جراحها بكلماتٍ لا تعرف اللين، بينما يسر ما بين الضيق من تدخلها، والانسجام العابر مع تلك الجرأة الفجة التي تُلقي الكلام دون مواربة، حيث قالت حكمت بغيظٍ فاجأ يسر:

-انتي عارفة! انتي لو أختي كان زماني قعدت عليكي وفطستك.

صُدمت يسر من جرأتها لكن حكمت لم تتراجع، بل مالت عليها تهمس بحدةٍ جارحة:

-انتي لمؤاخذة دماغك تعبانة، بقى يا هبلة تسيبي جوزك لواحدة بتشتغل عنده كده عادي، أيًا كان إيه السبب!! انتي اللي تافهة ومحاولتيش تكسبي جوزك في صفك، عارفة صافي جوزي ده بيموت فيا وواثقة فيه بس بردو مخلياه ميعرفش يبص وراه مش بالنكد والعياط أبدًا!

رغم حنق يسر فقد نجحت كلمات حكمت في اجتذاب انتباهها، سألتها بتوتر متجاهلةً نظرات نوح التي لم تفارقها:

-امال بأيه؟

ردت حكمت بثقة لاذعة:

-بالشد والجذب سمعتي عنهم قبل كده ياختي؟ يعني بشد وبرخي، وكل واحدة وعارفة جوزها على إيه امتى يكون عايز شدة محترمة، وامتى يكون عايزك حنية وابقى معاه صغيرة على الحب.

هزت يسر كتفيها باستياء وقالت بعنادٍ ظاهر:

-امال أنا بعمل إيه؟ ما أنا بشد اهو عشان ميفكرش في اللي بيفكر فيه!!

رفعت حكمت حاجبيها بحدة:

-يخيبك في عقلك! هو إنه يطلقك كده معناه إنك بتشدي، لا انتي بتقطعي الحبل على الآخر.

تنفست يسر بعمق وزفرت بضيقٍ، ثم لوحت بيدها وكأنها تدفع الكلام بعيدًا عنها:

-يتقطع بقى، بصي يا أبلة حكمت أنا تعبت ومحدش عاش اللي عيشته.

نظرت إليها حكمت نظرةً حادة وقالت بتحذير:

-بكرة تندمي وتقولي ياريت اللى جرى ما كان، يا حبيبتي جوزك واحنا في كتب الكتاب عينه كانت هتبظ برة من كتر ما هو بيدور عليكي، وده معناه إنه بيحبك، المفروض إنك تستغلي حبه ليكي وزي ما ساومك زمان ساوميه دلوقتي.

شعرت يسر بثقل كلماتها لكنها لم تفهم المغزى العميق بعد، غير أن اقتراب نوح منهما جعل قلبها يرتبك أكثر حين قال بهدوءٍ موجهًا بصره إليها:

-يسر، تعالي نكشف عليكي ونتطمن بالمرة طالما احنا في المستشفى.

وضعت يدها حول بطنها البارز، وهزت رأسها رفضًا لكن حكمت تدخلت بلمحةٍ جريئة، وضغطت على مرفقها وهي تبتسم بمكر:

-الله! هو إيه اللي لا يا يسر؟ روحي يلا.

ثم دفعتها برفق نحو نوح الذي أمسك مرفقها بحذر، غير أن يسر أبعدته بضيقٍ وسارت بجواره متذمرة خشية أن تجذب الأنظار:

-أنا كويسة على فكرة مش محتاجة اكشف.

رد بنبرةٍ حانية زادت من ارتباكها:

-بس أنا محتاج اتطمن عليكي.

وأشار بيده ليتحركا إلى الجهة الأخرى من الردهة الطويلة، ورغم أن صوته منهك إلا أن إصراره واضح:

-أنا سألت على دكتورة كويسة وقالولي في أخر الطرقة دي.

توقفت يسر فجأة ثم أشارت إليه بإصبعها بحدةٍ ممزوجة بالحرج:

-بس مش هتدخل معايا، عشان انت دلوقتي طليقي.

ثبت عيناه عليها طويلًا، فقد كانت نظراته تحمل عتابًا صامتًا لا يخلو من الألم، بينما هي انتظرت منه انفجارًا أو مشاجرةً كعادتهما، لكنه فاجأها حين قال بصوتٍ حزين ونبرته تشبه نبرة ابنتهما لينا حين تبكي:

-يعني مش هسمع نبضه، كان نفسي اسمعه.

كادت دموعها تسقط فقد أحست بأن قلبها يتمزق وهي ترى ضعفه الذي لم تعهده من قبل، طالما اعتادت عليه قويًا متجبرًا لا يلين ولا ينكسر، أما الآن فقد بدا لها كطفلٍ يطلب حقه الضائع، رفعت بصرها نحو الغرفة ثم قالت بصوتٍ مترددٍ يختبئ خلفه حزن:

-ادخل معايا بس متقفش وهي بتكشف عليا اقعد بعيد وأنا هخليها تسمعك نبضه.

تحركت بخطواتٍ هادئة نحو الغرفة تاركة إياه غارقًا في شروده، فزاد الهم ثقلاً فوق صدره وكأنه يحمل عبء عمرٍ كامل لم يعد بقادرٍ على احتماله.

                                  ***
في جانب آخر من المشفى كان زيدان يقف أمام نافذةٍ واسعة، نصف جسده مستند إلى الحائط، وعيناه شاردتان نحو الفراغ، ظل يستحضر في ذاكرته الأيام الماضية مع مليكة، تلك الأيام المثقلة بخلافٍ لم يجد له مخرجًا، ما زالت ترفض الإنجاب وكأن طلبه منها يعني لها حكمًا بالموت، كان الخوف يطفو جليًا في عينيها كلما حاول إقناعها، خوفٌ يزرع في قلبه غصة حتى آثر الصمت معلنًا موافقته على رفضها، رغم أن داخله كان يضج باعتراضٍ عارم.

انتبه فجأة إلى صوت سليم الرخيم يناديه من الخلف:

-زيدان باشا.

استدار زيدان سريعًا يخفي تعابير وجهه خلف قناع البرود المعتاد، لكن المفاجأة باغتته حين لمح الصغير بين يدي سليم، فتقدم الأخير نحوه وهو يبتسم بصفاءٍ أخوي:

-انت مشوفتش الباشا ده، فقولت اجبهولك تسلم عليه وتبوسه.

ارتعشت ابتسامة زيدان قليلًا ثم مد يديه بحذر ليتناول الرضيع، فأمسكه بتوترٍ واضحٍ يكشف عدم خبرته، فتدخل سليم بخبرة أبٍ عاش مع أطفاله منذ نعومة أظفارهم، يساعده على تثبيت جسد الصغير بين ذراعيه، وما إن استقرت الملامح البريئة أمامه حتى غرق زيدان في تأملٍ عميق، عينيه تتسعان بدهشة الحب وصوته يخرج مترددًا:

-حلو اوي، ربنا يباركلهم فيه.

ثم مال يطبع قبلةً حانية على جبين الطفل، قبلة أفرغ فيها من حنانه أكثر مما أفرغ في حياته كلها، بقي صامتًا متأملًا حتى قطع سليم الصمت بسؤالٍ كان يؤجله منذ زمن:

-زيدان.

أجاب أخوه بنبرةٍ واهنةٍ وهو يحرك يده بحذر لئلا يوقظ الرضيع:

-نعم.

فاجأه سليم بصوته المتوتر رغم جموده الظاهر:

-انت كويس؟!

انعقد حاجبا زيدان باستفهام، فسارع سليم لتوضيح مقصده برفقٍ يحمي مشاعر أخيه:

-يعني قصدي، أنت عملت تحاليل انت ومليكة مثلاً وفي حاجة معطلة حملها؟

ابتسم زيدان ابتسامةً باهتة تحمل استنكارًا أكثر مما تحمل رضا ورد بهدوءٍ عميق:

-لا لا احنا كويسين الحمد لله بس...

توقف لحظة ثم عاد ينظر إلى ملامح الرضيع قبل أن يتنفس بحزنٍ أثقل صدره:

-بس مليكة اللي مش عايزاه.

رفع سليم حاجبيه بدهشة، واقترب خطوة واضعًا يديه في جيبيه بملامحٍ تحمل الرفض:

-يعني إيه معلش مش عايزة تخلف؟

زفر زيدان ببطء ورفع عينيه صوب أخيه وكأن الحروف تثقل لسانه:

-يعني مش عايزة تخلف يا سليم، خايفة تخلف ولقدر الله يحصلها حاجة وتسيب ابنها ويعاني زي ما هي عانت....يعني زي ما أبوها اتوفى وبعده أمها.

ارتفعت نبرة سليم بالاستنكار كأنما يتحدث إلى شخصٍ غريب لا يعرفه:

-وانت سكت عادي كده؟!

انكمشت ملامح زيدان بضيق ورد بصوتٍ خافتٍ يفضح اضطرابه:

-امال أعمل إيه يا سليم؟ اغصبها على حاجة هي مش عايزاها، لازم تكون راضية.

لو سمع سليم هذا الضعف من غير أخيه لظنه وهمًا، لكن عيني زيدان فضحتا صدقه، ابتلع ريقه ثم قال بخشونةٍ:

-متغصبهاش بس اتكلم معاها، في مية الف طريقة تقنعها بيها، يعني هي مشاعرها ماتحركتش لما شافت ابن نهى، كنت استغل ده وكلمها.

ابتسم زيدان بمرارة يواجه أخاه بصدقٍ عارٍ:

-أنا اتكلمت بكل الطرق وفهمتها مليون مرة بكل الكلام اللي ممكن تقوله، بس كل ما اكلمها احسها خايفة ودايمًا شايفة إن ابنها هيعيش زيها.

اقترب سليم أكثر وصوته خرج جادًا يحمل ثقل التجربة ونبرة من يريد إيقاظ روح غافلة:

-زيدان مش كل حاجة ممكن مراتك تقولهالك تمشي وراها فيها، دي حياتك زي ما هي حياتها، ومن حقك يكون ليك ابن وتفرح بيه، ومش واحد، اتنين وتلاتة وخمسة، ولو كنت استخدمت معاها اللين يبقى غير طريقتك عشان تفهم.

ساد صمت ثقيل لحظة، كأن الجدران نفسها أصغت إليهما، ثم نظر زيدان باستنكار يتأرجح بين الخوف والحيرة:

-ازعقلها؟

رفع سليم حاجبه بنفاد صبر وهو يقول:

-مقولتش كده، بس تقدر تغير معاملتك معاها عشان تحس إن بردو زي ما انت بتتنازل في حاجات هي كمان المفروض تتنازل فيها.

ارتجف قلب زيدان للحظة ثم نطق بالسؤال الذي كمن طويلاً داخله:

-شمس بتتنازل عشانك؟

ارتسمت على ملامح سليم ابتسامة باهتة وهو يبوح بأسرار صغيرة من حياته الزوجية:

-كتير، وأنا في حاجات بعديها بمزاجي عشان خاطرها وبعمل اللي يرضيها، الموضوع متبادل ما بينا، وزي ما أنا بدورلها على راحتها هي كمان تدور على راحتي.

خيمت على المكان سحابة من التردد وزفر زيدان بتعبٍ مكبوت:

-خايف أخسرها لو أصريت؟

تنهد سليم وهو يتساءل بهدوء:

-هي مريضة؟ 

حرك زيدان رأسه بنفي وهو يجيب بنبرة مبحوحة:

-لا.

ظهر مدى تعمق سليم في كلماته الموزونة التي أفضى بهدوء أمام زيدان المنصت باهتمام:

-خلاص يبقى تخسرها ليه؟ اظن انتوا واخدين بعض عن حب ومريتوا بحاجات كتير، فالموضوع مش هيوصل لكده أبدًا، وبعدين ده انسب وقت تدق على الحديد وهو سخن، هي أكيد مشاعرها اتحركت لما حضرت ولادة نهى، مفيش واحدة ست ربنا خالقها مشاعرها مبتتحركش في اللحظات دي.

كلماته تسللت إلى صدر زيدان كجرعة منطق قاسية، ومع ذلك لم تزلزل ضعفه، فأطرق للحظة يحدق في الرضيع بين يديه، وكأنه يبحث في ملامحه الصغيرة عن جوابٍ يعجز البشر عن منحه.

-وإن رفضت يا سليم؟ 

رد سليم بصلابة:

-متيأسش يا زيدان وحاول مرة واتنين، متختارش السكوت والاستسلام ده مش هيغير من رأيها أبدًا.

ارتعشت شفتا زيدان وهو يبوح باعترافٍ مباغت:

-والله يا سليم أنا بقيت محتار، اوقات بشوفها بتبص لعيالك وبشوف في عينها إنها نفسها يكون لينا اطفال واوقات بحسها بتهرب من أي طفل عشان متغيرش رأيها.

ابتسم سليم ابتسامة خفيفة لكن نظراته حملت كل الحزم:

-يبقى مهزوزة يا زيدان؟ انت دورك تطمنها وتديها الأمان لغاية ما توافق وبإرادتها.

هز زيدان رأسه في صمتٍ، ثم خفض عينيه إلى الطفل النائم فابتسم له كأنما يودع خوفه بين ثنايا وجهه البريء، وهمس:

-هجرب طريقتك يمكن تنفع.

ابتسم سليم نصف ابتسامة وهو يقول بثقة:

-هتنفع طالما بتمشي وراه اخوك.

وفي لحظةٍ مفعمة بالعاطفة رفع زيدان رأسه فجأة، وألقى على كتف أخيه قبلةً صادقة خرجت من قلبٍ مثقل بالامتنان، قبل أن يهمس:

-ربنا يخليك لينا يا سليم.

تصدعت جدران الصمت التي شيدها سليم حول مشاعره، فشد زيدان إلى صدره مربتًا على ظهره بحنو غير معتاد:

-ربنا يخليكم ليا أنا من غيركم ولا حاجة، وجودك  جنبي انت واخوك بيديني الأمان دايمًا.

لكن هذه اللحظة الدافئة ما لبثت أن انكسرت بضحكة يزن الساخرة، وصوته يتسلل كخيطٍ من ضوءٍ عابس:

-إيه ده بقى؟ إيه العشق الممنوع ده؟ طيب من غيري، ان شاء الله ربنا مش هيباركلكم.

التفت الأخوان معًا ووجوههم متناقضة بين الحرج والانزعاج، فيما تقدم يزن بخطواتٍ خفيفة نحو الرضيع، وابتسامته الحنونة تكذب سخريته:

-الحمد لله مخدش حاجة من عمتك ميرفت الله يرحمها سايبة فراغ كبير في حياتنا.

ضحك زيدان رغماً عنه وامتلأت اللحظة بمزيج من الجد والمرح، فتابع يزن سؤاله بفضول:

-هما هيسموه إيه؟

رد سليم بهدوء وعيناه معلقتان بالرضيع كأنما يقرأ في ملامحه المستقبل:

-لسه تقريبًا محتارين في كذا اسم.

مال زيدان أكثر وهو يربت على رأس الصغير بحنان، كأنه يلمس قلبه بيديه ثم همس كمن يقطع عهدًا:

-لو ابني هسميه سليم.

لم يكد ينهي جملته حتى جاء صوت خالد من خلفهم، صوت بدا وكأنه يقتحم اللحظة ليعلن قدراً جديداً:

-حلو اسم سليم، هعتبرها إشارة من ربنا واسميه سليم.

ارتفعت أنظار سليم فجأة، حدقت عيناه بدهشة صادقة لم يستطع إخفاءها، فتساءل وكأنه لا يصدق ما سمع:

-هتسميه سليم بجد؟

اقترب خالد بخطواتٍ واثقة، وتناول صغيره من ذراع زيدان، قبله بلطف كمَن يخشى أن يوقظ حلماً جميلاً، ثم التفت إلى سليم بجديةٍ تُخفي بين طياتها مودة عظيمة:

-ايوه، أصلاً كنا محتارين في اسمه، بس زيدان سبحان الله ربنا حط الاسم على لسانه، واظن إن نهى مش هتمانع هي بتحبكم وهتوافق.

ضحك يزن وهو يربت على كتف خالد بمزاح لا يخلو من الحيلة:

-طيب ما تسميه يزن وأنا هجبلك في كل عيد ميلاد له عربية جديدة.

ابتسم خالد وهز رأسه بحسم:

-ان شاء الله الولد التاني، لكن ده هيبقى اسمه سليم.

ضحك يزن وهو يلوح بيده مستسلمًا:

-ياعم انت الخسران،  عرضي على أول عيل لأي حد، بعد كده عرضى اتلغى، هي الفرصة بتيجي في العمر.

كان زيدان يراقب الجدال بضحكة مكتومة، ثم ربت على ذراع خالد قائلاً بنبرةٍ تجمع بين الجد والمرح:

-معلش، أصل يزن اخويا رايق اوي.

رفع يزن حاجبيه باعتراضٍ مصطنع ورد سريعًا:

-ومكونش رايق ليه؟ حاقد عليا ليه يا عدو الفرحة؟

تبادل الأخوان نظرات حادة مشوبة بالضحك، كأنهما اعتادا هذا الصراع الأبدي بين الجد والهزل، أما خالد فقد بدا متفاجئًا من التحول المفاجئ في نبرة حديثهما، فأمسك سليم بذراعه برفق ليخرجه من الدائرة قائلاً:

-تعالى نتطمن على نهى، متقلقش هما متعودين على كده، هيخلصوا خناقة ويجوا ورانا عادي.

                             ****

غادرت عائلة سيرا بعد الاطمئنان على نهى، وقبل أن يتفرقوا تلقوا دعوة من سليم لحضور حفل سبوع سليم الصغير في منزل عائلة الشعراوي، ورغم رفض خالد في البداية، ولكن أصر سليم إصرارًا واضحًا على رأيه، فما كان من شمس إلا أن ابتسمت بخفة وهي توجه كلامها لخالد الذي بدا متفاجئًا من حزمه:

-مش انت أصريت تسميه سليم، قابل بقى ده احتمال ياخده يربيه هو.

انفجر الجميع ضاحكين على جملتها، بينما استغلت يسر انشغالهم بالمرح والجدال لتتسلل بهدوء، متظاهرةً أنها غير موجودة، خرجت من المشفى متجهة إلى البوابة، وقفت للحظة وهي تحاول الاتصال بوالدها لتخبره بمكانها، لكن هاتفها انطفأ بعدما نفد شحنه، زفرت بضيق وحيرة فهي لا تريد العودة لطلب المساعدة من أحد، ولا تجرؤ في الوقت ذاته على استقلال سيارة أجرة بمفردها في تلك الساعة المتأخرة.

وبينما كانت تستجمع شجاعتها للبحث عن حل، فوجئت بظلٍ يقطع طريقها وصوتٍ مألوف يقترب منها بجمود يخفي وراءه ارتباكًا:

-يلا عشان اوصلك.

توقفت في مكانها تشبثت بالأرض رافضة عرضه ببرود متعمد:

-لا شكرًا، أنا هركب تاكسي.

ارتفع صوته مستنكرًا وتبدلت ملامحه فجأة إلى الضيق:

-هتركبي تاكسي وأنا موجود؟ 

عاندت بنبرتها وهي ترميه بكلمات جارحة:

-ايوه، هو أنا بيربطني بيك إيه عشان اركب معاك؟ انت مجرد طليقي.

حاول كبح غضبه لكن أعصابه خانته، فتجهمت ملامحه وتقدم منها بخطوات غاضبة، كانت قبضته تنغلق بقوة حتى برزت عروقه، وكأن شبحًا قد استيقظ في داخله، فمنذ أن خرج من غرفة الطبيبة وهو مثقل بأفكاره، وكما توقعت جاء صوته خشنًا حادًا:

-طيب ماتخلنيش اردك دلوقتي حالاً يا يسر عشان بس اوصلك، وعلى إيه أنا رديتك لعصمتي، حلو كده؟ 

حدقت به بذهول وهي ترد بانفعال مضطرب:

-يعني إيه اللي انت بتعمله ده، يعني أيه ردتني لعصمتك؟

اقترب أكثر وصوته الغليظ ارتجف بصرامة أخافتها:

-يعني اللي سمعتيه، واركبي حالاً العربية، بلاش الناس تتفرج علينا.

ترددت للحظة لكنها عرفت أنه في تلك الحالة ليس بالرجل الذي يُجدي معه الجدال، تقدمت بخطوات متثاقلة نحو سيارته واستسلمت للأمر، فالخيط بين تعقله وجنونه رفيع للغاية، وقد خبرت كيف ينقطع سريعًا كما حدث مع منير من قبل، فهمست وهي تنظر بعيدًا:

-ماشي هركب بس هتطلقني تاني.

ابتسم بسخرية وهو يغلق الباب خلفها بعنف:

-اه وماله حاضر.

جلس خلف المقود وانطلق بسرعة جنونية، كأن عجلات السيارة تحمل ثقل غضبه وتفرغه على الطريق، ارتجفت يسر في مقعدها وهمست برعب:

-نوح لو سمحت اهدى شوية.

نظر إليها فوقع بصره على يدها المرتجفة فوق بطنها البارز، كان المشهد كفيلًا بأن يهز أعماقه، وكأن صوتها وملامحها الخائفة أعاداه من حافة الظلمة، خفف سرعته شيئًا فشيئًا، وتمتم باعتذار خافت لا تدري أيقصد به تهوره في القيادة أم ما آل إليه حالهما:

-آسف.

ابتلعت يسر ريقها ونظرت عبر النافذة بشرود، لكن صوت نوح اخترق صمتها، فقد كان صوته يحمل جرحًا عميقًا لا يخفى:

-جعانة؟

-لا.

كان جوابها همسًا مقتضبًا، أعقبه صمته، فعاد يسأل بهدوء يائس:

-محتاجة حاجة من الشقة نعدي نجيبها؟

فهمت قصده وأدركت احتياجه إليها خلف كلماته المبطنة، لكنها لم تجد سوى أن تجيب بالنفي:

-لا.

قويت قبضته فوق المقود وكأنه يرفض سماع ردها، ثم أعاد السؤال بصوت ضعيف كأنما يترجاها:

-لينا محتاجة من حاجاتها نجيبها؟

-أخدنا كل حاجتنا من الشقة.

كانت إجابتها كالسهم في صدره، قصمت ظهره وأظهرت هشاشته فهز رأسه مراتٍ عدة وهو يهمس بانكسار:

-أنا هبيع الشقة.

شهقت بدهشة لم تستطع حجبها:

-هتبيع شقتنا؟

لم يتحمل وقع الكلمة فتوقفت السيارة فجأة، وأطلقت العجلات صريرًا حادًا، تشبثت بمقعدها والتفتت إليه برعب، فرأته يسند رأسه على المقود ويمسكه بضعف، ثم همس بتيه وأسى أوجع فؤادها أضعافًا:

-أنا مبقتش عارف عايز إيه، كل اللي عايزه إني أبعد وماشوفش حد ولا حاجة تفكرني باللي أنا فيه.

ألم يكن هو السبب في كل ما يحدث؟! لكن قلبها الخائن لم يطاوعها؛ أغمضت عينيها بقوة وهي تكبح يدها التي كادت تمتد لتربت على رأسه، بل إنها تمنت للحظة أن تحتضنه...شعور متناقض مؤلم مزقها.

"هل جربت يومًا أن تتمنى الشيء ونقيضه؟ أن تشتاق إلى القرب وتختار الابتعاد؟ أن يشتعل قلبك عشقًا وهو ينزف ألمًا؟"

طال الصمت ولم تجد سوى البكاء الخافت متنفسًا لوجعها، بينما هو رفع رأسه بعد أن مسح وجهه وفركه مرارًا، ثم حدق في عينيها بعينين محمرتين وقال برجاء هزها من أعماقها:

-أنا محتاج لينا معايا النهاردة.

هزت رأسها باستسلام ثم مسحت دموعها وسألته بقلق:

-هتعرف تتعامل معاها وتنيمها؟

أدار المحرك من جديد وقاد السيارة بهدوء هذه المرة مجيبًا بصوت واهن:

-ايوه متقلقيش.

وفي حقيقة الأمر، كان عاريًا من الأمان، لا يملك في دنياه سوى ابنته الوحيدة؛ ملاذه الأخير حين تضيق روحه، وموضعه الآمن الذي يخلد فيه إلى النوم بين أحضانها الصغيرة كأنه يطرح عن كتفيه كل أعباء الحياة، كان بحاجة إلى أن يتنفس رائحتها التي تحمل شيئًا من رائحة والدتها، حتى لو لليلة واحدة فإنها كفيلة أن تمنحه بعضًا مما يتوق إليه الآن.

وبعد دقائق توقفت السيارة أمام بيت والد يسر، ثم صعدا معًا وقبل أن تدير مفتاح الشقة لتفتح الباب، التفتت نحوه قبل أن تترجل وسألته:

-تحب تدخل لغاية ما أجهزها واقولها.

-لا هقف هنا، خدي وقتك.

فتحت يسر الباب بالمفتاح لكنها فوجئت بـ لينا تقفز إليها بفرحة غامرة:

-ماما وحشتيني.

انحنت لاحتضانها وقبلت رأسها:

-وانتي اكتر...شفتي مين معايا؟ بابا جاي عشان ياخدك وتنامي معاه النهاردة..

تبدلت ملامح الطفلة فجأة، وارتجفت خطواتها للخلف، وتجمدت عيناها بخوفٍ وهي تهز رأسها رافضة:

-لا مش عايزة اروح معاه.

صُدم نوح من رد فعلها وشعر بكسرة حقيقية تشطر قلبه نصفين، بينما جمدت يسر مكانها غير مصدقة، تقدم منها خطوة فتراجعت الصغيرة، فجلس على ركبتيه وصوته يتهدج برجفة بكاء محبوس:

-لينا...حبيتي، انتي خايفة مني؟ أنا...

قاطعته الصغيرة بعفوية جارحة:

-اه ممكن تضربني وتزعقلي زي ما عملت مع ماما وعمو منير.

بقي نوح جاثمًا مكانه وذراعاه مفتوحتان في فراغٍ بارد، بينما عيناه تحدقان في العدم، لقد لفظته ابنته، آخر ما تبقى له في هذه الحياة، وفي لحظةٍ شعر كأنه يهوي إلى قاع جحيم لا قرار له، يتلقى صنوف العذاب بعد أن فقد كل شيء...حتى حضن صغيرته.

نهض نوح بهدوء، شارد الملامح، ومضى نحو الباب كمَن يسير مثقلاً بجبال من الخيبة، تحركت خلفه يسر بخطوات مضطربة، تمد يدها نحوه وتستنجد بصوت مرتجف:

-نوح استنى متزعلش، أنا هفهمها، طيب استنى عشان خاطري، نوح.

لكنه لم يلتفت ولم يسمح لأذنه أن تلتقط شيئًا من توسلاتها، استقل سيارته بعنادٍ يائس، وأدار المحرك ليمضي، تاركًا خلفه محاولاتها المستميتة تتهاوى في الفراغ، بقيت يسر واقفة تتجرع مرارة الفشل، ثم عادت أدراجها مهزومة، لتجد والدتها بانتظارها، تنظر إليها بعتاب صامت بينما والدها وقف إلى جوارها حائرًا، ملتزمًا الصمت بعد أن طلبت منه زوجته ألا يتدخل.

قبل أن تدخل غرفتها توقفت واستجمعت ما تبقى من قوتها لتقول بهدوء، كمَن يلقي حجرًا في ماء راكد:

-نوح ردني.

ثم أغلقت الباب خلفها، تاركة ابتسامة نصرٍ ترتسم على وجه والدتها، وصدمة صامتة على ملامح والدها، الذي كتم اعتراضه على مضض، رغم أن قلبه لم يخلُ من تعاطفٍ مع نوح بعد ما رآه من كسرةٍ بين عينيه.

أما في الداخل فجلست يسر إلى جوار صغيرتها، تنعم برأسها فوق حجرها، تمرر يدها بحنان فوق خصلاتها الناعمة وصوتها يخرج هادئًا:

-بابا زعل اوي ومشي كان نفسه تبقي معاه يا لينا.

رفعت الطفلة عينيها بخجل لتبرر موقفها بصوت متردد:

-أنا خوفت منه.

ابتسمت يسر بحنو وهي تطمئنها:

-يا حبيبتي هو بابا عمره ضربك ولا زعقلك، بالعكس ده انتي اكتر واحدة بيحبها في الدنيا يا لينا، مكنش ينفع أبدًا تكسفي بابا بالشكل ده.

رمشت لينا بأهدابها الصغيرة ثم قالت بحزنٍ طفولي:

-بس أنا زعلانة منه عشان مبيسألش فيا خالص.

ارتبكت يسر وابتلعت ريقها، ثم تداركت الموقف وهي تضرب جبينها بتصنع:

-يا نهار أبيض دي غلطتي، أنا ازاي نسيت اقولك أنه كل يوم كان بيتصل ويسألني عليكي معلش حقك عليا، أنا اللي غلطانة.

اتسعت عينا الصغيرة محاولةً تصديق كلمات والدتها، فاستغلت يسر ارتباكها وهمست لها بحنان:

-إيه رأيك بكرة نروح له العيادة ونجيب له هدية ونصالحه.

أومأت لينا برأسها وارتسم بداخلها بريق حماسة طفولية، ثم قالت برجاء خاص:

-ونقضي اليوم أنا وانتي وبابا مع بعض ونتفسح ماشي؟

ترددت يسر للحظة لكن نظرة ابنتها المليئة بالشوق كسرت ترددها، فأجابت برقةٍ يغلفها الحزن:

-ماشي، وماله نقضي اليوم مع بعض، بس أنا عايزاكي بقى تقعدي تفكري هتصالحي بابا ازاي وتجيبي له هدية إيه؟

تنهدت الصغيرة بعمق، وغاصت في ذكرياتها القصيرة تبحث عما يحبه والدها، فلم تجد أثمن من أحضانها التي طالما أخبرها أنها تمنحه دفئًا لا يشبه شيئًا آخر، رفعت رأسها وقالت بحماس طفولي صادق:

-اول حاجة هحضنه جامد عشان هو بيحبني لما أحضنه جامد، هو قالي كده.

ابتسمت يسر وعانقتها بقوة، ثم قالت وهي تحاول زرع الحماسة في قلبها:

-حلو اوي...تعالي بقى نفكر هنجيب له إيه؟

                             ***
في اليوم التالي..

وصلت يسر ولينا إلى عتبة عيادة نوح، قبل أن تخطو ضغطت كفيها على بطنها مرارًا، محاولةً ضبط أعصابها وعدم الانفجار أمام تلك الحرباء التي تجلس خلف المكتب بغياب ذهني، ولم تلتفت لوجود يسر إلا حين سألتها هذه الأخيرة بنبرة جافة:

-دكتور نوح موجود جوه؟

انتفضت حسناء كما لو تلقت صدمة كهربائية، ونظرت باستنكار لوجود يسر في العيادة، هل أعادها إلى عصمته بهذه السرعة؟!

ظلت حسناء صامتة تنظر إلى يسر بحقد، فجاهلتها يسر وانطلقت مع ابنتها تفتحان باب الغرفة، وجدن نوح جالسًا صامتًا ويرتدي نظارته الطبية ويطالع شاشة حاسوبه، وما إن رآهم حتى بدت عليه علامات الدهشة، تقدمت هي وابنتها ثم أغلقا الباب وقالت بابتسامة هادئة:

-لما لينا عرفت إنك زعلان منها قالتلي لازم تيجي وتصالحك.

نظر نوح إلى ابنته الصغيرة المحمرة خجلاً، فتقدمت بخطواتٍ بطيئة، وما أن فتح ذراعاه حتى ارتمت داخله؛ احتضنها نوح بقوة كأنه يريد إدماجها في كيانه وهمس إليها:

-بحبك..بحبك اوي، مقدرش ازعل منك.

مدت يدها الصغيرة تداعب ظهره برقة، فأغلق عينيه واستسلم لوتيرة تلك اللحظة، بينما كانت يسر تنظر إليهما وتعتلي محياها ابتسامة هادئة، ولما أشارت لينا إليها حتى تقدمت ووقفت أمامهما، ثم قالت لنوح بهدوء:

-لينا كمان جابتلك هدية على ذوقها.

أجلس نوح ابنته على ركبته، والتقط صندوق الهدايا بتأمل محب، فتفحص محتواه...قميص، عطر رجالي، ساعة يد وعلبة حلويات، فهمس مدهوشًا:

-أول مرة حد يجبلي هدية، تسلم ايدك يا حبيبتي.

قبل يدها بقبلات حانية وأشارت الطفلة ببراءة نحو والدتها:

-ومامي دفعت فلوسها.

ابتسم نوح لعفويتها ثم مد يده نحو يسر والتقط يدها وقبل كفها بلهفة:

-تسلم ايدك يا حياتي.

ارتجفت يسر من قبلته المفاجئة وكأنها ليست زوجته لكن لينا فاجأتها بفتح ذراعيها قائلة:

-أنا عايزة احضنكم انتوا الاتنين.

-بس كده، أنا تحت أمرك، أمري وأنا انفذ.

قالها نوح ضاحكًا ثم جذب يسر فجأة لتجلس على ساقه الأخرى، فشهقت خجلاً ورعبًا، وفي لحظة صار يحتضن الاثنين معًا، ولكنه دفن وجهه في رقبتها يستنشق عبيرها كما لو أنه سيودع أنفاسه في أي لحظة ثم همس بوله:

-وحشتيني اوي.

بدت يسر كتمثال بين ذراعيه، تخفق دقاتها بجنون، وتشتد رغبتها في إبعاد ابنته عنه بعدما ملأها حضنه بقوته، لكن لينا قطعت أفكارها بحماس:

-دادي أنا عايزة نخرج النهاردة أنا وانت ومامي ونتفسح طول اليوم مع بعض ويبقى أنا كده صالحتك وأنت كده صالحتني.

ابتعد نوح عنها بصعوبة ثم تمتم بصوت متهدج:

-حاضر يا حبيبتي، هتقعدوا معايا هنا اخلص كم الكشف ده ونروح مع بعض؟

وقفت يسر وهي تتظاهر بترتيب ثيابها ثم قالت بخجل:

-لا....هننزل نستناك تحت، بس متتأخرش.

قبل نوح ابنته التي نزلت من فوق ركبته وقال:

-حاضر ساعة بالكتير وهتلاقوني عندكم.

أمسكت يسر بيد ابنتها وغادرت الغرفة، وظلت نظراته تتلاحق بها بتلهف وجنون، وما إن خرجت حتى دخلت حسناء وتبدو عليها علامات الضيق:

-حضرتك رنيت الجرس يا دكتور.

تنهد بعمق وانقلبت ملامحه من حزن وغضب إلى ارتياح واضح، أخرج حقيبة سوداء وقال:

-الفلوس دي، روحي وديها البيت عندي يا حسناء، والمفاتيح اهي.

رمقت حسناء الحقيبة نظرة طويلة ثم سألت بهدوءٍ محسوب:

-احطها فين؟

أجاب بنبرة عادية: 

-في الخزنة رقمها هبعتهولك واتس، وبعد كده روحي بيتك عادي أنا هخلص الكام كشف دول، وهروح مع يسر ولينا مشوار.

قبضت على الحقيبة بقوة وهي تكتم غضبها، ثم همست:

-هو انتوا رجعتوا؟

رفع بصره إليها لوهلة وقال بعد صمتٍ قصير:

-اكيد مقدرش ابعد عنها.

أوقدت هذه الكلمات شياطين الغضب في قلب حسناء، تقدمت بخطوات ثابتة وحملت الحقيبة بهدوءٍ شديد، ثم ابتسمت ابتسامةٍ مدفوعة بالحدة:

-الف مبروك..

غادرت وهي تسب في سرها وتتوعد بتدمير حياته، وما إن وصلت أسفل البرج حتى رأت يسر تقف مع لينا أمام المحل؛ تقدمت نحوهما وقالت بسخرية:

-الف مبروك رجوعكم لبعض.

حدقت بها يسر من أعلاها إلى أسفلها، ثم قالت:

-الله يبارك فيكي، معلش أنا عارفة الخبر أكيد كام صدمك.

تمايلت حسناء بدلال مبتذل وقالت بابتسامةٍ ساخرة:

-يصدمني ليه؟ أنا عندي استعداد اعمل أي حاجة لنوح ان شالله اكون تحت رجليه.

أغمضت يسر عينيها بقسوة وردت بصوت يحمل تهديدًا:

-انتي واحدة قليلة الادب ومش مظبوطة ومش هناولك اللي في بالك، فاهدي بقى شوية، وقريب اوي هخليه يطردك.

قاطعها حسناء بازدراء:

-يطردني؟! مدام يسر انتي ماتعرفيش أنا ونوح علاقتنا عاملة ازاي، ومدى الثقة اللي ما بينا.

ثم أخرجت مفاتيح شقته وأشارت بها يمينًا ويسارًا:

-ده حتى مديني مفتاح شقتكم عايزني اروح هناك، ومش اول مرة على فكرة، عشان بس تعرفي أنا إيه عند نوح.

ثم ضحكت ضحكاتٍ طويلة وغادرت، تسير بخطواتٍ مستفزةٍ توقظ غيظ يسر التي تمنت في تلك اللحظة لو أنها تصعد وتقتص من نوح بسبب نيران الغيرة التي كادت تعميها.

                            ****

تحرك فايق في غرفته ببطء وهو يحمل هاتفه، يتحدث بصوت خافت ثم وقف خلف نافذته يتأكد من أمرٍ ما، لكن ملامحه سرعان ما اشتعلت غضبًا:

-يا عم اقف شوية هو أنا مش مديك فلوس على وقفتك دي، يبقى متجادلش بروح أمك.

جاءه صوت الآخر متذمرًا من الطرف الآخر:

-فايق بلاش تهلفط كتير، يا عم أنا من صبحية ربنا واقف الوقفة المهببة دي، وبعدين السنيورة هتنزل امتى؟

زفر فايق بغيظ وهو يقبض بيده على حافة النافذة كمَن يكتم بركانًا داخله:

-تنزل وقت ما تنزل، المهم إنها تركب معاك وزي ما فهمتك مجرد بس تهويشه خوفها وارميها على أي طريق.

ضحك الآخر بخبث وأجاب:

-اه وماله من عنيا كان يوم أسود يوم ما سمعت كلام واخدت التاكسي من اخو المدام.

زفر فايق بعنف ثم ألقى نظرة نحو نافذة سيرا المقابلة له وهمس بغل مكتوم:

-انزلي بقى، انزلي عشان كتب كتابك اللي عملتيه امبارح ده أنا مش هعديه بالساهل كده.

ظل يراقب النافذة حتى دخلت والدته وما إن رأته على حاله حتى صاحت بعصبية:

-يالهوي يا فايق بردو بتبص على بيتهم، يا بني كفايك فضايح ووجع قلب، البت خلاص اتكتب كتابها، وعيلة خطيبها واصلين، انت شوفت بعينك اخوه ازاي واصل وظابط كبير.

التفت نحوها بعينين تقدحان شررًا، ورد بغيظ:

-ميهمنيش، وابعدي عني الساعة دي، أنا مش طايق نفسي.

غادرت والدته غاضبة بينما عاد هو يثبت عينيه على النافذة، وما لبث حتى رآها تخرج بالفعل من بنايتها، تحمل حقيبة متوسطة بعناية، أسرع يتصل بصديقه وقال:

-اهي خارجة هتلاقيها شايلة شنطها وطالعة على أول الشارع، اعمل إنك بتعدي من الشارع عشان متشكش ولما تخلص رن لي وأنا هكمل.

في الجانب الآخر...

كانت سيرا تحمل حافظة الطعام بداخلها طاجن البامية الذي أعدته بيديها، والسعادة تغمر قلبها لأنها صنعت شيئًا يحبه يزن، صحيح أن الوصفة كانت تحت إشراف "أبلة حكمت"، لكنها رفضت أن يدخل أحد يده فيه، فأصرت أن يُصنع بالحب وحده.

خرجت من البناية بخطوات متلهفة، وقررت أن تستقل سيارة أجرة حتى لا يفسد الطعام، كانت تدرك أن يزن أوصاها مرارًا بألا تغادر المنزل إلا بعلمه، لكنها رغبت أن تكتمل المفاجأة...وأن يصل إليه الطاجن دون أن يشك في شيء.

أوقفت سيارة أجرة على جانب الطريق، وصعدت بخفة وهي تحتضن الحافظة بحرص، ثم أعطت السائق العنوان وجلست تعبث في هاتفها، ترسل رسائل متفرقة لفاطمة وأحيانًا ليسر، لم تلتفت إلى الطريق في البداية، لكن حين رفعت رأسها بعد دقائق، وجدت أن السيارة تسلك طريقًا غريبًا عليها، فعقدت حاجبيها وقالت بلهجة متوجسة:

-لو سمحت أنا عمري ما مشيت من الطريق ده!

لم يجيبها السائق، فاكتفت بنظرة جانبية ثم لاحظت أنه يضغط على دواسة الوقود ويزيد من سرعته، انتابها القلق وقالت بصوت أكثر حدة، تحاول أن تخفي رعشتها:

-اقف على جنب، اقف احسنلك.

توقف فجأة فارتطمت للأمام، ورفعت رأسها بخوف، لتكتشف أن الطريق خالٍ لا يسلكه أحد، وبناياته ما زالت قيد الإنشاء، مدت يدها لتفتح الباب فإذا به مغلق بإحكام، التفتت إليه بذهول فإذا به يستدير نحوها، يخلع قميصه ببطء،
وصوته متهدج:

-إيه يا حلوة مالك متوترة كده ليه؟!

صرخت سيرا وهي تحاول دفعه بعيدًا:

-آآ ابعد عني....

مدت يدها الأخرى إلى هاتفها محاولة إجراء اتصال بيزن، لكن السائق لمح ذلك بسرعة، فأمسك بيدها بعنف وانتزع الهاتف منها وألقاه بعيدًا في السيارة، ازدادت ضرباتها على زجاج النافذة وهي تصرخ بعلو صوتها:

-الحقوني...!

حاول السائق كتم صوتها وهو يمد يده إلى سرواله ليفتحه، فازدادت مقاومتها بعشوائية وهي تردد بلا وعي

-لا لا لا...لا لا..ابعد

ورغم تحذيرات فايق له أن يكتفي بتخويفها، إلا أن شهوته قادته إلى خيانته، فقد أعجبته سيرا منذ اللحظة الأولى وقرر أن يمتلكها بالقوة، حاول تقبيلها فغرزت أظافرها في وجهه حتى سال الدم، ثم ركلته بقوة في بطنه فتراجع إلى الخلف، لكنه عاد وأمسكها بقسوة، وانهال على وجهها بصفعة عنيفة تركت أثرًا دامياً بجانب شفتيها وسالت على إثرها الدماء.

صرخت بكل قوتها وظلت تضربه بيديها وهي تبكي:

-لا بالله عليك ابعد...

ثم تعود لسبه بعنف وهي تجذب خصلات شعره الخشنة في يدها بقوة:

-يا حيوان يا كلب...هقتلك لو لمستني.

جذبها من شعرها بعنف حتى انخلع حجابها بعيدًا فزفر بغضب:

-طيرتي الحباية منك لله، اهمدي بقى يا بت.

لكنها لم تستسلم بل حاولت خطف حجابها من يده وهي تضربه بجنون، وفي لحظة خاطفة وقعت عيناها على طاجن البامية بجانبها. قبضت عليه بكل قوتها ورفعت يديها لترتطم به على رأسه بقوة هائلة.

تهشم الطاجن فوق رأسه، وتناثرت البامية على جسده ووجهه وتناثرت شظاياها داخل السيارة، ارتخت يداه فجأة وسقط فاقدًا للوعي، والدماء تنزف بغزارة من جرح غائر في رأسه.

ظلت سيرا تحدق فيه برعب والهواء يضيق في رئتيها، حتى تمالكت نفسها بصعوبة وبدأت تبحث بجنون عن مفتاح الأبواب، ضغطت على كل الأزرار بعشوائية حتى انفتح الباب أخيرًا، التقطت هاتفها وحجابها، وخرجت تركض بأقصى ما تملك من قوة، تترنح خطواتها في الشارع المهجور.

ولكنها توقفت فجأة والتفتت إلى السيارة التي تركتها خلفها، وعيناها ترتعشان بالخوف، وحدسها يخبرها بالحقيقة...لقد قتلته.
هل ستستطيع إثبات براءتها؟ هل سيصدقها الجميع أنها كانت تحاول الدفاع عن شرفها؟!

ولكنها شعرت بالخوف وقررت أن تستكمل ركضها المتعثر وتستنحد بمنقذها الاول...يزن.

                              ****

لم تستطع سيرا الاستمرار في الركض؛ ساقاها قد خانتاها، وأنفاسها تتلاحق كمَن يوشك أن يغرق في هواء ثقيل، توقفت في مكانها وهي تلف برأسها يمينًا ويسارًا في رعب، تبحث عن ملجأ أو عن أي مأوى يحجب عنها وحشية اللحظة التي أفلتت منها، لم تجد أمامها سوى "سوبر ماركت" صغير، دلفت إليه وهي تكاد تسقط وعيناها المتسعتان تحملان رجاءً غارقًا في الاستغاثة.

رفعت السيدة الجالسة خلف الطاولة بصرها إليها، وما إن وقعت عيناها على وجه سيرا الملطخ بالكدمات حتى شهقت برعب وصرخت بصوتٍ عالٍ:

-يالهوي مالك يا بنتي اصمالله عليكي.

أجهشت سيرا في بكاءٍ مبحوح تتوسل بصوتٍ مرتعش:

-تليفون اعمل منه مكالمة، تلفوني باظ ومش راضي يفتح.

بادرت السيدة وقد غلبت عليها الشفقة، فأعطتها الهاتف دون تردد، ارتجفت أنامل سيرا وهي تكتب الرقم الوحيد الذي خطر ببالها، الرقم الذي لا يمكن أن يخيب ظنها فيه، وما هي إلا لحظات حتى جاءها صوته عبر السماعة:

-الو.

صمتت للحظة عندما طاردها التردد، كأنها تحارب جدارًا داخليًا يمنعها من الحديث، ثم انهارت همسًا والدموع تسبق الكلمات:

-يزن.

خيم الصمت من طرفه ثوانٍ معدودة، لكنها كانت دهورًا في قلبها المرتجف، ثم أتى صوته متهدجًا وممتزجًا بالقلق:

-سيرا؟ مالك يا حبيبي بتعيطي ليه؟

شهقت بضعفٍ تام وهمست برجاء مخنوق:

-الحقني أنا في ********.

لم تكمل؛ انقطع الاتصال فجأة لكن ارتياحًا غريبًا اجتاح صدرها، كأنها ألقت بنفسها في يد طوق النجاة، أعادت الهاتف للسيدة التي مدت إليها زجاجة ماء، لكنها لم تستطع أن تشرب رغم عطشها الذي كاد يحرق حلقها، فقد كان خوفها المستعر يمنعها من أي فعل سوى ترقب باب المحل بعينين متوسلتين كأنهما تنتظران المنقذ.

مرت الدقائق عليها ببطء قاتل، كل ثانية كأنها قرن، حتى سمعت صرير عجلات سيارة تتوقف بعنف أمام المتجر، هبط يزن منها مسرعا وعينيه كاللهيب وهو يبحث عنها بجنون، أشارت السيدة بيدها نحوه:

-جوه بس يا حبة عيني قلبها هيقف من الخوف.

اندفع بخطوات سريعة حتى وجدها جالسة على مقعد بلاستيكي، شعرها مبعثر على وجهها وحجابها ملتف حول رأسها بإهمال، ووجهها مثخن بالصفعات، وإلى جانب شفتيها جرح صغير ينزف، تحاول إخفاءه بمنديل ورقي مرتجف، أما عن ثيابها فكانت ممزقة بعض الشيء، تكاد تنطق بما مرت به.

تجمد قلبه للحظة ثم تحرك ببطء وكأن قدميه أثقل من أن تحملاه، انحنى بجذعه العلوي حتى جلس على ركبتيه أمامها، وضع كفيه حول وجهها المرتعش وصوته يخرج مبحوحًا، مكدودًا من شدة الغضب والحزن:

-مين عمل فيكي كده؟

لم تستطع أن تجيب بل انقضت بجسدها الصغير لتحتضنه بقوة، وكأنها تتشبث بالحياة نفسها، انفجرت باكية وأطلقت كل ما كبتته، فظل يزن يطوقها بذراعيه، يهدهدها كأب يحتضن طفلته، يربت على ظهرها برفق، هامسًا بكلمات بسيطة ولكنها كانت كالبلسم:

-اهدي، أنا معاكي ومش هسيبك..

تعلقت به أكثر وأظافرها تكاد تنغرس في قميصه، كأنها تهرب من وحشٍ لا يزال يطاردها في الظلام، فواصل همسه الدافئ:

-متخافيش يا روحي أنا معاكي.

لم يحتمل انكسارها أكثر؛ انحنى يقبل وجنتيها المبللتين بالدموع وجبهتها المرتجفة، حتى يديها التي ارتعشت بين أصابعه قبلها بحنو بالغ، شيئًا فشيئًا بدأت أنفاسها تنتظم تحت دفء صوته، وتستكين إلى حنانه، حين لاحظ هدوءها ابتعد قليلًا، ثم بدأ بلطف في ترتيب خصلات شعرها المبعثرة، وأعاد لف حجابها بدقة كأنها أمانة بين يديه، لكن ملامح وجهها حفرت فيه الصفعات أثرها، وأيقظت نيران الغضب في صدره، فلمس الجرح عند شفتيها بطرف إصبعه، وعيناه تغليان ثم قال بصوت مكبوت:

-مين يا سيرا عمل كده؟ فايق؟ 

أسرعت تهز رأسها نفيًا والدموع تتساقط، عيناها زائغتان بين الخوف والارتباك، بالكاد استطاعت أن تهمس:

-لا...سواق تاكسي معرفوش، ركبت معاه وكان عايز....عايز....

تقطعت أنفاسها وهي تتذكر المشهد، يده وهي تفك أزرار قميصه، ومحاولاته المقيتة لفك سرواله، وضعت كفها على وجهها وانهارت تبكي بحرقة لا توصف.

احتواها يزن من جديد وضمها بقوة أكبر وكأنه يريد أن يحجب عنها العالم، ثم همس بصوتٍ يمزج بين الحنان وغيظٍ يشتعل في صدره:

-خلاص…خلاص اهدي ماتتكلميش.

لكن كلماتها التالية جمدت أوصاله، كأنما انقلب الكون من حوله وحبست أنفاسه:

-أنا…أنا قتلته وهربت.

سقطت الجملة من شفتيها همسًا، لكنها كانت كالصاعقة فوق رأسه، تجمد مكانه وعيناه متسعتان، وذراعاه لا تزالان تطوقانها، لكن روحه بأسرها قد انكمشت بين صدمة وذهول
وقفت سيرا بعيدًا عن السيارة ترتجف كفرخ صغير يساق إلى الذبح، عيناها شاردتان ويدها قابضة على ذراع حقيبتها بقوة، كأنها تستمد منه طمأنينة لا وجود لها، فقد كان وجهها شاحبًا وأنفاسها متقطعة، وقلبها يخفق باضطراب يكاد يخلع صدرها.

أما يزن فقد ثبت مكانه بجوار السيارة، يحدق داخلها بملامح هادئة ظاهرًا، لكن في داخله كانت النيران تغلي والخواطر تتصارع بعنف، التقط هاتفه وأجرى اتصالًا بزيدان ليُجيب الأخير بعد ثلاث اتصالات بصوتٍ متهدج من أثر النوم:

-الو، إيه يا زيدان ده كله مابتردش عليا ليه؟

رد زيدان ببرود مشوب بالإنهاك:

-مش يمكن أكون متنيل عليا ونايم عشان كنت مطبق يومين في الشغل!

لكن يزن لم يجد في قلبه صبرًا على التبرير، خرج صوته متحشرجًا وهو يعيد بصره إلى الرجل الممدد في المقعد الأمامي للسيارة، لقد كان وجه السائق شاحبًا والدماء تنساب على وجنتيه كخيوط حمراء تشق أخاديدها ببطء مخيف، فهمس وهو يحاول التماسك:

-أنا محتاجك.

سادت لحظة صمت شعر زيدان فيها أن شيئًا جللًا يحدث، فقد بدا صوت أخيه مختلفًا ومرتبكًا على غير عادته، فارتفع صوته بصرامةٍ تنم عن قلق:

-مالك يا يزن؟ انت كويس؟ حد ضايقك؟

ازدرد يزن ريقه بتوتر وأدخل أصابعه بين خصلات شعره يعبث بها بعنف، قبل أن يجيب بصوت متهدج:

-سيرا كانت مع سواق تاكسي....

توقف لبرهة كأنه يجمع شتات كلماته ثم أردف بصوت مثقل بالذنب:

-اتحرش بيها وهي ضربته على دماغه، معرفش
هو لسه عايش ولا مات، كل اللي أنا شايفه إنه تقريبًا مات!

جاء صوت زيدان حادًا وسريعًا:

-هو فين؟

تنفس يزن بقلق وأجاب:

-في عربيته، هي ضربته في عربيته على راسه.

فقال زيدان بلهجة آمرة وكأنه يدرك خطورة الموقف أكثر مما يتخيل يزن:

-اوعى تدخل العربية ولا تلمسه، استنى أنا هجيلك، متتصرفش من دماغك يا يزن، فاهم ولا لا... اوعى تتصرف من دماغك.

-حاضر.

أغلق يزن المكالمة ببطء ثم توجه بخطوات متثاقلة نحو سيرا، بينما هي نظرت إليه بعيون متسعة، تحاول قراءة ملامحه المبهمة، لكن الغموض الذي ارتسم فوق وجهه لم يزدها إلا ارتباكًا، مد يده وأمسك بيديها الباردتين، وأخذ يربت عليهما بلطف، محاولًا بث شيء من السكينة إليها، فقال بصوت هادئ:

-مالك بس يا حبيبتي اهدي مفيش حاجة، زيدان طمني.

ارتجفت بين يديه وشدت قبضتها على كفيه كأنها تخشى أن يفر منها، ثم همست بصوت مرتجف:

-هو مات؟ هيسجنوني؟

مد يده يمسد على وجنتيها بحنو، وارتسمت على شفتيه ابتسامة شاحبة متكلفة، هدفها الوحيد أن يطمئنها، فأجابها بنبرة حاسمة:

-لا طبعًا مفيش حد يقدر يلمسك وأنا موجود، متقلقيش من حاجة.

لكنها لم تتمالك دموعها فانهمرت مجددًا وهي تغمض عينيها بقوة، كأنها تحاول طرد صور ذلك المشهد المقيت من ذهنها، اقترب منها يزن أكثر وجذبها إلى صدره برفق، فالتصقت به التصاق الهاربة من موت محقق، كانت أشبه بقطة صغيرة تلوذ بصاحبها من بردٍ قارس، أو غريقٍ يتمسك بخشبة نجاة أخيرة، فشد يزن على احتضانها وربت على ظهرها بحنان، ثم همس في أذنها بوعد صادق خرج من أعماق قلبه:

-أنا عمري ما هسيبك أبدًا، متقلقيش من أي حاجة وانتي معايا.

تسربت كلماتها بين شهقاتها وكأنها تعترف دون وعي:

-وجودك بيطمني.

رفع وجهها برفق ليلتقي بعينيها الغارقتين بالدموع، نظر إليها بعمق كأنه يريد أن يسكب طمأنينته في روحها، فقال بثبات: 

-وأنا عمري ما هخذلك، اهدي وماتعيطيش انتي اتصرفتي صح ودافعتي عن نفسك، وكل ده هيخلص أهم حاجة ماتخافيش أبدًا.

أومأت برأسها إيماءة ضعيفة ثم أعادت رأسها إلى صدره، كأنها تجد فيه حصنًا منيعًا، وأغمضت عينيها عنوة لتقطع الطريق على خيالها من أن يعيد إليها صورة السائق وما أراد أن يفعل.

حركها يزن ببطء نحو سيارته وفتح لها الباب برفق كأنه يتعامل مع زجاج هش، ثم أجلسها في المقعد،  وناولها زجاجة ماء، امتثلت لتعليماته وتجرعت بعض الرشفات، لكن حلقها الضيق بالكاد سمح بمرور الماء وكأن الخوف قد سد مجاريه.

                               ***

بعد أن غادرت تلك الأفعى من أمامها، ظلت يسر تتلوى غيظًا وغيرة وكأن غضب العالم بأسره قد تجمع في صدرها وعلى وشك الانفجار، فقد كانت تشعر أن الأرض تضيق بها، وأن كرامتها قد دُنست بخيانة صامتة لم تقع بعد، لكنها تراها بعينيها وتعيشها بروحها، أرادت الانتقام منها ومنه، أرادت أن تحطم كل شيء، غير أنها تماسكت بصعوبة أمام ابنتها الصغيرة التي كانت ترنو ببراءة إلى باب البرج في انتظار والدها، والسعادة تملأ وجهها، لم ترد يسر أن تفسد على ابنتها تلك اللحظة، فهي لا تزال تخطط لرسم البهجة على محياها، لكنها تعلم تمام العلم أنها لن تستطيع مواصلة التمثيل طويلًا، فالنار المستعرة في جوفها كانت أقوى من قدرتها على الاحتمال.

بحثت عن متنفس لغضبها، فمدت يدها إلى هاتفها وأجرت اتصالًا بسيرا، لكن الأخيرة لم تجب، توقفت لحظة تتأمل شاشة الهاتف تبحث بين الأسماء عن شخص آخر يمكن أن يسمعها، فلم تجد سوى رقم "أبلة حكمت"، تلك المرأة التي تبادلت معها الأرقام ليلة عقد قران سيرا، كانت تعرف أن حكمت امرأة فظة وقاسية، لكن في قسوتها سحرًا غريبًا يجعلها قادرة على أسر المستمع إليها وإقناعه بما تريد.

قررت الاتصال بها رغم أنها لم تملك كلمات تمهد بها للحوار، وما إن اخترق صوت أبلة حكمت مسامعها عبر الهاتف حتى انتفض جسدها وانصتت بشيء من التوجس:

-عمرك أطول من عمري، كنت لسه هتصل بيكي اشوفك رجعتي بيتك ولا لسه هبلة زي ما أنتي؟

تنهدت يسر بعمق ونبرتها خرجت مكسورة حزينة:

-ارجع إيه بس؟ شكلي هفضل زي ما أنا!

جاءها صوت حكمت سريعًا فيه شيء من السخرية اللاذعة:

-ليه يا حبيبتي، جرى إيه تاني؟ مش الراجل كتر خيره اتنحرر وقرر يوصلك، مستغلتيش ليه الفرصة؟!

زفرت يسر بغيظ وهي تبتعد عن ابنتها حتى لا تسمع حديثها، ثم أفرغت ما في صدرها لحكمت، روت لها تفاصيل ما حدث منذ أن تركتها في المشفى حتى لحظتها تلك، كلماتها خرجت متقطعة من شدة الانفعال وما إن وصلت للنهاية حتى ارتفع صوتها صارخًا بمرارة:

-شفتي مديها مفتاح شقتنا؟ ازاي يعمل حاجة زي كده ويقهرني!

ضحكت حكمت ضحكة قصيرة ثم قالت بحدة فيها شيء من الاستهزاء:

-وانتي بتاكلي في نفسك ليه؟  ماسألتيهوش ليه؟ سايبة دماغك تسوحك ليه لامؤاخذة وانتي مش ناقصة!

رفعت يسر حاجبيها بدهشة وقالت بحنق طفولي:

-انتي عايزاني اسأله لا طبعًا؟، لا مش هعبره، وبعدين مش محتاجة اسئلة ولا توقعات، كلها كام يوم والاقيه متجوزها.

جاءها صوت حكمت كحد السيف:

-يا حبيبتي طول ما انتي عايشة في برجك العالي ده، حياتك مش هتستقر وجوزك هيخلع منك، قولتلك وهقولهالك الحياة الزوجية عايزة شوية تنازلات، امتى تعرفي تشدي وامتى تعرفي تليني وتاكلي بعقله الحلاوة!

ازدردت لعابها باهتمام وارتفع فضولها فقالت بخجل:

-مش فاهمة اعمل إيه؟

-بسيطة، مش البت دي انتي حسيتي إنها كانت بتضايقك، انتي اقلبي عليها الترابيزة، وشوية مسكنة على شوية يرضيك كده يا نوح، وهوب نوح يحلف ليمشيها من العيادة كلها، شوقي ولا تدوقي.

وضعت يسر يدها على جبينها بتوتر، تضغط عليه كأنها تحاول أن تكبح عاصفة الأفكار المتزاحمة في رأسها، لكنها لم تملك أمام ذلك الصوت الماكر إلا أن تنصت، فجاءها صوت حكمت أقوى، قاطعًا حيرتها:

-اسمعي مني، مش انتي طول الأيام اللي فاتت دي ماشية بدماغك ومكسبتيش حاجة، امشي بدماغي أنا، وجوزك ده هيبقى زي النحلة الطايرة حواليكي.

تمتمت يسر باستسلام غريب لم تعهده في نفسها وكأنها مسحورة:

-ماشي هشوف واقولك.

أغلقت الهاتف وأسرعت نحو ابنتها، لكنها فوجئت بنوح يخرج من بوابة البرج الكبيرة بخطوات واثقة وحماس يشع من وجهه، وكأن شيئًا لم يحدث، وقف أمامهما مبتسمًا بعينين لامعتين:

-يلا جاهزين؟

صاحت لينا بفرحة غامرة وهي تفتح ذراعيها:

-ايوه يا دادي.

مدت يسر يدها تتحسس شعر صغيرتها بحنو،
ثم قالت بهدوء متماسك:

-طيب يلا يا قمر روحي بسرعة لمي حاجتك في شنطتك عشان نقفل الستور ونمشي.

ركضت الصغيرة بمرح بينما التفتت يسر نحو نوح، تتابعه وهو يبتسم لابنته بشغف لم تره منذ زمن، ترددت للحظة وهي تعيد انتقاء ألفاظها كما أوصتها حكمت، ثم تقدمت خطوة منه وسألته بصوت منخفض:

-نوح، أنت ليه اديت حسناء مفتاح شقتنا؟

كان سؤالًا مباشرًا كالسهم جعل نوح يلتفت نحوها متعجبًا

-وانتي عرفتي منين؟

تذكرت يسر نصيحة حكمت...قليل من اللين، قليل من الحزن المصطنع، فتمتمت بانكسار وهي ترسم ملامح مجروحة:

-وهي ماشية وقفت وقالتلي وكنت حاسة منها إنها بتغظني وبتضايقني، أنا اتضايقت اوي يا نوح، حسيت إني هموت من الغيرة، ازاي قدرت تدخل واحدة زي دي بيتنا؟ 

رأته يشد قبضته داخل جيبه والغضب يطل من عينيه، ثم قال بصوت غامضًا:

-حقك عليا، مش هتكرر تاني، هي رايحة تحط فلوس في الخزنة، وبعدين أنا قولتلك إن أنا خلاص مبقتش عايز الشقة دي، فمش فارقة مين يدخل وميدخلش.

تجاهلت يسر الجزء الأخير وركزت على اعتذاره، وفي داخلها شعرت أن الطريق الذي رسمته لها حكمت قد بدأ يعطي ثماره، ازداد اندهاشها حين مرر نوح يده على ذراعها برفق، ثم ابتسم ابتسامة دافئة وقال:

-مش عايزين نزعل نفسنا النهاردة، لينا محتاجة تتبسط اليوم ده، وأنا محتاج افصل واحس بوجودكم جنبي، فمتخليش حاجة تضايقك ممكن؟

هزت رأسها ببطء وعيناها تتأملان وجهه بذهول، في تلك اللحظة فقط، تسرب إلى قلبها يقين خافت بأن حسناء لم تنجح بعد في مخططها…وأن مكانتها عند نوح ما زالت أكبر بكثير من مجرد غريبة تحاول اقتحام حياتهما.

                               ****

كان أول الواصلين إليهما هو زيدان، الذي ما إن لمح سيارة أخيه حتى ترك سيارته في منتصف الطريق بلا تردد، تحرك بخطوات سريعة نحو يزن، الذي كان واقفًا بجوار سيارة الأجرة يشير برأسه إلى الداخل حيث السائق الممدد، اقترب منهما على الفور، وفتح الباب الأمامي ثم انحنى يتحسس عنق السائق بحثًا عن نبض الحياة، وانتقل بعدها إلى معصمه يتحقق من مجرى الدم، وفي أثناء ذلك لم تتوقف عيناه عن التجول في أرجاء السيارة بتركيز شديد، يلتقط أدق التفاصيل التي قد ترسم له صورة أوضح للمشهد، لفت انتباهه على الفور وجود آثار لطاجن بامية مكسور، وبقايا قطع متناثرة هنا وهناك، حتى سال شيء من البامية على المقاعد والفرش.

رفع رأسه نحو يزن وقال بلهجة تجمع بين الاطمئنان والحزم:

-لسه عايش ابن الـ *****، الحمد لله.

أمسك بعدها بهاتفه واتصل أولًا بالمستشفى القريبة طالبًا سيارة إسعاف، ثم أجرى اتصالًا آخر بالقسم التابع لتلك المنطقة، تبادل مع الضابط كلمات قليلة واضحة ومختصرة، قبل أن ينهي المكالمة بصوته الرخيم الذي يفرض الجدية:

-في انتظار معاليك يا باشا.

أغلق الهاتف ثم التفت إلى يزن الذي كان واقفًا متيبسًا كتمثال، تتنازعه مشاعر متناقضة من الغضب والخوف، فانفجر فيه بغيظ مكتوم:

-انت بلغت ليه لما هو طلع عايش؟

أجابه زيدان بخشونة وصوت يقطر سخرية لاذعة:

-امال كنت عايزاني اعمل إيه؟ وتقرير المستشفى اعمل في إيه؟ وافرض مات في المستشفى؟ إنت عايز ترمي نفسك انت وهي في مصيبة مالهاش أول من آخر؟!

شد يزن قبضته وهو يتنفس بصعوبة ثم خرج صوته متقطعًا مرتجفًا:

-وافرض الظابط أمر أنه يسجنها على ذمة التحقيق؟ أنا مراتي مش هتتسجن، ولا هتدخل اقسام.

زفر زيدان بقوة ورفع حاجبيه بغيظ مكتوم:

-يعني انت شايف أنا ممكن اسمح بحاجة زي دي؟ اوعى من طريقي أنا عايز اتكلم معاها قبل ما الظابط يجي.

أمسكه يزن من ذراعه وهمس بتحذير صادق:

-براحة عليها هي أساسًا مش مستحملة، تمام؟

ابتسم زيدان باقتضاب وقال وهو يرمقه بعين جادة:

-تمام، أخوك مش غشيم، وفي النهاية ده كله لمصلحتها.

تقدما معًا نحو السيارة التي جلست فيها سيرا، شاحبة الوجه، منهارة الملامح، ترتجف كغصن ضعيف في مهب الريح، فتح زيدان باب السيارة، بينما ساعدها يزن في النزول، وأسندها بحنان واضح وهو يحيط كتفيها بذراعه:

-زيدان عايز يسألك شوية أسئلة يا سيرا.

تحدث زيدان بصوت محاولًا أن يجعله أكثر لينًا مما اعتاد:

-سيرا اهدي ومتخافيش، مفيش حد هيقدر يعملك حاجة واحنا موجودين، بس أنا عايزاك تساعديني وتوصفيلي كل اللي حصل عشان مصلحتك، من أول لحظة وقفتي فيها التاكسي لغاية ما وصلتي هنا.

رفعت سيرا رأسها بصعوبة، وعيونها ممتلئة بدموع متجمعة عند أطراف الأجفان، نظرت أولًا إلى يزن تستنجد بطمأنينته، فأجابها بابتسامة رقيقة وشدد من احتضانها ليمنحها بعض القوة، عندها التفتت إلى زيدان وحاولت أن تتكلم، لكن صوتها خرج مبحوحًا متقطعًا:

-آآ....أنا...كنت نازلة عشان رايحة لـ...ليـ...ليزن، ومعايا طـ...طاجن بامية، ولما نزلت من البيت لقيت التاكسي ده كان واقف أو كان ماشي مـ.....مشـ...فاكرة، ركبت معاه وبعدها حسـ....حسيت إنه غير الطريق، ولما سألته قفل اللوك، حاولت انزل معرفتش...ووقف هنا وكا....كان عايز....

انهارت بالبكاء فجأة ولم تستطع إكمال جملتها، راحت تشير بيدها المرتجفة إلى الأمام، ثم أعادتها إلى صدرها تحتضن نفسها، كأنها تحاول حماية قلبها من الانفجار، كانت تهز رأسها نفيًا في كل مرة تحاول النطق، وفي لحظة رفعت بصرها إلى يزن تستنجد، تستمد منه بقية شجاعتها، فأوقفها زيدان بلطف وسألها بهدوء:

-وبعد كده ضربتيه بالطاجن صح؟

أومأت برأسها وهي تقول بصوت مختنق:

-مكنتش اقصد أموته والله، كنت بدافع عن نفسي.

مسح يزن على كتفها بحنو وقال بصوت مفعم بالعاطفة:

-مامتش يا سيرا اهدي، لسه فيه الروح وهياخدوه على المستشفى دلوقتي.

شهقت سيرا بعمق وكأن حملًا ثقيلًا قد أزيح عن صدرها، وخرج سؤالها المذعور بصوت متقطع:

-كده مش هيسجنوني صح؟

أجابها زيدان بهزة رأس مطمئنة، لكن صوت صفارات سيارات الشرطة والإسعاف التي اقتربت من أول الطريق قطع لحظات الاطمئنان، تحرك زيدان مسرعًا نحو السيارة ليتلقى الضابط والمسعفين، بينما لم يحتمل يزن الموقف فأسرع خلفه وهتف بصوت آمر:

-لو مش مالك ايدك من حوار سيرا، والظابط ده هيسجنها، قوله إن أنا اللي ضربته، المهم هي متدخلش اقسام.

التفت زيدان إليه بعصبية وزجره بغيظ:

-طيب هي مش هتاخد لحظة فيه عشان كانت بتدافع عن نفسها وهو عيل ابن ******* أساسًا، أنت بقى لو قولت إنك ضربته بفكرك كده هتعدي؟ بالعكس انت بتضر موقفها أكتر، فاقعد ساكت وماتتكلمش كتير.

أطبق يزن شفتيه بغيظ بينما أكمل زيدان بحزم لا يقبل النقاش:

-روح اقف معاها، عشان لما الظابط يجي يسألها.

اقترب الضابط من السيارة وبدأ يفحص المكان بعين خبيرة، بينما المسعفون نقلوا السائق إلى نقالة ثم إلى سيارة الإسعاف، تقدم زيدان بالتحية وبدأ يسرد للضابط تفاصيل ما جرى بوضوح ودقة، رفع الضابط رأسه ليلمح سيرا من بعيد، ترتجف من الخوف، وعيناها حمراوان من كثرة البكاء، وملابسها تحمل آثار صراع واضح، فاستمع إلى صوت زيدان:

-يعني يا باشا لو أمرت تبعت حد يفرغ الكاميرات اللي موجودة في المنطقة اللي هي ركبت منها، لإن شاكك إن الموضوع في حاجة غريبة.

أومأ الضابط بموافقة ثم التفت إلى معاونه، وقال:

-خد من الباشا العنوان وفرغ الكاميرات، وشوف الواد ده لو عليه أي سوابق، وفرغ التليفون ده، وابعت حد يتابع الواد في المستشفى أول لما يفوق قولي.

ثم أعاد النظر إلى سيرا بابتسامة صغيرة أراد بها التخفيف عنها، وهو يتقدم ليبدأ باستجوابها، وقف زيدان بجانبها يحميها بوجوده، بينما يزن يقف كالسد خلفها، عيناه تفضحان خوفًا عظيمًا عليها، بدأت سيرا تجيب على أسئلة الضابط بين دموعها، تارة بصوت مرتجف، وتارة تنهار باكية، تصف كيف حاول السائق الاعتداء عليها وكيف لم يكن أمامها سوى أن تضربه، أنهى الضابط أسئلته ثم التفت إلى زيدان قائلًا:

-نروح القسم يا باشا بس عشان إجراءات المحضر.

أومأ زيدان موافقًا:

-مفيش أي مشكلة.

ثم أشار ليزن أن يأخذ سيرا في سيارته بينما تبعه هو مع الضابط، وفي طريقها إلى السيارة كانت تسير متثاقلة بجانب يزن، قلبها لا يزال يخفق بعنف، لكنها شعرت بامتنان عميق يغمرها لوجوده، لنظراته القلقة، لذراعه التي تحوطها بحنان، أغمضت عينيها براحة ثم همست وهي تتنفس بصعوبة:

-شكرًا يا يزن، لولاك أنا مكنتش....

قاطعها يزن ممسكًا يدها، ثم قبلها بلطف وعيناه لا تفارق عينيها:

-مفيش شكر ما بينا يا حبيبي.

ارتسمت على وجهها ابتسامة ممتنة، وجلست في مقعدها بجواره، وأغمضت عينيها بقوة تتنفس بارتياح لأول مرة، بعدما كان كل نفس قبل قليل يخرج منها محسوبًا، مثقلًا بالخوف والذعر.

                             ****

فتحت حسناء باب شقة نوح بخطوات ساكنةٍ كمن تقتحم مسرحًا معدًا لتمثيلها، ودخلت حافية النظر تبحث بعين جشعة عن الخزينة، حملت حقيبة المال كما تحمل السارقة أدوات سرقتها، فتقدمت نحو غرفة النوم وألقت نظرة فاحصة إلى الفراش، فتخيلت نفسها بوقاحة مع نوح، ارتسم على شفتيها ازدراءٌ رقيق ثم تنهدت بضيق وقالت بصوتٍ مفعم بالاحتقار:

-والله كنت هعيشك ملك زمانك…أنت الخسران يعني عاجبك تعيش في القرف ده؟

التفتت بعد ذلك إلى أركان الشقة فوجدتها مهملة،  يغمرها سكون أثقلته غبرة الأيام وغياب العناية، اقتربت من الخزينة وأدخلت الرقم السري بيد مرتعشة ولكن بعين حذرة، ولما انفتحت أمامها بابها انفتحت معها خزائن طمعه، رزمٌ من النقود تتلألأ بين طياتها، ارتفعت في صدرها نوبة من القهر والذهول، أمسكتهن بأطراف أصابعها وكأنها تمس أحلامًا ضائعة لم تستعدها بجدارة.

وقفت للحظة تتأمل ما بين يديها، ثم همست بصوتٍ حاد مكسورٍ بالمكر:

-يعني لو اخدت الكام باكو دول مش هيحصل حاجة، هو كان حس أصلاً باللي قبلهم.

حملت رزمة بعد رزمة ووضعتهن في حقيبتها التي، ومضت تُغادر الشقة بخطوات هادئة، وفي داخلها كانت المخططات تتكون...كيف تقتنص ما تريد، كيف تُبقي نوح في حالة تشتتٍ يسمح لها بالاستمرار.

وبعد أن قضت وقتًا في انتقاء ملابس جديدة، ومساحيق تجميل، وأحذية تليق بصورةٍ مزعومة من الأبهة، عادت إلى منزلها محمولةً على موجة من الحماس المزيف، ولما ولجت وجدت أمها قد عبأت المكان بما تبخره، وعندما رأت الحقائب شهقت بعنف:

-يالهوي سرقتيه يا بت؟

زفرت حسناء بقوة وألقت بالحقائب أرضًا، ثم جلست منهكة ينهشها مزيجٌ من الغضب والرغبة:

-يعني ياما هما الكام باكو دول هيأثروا في كم الفلوس اللي عنده، ده بعتني النهاردة احطله فلوس في الخزنة، ابن اللذينة عايش في نعيم، وأنا اتحرمت منه بسبب مراته العقربة، اعمل إيه اقتلها ولا اخلص منها ازاي، عشان ميشوفش غيري.

رفعت أمها يدها صارخةً في استهجانٍ مُختلط بقلق عملي:

-اكيد مراته فكت الاعمال اللي عملتها ليها عند شيخ أكبر وأقوى مني، اه أصل أنا أعمالي متخرش المياه، المهم انتي ناوية تفضلي كده تسرقي كام باكو يعني من انتي في الآخر هتتقفشي يا حلوة!!

تنفست حسناء بتمطيطٍ تظاهري ثم ارتسمت على وجهها مكر متلصص:

-أنا محتاجة بت على الله حكايتها تشتغل مكاني وأنا هالبسها الموضوع كله بطريقتي، ومن بعدها أخلع أنا.

تعقدت حاجبا أمها من الحيلة فاقتربت منها وسألت مترددةً:

-مش فاهمة يا بت؟

ابتسمت حسناء ابتسامةً لا تخلو من خبث وشرحت خطتها بخفة:

-يعني هبدأ اقوله إنك تعبانة ومحتاجة اقعد جنبك  اراعيكي وطبعًا هو هيقولي شوفيلي حد مكانك، أنا بقى اجبله واحدة عبيطة  واول مرة تشتغل واعرف البسها الموضوع واخلع أنا منها.

لم تصدق الأم من دهاء خطة ابنتها، لكنها سرعان ما استجابت بحدةٍ معاونة:

-وأنا عندي البت، بنت أم صفاء اللي في أخر الشارع، قارفني عشان تشوفي شغل لبنتها صفاء، البت دي مفيش أطيب واغلب منها، بنت حلال وتستاهل كل خير.

نظرت حسناء إليه بسخرية:

-هي الولية دي مضايقكي في إيه يا ما، عشان عايزة تخدميها الخدمة دي؟

زمت والدتها شفتيها بغيظ وحقد:

-واخدة مني عملين تعبت فيهم ومش راضية تسدني، وعمالة تقولي الظروف والزفت وأنا مالي ياختي، هو أنا فاتحاها جمعية!!

قالت حسناء مُطمئنة:

-طيب حلو مهدي ليها الموضوع بقى، لغاية أنا ما الاقي اللحظة المناسبة اللي اعرف اخد اللي يرضيني فيها.

                               ****

جلس نوح ويسر في ركن هادئ من المول، على مقعد خشبي أنيق يطل على الساحة الداخلية حيث تلمع أضواء المتاجر وتتصاعد أصوات الموسيقى الخافتة الممزوجة بأحاديث المارة، كان الهواء المكيف يخفف من وهج يومهما الطويل، وفي الطرف المقابل كانت لينا مفعمة بالحياة، تلهو داخل المنطقة المخصصة للأطفال، تركض وتضحك ويعلو صوتها في بعض اللحظات، بدا على وجهها ذلك الصفاء البريء الذي يخطف القلوب، أما على وجه والديها فكانت تعابير الإرهاق تمتزج بظلال هموم ثقيلة تحاول كل منهما إخفاءها عن الآخر.

قضيا وقتًا ليس بالقصير في التجول بين أروقة المول، وحرص نوح على اقتناء كل ما أشارت إليه لينا بيدها الصغيرة، في محاولة واضحة لتعويضها عن تقصيره في حقها في الأيام الماضية، لقد كانت تلك طريقته الصامتة في الاعتذار، يترجمها بالأفعال لا بالكلمات، ومع كل حقيبة يحملها كان يشعر بشيء من الراحة يمتزج بمرارة الندم.

تنهدت يسر وهي تحدق في الحقائب الكثيرة المتراكمة بجانبها، وقد أخذت حيزًا من المكان وكأنها تعكس ثقل المشاعر التي تسكن قلبها، رفعت بصرها نحو نوح الذي وضع أمامها كوبًا من عصير المانجو المثلج، جلس بجانبها يلتقط أنفاسه بعد أن منحتهما لينا أخيرًا فترة راحة قصيرة من مطالبها الطفولية، فلاحظ في عيني يسر نظرات عتاب مكتومة، ارتسم القلق على ملامحه وعقد حاجبيه بارتباك حذر:

-في إيه؟ أنا عملت إيه؟

قالت بنبرة متزنة تحاول أن تسيطر على انفعالها:

-مش كل حاجة لينا تشاور عليها يا نوح تجيبها كده غلط وبتدلعها اوي.

ابتسم نوح ابتسامة متعبة وقال وهو يحاول التبرير:

-ما تتدلع في عز أبوها يا يسر، وبعدين ده هو يوم يعني هعملها اللي هي عايزاها.

-ماشي وانت اشتريت كتير، يبقى كفاية كده.

زم شفتيه بضيق ورد باقتضاب:

-طيب.

أطرقت لحظة ثم رفعت رأسها وقالت بصوت أكثر هدوءًا:

-نوح متضايقش مني، بس التوازن مهم اوي في تربية لينا، عشان منرجعش نندم بعدين.

تنهد نوح وهو يشيح ببصره بعيدًا، وكأنه يستدعي شيئًا غاب في ذاكرته منذ زمن بعيد:

-أنا عايزة أدي عيالي كل حاجة أنا اتحرمت منها، مش بس شوية الهدايا دول، كل حاجة يا يسر...كل حاجة.

ارتفع رنين هاتفه فجأة، فالتفتت يسر إلى شاشة الهاتف فرأت اسم والدته، لاحظن أنه ضغط على زر الرفض وأغلق الاتصال بحدة واضحة، مدت يدها بهدوء ووضعتها فوق يده تمنعه من الابتعاد، وقالت برقة لا تخلو من الحزم:

-نوح، مفيش حد بيتهرب من أهله، رد عليها.

رمقها نوح بنظرة منكسرة كأنها كشفت عن جرحه الأعمق، ثم أجاب بصوت منخفض محمل بالأسى:

-لما يكون أهلك هما مصدر قلقك يبقى فيه، أنا مبقتش مرتاح وأنا بضغط على نفسي عشانهم، لما كنت بعوزهم جنبي مبلاقيش حد، وفي أزمتي دي مالقتش واحد واقف جنبي، عارفة يعني واحد بس!! حتى أمي اتصالها ده يا إما عشان عايزة فلوس، يا إما حد منهم مدخلها تتوسط عندي.

ابتسمت يسر بمرارة ثم قالت بصوت متردد:

-آآ...أنا مش عارفة اقولك إيه حقيقي؟

هز رأسه بأسى وواصل:

-ماتقوليش عشان اللي أنا فيه ده مش من يوم وليلة، ده عمر بحاله، وخلاص أنا فاض بيا، تعبي وشقايا ده كله المفروض ولادي أحق بيهم، أنا متمرمط وهتمرمط عشان خاطرهم بس.

-بس أهلك ليهم حق عليك، وخصوصًا أنهم معتمدين عليك في كل حاجة وانت عارف كده.

ابتسم بسخرية مريرة وهو يجيب:

-وأنا مش هقفل الحنفية خالص، بس هقللها شوية، 
على طول بتتهمني إني عايز كل حاجة، بس في الحقيقة أنا معنديش حاجة أساسًا، أنا بحاول أسعد نفسي وأرضيها يا يسر وبردو تايه ومش لاقي راحتي.

نظرت إليه يسر بعطف ثم قالت:

-عشان سجنتها في اللي اتحرمت منه زمان، وزمان غير دلوقتي...دلوقتي بقى ليك حياة تستحق إنك تحافظ عليها وتتبسط بيها، سعادتك اللي اتحرمت منها زمان ممكن تعوضها في قربك مني ومن ولادك يا نوح.

تردد نوح للحظات قبل أن يفصح عما يعصف داخله من اعترافات ثقيلة، كان يشيح بوجهه تارة نحو الأرض وتارة أخرى نحو المارة في المول، لكن عينيه كانتا فارغتين كأنهما تبحثان عن ملاذ داخلي لا يجدانه، فأخذ نفسًا عميقًا كمَن يحاول دفع جبل جاثم فوق صدره ثم قال بصوت متهدج:

-عارفة....اوقات بحس أني بعاند مع نفسي، واوقات بحس في زحمة كتير في دماغي مش قادر أفصل منها، يمكن زمان مكنتش بعرف أهرب من اللي أنا فيه، بس دلوقتي أنا اكتشفت إن راحتي في وجودك انتي ولينا، راحتي في بيتي، مش في شغل وفلوس أبدًا.

أحست يسر أن قلبها يخفق بقوة، لكنها أخفت ارتباكها تحت ملامح متماسكة، ثم أجابت بنبرة عميقة وكأنها تُلقي حجراً في مياه راكدة:

-ولا في شوية أمنيات مراهق المفروض تدفنها، متحاولش تطلعها على حساب غيرك.

ارتسمت على شفتيه ابتسامة باهتة تحمل سخرية من ذاته أكثر مما تحمل ردًا عليها، ثم قال وهو يشيح بوجهه قليلًا:

-اممممم قصدك على حسابك يعني؟!

ارتجفت أصابع يسر وهي تقبض على طرف حقيبتها الموضوعة بجانبها، ثم رفعت نظرها إليه بعزمٍ ممزوج بحذر وقالت:

-نوح، أنا هسألك سؤال واحد ويا ريت تجاوبني بجد.

كان في عينيه لحظة صمت طويلة، تردد خلالها وكأنه يخشى أن يفضح نفسه أكثر، ثم انحنى قليلًا بجسده نحوها وقال:

-اسألي!

شعرت يسر بارتجاف صوتها رغم محاولتها إخفاء ذلك وقالت:

-لما بعدت عني الفترة اللي فاتت دي، شوفت واحدة وقدرت تملى عينك وتاخد قرار الجواز حتى ومتفكرش فيا؟!

ظل يطالعها نظرة طويلة صامتة، وكأنها محاكمة صامتة بين عينيه وعينيها، ثم خفض رأسه وتمتم بصوت يقطر منه ندم خافت:

-لا...للاسف مكنتش شايف غيرك.

ارتجف قلب يسر للحظة لكنها سرعان ما تنفست بمرارة وأجابت بحرقة متراكمة:

-وأنا مكنتش استحق إنك تسيبني كل الوقت ده أضرب أخماس في أسداس، وتيجي تعترفلي الاعتراف ده، يمكن كنت رجعت وأنا راضية، يمكن كنت محتاجة اسمع منك حاجة زي دي، زي ما انت عيشت في توتر وتايه في حياتك، انت كمان نجحت أنك تعيشني في كده، أنا مكنتش لايقة نفسي معاك.

ارتعشت شفتا نوح قليلًا قبل أن يجيب، وقد بدا صوته كمَن يصرخ في وادٍ مهجور لا يسمعه أحد:

-وهتلاقيها ازاي معايا وأنا أساسًا تايه ومفيش حد بيسمعني ولا بيفهمني!!

هزت يسر رأسها بأسى وقد شعرت أن الدموع تتجمع في عينيها لكنها تماسكت، وقالت بصوت أكثر حدة:

-افهمك ازاي وانت عايز تتجوز عليا؟! انت كنت بتجرحني يا نوح! عارف إيه يعني أحس إني مش مالية عينك أبدًا وحياتي مهددة معاك.

شد على قبضته وكأنه يحاول الدفاع عن نفسه في ساحة حرب غير متكافئة، ثم أجاب بصوت مبحوح:

-كنتي احتويني يا يسر.

ارتفعت نبرتها فجأة وتحول صوتها الهادئ إلى نبرة مكتومة خرجت من أعماق قلب مثقل بالخذلان:

-ومين يحتويني أنا يا نوح وأنت بعيد عني، كام مرة طلبت منك تبعد عن أفكارك دي، كام مرة احتاجتك وانت دايمًا كنت بعيد وبتتهمني بأنانية وعايزة اللي يسعدني وبس، رغم إن سعادتي كانت بسيطة...بسيطة اوي يا نوح إن أنا أحس مفيش لا قبلي ولا بعدي ده كان كفيل يخليني أسعد إنسانة في الدنيا.

في تلك اللحظة كان الهواء مشبعًا بالصمت الثقيل، وكأن جدران المول من حولهما حبست أنفاسها، ثم انشق هذا الصمت على صوتٍ طفولي ناعم يحمل براءة العالم كله، فقد كانت لينا قد اقتربت منهم فجأة بعينيها الواسعتين المتسائلتين، وقالت ببراءة قلقة:

-مامي انتوا بتتخانقوا؟!

ارتبكت يسر للحظة لكنها تماسكت سريعًا، وأجبرت ملامحها على الابتسام، ثم مدت يدها لتحتضن صغيرتها وترددت كلماتها بنبرة هادئة:

-لا لا أبدًا يا حبيبتي أنا وبابا كنا بنتكلم إنه كفاية ونروح عشان أنا تعبت ومحتاجة ارتاح.

هزت لينا رأسها الصغيرة واقتنعت ببراءة الأطفال، ثم عادت راكضة نحو منطقة الألعاب، بينما تبادل نوح ويسر نظرة طويلة صامتة، كانت مليئة بما عجز لساناهما عن قوله؛ نظرة حملت بين طياتها حبًا جريحًا وخوفًا من الغد، ورغبة صامتة في أن يجد كل منهما الآخر قبل أن يضيع تمامًا.

                             ****
عادت سيرا مع يزن في المساء بعد أن انتهى التحقيق الطويل الذي استنزف قواها النفسية والجسدية، كانت حالتها أشبه بزهرة ذابلة بعد عاصفة؛ وجهها شاحب وعيناها غارقتان في بحر من الإرهاق، أما السائق فقد استقرت حالته نوعًا ما في المستشفى بعد تدخل الأطباء، وباتت سيرا الآن في مرحلة الانتظار لما ستؤول إليه الأمور حين يفيق.

على طول الطريق إلى منزلها، انهمرت اتصالات من عائلتها، تتوالى الواحدة تلو الأخرى محملة بالقلق والأسئلة، فكان يزن يجيب عليهم بإجابات مقتضبة هادئة، مختصرًا التفاصيل حتى لا يثير مزيدًا من الذعر في نفوسهم، بينما سيرا غارقة في نومٍ متقطع، مائل إلى الإغماءة أكثر من الراحة، وصوتها مبحوح مجروح كأنما خرج من معركة طويلة.

مد يزن أصابعه الطويلة ليمسد برفق فوق كفها الملقى بإهمال إلى جوارها، يحاول أن يعيدها إلى وعيها بلمساته الهادئة، وبعد لحظات استعادت تركيزها واعتدلت في جلستها ببطء، وما إن لاحظت وجودهما أمام منزلها حتى تنفست بعمق، وكأن جبلاً انزاح عن صدرها.

-انتي كويسة؟

هزت رأسها إيجابًا، وارتسمت على شفتيها ابتسامة صغيرة باهتة أرادت بها أن تطمئنه، فقد شعرت أنها قد أنهكته معها منذ بداية اليوم، فيكفيه ما عاناه بسببها، من لحظة صدمته الأولى حين طلبت مساعدته، إلى موقفه معها ومع أشقائه في قسم الشرطة، لم تشعر بالخوف أبدًا بوجودهم إلى جوارها؛ كانوا جميعًا كالدرع حولها، معاملة لطيفة وحماية صادقة، ولم تعلم أن كل ذلك كان بأمر مباشر من يزن نفسه، الذي وقف كالطود الشامخ أمامها يحجب عنها أي سوء.

رفعت حقيبتها من المقعد، لكنها تذكرت فجأة طاجن البامية المسكين فالتفتت إليه بنظرة حزينة وقالت بصوت مبحوح:

-كنت جيالك وعملتلك بامية بإيدي عشان تفرح، بس....

ابتسم يزن وربت على كفها بحنان محاولاً كسر الجو الثقيل ثم مازحها:

-عارفة مفيش أكلة قدرت تهز مكانة البامية عندي، ولا حد قدر يغير وجهة نظري فيها، بس انتي الوحيدة اللي كرهتيني فيها..

اتسعت عيناها بصدمة طفولية وترقرقت الدموع في عينيها وهي تقول بأسى صادق:

-والله كنت عملتهالك حلوة اوي.

ضحك بخفة وارتسمت على شفتيه ابتسامة دافئة:

-المهم سلامتك يا حبيبتي، أنا بهزر وان شاء الله ابقى أكلها وانتي في بيتي، أحسن من الفرهدة دي.

ابتسمت له بحبٍ صادق وتحركت لتفتح باب السيارة، لكنه سبقها بخطوة واعترض طريقها، هبط أولاً وفتح الباب لها، فتذكرت للحظة أنه لم يتركها يومًا تفتح باب السيارة لنفسها حين يكون هو معها، اتسعت ابتسامتها أكثر حين مدّ
يده نحوها، فوجدت كفها يدفن نفسه في راحته الدافئة بحب واستسلام، أما هو قال لها بصوت حاسم حنون:

-هطلعك فوق عشان اتطمن عليكي، وعشان مفيش حد يزعلك فوق.

رفعت عينيها إليه والدموع تتلألأ في مقلتيها وهمست بدعوة صادقة خرجت من أعماقها:

-ربنا يخليك ليا.

فوجوده إلى جوارها كان كفيلًا بأن يبث في روحها الطمأنينة بعد يومٍ كان كالسيف عليها.

صعدا معًا إلى شقة عائلتها حيث كان الجميع في انتظارها، ما إن رأوها بتلك الحال حتى هرع إخوتها الفتيات نحوها، واحدة تلو الأخرى تحتضنهم بذراعين مفتوحتين، وكأنهم يعيدون إليها الحياة بأحضانهم، ثم تقدم والدها منها فاحتواها بذراعيه في عناقٍ طويل، وهو يربت بحنو فوق ظهرها، وصوته كان يحمل انكسارًا وعتابًا ممزوجًا بندم خفي:

-كده يا سيرا ماتتصليش بيا؟

شعرت هي بذلك الاعتذار الضمني في نبرته، وربتت على ظهره بيد مرتجفة وقالت بضعف:

-ده...ده يزن اللي اتصل بيا وقتها وعرف ينقذني.

قطع يزن الموقف بهدوء وهو يوجه الكلام إلى والدها:

-أنا اللي قولتلها ماتتصلش بحد فيكم عشان متقلقوش.

وفي وسط الزحام العاطفي تقدمت حكمت بخطوات سريعة وقالت بغضبها المعهود:

-هو فين ابن الـ*** ده وأنا اروح اشرب من دمه.

اقتربت دهب من سيرا واحتضنتها باهتمامٍ ممزوج بالإهمال، ثم مدت يدها ليزن تصافحه بابتسامة فيها إعجاب ظاهر بوسامته وحضوره: 

-ازيك يا يزن؟

لاحظ يزن في مصافحتها شيئًا من عدم الارتياح، فسحب يده سريعًا في أدب ثم التفت إلى والد سيرا يستأذن مغادرته بصوت هادئ متزن:

-عن إذنكم، ويا ريت تاخدوا بالكم من سيرا عشان قضت يوم صعب.

رفع نظره إلى الداخل قبل أن يغادر، فرأى سيرا تتوسط أحضان والدتها، تغلق عينيها براحة بينما والدتها تبكي في صمت وتهمس بأدعية خافتة لحفظ صغيرتها التي عانت كثيرًا، وكأن البؤس قد كُتب على جبينها قدرًا منذ البداية.

                          ****

ترك فايق نافذته التي كان يقف خلفها منذ ساعة، يراقب من خلالها بيت سيرا كما لو كان صقرًا يتحين الفرصة للانقضاض، كان يتابع بخيطٍ من التوتر كل حركة وكل نفس، رأى يزن يرافقها إلى المنزل، يعود بها ببساطة وكأن شيئًا لم يكن، فارتسمت على وجهه علامات الغضب والريبة، لم يكن يفهم ما يجري ولا كيف انقلبت الأمور على هذا النحو، وكل ثانية تمر عليه كانت تذكي نيران الشك في صدره.

ابتعد عن النافذة ببطء، ثم بدأ يتحرك في الغرفة ذهابًا وإيابًا كوحشٍ محبوس في قفص، خطواته متسارعة متوترة، يده تعبث بشعره مرة وتغلق على هاتفه مرة أخرى، اجرى اتصالات متكررة بسامي، يتصل ويعيد الاتصال بلا توقف، وصوت الرنين المتكرر يملأ الغرفة كصفارة إنذار تثير أعصابه أكثر.

وأخيرًا بعد سلسلة من المحاولات، أُجيب على الاتصال، ولكن ما إن وُضع الهاتف على أذنه وهم أن يفرغ ما في صدره من كلمات، حتى باغته صوت آخر ليس صوت سامي، صوت غريب هادئ وجاف لا يعرفه:

-مين معايا؟ مش ده تليفون سامي؟

رد الصوت الآخر على الطرف الثاني بنبرة رسمية:

-اه، انت قريبه؟ 

ابتلع فايق ريقه بتوترٍ شديد، شعر بالبرد يتسرب إلى أطرافه، وأجاب محاولًا التحكم في صوته:

-اه قريبه انت مين؟

جاءه الرد حاسمًا قصيرًا:

-تليفونه في قسم شرطة *****، وهو في المستشفى، فتعالى لو سمحت على قسم الشرطة عايزين حد من أهله.

شعر فايق أن الأرض تميد من تحته، وانكمشت معدته في خوفٍ لم يعرفه من قبل، حاول أن يتمالك نفسه، فسأل بهدوء مصطنع لكن الكلمات كانت تخرج متقطعة:

-آآ...اه ...تمام، بس هو في مستشفى أيه يا باشا وحالته إيه وحصله إيه؟

أجابه الرجل ببرود:

-مستشفى الـ *****، وهو حاليًا لسه مفاقش، المهم تعالى في أسرع وقت.

أُغلق الهاتف وتجمد في مكانه للحظة، أنفاسه تتلاحق باضطراب، يسمع صدى كلمات الرجل في رأسه، جلس على حافة السرير واضعًا رأسه بين كفيه يفكر بعشوائية، يحاول أن يربط الخيوط المبعثرة، ماذا حدث لسامي؟ هل انكشف أمره؟ هل هو في خطر؟ وماذا عن نفسه الآن؟

أفاق من شروده فجأة وكأن أحدهم صفعه، تقدم بخطوات سريعة نحو حقيبة صغيرة موضوعة في زاوية الغرفة، فتحها بعجلة وبدأ يجمع ثيابه ومتعلقاته المهمة، بعض المال، أوراقًا ثبوتية، هاتفًا قديمًا كان يخفيه، وبضع احتياجاته، وفي كل حركة كان يؤديها توحي بالذعر والرغبة في الفرار.

توقف للحظة عند الباب يده على المقبض، ووجهه شاحب كأنه فقد نصف دمه في دقيقة واحدة، أدار رأسه نحو الغرفة، تذكر سامي...تذكر كل ما خطط له، لكن غريزة البقاء كانت أقوى، فشد على أسنانه وفتح الباب، ثم خرج بخطوات مسرعة إلى المجهول، حاملاً حقيبته الصغيرة وقلبه المشتعل بالخوف والتوجس.

هتفت والدته من خلفه بتعجب:

-رايح فين يا فايق؟ انت مسافر شرم تاني تشتغل؟

لم يجيب وغادر مسرعًا فتركها في حيرة من مغادرته تلك وكأنه يهرب من شيء مخيف، تمتمت بأدعية تحفظه، ثم جلست وهي تقول بضيق يغمره الحقد:

-الواد حاله اتبدل، أكيد دي عين حكمت حسبي الله ونعم الوكيل فيها.

                              ****

عاد زيدان إلى منزله وهو يشعر بقلقٍ متصاعد يثقل صدره، وما إن خطا إلى الداخل حتى اتجه مباشرةً نحو غرفة يزن، دفع الباب بخفة فوجد شقيقه ما زال مستيقظًا، يتحدث عبر الهاتف مع سيرا بصوت منخفض، أشار له زيدان بصرامة أن يُنهي الاتصال فورًا، فأطاع يزن على الفور لكنه لم يخفِ ارتباكه من الملامح المتوترة التي ارتسمت على وجه أخيه، قطب حاجبيه وسأله بقلق:

-في إيه يا زيدان؟

اقترب زيدان منه وصوته ممتلئ بجدية أثارت في نفس يزن خوفًا أكبر:

-سيرا في بيتها صح؟ 

أومأ يزن برأسه إيجابًا، لكنه شعر بغصة في حلقه من طريقة السؤال فتابع زيدان بصرامة أكبر:

-طيب بلغها متخرجش من بيتها الفترة دي، تمام؟

ازدادت علامات القلق على وجه يزن وهو يقول:

-في إيه؟

تنهد زيدان ثم جلس على الكرسي المقابل له، وصوته يفيض بالصرامة والحذر:

-في إن الواد اللي حاول يعمل فيها كده مش سواق تاكسي أصلاً، ده طلع واخد العربية دي من جوز اخته، والكاميرات وضحت أن العربية فضلت واقفة أكتر من تلات ساعات على أول المنطقة عند سيرا والواد ده كان بينزل يقعد على القهوة ويتكلم في التليفون شوية وبعدها يرجع للتاكسي تاني، وأول ما سيرا نزلت من بيتها الواد ده جاله تليفون واتحرك براحة وهي وقفته وركبت.

تجهم وجه يزن أكثر فسأله بقلق أكبر:

-وبعدين؟

أخذ زيدان نفسًا عميقًا وكأنه يجمع شتات أفكاره قبل أن يواصل ببطء وثقة مفادها يقين مرعِب:

-في أمين شرطة معرفش دماغه رايحة منه فين، رد على تليفون الواد ده عشان كان في اتصالات كتير، وافتكر إنه حد من أهله، ولما قال للظابط قدامي إن في حد من أهله اسمه فايق جاي على القسم، الاسم رن في دماغي.

نهض يزن من مكانه وقد علت الدهشة وجهه، ثم نطق باسم واحدٍ لم يحتمل صمته:

-فايق؟

أومأ زيدان برأسه ثم أضاف بهمسٍ ينعكس عليه توتر اليوم بأكمله:

-اخدت الرقم وعملنا تحريات وطلع هو فايق جارها، وهو ولا قريبه ولا حاجة، بعتنا نجيبه لقيناه هرب، بس هنجيبه متقلقش.

ارتفعت نبرة يزن قلقًا مختلطًا بغضبٍ متصلب، وسأل بنبرةٍ توشحت بالرعب والريبة:

-يعني انت شاكك إنه متفق مع الواد ده على سيرا ولا إيه فهمني؟

رد زيدان وهو يعبر عن رجل المباحث الذي داخله فقلة الأدلة لا تمنحه يقينًا مطلقًا:

-الصورة لسه مش واضحة يا يزن، بس اه غالبًا لإنه في اتصال ما بينهم مدته ثواني في نفس التوقيت اللي هي نزلت فيه!

-زيدان، الواد ده مش طبيعي....

هب يزن وهو يهز ساقيه بعنف؛ ثم بعد لحظةٍ قصيرة من الصمت المملوء بالتفكير قال بحزمٍ لا يخلو من فزع:

-سيرا لازم تكون معايا، وتحت عيني طول الوقت.

رد زيدان بهدوءٍ حازم، محاولًا أن يطوق جنوح العاطفة لدى أخيه بمقاربة واقعية:

-ما في وسط أهلها يا يزن، انت بس بلغها ماتتحركش من بيتها واحنا ادينا مواصفاته في المستشفى لو راح هيتقبض عليه.

هز يزن رأسه بعنادٍ يختلطه استهجان، وقال بنبرةٍ تميل إلى التحدي:

-لا طول ما الزفت ده مش ممسوك أنا لا يمكن اسيبها بعيدة عني.

تمالك زيدان نفسه وسأله ببرودٍ يختبئ وراءه استياء منطقي:

-يعني هتعمل إيه؟ هتاخدها غصب عن أهلها؟

في تلك اللحظة دخل سليم مندهشًا من ضجيج أصواتهم فسأل مستفسرًا:

-في إيه؟  صوتكم عالي ليه كده؟

تنهد زيدان مجددًا ثم روى له ما دار من تحريات وتحقيقات؛ استمع سليم بانتباهٍ، وتبدلت ملامحه وهي تختلط بالغضب والقلق معًا، لكنه لفت بصره إلى يزن الذي بدا كمَن تلاطمه أمواج الخوف ونادى عليه بصوتٍ يحاول أن يضبطه:

-وانت عايز تعمل إيه يا يزن؟ ما أخوك مش ساكت اهو، وهيتجاب متقلقش.

أجاب يزن بحزمٍ لم يخفه ارتعاشًا داخل الصدر:

-أنا عايزاها معايا وجنبي أنا مش هتطمن إلا وهي معايا.

تدخل سليم محاولًا فرض منطقٍ يتجاوز حد
العاطفة:

-يا ابني فيه حاجة اسمها أصول مينفعش نتعداها!

قاطعه يزن وكأن نفسه قد انقطع، وقال بحدةٍ تلامس الغضب والمرارة معًا:

-أصول لما كانت خطيبتي، بس هي دلوقتي مراتي، ومن حقي احميها بالطريقة اللي أنا شايفاه صح.

انفجر زيدان بغيظٍ لم يستره صبره:

-يا ابني ده مجرد كتب كتاب انت مجنون؟!

-بقولك إيه ماتستفزنيش أنا مش ناقص.

حاول سليم ترجيحهما لمنطق أقل حدة، وسأل بهدوءٍ مهيأ للوساطة:

-يعني انت عايز تعمل إيه؟

أجاب يزن بلا مواربة وكأنه يقذف بحبل النجاة الأخير:

-كلم أبوها يا سليم يخليه يجيبها تقعد معانا هنا لغاية ما الـ**** يتقبض عليه.

أجاب سليم بصوت يشي بالرفض الحذر:

-أبوها مش هيرضى.

ردد يزن بصلابة وقد ارتسمت على وجهه قناعة مختلطة بيأسٍ شديد:

-وأنا كمان مش راضي أنها تفضل هناك وأنا مش هكون متطمن، يا سليم انت ماتعرفش حاجة عن سيرا، اقسم بالله لو سيبتها يوم كمان هلاقيها لابسة في مصيبة جديدة، اسمع مني وكلمه واقنعه، انت أساسًا بتعرف تقنع أي حد.

اعترض زيدان مؤكدًا رغبة سليم في ضبط الأمور:

-مينفعش يا يزن اخوك عنده حق في حاجة اسمها أصول.

زفر يزن بقوة ثم أخرج حله الأخير ليصل إلى مراده:

-يا جماعة هي مراتي، اقولك بلاش نستنى الفرح.

اعتلت ملامح الصدمة وعدم الرضا وجه سليم، ثم قال بنبرة غليظة:

-وذنبها إيه يا بني دي بنت ونفسها تفرح واهلها يفرحوا بيها! 

تنهد يزن بقوة عندما نفذت جميع حلوله وقال بعصبية حاول تحجيمها:

-تمام اوي خلاص أنا مش هستنى لحظة واحدة وهنزل ادور على فايق بطريقتي وهجيبه.

أوقفه سليم بصرامة بعدما التقط نظرات زيدان الخائفة من تهور أخيه، فسارع بقوله الحاسم:

-خلاص متدخلش، وأنا هكلم أبوها وهحاول اقنعه.

أطرق سليم رأسه للحظات ثم قال بنبرة يغمرها الغيظ:

-يعني انت دايمًا تحطني في مواقف زي الزفت، بالله عليك ازاي هقول للراجل هات بنتك عندنا أصل اخويا مش واثق إنكم هتحموها.

تنهد زيدان وهو يفكر بصوتٍ مترددٍ على نحو يكاد يحاكي عقل الضابط:

-قوله يا سليم إن فايق ممكن يضرهم لو هي فضلت موجودة وسطهم عشان يوصلها، الافضل تختفي عن الانظار ومفيش أأمن مكان غير هنا، وأنا بردو هحطلهم أمين شرطة يحرسهم.

مسح يزن على وجهه بضيق وسأله بصوت متهدج:

-هتكلمه دلوقتي؟

نهض سليم وهو يقول برفض لاذع:

-لا طبعًا انت اتجننت الساعة ٣ الفجر الوقت اتأخر، بكرة الصبح اهو الاقي كلام مناسب اعرف اقولهوله.

                                  *****

في اليوم التالي…

كان يزن يتحرك ذهابًا وإيابًا في الردهة المؤدية إلى باب الشقة، يترقب عودة سليم الذي رفض الرد على اتصالاته المتكررة، حتى سيرا لم تجب على هاتفه مما زاد من توتره وقلقه.

فجأة فُتح باب الشقة ودخل زيدان، وقد بدت على وجهه علامات الإرهاق البالغ، إذ لم يذق طعم النوم منذ ليلة الأمس، فأسرع يزن نحوه يسأله بلهفة:

-الواد ده فاق يا زيدان؟

رمقه زيدان بعينين مثقلتين بالإجهاد ثم رد بنبرة متعبة:

-لا لسه تحت الملاحظة متقلقش.

تجدد قلق يزن فسأله مرة أخرى:

-وفايق؟

أجاب زيدان متثاقلاً:

-لسه  بردو، وسع عشان اسلم على ماما واطلع أنام، مش قادر افتح عيني.

دفعه جانبًا بخفة وتوجه إلى الداخل، حيث وجد مليكة جالسة تتابع قلق يزن بعيون متعاطفة، بينما كانت تُطعم الصغيرة قمر، نظر إليها زيدان بضيق، إذ لم يزل يتعامل معها بذلك الأسلوب الجاف منذ ولادة نهى تقريبًا، في حين أنها اعتادت أن تتجاهل جفاءه وتتصرف ببساطة.

زفرت مليكة بضيق عندما غاب عن أنظارها، وحاولت كبح دموعها التي أوشكت أن تنهمر،حيث  شعرت بخوفٍ شديد من عودة نهى وزوجها إلى المنزل اليوم أو غدًا بعد أن يسمح الأطباء لها بمغادرة المستشفى، وللمرة الأولى اجتاحها توتر شديد من فكرة وجود نهى وخاصةً مع طفلها، الذي بدا وكأنه فجر في قلب زيدان حنان الأبوة الكامن.

قطع شرودها صوت سيارة سليم التي توقفت أمام المنزل، أعقبها مغادرة يزن على الفور، ثم أبصرت من النافذة سيرا تهبط من السيارة وبرفقتها دهب ابنة حكمت.

وقف يزن مصدومًا وقد تخلل شعوره مزيج من الدهشة والانزعاج لوجود تلك الفتاة مع سيرا؛ إذ لم يطمئن قلبه قط لوجودها أمامه، ومع ذلك اقترب منهم ورحب بهم بهدوء، لكنه ما إن صار قرب سليم حتى مال عليه هامسًا بغيظ:

-هي دهب جاية ليه معاكوا؟

هز سليم كتفيه بلا مبالاة وأجاب:

-معرفش أبو سيرا كان رافض أساسًا بس اختها الكبيرة اقنعته وبعتت بنتها معاها وعشان كده ابوها وافق.

                           ***
ارتدى فايق معطفًا أسود اللون ووضع قلنسوة على رأسه لا تلائم حرارة الجو اللاهبة، فكان منظره غريبًا للعين العابرة، لكنه تقدم بخطوات هادئة وواهنة نحو المستشفى، محاولًا أن يخفي ارتباكه خلف قناعٍ من التماسك.

استوقف أحد الممرضين عند المدخل وبأسلوبه الملتوي المعتاد دس في يده مبلغًا صغيرًا من المال، فاستجاب الأخير بترحابٍ ظاهر وأخذ يجيب عن أسئلته مطولًا:

-اه الحالة اللي فوق، انت صحفي؟

هز فايق رأسه مجيبًا وصوته مبحوح يتصنع الاطمئنان:

-اه وانت عارف الداخلية مبقتش تقولنا حاجة؟

ابتسم الممرض ابتسامة خفيفة ثم قال وهو يخفض صوته قليلًا:

-ده يا سيدي، واحد كان بيحاول يغتصب بنت، بس البت خبطته على دماغه والواد في غيبوبة، بس باين أهل البت دول واصلين لأنه حرفيًا الدنيا مقلوبة من وقت ما جه هنا المستشفى.

شعر فايق بجفافٍ في حلقه وابتلع ريقه بصعوبة، قبل أن يسأل بقلقٍ مكبوت:

-وفي احتمال يفوق؟

رد الممرض مترددًا:

-معرفش والله بس غالبًا اه يعني، أصلاً هما مستنين إنه يفوق بفارغ الصبر وكل شوية يسألوا، وحاطين اتنين عساكر فوق على اوضته وتحت هنا في الاستقبال قاعد بردو عساكر.

أطرق فايق للحظة ثم ابتسم ابتسامة متصنعة وهو يقول:

-شكرًا يا ادارة، هات رقمك عشان اتابع معاك حالته.

أومأ الممرض سريعًا:

-اه اوي اوي.

ناوله الرقم ثم انصرف إلى عمله، بينما أسرع فايق يخطو خارج المبنى متوجهًا إلى دراجة نارية مستأجرها، جلس فوقها وقد غمره فيضان من الأفكار القاتمة؛ كيف للشرطة أن تكشف أمره وسامي ما زال في غيبوبة؟! إذا لم يفق بعد، فمن أين لهم بالمعلومات التي دفعتهم إلى إصدار أمر بالقبض عليه بل وتفتيش منزله أيضًا؟

ارتعش قلبه وهو يشعل المحرك، كأن شبحًا يطارده في وضح النهار، لا يدري من أين يأتيه الخطر، من سامي إن استفاق؟ أم من الشرطة التي بدا أنها تقترب منه بخطوات واثقة؟
جلست سيرا على استحياء في صالة الاستقبال، كأنما تبحث عن زاوية تتوارى فيها عن الأنظار، بينما عيناها تدوران في المكان بارتباك وحرج شديدين، حيث رضخ والدها على غير عادته، لرأي سليم الذي طرق بابهم منذ الصباح، محملًا بأخبار جديدة عن مستجدات التحقيق، فارتسم الخوف على محياها فور سماعها لاسم فايق، ذلك الرجل الذي تحول هوسه بها إلى كابوس يطاردها في يقظتها ومنامها، وتلقائيًا تساءلت في أعماقها بارتعاشة قلب...أيمكن للإنسان أن يبلغ تلك المرحلة الجنونية من أجل فتاة لم يكن بينهما أي مشاعر حية تُذكر؟ أم أن جرح كرامته المتضخمة ورفضها المتكرر له، هو ما قاده إلى هذا التخبط بين جدران الانتقام الأعمى؟

لم تُخفِ دهشتها من سرعة موافقة والدها على حديث سليم، وربما نجح الأخير في إظهار مدى خطورة الموقف، وكعادة أبلة حكمت لم تفوت الفرصة لتتدخل في النقاش دون أن يطلب منها أحد، فمالت الكفة إلى جانب سليم وأقنعت والدها بضرورة أن ترافقهم دهب، وما إن استقرت الفكرة في ذهنها حتى تساءلت باضطراب...دهب!...أين ذهبت؟

أخذت تلتفت حولها بتعجب كأنها تبحث عن ظل ابنة اختها أو صوتها، ارتسم الغضب في ملامح سيرا الخجولة، وفكرت بغيظ مكتوم، ما بال تلك الفتاة تتصرف بحرية مفرطة وتتحرك كيفما تشاء دون أن ينتبه لها أحد؟

نهضت بتردد وخطواتها الصغيرة تحمل ثقلًا من الحياء، بينما عيناها القلقتان تسبحان في الأرجاء باحثة عن أثر، وما إن اقتربت من المطبخ حتى اخترق سمعها صوت مألوف لدهب وهي تتبادل حديثًا مرحًا مع شمس ومليكة، وقد اجتمعن على إعداد شراب ساخن لهن.

ولكن صوتًا آخر أكثر خفوتًا لكنه نافذ تسلل إلى أذنها من ناحية الردهة، التفتت بجسدها بخفة، فإذا بها تقع على مشهد يزن واقفًا هناك عند آخر الممر، يشير إليها بيده كي تقترب منه، رفعت إصبعها بحركة تلقائية سريعة مشيرة إليه بالرفض، وارتسم الحرج على ملامحها، لكنه لم يعبأ بإشارتها وأعاد طلبه بيد أكثر إصرارًا، وسرعان ما تجمدت في مكانها وكأن الأرض أسرت قدميها، ثم هزت رأسها رفضًا صارمًا علها تثنيه عن محاولته.

لكن المفاجأة عصفت بها حين رأته يندفع نحوها بخطوات سريعة حاسمة، أربكت أنفاسها ودفعتها إلى التراجع في خوف غامض، ولكنه مد يده وقبض بقوة فوق مرفقها، ثم جذبها بعنوة خلفه، فارتعش صوتها وهي تتوسل بخفوت مرتجف:

-يالهوي يا يزن، عشان خاطري لا، عيب، هيقولوا عليا إيه؟

لم يُصغِ إلى رجائها بل دفعها برفق محسوب إلى داخل غرفته، وما إن خطت بداخلها حتى اندفعت بجسدها من جديد محاولة الهرب، إلا أنه كان الأسرع فأغلق الباب خلفه بجسده العريض حاجزًا الطريق أمامها.

-اهدي بقى يا سيرا، أنا بشاورلك من بدري وانتي سرحانة.

قبضت على مقبض الباب بكل ما أوتيت من قوة، وصوتها يخرج حازمًا رغم ارتجافه:

-يزن، عشان خاطري لازم تطلعني، عيب كده، افرض حد قفشنا يقولوا عليا إيه؟

ابتسم ببرود متعمد متجاهلًا توترها:

-محدش هيقول حاجة، أنا متفق مع شمس ومليكة يشغلوا دهب عنك.

شهقت سيرا بذهول واتسعت عيناها بصدمة مخلوطة بالإحراج ثم صاحت بغيظ:

-انت بتقول إيه؟ انت كده فضحتني يا يزن؟

أعاد كلمتها بلهجة مستنكرة:

-فضحتك؟

ثم زفر بضيق، وكأنها أحزنته بكلامها:

-يا بنتي انتي مراتي، انتي بتتصرفي كده وكأني شاقطك من الشارع؟

تجمدت ملامحها بصدمة جارحة ثم انفجرت غاضبة:

-يزن عيب كده، خد بالك من كلامك معايا، وبعدين تصدق أنا غلطانة إني جيت هنا، كان لازم أعرف أني بتعامل مع واحد متهور.

لم يمهلها لحظة إذ وجدت نفسها فجأة بين أحضانه، محاصرة بوجوده الطاغي حتى صار وجهه على مقربة نفس من وجهها، لا يفصل بينهما سوى إنش واحد، فهمس بصوت متهدج بحرارة:

-أنا مكنتش ناوي أكون متهور، بس انتي اللي بتستفزي الحتة اللي جوايا.

ارتعشت أصابعها وهي تحاول دفعه بعيدًا، لكن ضعفها لم يقاوم قوته، بقيت مشاعرها غضة، بريئة، لا تعرف كيف تجابه هذا القرب، فقالت برجاء مرتجف:

-يزن، مينفعش تقرب مني كده، طالما محصلش فرح، وبعدين....انت كده هتخوفني وهتخليني امشي من هنا.

شد على خصرها أكثر وابتسم ابتسامة صافية غمرها صدق، بينما صوته يفيض دفئًا:

-تمشي منين؟!، ده أنا قلبت الدنيا عشان أجيبك هنا وتكوني تحت عيني.

رمشت بإهدابها ونسيت في غمرة ارتباكها شدة قربهما، قبل أن تسأله بخفوت حائر:

-أنت اللي خليت سليم أخوك يجي البيت عندنا ويقنع بابا؟

-اه.

إجابة مقتضبة ألقاها تاركًا لعينيه الحرية أن تبحرا في ملامحها التي توهجت خجلًا، فعاودت السؤال بصوت هامس يقطر فضولًا:

-ليه؟

زفر بعمق ثم قال بصراحة صافية وهمسه الحار يذيب مقاومتها:

-عشان قلبي مش هيكون متطمن عليكي إلا بوجودك جنبي.

ارتسمت على وجهها ابتسامة خجولة، ثم ابتعدت عنه برفق وتلتفتت حولها لتستعيد توازنها قبل أن تسأله من جديد:

-انت كنت عايزني ليه؟

-كنت عايز أسألك عايزة تقعدي في اوضتي ولا تقعدي في أي اوضة فاضية.

رفعت حاجبها بمكر خفيف وابتسمت ممازحة:

-اممم حجج فارغة.

ضحك وهو يجاريها:

-حاجة زي كده.

-لدرجادي يا يزوني مش قادر على بعدي.

لمعت الجرأة في عينيها وهي تشاكسه دون وعي، فاقترب منها بخطوات متروية، ولكنها أسرعت بالخروج من الغرفة تضحك بخفة طفولية وقد استبد بها الحماس لنجاحها في الفرار منه، غير أنها لم تكن تدري أن القدر سيضعها مباشرة أمام سليم، فاصطدمت به بغتة مما أدى إلى تراجعها خطوتين للخلف، والحرج يكسوها من رأسها حتى قدميها، فتمتمت بتلعثم:

-آآ...أبيه سليم، آآ..أنا كنت بدور والله على دهب، عن إذنك.

ثم أسرعت بخطوات متوترة نحو المطبخ، تتخبط في الممرات وقد جهلت طريقه للحظة، أما يزن فبقي متكئًا بجسده على باب غرفته، ملامحه تحمل تصنع الارتباك نفسه الذي سكن ملامح سيرا قبل قليل ليقول ساخرًا:

-أبيه سليم، يا خبر، انت هنا من امتى؟

اقترب سليم منه ببطء وهو يهز رأسه بيأس عميق، وصوته يخرج صارمًا متوعدًا:

-قلة أدب مش عايز، يا إما هرجعها لابوها تاني، احترم نفسك.

رد يزن باستياء طفولي متظلم:

-وأنا عملت إيه؟ انت على طول ظالمني كده، يلا ليا عند ربنا، أنا داخل أنام خليهم يصحوني على الغدا وياريت لو تعمل فيا معروف وتخلي سيرا هي اللي تصحيني، أكون شاكر افضالك.

ارتفع حاجبا سليم بتهديد جلي، فما كان من يزن إلا أن تسلل مسرعًا إلى داخل غرفته وأغلق الباب في وجهه، فارتج الممر بصوت طرقات سليم الغاضبة على الباب، وهو يصيح بحدة:

-انت كده  محترم يعني وانت بتقفل الباب في وش أخوك الكبير؟

أما سيرا فقد وجدت في وجود منال مهربًا مناسبًا، لتلوذ به من ذلك الإحراج الذي كاد أن يفتك بها بسبب جنون يزن واندفاعه الطائش، فجلست بجوارها متصنعة الهدوء، تدير معها بعض الأحاديث البسيطة السطحية، كمَن يبحث عن أي وسيلة لإشغال نفسه عما يعتمل بداخله من توتر وحرج، فكانت تتظاهر بالإنصات بينما عيناها تهربان بين الحين والآخر إلى الأرجاء، كأنها تخشى أن يطل يزن مرة أخرى باندفاعاته المفاجئة.

أما دهب فقد آثرت أن تترك مليكة وشمس منشغلتين في المطبخ، وجلست متكئة على الكرسي وهي منغمسة في شاشة هاتفها، تكتب لصديقتها عبر تطبيق الواتساب بلهفة مراهقة تنقل تفاصيل ما تراه بعينيها وكأنها في مغامرة سرية:

"بجد أنا مش عارفة ليه حظي مش حلو كده زي خالتي، يخربيت دي عيلة بجد، يهبلوا مش عارفة أحب مين ولا مين كلهم أحلى من بعض".

انتظرت لحظة والابتسامة الصغيرة تملأ ثغرها، حتى وصلها الرد السريع من صديقتها:

-بيزن طبعًا، الاتنين التانيين دول متجوزين مع إن بموت في الشوجر دادي اللي زي أخوه الكبير، دخلت على بيدج الشغل بتاعته يخربيته قمر بجد.

ارتسمت على وجه دهب ابتسامة واسعة ممتزجة بدهشة طفولية، وظلت تنقر بأصابعها فوق الشاشة ترسل تفاصيل دقيقة وكأنها صحافية متخفية بين العائلة، تاركة مليكة تغوص في شرودها وهي تضع قطع الكيك في الأطباق بيدين لا تستقران على حركة محددة.

ولكن همس شمس اخترق أذنها فجأة فجعلها تنتفض من غفلتها، لترفع رأسها مرتبكة وتنصت إلى كلماتها التي حملت شيئًا من العتاب الممزوج بالقلق:

-انتي بتعملي إيه هنا وسايبة جوزك طلع لوحده؟

مطت مليكة شفتيها بأسى وانكسار، كأنها تحمل في صدرها حملًا أثقل من قدرتها على البوح، وأجابت بصوت خافت لا تكاد حروفه تُسمع، محاولة أن لا تجذب انتباه دهب الغارقة في هاتفها:

-ما أنتي عارفة اللي فيها يا شمس.

زفرت شمس تنهيدة طويلة وهي تصب الشاي في الفنجانين بحركة متوترة، ثم التفتت إليها بنظرة حازمة لتقول بلهجة يملؤها الضيق والصرامة:

-يا حبيتي افهمي كتر البعد بيولد الجفا، وطالما في إيدك ترضي جوزك بحاجة زي دي ارضيه، طالما مفيش سبب يمنع إنك تجيبي بيبي، غيرك عنده أسباب تمنعه وبيتمنى من ربنا يرزقه، مينفعش حد يقف يقول لرزق ربنا لا.

اهتز قلب مليكة مع كلماتها التي انغرست كالسهم في صدرها، وأحست بارتباك يمزق عقلها بين الخوف والرغبة، رفعت عينيها المبللتين بالحيرة وقالت بارتجاف:

-طيب هطلع وراه ليه وهو أساسًا زمانه نام.

ابتسمت شمس بسخرية خفيفة وهي تهز رأسها:

-مظنش إن زيدان نايم دلوقتي، أكيد مستنييكي تراضيه، إلا لو فقد فيكي الأمل ونام من قهرته.

كلماتها كانت كصفعة على وجه مليكة، التي شعرت أن الأرض تضيق من تحت قدميها، وأنها مجبرة على المواجهة، ولا تعلم أن شمس كانت تنفذ وصايا سليم بحزم وإصرار، محاولة أن تغير قناعات مليكة بأي وسيلة، أحيانًا كانت كلماتها تُلين قلبها، وأحيانًا كانت تزيد ضياعها.

ارتفعت نبرة صوت شمس متعمدة لشد انتباه دهب الغارقة في رسائلها:

-دهب حبيبتي، تعالي ساعديني نطلع الحاجات دي، عشان مليكة هتطلع فوق دلوقتي.

لم تملك مليكة سوى أن تتنهد بعمق، وكأنها أُجبرت على قرار لم تكن مستعدة له، فصعدت الدرج ببطء، كل خطوة تشعرها بأنها تقترب من معركة مجهولة، قلبها كان يدعو أن يكون زيدان قد غلبه النوم، حتى لا تضطر لمواجهته بملامحه الغاضبة، لكن الأقدار لم ترأف بخوفها، فقد وجدته جالسًا أمام التلفاز، يدخن سيجارته بشراهة، والدخان يلتف حوله كغيمة سوداء تعكس اضطراب روحه، حتى ملامحه كانت عابسة وعيناه شاردتان، فبدا كبركان على وشك الانفجار.

اقتربت بخطوات حذرة كمَن يسير في حقل ألغام، وقالت بحدة ممتزجة بعاطفة خجولة:

-إيه ده يا زيدان؟، أنت عارف أن مبحبش ريحة السجاير تكون في البيت!

نهض فجأة يجمع متعلقاته بحركة عصبية، ورد بصوت مرتفع تتخلله مرارة:

-حاضر، هروح اتزفت واقعد في حتة تانية.

تقدمت نحوه بخطوات سريعة وأوقفت اندفاعه وهي تقول بنبرة عتاب رقيق:

-استنى بس، مالك متعصب ليه؟ أول مرة تعاملني كده وأنا ساكتة ومستحملة.

رفع عينيه نحوها بحدة وقال:

-وأنا بعمل إيه يا مليكة؟ ما أنا بردو ساكت ومستحمل!

ارتبكت وارتعشت كلماتها حين تمسكت بدفاعها:

-معقولة يا زيدان ده كله عشان رافضة نخلف دلوقتي، استنى شوية أكون مؤهلة نفسيًا.

زمجر صوته محمّلًا بخيبة أمل:

-العمر بيجري بيا وبيكي يا مليكة واحنا الحمد لله معندناش اللي يمنع، فـ ليه نعترض على رزق ربنا.

صرخت روحها قبل لسانها وهي ترد:

-ليه كلكم بتقولوا إن أنا بعترض، أنا بس خايفة أموت واسيبه ويتمرمط في الدنيا ويطلع في الدنيا مالوش حد.

اقترب منها خطوة وعيناه تتوهجان بصدق ممتزج بوجع:

-ظروفك غير ظروف ابننا لو ربنا كتبلنا نخلف، مش ضروري يعيش نفس حياتك، يمكن يعيش أحسن ويكونوا بدل الأخ اخوات كتير ويكونوا سند له.

قالت بدهشة ممزوجة بالضعف:

-كمان عايزني اخلف كتير؟

ابتسم ابتسامة باهتة لكنها محملة بالحنين:

-وماله يا مليكة، المفروض انتي اتحرمتي من حاجات تعوضي عيالك باللي اتحرمتي منه، لكن انتي بتكتبي على نفسك الحرمان من تاني وبتكتبيه عليا مع أني مش ذنبي حاجة.

أطرقت رأسها والدموع تتساقط من عينيها:

-أنا مش أنانية يا زيدان، عشان أحرمك من حاجة زي دي، أنا بس قولتلك نأجلها.

رفع حاجبيه غاضبًا وصوته يقتحم صمتها:

-لغاية امتى؟!

انهارت وصوتها قد بح من شدة بكائها:

-ماعرفش.

اقترب منها أكثر وصوته صار أهدأ لكنه لا يخلو من العتاب:

-شوفتي انتي لسه تايهه، ومحتاجة اللي يرشدك للطريق الصح.

ضحكت في وسط دموعها كمَن يبحث عن طوق نجاة، وقالت بحيرة:

-انت بقيت عاقل في كلامك كده من امتى؟

رد باستياء ساخر:

-يعني أدبش في كلامي مش عاجب، أكون عاقل مش عاجب.

تقدمت منه أكثر وقالت برجاء بينما صوتها ارتجف كليا:

-زيدان، متتجاهلنيش تاني لو سمحت ولا تخاصمني.

هز رأسه وهو يقول بنبرة جادة:

-أنا مخاصمتكيش، أنا بس كنت ببعد عشان مش عايز اضغط عليكي اكتر.

ترددت قليلًا ثم تساءلت بصوت خافت:

-هسألك سؤال...انت زعلت مني لما شوفت ابن نهى؟

أجاب سريعًا دون تردد:

-لا طبعًا مزعلتش، بس كنت بقول لو مكنتيش أصريتي على رأيك، كان زماني عندي ولد وسميته سليم ومحدش تاني سابقني.

ابتسمت رغم دموعها وقد لان تفكيرها قليلاً لمعة الرجاء الكامنة بعينيه الراغبة في تحقيق حلمه البسيط:

-خلاص في فرصة نسمي يزن.

رفع يده نافيًا بسرعة وهو يقول بحزم ممزوج بخفة دم:

-إيه لا طبعًا مش عايز، خليكي كدة كويس، كفاية نسخة واحدة يزن في حياتي، يبقوا اتنين.

شاركته الضحك، ولكن ضحكاتها تحولت إلى ابتسامة خجولة بسبب مساندة لها حتى في قمة غضبه، فهمست مترددة:

-زيدان أنا...

تنهد بعمق قبل أن يقاطعها بنبرة هادئة تحمل حنانًا دفينًا:

-فكري يا روحي...فكري ومش عايز رأيك وسيبها على ربنا، ودايمًا اتمنى وادعي باللي نفسك فيه وربنا هينولك اللي نفسك فيه، زي ما رضاني بيكي وبوجودك في حياتك.

ابتسمت ابتسامة صغيرة باهتة وهي تنظر إليه، لم تقل شيئًا، لكنها أدركت في قرارة نفسها أن موضوع الإنجاب لن يظل مؤجلًا طويلًا، وأنها مهما قاومت ستفكر فيه بجدية من أجل زيدان وحده، حتى وإن اضطرت للتنازل عن كل مخاوفها القديمة.

                             ****
دخلت يسر إلى العيادة بخطواتٍ متثاقلة، وكأن الأرض قد أثقلت قدميها بسلاسل من تعبٍ لا يُرى، لقد أرهقها جسدها في الأيام الأخيرة، إذ كانت تفرط في الحركة على غير عادتها رغم ثقل بطنها المتنفخ الذي لم يعد يترك لها فسحة من الراحة، شعورٌ بالانقباض أخذ يتسلل إلى صدرها كلما همت بخطوة، ومع ذلك فإنها خضعت على مضض لرغبة نوح الذي ألح عليها أن تصعد إليه، فلم يكن في قلبها أي رغبة لرؤية تلك المرأة التي تقف دائمًا كظل ثقيل في حياتها، تلك التي تعتبرها خصمًا مستترًا يترصدها ببرود.

وحين اقتربت من باب مكتبه اعترضتها حسناء بصوتٍ خفيض متعمد، فيه من الاستفزاز ما يكفي ليوقظ نار الغيرة في صدر أي امرأة:

-رايحة على فين؟

توقفت يسر لحظة وكأنها تُحاول أن تلتقط أنفاسها قبل أن تنفجر، أطبقت جفنيها برهة ثم أجابت بهدوءٍ متصنع تخالطه نبرة لاذعة:

-داخلة لجوزي في اعتراض؟

مالت حسناء برأسها جانبًا وشفتيها ترتسمان بابتسامة متغطرسة تنضح استفزازًا:

-اممم بس نوح مابلغنيش إنك جاية، وفي حالة جوه.

كادت يسر أن تفقد أعصابها أمام هذا التحدي، لكنها تماسكت وهي تقول بنبرةٍ تفيض ضيقًا:

-وهيبلغك ليه يا حسناء، ده انتي حتة سكرتيرة ماتسويش حاجة ومسيرك هتمشي من هنا.

ولكن حسناء لم تفوت الفرصة لزيادة النار اشتعالًا، فأجابت بنبرة متعالية وقد ازدادت ابتسامتها اتساعًا:

-مشوفتش يعني دكتور نوح طردني ولا حاجة، باين تأثيرك مش قوي يا مدام، بس عمومًا أحلامك دي عمرها ما هتحصل، وأنا هنا موجودة وقريبة منه....قريبة منه اوي اوي لدرجة انتي مش تتخيليها.

اشتعل قلب يسر بالغيرة والحنق وقبضت كفها بشدة على مقبض الباب، حتى كادت عروق يدها أن تتفجر من شدة الضغط، لكن الباب انفتح فجأة وخرجت إحدى المريضات، لتجد نوح واقفًا في الداخل وما إن وقعت عيناه على يسر حتى أشرق وجهه بابتسامة صافية دافئة، كأنها شمس تبدد غيومها الداكنة، مد يده إليها مرحبًا بحنو بالغ:

-يسر، تعالي واقفة ليه كده، مدخلتيش ليه من بدري؟

وبحركةٍ مقصودة أغلق الباب في وجه حسناء التي وقفت مذهولة من ردة فعله، لتتجه بعدها مباشرة إلى هاتفها تجري اتصالًا بوالدتها، وكان صوتها حينها يقطر سُما:

-بقولك إيه لما أرجع البيت الاقيكي جايبلي البت بنت أم صفاء دي.

وأغلقت الاتصال بعصبية ثم نظرت إلى الباب بعينين تقدحان شررًا، بينما اقتربت منها إحدى السيدات تنتظر دورها وسألت بخجل:

-هو أنا هدخل امتى للدكتور؟

فأجابتها حسناء بلهجة غليظة يملؤها الضيق:

-معرفش لما المدام تخرج من جوه، أصل الدكتور فاضي اوي للحوارات دي.

رمقتها السيدة بدهشة لكنها آثرت الصمت وجلست تنتظر، دون أن تعلم أن وراء ذلك الباب كانت يسر في حالة انهيارٍ كامل.

جلست يسر على المقعد داخل الغرفة، وانفجرت دموعها بغزارة تهز جسدها شهقات متلاحقة كأنها أمواج بحرٍ هائج لا يهدأ، تفاجأ نوح من انكسارها المفاجئ فأسرع إليها يعانقها بحنو عميق، يمرر كفه على ظهرها بحذر الأب وشفقة الحبيب ثم همس إليها بصوتٍ يملؤه القلق:

-طيب أنتي زعلانة من إيه؟ تعبانة؟ مالك يا يسر؟

ابتعدت عنه قليلًا وقد غطت الدموع وجهها، ثم نظرت إليه نظرة مترددة وقالت بصوتٍ متهدج بين شهقاتها:

-انت كنت عايزاني ليه؟

مسح نوح دموعها برفق، كأنه يمحو آلامها بإصبعه، وأجاب بعينين تفيض حبًا:

-كنت عايز أشوفك وحشتيني.

ارتجفت شفتاها بين عتابٍ وحب، ثم أغمضت عينيها بقوة لتخفي ما يفيض من دموعها، فاقترب نوح أكثر وقبل جفنيها بحنو عميق قبل أن يهمس:

-انتي في حد زعلك قبل ما تدخليلي؟

فتحت يسر عينيها وقالت بصوتٍ يقطر جرحًا:

-انت سايبها عندك ليه؟ عايز تقهرني ليه بوجودها جنبك؟

قبل كفيها بحبٍ صادق ثم أجابها بصراحةٍ فاجأتها:

-أولاً أنا مش سايبها جنبي، هي بتشتغل عندي، تاني حاجة هي ضايقتك في إيه؟

سحبت يدها سريعًا وقالت بسخرية تنزف وجعًا:

-هتعمل إيه لو قولتلك، هتطردها يا نوح؟

ابتسم ابتسامة خفيفة وأجاب بحزم رقيق:

-متستعجليش على رزقك يا حبيبتي، في الآخر مش هعمل إلا اللي يرضيكي ويريحك.

-يعني إيه؟

فأجابها بنبرة هامسة يغمرها الحنو:

-يعني مفيش حد يستاهل تعيطي بسببه يا يسر....

ثم أمسك يديها مجددًا وقبلهما بحرارة، وضمها إلى صدره بقوة كأنه يبحث عن ملاذٍ من تعب الدنيا في هذا العناق، غاص وجهه في عنقها يستنشق عبيرها ببطء، فأدركت أن في صدره ما يثقل كاهله، فمررت يدها برفق على ظهره وهمست بخوف:

-نوح، انت كويس؟

هز رأسه نفيًا دون أن يرفع وجهه، وكأنه يهرب من الجواب داخل حضنها، فعاودت تسأله بصوتٍ مرتجف:

-مالك يا نوح؟ في حد زعلك؟

طال صمته حتى خرج صوته متهدجًا مثقلًا بالانكسار:

-رديت عليها زي ما قولتيلي، بس طلعت مكنتش بتسأل عليا، كانت بتزعقلي عشان اتأخرت ومبعتش مصروفها وافتكرت إني منعته عنها.

تسمرت عيناه في الفراغ وهو يتحدث، فارتبكت يسر في البداية ولم تفهم، حتى استوعبت أنه يقصد والدته، فاقتربت منه بعينين تفيض عطفًا وهمست:

-وانت اتأخرت في مصروف مامتك ليه يا نوح وانت عارف إنها معتمدة عليك في كل حاجة.

تنهد تنهيدة عميقة وقال بمرارة:

-كنت مفكر أنها هتقلق عليا، وتتصل تسألني عن حالي، بس دي أول حاجة عملتها زعقت لي وكأني عيل عندي ١٦ سنة.

-معلش ضغوطات الحياة كتيرة، اعذرها.

ابتسمت يسر ابتسامة حزينة وهي تربت على يده:

-المفروض إني أعذر الكل ومحدش بيعذرني.

تنهدت بهدوء وهي تجيبه بعقلانية تحتم عليها إظهارها في ذلك الوقت تحديدًا وفي ظل انكسارها من ناحية عائلته:

-ده واجبك ناحية أهلك يا نوح، المهم انت كنت عايزاني ليه وقولتلي اتطلعي ضروري؟

-عشان كنت عايز ده....

اقترب منها فجأة وعانقها بشدة من جديد، وهمس بصوتٍ مبحوح:

-كنت عايز أحس بوجودك جنبي، قربك مني بيهديني، وده اللي اكتشفته في بعدك، كنت تايه الأيام اللي فاتت ومكنتش عارف أنا عايز إيه!

ابتسمت وهي تستمع إليه وقلبها يخفق بقوة حتى خشيت أن يفضحها، ثم مدت يدها لترتب خصلات شعره المبعثرة بصمت، فنظر إليها طويلاً قبل أن يفاجئها:

-كل حاجة نفسك فيها هحققهالك، معلش هانت ...هانت اوي.

حدقت في وجهه مليًا، محاولة أن تستشف خبايا كلماته، لكنه استقام واقفًا وقال بهدوء:

-لما اخلص شغل هخدك ونبص على الشقة الجديدة بتاعتنا، عشان تشوفي هتفرشيها ازاي؟

همست بحزن طغى فجأة عليها:

-بس أنا كنت بحب شقتي.

-وأنتي لما هجرتيها مبقتش طايق اقعد فيها لحظة، وخلاص كرهتها...واظن أنك محتاجة تبتدي معايا في مكان جديد صح؟

صمتت للحظة طويلة وكأنها تزن كل كلمة داخليًا، ثم رفعت رأسها وقالت بحزم:

-مش بس المكان يا نوح، حياتنا محتاجة تأسس من أول وجديد، لا فيها شروط من ناحيتك ولا من ناحيتي.

كانت كلماتها كالسهام التي أصابت قلبه مباشرة، تذكره بشرطه السابق ورغبته المرفوضة في الزواج الثاني، لكن صمته حمل قبولًا غير معلن، ولكنها كانت تعلم في قرارة نفسها أنها لن تقبل أي عودة نهائية إلا إذا أعلنها صراحةً، أنها تكفيه وحدها وأن رغباته السابقة لن يكون لها مكان في حياتهما الجديدة.

                            ****

كان يزن غارقًا في نومٍ عميقٍ بعد أيامٍ متتابعة من الإرهاق، نوم أثقله الجهد حتى صار جسده مستسلمًا للفراش كمَن يلوذ بأمانٍ مؤقت من صدمات الحياة، فكان قلبه مطمئنًا قليلًا بوجود سيرا في المنزل بجواره، ومع ذلك لم يكن عقله ليستكين تمامًا؛ إذ تسللت الكوابيس إلى منامه، كذئابٍ جائعة تنهش راحته، فكان تارةً يحلم بأن سيرا غادرت المنزل، وتارةً أخرى يراها في أسر "فايق" يختطفها أمام عينيه وهو عاجز، فينتفض في نومه وشفتيه تتمتمان بكلمات مبهمة غير مفهومة.

وبين غمرة النوم واليقظة، شعر بيدٍ صغيرة تلمس ذراعه برفق مصطنع، وصوتٍ ناعم غير مألوف يهمس في أذنه، حاول أن يقاوم ثقل جفنيه، لكن إحساسًا آخر أربكه حين لمح ضوء هاتفٍ موجه نحوه، فتح عيناه سريعًا بفزع، وإذا به يرى دهب واقفة على مقربة منه، تحمل هاتفها بارتباك وهي تحاول إخفاءه بعد أن كانت تلتقط له صورًا سرًا.

انتفض يزن من فراشه باندهاشٍ وملامحه يكسوها الغضب والإنكار، ثم قال بصوتٍ متوتر:

-انتي بتعملي إيه؟

ارتبكت دهب للحظة، وتلعثمت وهي تبحث عن ذريعة تبرر فعلتها:

-دد...ده أنا كنت بصحيك وبشوف الساعة كام في تليفوني.

رمقها يزن بحدةٍ وعدم تصديق، فعقد حاجبيه وهو يقول بصرامة:

-وإيه دخلك اوضتي؟

حاولت التماسك ثم أجابت بخبثٍ خافت:

-ما عشان أصحيك، قالوي اصحيك، فدخلت.

هز رأسه بغيظ وزفر بعمق وهو يقول بنبرة حادة:

-قصدهم إنك تخبطي على الباب، مينفعش تدخلي عليا وأنا نايم.

خفضت بصرها قليلًا وكأنها تعتذر، لكنها لم تستطع كتمان جرأتها الطفولية المتجاوزة فقالت مبتسمة باستهتار:

-أسفة، بس هو انت مكسوف عشان دخلت عليك، متقلقش انت كنت زي القمر بردو وانت نايم.

تجمد يزن مكانه لوهلة وقد صدمه أسلوبها الوقح رغم صغر سنها، حيث انقبض قلبه من سماجتها، فنهض من الفراش متجهمًا وهو يشير إليها بحدة:

-اخرجي يا دهب يلا، ونادي سيرا عايزاها.

رمقته بعينين مازحتين وقالت ببرود:

-معرفش هي فين؟

تغير وجهه إلى دهشة وغضب في آن، واقترب خطوة منها يسأل بصوتٍ متوتر:

-يعني إيه ماتعرفيش؟ هي خرجت؟

لم يمنحها فرصة للإجابة إذ قفز من مكانه مسرعًا نحو الخارج، يبحث في أرجاء البيت كمَن فقد شيئًا ثمينًا، ينادي باسمها بصوتٍ مرتفع متقطع تفضحه نبرات القلق:

-سيرا!… سيرااا!

قابلته شمس في الممر، وقد ارتسمت على وجهها علامات الاستغراب من اضطرابه الواضح فأوقفته قائلة:

-اهدى بتنادي ليه كده؟

التفت إليها بعينين يملؤهما القلق وسرعة الأنفاس تخنق صدره:

-هي سيرا خرجت؟

ابتسمت شمس بخفة تهدئه، وقالت:

-لا بس فوق السطح بتتكلم في التليفون مع صاحبتها، كنا فوق والقعدة عجبتها فسيبنها ونزلنا.

لم يعلق بكلمة واحدة بل مر بجوارها مسرعًا وكأن قدميه لا تلامسان الأرض، صعد السلالم بخطواتٍ سريعة حتى وصل إلى السطح، فوجدها جالسة على الأرجوحة التي كان سليم قد خصصها لشمس، تتمايل بخفةٍ بين الهواء، والهاتف ملتصق بأذنها، فكان صوتها مضطربًا وهي تحدث "فاطمة"، محاولة تبرير شيء ما، بينما الأخيرة تمطرها بوابلٍ من العتاب واللوم، بدا على سيرا أنها تقاوم العتاب، لكن كلماتها لم تخلُ من الارتباك.

اقترب يزن بخطواتٍ هادئة هذه المرة، وكأنه يخشى أن يقطع عليها خيط الكلام، ثم جلس بجوارها على الأرجوحة دون أن ينطق بحرف،  فالتفتت إليه بدهشة ممزوجة بالحرج، ثم تلعثمت وهي تحاول مواصلة الحديث مع فاطمة، لكنها لم تستطع أن تكمل، حيث ساد صمت قصير ثم تنهدت وأغلقت الهاتف بعد أن اعتذرت لصديقتها بصوتٍ خافت.

وألقت نظرة طويلة على يزن، كأنها تبحث في ملامحه عن جوابٍ لم يُطرح بعد…فهمست وقد علت نبرتها بحنو وارتباك:
-مالك يا يزن؟

التفت إليها بنصف رأسه، وصوته متهدج بحنق مكتوم وكأن أنفاسه نفسها أصبحت ثقيلة عليه:

-مصحتنيش انتي ليه؟

رمقته بدهشة طفولية، ولم تدرك مقصده للوهلة الأولى، فقالت باستفهام عفوي:

-مش فاهمة؟

تنهد بعمق وكأن صدره يحاول أن يتخلص من حملٍ أثقل كاهله مؤخرًا، ثم أوضح بنبرة أشد ضيقًا:

-ليه سيبتي دهب هي اللي تصحيني؟

هزت كتفيها بخفة وفي عينيها اهتمام صادق ممزوج بالاستفهام:

-محدش قالي أصحيك، مالك إيه اللي مضايقك؟

أدار وجهه عنها وعيناه تتجنبان نظراتها القلقة، فهو لم يشأ أن يبوح بما يعتمل في صدره، فتمتم بنبرة متعبة تشي بالكثير ولا تقول شيئًا:

-مفيش...يمكن عشان قومت ناقص نوم.

تأملته سيرا بتركيز وأحست أن وراء كلماته البسيطة أسرارًا يخفيها عنها، لكن حركته التالية كانت مفاجأة صاعقة لها، فقد اعتدل في جلسته فجأة وأسند رأسه على كتفها بارتياح طفل هارب من شيء وأغلق عيني، فشهقت بدهشة ولم تفهم ما يفعل فتمتمت بارتباك:

-يزن هو انت بتعمل إيه؟

أجابها بصوت خفيض كمَن يسلم نفسه للنوم:

-نايم.

التفتت برأسها سريعًا إلى الخلف، تخشى أن يراهم أحد في تلك اللحظة العابرة التي جمعت بينهما على غير ميعاد، وقالت بخجل ممزوج بمحاولة الابتعاد:

-انزل نام تحت.

لكن يده سبقتها وأمسك بذراعها بقوة، فاحتضنها كما لو كان يتشبث بقشة نجاة، وأسند رأسه براحة وهو يقول بصوتٍ مبحوح متعب:

-لما كنتي خايفة وطلبتيني، مش أنا احتويتك؟

نظرت إليه بعينين دامعتين واستحضر قلبها تلك اللحظة التي غمرها فيها بالأمان، فأجابت همسًا ناعمًا:

-اه.

رفع بصره إليها ونظرة ترج خافتة استقرت بعينيه وقال بصوتٍ يكاد ينكسر:

-احتويني...اعتبريها رد جميل ورديها دلوقتي.

همست بحماقة وقد زاد قلقها:

-وانت خايف من إيه؟ في حد كان بيحاول يعتدي عليك؟!

ضحك بسخرية وقال:

-لا وقعت في حب واحدة هبلة، مقولكيش على جلد الذات.

شهقت مصطنعة الاندهاش وأبعدت رأسه عن كتفها بانفعال:

-أنا هبلة؟ وكمان بتجلد ذاتك؟ ده بدل ما تشكرني إن أنا انتشلتك من المستنقع اللي انت كنت فيه!

تساءل بنبرة متحدية:

-مستنقع إيه؟ 

قالت بثقة وهي تحدق في عينيه مباشرة بجرأة وابتسامة حالمة تحتل ثغرها:

-اعترف أنك كنت تايه من غيري، من البنت دي للبنت دي لغاية ما شوفتني وقررت إنك تكتفي بيا.

رفع حاجبيه ساخرًا وقال:

-وانتي إيه عرفك إني اكتفيت بيكي؟! 

ابتسمت ابتسامة مشوبة بالحنان والتحدي في آن واحد:

-نظراتك، كلامك، خوفك عليا، دايمًا واقف جنبي وفي ضهري، واوقات بحس إنك مبسوط بيا.

رفع كفها لفمه ثم قبل بحنو قبل أن يهمس بتساؤل  يغمره التعجب:

-مبسوط بيكي ازاي؟

كتمت ضحكتها وهي تخبره عن حماقة تفكيرها:

-فاطمة قالتلي إنك مبتخافش وبتنزل صورنا عادي على السوشيال، مخوفتش صورتك الاجتماعية عند البنات تتهز، غيرك يفضل محافظ إنه سينجل.

ابتسم يزن ابتسامة مائلة فيها مرارة، وقال:

-طيب بذمتك كل الكومبو ده ومستخسرة فيا أنام على كتفك شوية.

ضحكت بصوت عالٍ ثم اقتربت منه ببطء، فترك رأسه يستقر مجددًا على كتفها مستسلمًا، وأغلق عينيه بسلامٍ لم يعرفه منذ زمن، بينما أصابعه تعبث بكفيها وترسم دوائر عشوائية كأنه يكتب عليها قصيدة صامتة، لكن صمته لم يطل، إذ فاجأها بسؤال لم يخطر ببالها:

-سيرا، لو حورية صاحبتك كلمتك دلوقتي، وقالتلك إزاي تقبلي تتجوزي واحد زي ده بتاع بنات وكل الهري اللي هي بتقوله، هتقلبي عليا زي ما كنتي بتقلبي زمان؟

أطرقت رأسها قليلاً تفكر وتستعرض حديث حورية عنه واختفائها المفاجئ، ليتها كانت الآن تراه كم هو حنونًا وشجاعًا وخير السند والصديق والحبيب، فأجابته بنبرة واثقة: 

-انت قولت زمان...زمان مكنتش اعرف شخصيتك، 
ولا اعرف عنك حاجة، مشاعرك مكنتش واضحة، وكلامك كان بيديني كذا معنى، لكن دلوقتي فهمت وعرفت كل حاجة.

قال بنبرة منخفضة وعيناه تبحثان في ملامحها:

-عرفتي إيه؟

ابتسمت ابتسامة صغيرة وقالت:

-إنك بتحبني.

ضحك بمرارة خفيفة:

-حلو إن الواحدة تعترف بنفسها لنفسها ده مسهل حاجات كتير.

ابتسمت بشقاوة عاطفية:

-ليه هو أنا مش هسمعك وانت بتقولهالي؟ انت أصلاً المفروض لما تصحى الصبح تقول صباح الخير بحبك، وفي وسط اليوم بحبك، وفي آخر اليوم بحبك.

ضحك بقوة وهو يقول بسخرية:

-تلات مرات يعني، ده دوا مضاد حيوي ولا إيه؟

ابتسمت بمكر:

-مضاد للاكتئاب، عارف لو فضلت تقولها عمرك ما يجيلك اكتئاب.

أجابها ساخرًا:

-هو اللي يشوفك ويعرفك يعرف يعني إيه اكتئاب، ما شاء الله أنا كل يوم في مصيبة معاكي.

صفعته بكلماتها المعاتبة:

-اخص عليك يا يزن؟ يعني أنا معيشاك في مصايب.

ضحك ساخرًا مجددًا وهو يشاكسها:

-لا أبدًا انتي؟ انتي معيشاني في هنا وسعادة وفرفشة.

ابتعدت سيرا عنه فجأة، في حركة حاسمة لم يتوقعها فانزاح جسده بثقله على الأرجوحة، شعر بفراغٍ مفاجئ يسكن كتفه حيث كان يستند برأسه قبل لحظة عليها، فراغ يشبه انطفاء دفء مدفأة في ليلة باردة، فكان لا يزال يتلمس بعينيه ملامحها وهي تبتعد، يتأمل ارتباكها وفي قلبه خليط غامض من الأسى والامتنان لتلك المسافة التي فرضتها بينهما.

ورغم كل ما مضى من مغامراته العابرة مع الفتيات، ورغم تعدد الوجوه التي مرت في حياته كظل عابر، لم يكن يزن يومًا من أولئك الذين يهوون التواصل الجسدي، فكان الغزل عنده حروفًا، كلمات يصوغها بلسانه بخفة ماكرة، يتفنن في رميها على مسامعهن جميعًا بنفس النبرة ونفس الأسلوب، كأنهن نسخ مكررة من قصة لا تبعث في قلبه شغفًا حقيقيًا، فكان يعرف كيف يضحكن وكيف يسرعن بالانجذاب إليه، لكنه في داخله كان يظل غريبًا، يقف بعيدًا كأنه متفرج على مسرحية يؤدي فيها دورًا لم يصدقه يومًا...إلا سيرا، كانت شيئًا آخر تمامًا.

-طب اوعى بقى ومتكلمنيش تاني طالما أنا مش عجباك.

ونهضت مسرعة تلقي بكامل سخطها عليه، بينما ظلت كلماتها تتناثر في الجو مثل أوراقٍ سقطت من شجرة في الخريف، ظل يزن في مكانه يحدق في الفراغ وتنهد تنهيدة طويلة تشي بحبٍ أكبر من كل الكلمات ثم تمتم بصوتٍ متحشرج لا يسمعه سواه:

-هو أنا ورايا غير إني أحب فيكي.

تلك الحمقاء لم تعلم أنه لم يكن الغزل معها مجرد كلمات جوفاء، بل صار فعلًا ينبت في الجسد والروح معًا، معها لم يعد يكتفي بتلك الضحكات العابرة أو النظرات السطحية، بل وجد نفسه وللمرة الأولى يتوق إلى القرب الحقيقي، كانت أول فتاة تثير فيه رغبة أن يمد يده فيمسك يدها لا على سبيل المجاملة، بل على سبيل الحاجة، أول فتاة يجد في كتفها راحة، وفي حضورها ملاذًا.
                            
                            ****

في اليوم التالي...

جلست يسر في الصالون الفسيح لشقة أبلة حكمت، وقد غمرتها رهبة لم تستطع أن تخفيها، وذلك بعدما قررت أن تأتي لتطمئن على سيرا، وحين لم تجدها، وجدت نفسها مضطرة أن تسمع من حكمت رواية ما جرى، وما إن تسلسل الكلام حتى استدار الحديث نحو ما وقع بينها وبين حسناء ونوح أيضًا، فاشتعلت ملامح حكمت بلهيب الغضب، وارتفع صوتها فجأة يخترق جدران الصالون كما يخترق السيف لحمًا طريًا، وصاحت بعينين متسعتين تقدحان شررًا:

-يالهوي وسكتي وهي بتقولك كده يا ختي عادي، أنا لو مكانك كنت جيبتها من شعرها.

ارتجفت يسر كأن مقعدها الوثير صار نارًا تحتها، زفرت زفرة طويلة وكأنها تحاول طرد كابوس يخنق صدرها، كانت كلمات حكمت تثير في أعماقها رغبة دفينة بالانتقام، رغبة تنمو كشوكة سرية في قلبها، لكنها في الوقت ذاته تُقيدها بقيود الخوف، فرفعت رأسها ببطء وقالت بصوت متردد يقطر بعدم الرضا:

-مينفعش دي عيادته وشغله وكده هضر بنوح، وبعدين هي ممكن تعمل فيا حاجة وأنا حامل.

هنا اتسعت أنفاس حكمت كمَن يسمع حججًا واهية، فرمقتها بنظرة حادة وقالت بنبرة صارمة تُقطع الهواء كالسياط:

-بقولك إيه البت دي لازم تتربى وتشوف منك العين الحمرا على حق عشان متتعداش حدودها معاكي تاني.

تسارعت أنفاس يسر ووضعت يدها على بطنها في حركة غريزية تدل على قلقها، ثم اعترفت بصوت خافت يفضح ضعفها:

-نفسي والله بس قولتلك مينفعش، ونوح بردو متضمنش رد فعله...المهم قوليلي هنروح نشوف سيرا ولا لا؟

أطلقت حكمت تنهيدة طويلة متخمة بالامتعاض، وكأنها تحمل العالم على كتفيها، كانت تحتقر هذه السلبية التي تراها في يسر، تلك الاستكانة التي تجعلها عاجزة عن الدفاع لا عن زوجها فقط بل عن كرامتها أيضًا، فنهضت بخطوات حاسمة وبعينين تلمعان بالتصميم قالت ببرود متوتر:

-اه هدخل البس اهو.

خطت بضع خطوات نحو باب الغرفة، لكن فكرة ما ومضة في ذهنها فجعلتها تتوقف فجأة عند العتبة، استدارت ببطء وكأنها تحيك خيطًا جديدًا لمكيدة لم تولد بعد، وقالت بصرامة لا تقبل الرفض:

-بقولك تعرفي تجيبلي عنوان البت دي لغاية ما اخلص لبس؟

رفعت يسر رأسها بارتباك وأشارت برأسها نافية بعفوية، لكن هذه الإيماءة البلهاء لم تزِد حكمت إلا حنقًا، فعادت إلى غرفتها وهي تغلق الباب بقوة أرعدت جدران المكان، حتى شعرت يسر أن الضربة موجهة لصدرها هي.

مرت دقائق ثقيلة كالأعوام، خرجت بعدها حكمت وهي تعدل من حجابها بعناية، وقد بدا عليها ثبات العزم أكثر من أي وقت مضى، وجدت يسر تقف في منتصف الصالة، ثم رفعت هاتفها بخجل ولوحت به مزينة ارتباكها بابتسامة متوترة وقالت:

-جبته من سواق بيشتغل عند نوح، قوليلي عايزاه ليه؟

ارتسمت على شفتي حكمت ابتسامة شريرة، ابتسامة تحمل في طياتها وعدًا قاسيًا لا يعرف الرحمة، وقالت بصوت هادئ لكن كالنصل البارد:

-تعالي واتعلمي ازاي تدافعي عن حقك، وإن ماكسرتلك مناخيرها مبقاش أنا.

غادرتا البناية بخطى متسارعة، والهواء من حولهما مشبع بالتوتر، لكن القدر شاء أن تقف في طريقهما فاطمة التي هرعت إليهما لاهثة من شدة العجلة، حتى كادت أن تتعثر من اضطراب أنفاسها، وما إن رأت حكمت حتى قالت بصوت متقطع:

-أبلة حكمت...كويس إني لحقتكوا، سيرا قالتلي إنك رايحة ليها خديني معاكي.   

اقتربت فاطمة لتقبل يسر، فبادلتها الأخيرة المودة بعناق حار وقبلة صادقة، تحمل في طياتها حبًا وودًا حديثًا، وحين ابتعدت عنها رفعت عينيها لتجد حكمت تتفحصها بنظرة تقييم، لم تنطق بكلمة بل رفعت يدها وأوقفت سيارة أجرة، وأشارت لهما بصرامة أن تتبعانها.

اقتربت فاطمة من يسر وهمست في أذنها بفضول لا يخلو من القلق:

-هو في إيه؟ ده أنا توقعت تشتمني ومتاخدنيش ولا إنها توافق بالسهولة دي!

أجابت يسر بصوت مبحوح كمن يُلقي نبوءة مرعبة:

-في مصيبة ربنا يستر.

جلسن في المقعد الخلفي للسيارة، حكمت في المنتصف تمسك زمام الموقف كقائد معركة، وعيناها مثبتتان بشراسة وكأنها ترسم على الطريق خطة انتقام محكمة، لم يلبث أن اخترق فضاء السيارة صوت فاطمة بسؤال ساذج لكنه منطقي:

-طيب وافرض مكنتش موجودة في بيتها؟

أجابت يسر بسرعة محاولة أن تطمئن نفسها أكثر مما تطمئن فاطمة المسكينة:

-النهاردة الجمعة اجازة، وهي أكيد في بيتها.

لكن حكمت قطعت حديثهما بضحكة قصيرة ساخرة، ثم قالت بصوت ممتزج بالصرامة والتهديد:

-اهو محاولة لاقينها اخدت اللي فيه النصيب، مكنتش موجودة ربنا رحمها من تحت ايدي.

ارتجفت يسر وأسندت يدها على بطنها كمن يستشعر خوفًا مزدوجًا على نفسها وجنينها، ثم همست بارتباك:

-أنا خايفة!

ابتسمت فاطمة ابتسامة سوداء، كأنها تسخر من حظها العاثر الذي قذف بها وسط هذه العاصفة، وقالت بنبرة حزن:

-حقك يا حبيبتي.

حينها انقض صوت حكمت كالسوط، نهرتهما بصرامة لم تترك مجالًا لأي اعتراض، ثم أتبعت كلماتها بابتسامة غريبة تحمل لذة لا تُخفى في انتظار ساعة الانتقام:

-بس بطلوا كلام، مش عايزة اسمع حاجة تعكر مزاجي.
                          ****

كان يزن يقف في الحديقة الصغيرة التابعة للمنزل، والنسيم العليل يمر بين الأغصان البسيطة فيحركها برفق كأنه يلاعبها، بينما انشغل هو بمداعبة الصغير أنس بالكرة، فارتفعت ضحكات أنس ببراءة خالصة، عاكسة سعادته الكبيرة باللعب مع عمه يزن، إذ كان يركض خلف الكرة بحماس، ويقفز بفرح طفولي يُشيع في المكان جوًا من البهجة.

لكن هذا الصفو المرح لم يدم طويلًا، إذ اخترق الأجواء صوت حازم جاء من بعيد، صوت سليم الذي دوى في أذن الطفل بجدية قاطعة:

-أنس تعالى عايزك.

توقف الصغير عن الركض فجأة، وكأن أوامر والده أقوى من كل الألعاب، ثم التفت نحو يزن وهو يلهث قليلًا من فرط الجري:

-هروح اشوف بابا واجي احكيلك عن روني صاحبتي الجديدة.

ابتسم يزن ابتسامة ماكرة وانحنى قليلًا حتى صار في مستوى الصغير، ثم همس له بنبرة ساخرة تحمل في طياتها شيئًا من المزاح الممزوج بالجد:

-لا تحكيلي إيه مش أنا توبت.

انعقد حاجبا أنس الصغير، وظهرت على وجهه ملامح الدهشة البريئة، وكأنه يحاول أن يفك شيفرة كلمة لم تدخل بعد قاموس طفولته، رفع رأسه نحو يزن متسائلًا بجدية طفولية لا تعرف حدودًا:

-توبت عن إيه يا عمو؟ مفهمتش!

ضحك يزن ضحكة قصيرة، ثم أجابه ببساطة شديدة وعيناه تشردان قليلًا كأنهما تسترجعان مواقفه مع سارقة قلبه وعقله:

-لما تكبر وتبقى زيي وتخطب واحدة زي طنط سيرا، هتعرف يعني إيه توبت.

وقف أنس يفكر بعقل صغير لم يدرك بعد معاني الخيبة أو الحنين، ثم غمغم متعجبًا وهو يميل برأسه:

-يعني طنط سيرا قالتلك ماتكلمش بنات غيرها؟

ارتفعت ضحكات يزن، ثم أومأ برأسه نافيًا وهو يقول بمرح هادئ، يخفي بين طياته مرارة لا يفهمها طفل:

-لا دي كرهتني في صنف البنات كلهم، متشغلش بالك بالكلام ده دلوقتي، انت وراك مهمة يا بطل مع أبوك الشرير.

هنا بدت ملامح أنس جادة وهو يدافع عن والده دفاعًا بريئًا يفيض بالحب:

-بابا مش شرير، بابا ده عسل.

أطلق يزن ضحكة ساخرة، ثم ربت على كتف الصغير بحنان قائلاً:

-عسل معاك انت وماما وقمر، لكن معانا احنا شرس.

رفع أنس رأسه بدهشة أكبر، وعيناه تلمعان بحب والده الذي لا يعرف فيه قسوة، وتمتم بتساؤل لم يخطر على باله أن يسمعه:

-بابا؟

اقترب يزن أكثر وابتسم ابتسامة تحمل في عمقها طيفًا من السخرية والحنق ثم همس:

-ايوه يا أنس ده عدو فرحتي، يشوف فرحتي فين ويبوظها.

فتذكر يزن أنه منذ الصباح الباكر لم يستطع أن يجتمع بـ سيرا ولو للحظة قصيرة، إذ كان سليم حاضرًا في كل مكان كظله الثقيل، حتى خطر في بال يزن أنه قد يجده واقفًا أمام دورة المياه أو جالسًا في صحنه الذي يأكل فيه! وجوده الدائم جعله عاجزًا حتى عن أن يرمش جفنه إلى حيث تجلس سيرا، أو أن يسرق لمحة من عينيها التي تشتاق إليها روحه أكثر مما تشتاق الصحراء إلى المطر، فكان قلبه يتأجج بالشوق ويضج برغبة جامحة في أن يختطفها بين ذراعيه ويفر بها بعيدًا عن أعين الجميع، لكنه كبح نفسه بجهد، وقرر أن يؤجل ذلك إلى المساء حيث يكتمل خيط خطته المرسومة بعناية.

وفيما كان غارقًا في دوامة أفكاره، انتبه فجأة إلى وقع خطوات خلفه فالتفت ليجد دهب تقف حاملة فنجان قهوة بين يديها، كانت نظراتها مترددة لكنها حاولت أن تغلف صوتها بالنعومة حين قالت بنبرة تكسوها دلع مقصود:

-عملتلك فنجان قهوة.

رمقها يزن بضيق واضح، وقد انعقد ما بين حاجبيه علامة نفور من تصرفها الذي اعتبره تدخلًا في مساحة لا تخصها ثم أجاب بصرامة قاطعة:

-ارميه، مبحبش القهوة.

لم تيأس بل حاولت مجددًا وهي ترفع الفنجان قليلًا تجاهه كأنها تغريه بقبوله:

-ليه بس، طيب دوقه عشان خاطري؟

أدار وجهه عنها ثم عاد ينظر إليها نظرة جامدة خالية من أي تعبير، وأجاب ببرود مُتعمد ثم أردف بكلمات حملت قصدًا خفيًا لتذكيرها بحدودها معه:

-قولتلك مبحبهوش، هي سيرا فين؟

تشنجت ملامح دهب فجأة، كمن تلقى صفعة خفية، وقالت بامتعاض لم تحسن إخفاءه:

-هو أنا كل ما اقف معاك تسأل على سيرا؟

ابتسم يزن بسخرية باهتة ورد بجملة قاطعة:

-امال أسال على مين؟ عليكي؟ طبيعي اسال عليها؟

-ليه طبيعي؟

ابتسم بفتور ثم أطلق إجابته كالسهم المباشر:

-يمكن عشان هي مراتي؟!

اتسعت عيناها بدهشة غير مصدقة، ثم قالت وهي تكاد تختنق بضحكة عصبية:

-مراتك؟ انتوا لسه كاتبين الكتاب.

ارتسمت على ملامح يزن علامات الضجر، فقال بنبرة حادة لم تخلُ من التوبيخ:

-انتي بتتدخلي في أمور أكبر من سنك ليه يا دهب؟ انت يخصك في إيه مراتي ولا كاتبين الكتاب!!

أطرقت للحظة ثم رفعت رأسها لتسأله بجرأة عفوية:

-هو انت بتحبها لدرجادي؟!

تضايق من سؤالها المباغت فشدد على كلماته بحدة:

-هي مين؟

همست بخجل متردد لكن الفضول غلبها:

-خالتو سيرا.

-اممم خالتك... رغم إنها حاجة متخصكيش، بس اه بحبها امال كتبت كتابي عليها ليه؟!

ارتبكت دهب وتشبثت بخيط وهمي أخير لتثبت لنفسها شيئًا ما، فقالت بتلعثم:

-مش عشان تنقذها من الفضيحة؟

ارتفع صوت يزن فجأة وفيه تحذير واضح:

-دهب!

-دهب

ارتعدت أنفاسها وتجمدت أطرافها في مكانها، ثم التفتت ببطء شديد، كمن وقع في الفخ الذي كانت تخشاه، تجمدت عيناها على سيرا الماثلة أمامها بملامح صارمة تشتعل بالحنق، فيما انحدرت نظراتها برجاء بائس نحو يزن، وكأنها تتوسل منه أن ينتشلها من هذا الموقف الحرج الذي علِقت فيه!!
كانت حسناء على وشك الدخول للنوم فهذا اليوم هو يوم أجازتها، ولكن حين سمعت طرق خفيف على باب شقتها....طرق بالكاد يُسمع، لكنه كان كافياً ليجعلها تتوجس، فاقتربت بخطواتٍ مترددة، وحين فتحت الباب وجدت أمامها يسر، فارتسمت على وجهها علامات الدهشة ثم ارتسمت ابتسامة ساخرة على شفتيها قبل أن تتنهد بلهجةٍ مريبة وقد بدت وكأنها تمثل المفاجأة، فقالت بنغمةٍ مصطنعة وهي ترفع حاجبيها بدهشة متكلفة:

-يا خبر مدام يسر، نورتي!

لكن يسر لم تبتسم بل ظلت تحدق فيها بجمودٍ يشوبه الحذر، وسرعان ما التقطت حسناء بعينيها شيئاً آخر…فقد انتبهت لوجود سيدة تقف خلف يسر، تتخذ وضعية الحارسة، تراقبها بنظراتٍ قاسية تمتلئ بالشر والحقد، ارتبكت قليلاً وشعرت بنبضها يتسارع، ومع ذلك حاولت أن تحافظ على تماسكها، فتساءلت بنغمةٍ حاولت أن تبدو باردة:

-اقدر اعرف إيه سر الزيارة الكريمة دي؟

لكنها لم تكن تتوقع الجواب بهذه السرعة، فقبل أن تنهي جملتها دفعتها حكمت دفعة قوية وهي تقول بنبرةٍ تهكميةٍ حادة:

-هنتكلم على الواقف كده يا حبيبتي؟ ولا انتي عديمة النظر وقليلة الذوق؟!

اتسعت عينا حسناء دهشةً وتراجعت خطوةً إلى الخلف وقد ارتسمت على وجهها ملامح الصدمة من اقتحامهما المفاجئ، ثم نهض فيها الغضب،
فصرخت بعصبية:

-انتي جاية تشتميني في بيتي يا ست انتي؟ ما تشوفي البلوة اللي انتي جايبها دي يا مدام يسر!

فجاءها الرد من حكمت بلهجةٍ نارية:

-بلوة لما تلهفك يا حرباية، ياللي مالقتيش حد يريبكي.

ارتبكت يسر من اندفاع حكمت العنيف، وحاولت أن تهدئ من حدة الموقف لتستفز حسناء بأسلوبٍ آخر، فتقدمت منها بخطواتٍ محسوبة ونظرت إليها بعينين تشتعلان حدة، ثم قالت بنغمةٍ هادئة ولكنها مشحونة بالتهديد:

-خليكي معايا أنا يا حسناء، أنا جايلك بنفسي عشان أشوف أخرتك إيه؟

ضحكت حسناء بصوتٍ عالٍ ملؤه الوقاحة والاستهزاء، ضحكة جعلت الدم يغلي في عروق حكمت التي بدأت تبحث بعينيها عن شيءٍ ترميه بها، ثم صاحت حسناء بلهجةٍ مليئة بالغرور:

-أخرتي معروفة، انتي بس اللي مش مالكة الدكتور في ايدك، فجاية لغاية عندي تتطمني، بس أنا بقولك اهو اوعي تتطمني أبدًا.

ارتسمت على ملامح يسر نظرات التحدي، واقتربت أكثر حتى تلاشت المسافة بينهما، متناسيةً تحذير حكمت من أن تقترب كثيراً، وقالت بنبرةٍ لاذعة وقد تخللت كلماتها سخرية جارحة:

-اوقات بتصعبي عليا يا خنفسه انتي، وفاكرة إنك ممكن تهدديني، أو فاكرة بعقلك المريض إنك هتاخدي مكانتي عند نوح، على رأي ابلة حكمت إيش جاب الهانم لمسّاحة السلالم.

ثم أنهت حديثها بإشارةٍ ازدرائية مقصودة، فاشتعلت نيران الغيظ في عيني حسناء التي صرخت بغضبٍ أعماها عن التفكير واندفعت نحوها بعنف وهي تصيح:

-أنا مسّاحة سلالم يا بنت الـ **** ده أنا هوريكي.

ارتطمت يسر بخزانةٍ خشبيةٍ قديمة خلفها، فصدر صوت مكتوم لاصطدامها، وارتسمت على وجهها آثار الألم الشديد، فرفعت يدها تمسك بطنها المنتفخ وهي تلهث بخوفٍ ووجعٍ واضحين.

أما حكمت فكانت قد شهقت من هول ما رأت، ثم رفعت حاجبها وقد اشتعل الغضب في ملامحها، فشمرت عن ساعديها استعداداً للانتقام، وقالت بسخريةٍ قاتمة:

-ده انتي قلبك قوي بقى يا بت؟

التفتت إليها حسناء وقد اشتعل وجهها ازدراءً، فصرخت بسخريةٍ لاذعة:

-انتي مأجرها من انهي داهية دي؟

لكن حكمت لم تمهلها كثيراً، انقضت عليها بجسدٍ صلبٍ وذراعين قويتين، وأمسكت بخصلات شعرها الذهبية المصبوغة بعنف، تشدها يميناً ويساراً وهي تقول من بين أنفاسها الساخنة:

-مأجراها، انتي مش واخدة بالك من الشياكة ولا إيه ولا الدهب اللي لابساه؟!

صرخت حسناء بألمٍ وهي تحاول التملص من قبضتها:

-اوعي يا ولية يا قرشانة انتي احسنلك.

لكن التهديد لم يُخف حكمت، بل دفعها أكثر فدفعتها بقوةٍ نحو الأريكة خلفها، فسقطت حسناء بعنفٍ واعتلتها حكمت بثقل جسدها، وأطبقت عليها كما تُطبق اللبؤة على فريستها، توالت الصفعات واللكمات في أنحاء متفرقة من جسدها، وحكمت تضحك من بين لهاثها وهي تمزق خصلات شعرها بلا هوادة، وتصيح بسخريةٍ مريرة:

-ده شعر حقيقي ولا بلاستيك وباروكة يا نص كم انتي، ياللي متسويش في سوق النسوان تلاتة تعريفة.

كانت صرخات حسناء تتعالى، والدموع تختلط بالعرق على وجهها بينما يسر تحاول استجماع قواها لتتدخل، فنهضت بخطواتٍ مرتعشة، وسحبت حكمت من كتفها وهي تقول بصوتٍ متعبٍ مبحوح:

-يلا يا أبلة، خلاص هي اخدت اللي فيه النصيب.

توقفت حكمت وهي تلهث من شدة الانفعال، ثم نهضت ببطء وهي تنفض ثوبها كمن انتهى من معركةٍ طويلة، وقالت بنبرةٍ حادة مليئة بالتحذير:

-انتي يا بت وربنا لو فكرتي تعترضي لستك وتاج راسك انتي  واهلك يسر هانم، لكون جاية ضاربكي انتي واهلك، علقة مخدهاش حمار في مطلع.

ثم سحبت يسر من يدها بعنفٍ وهي تقول:

-يلا بينا، قبل ما نلاقي نسوان الحارة جايين فوق دماغنا.

كانت يسر تحاول اللحاق بها بصعوبة وهي تتنفس بصعوبة وتقول:

-استني يا أبلة...مش قادرة!

لكن حكمت لم تتوقف بل أجابت بلهجةٍ لاهثة وهي تسحبها أكثر:

-يلا يا ختي عالله تكون فاطمة افتكرت أنا قولت إيه!

وحين خرجتا كانتا قد وجدتا فاطمة جالسة في سيارة أجرة قد أوقفتها بعد حوالي عشر دقائق منذ صعودهما وفقاً لتعليمات حكمت، فكانت فاطمة قد اعترضت سابقاً على أن يتركهما السائق الذي أحضرهما، ولكن حكمت زمجرت بعنف خوفاً من أن يأخذ أجرة زائدة وأقنعتهما بالاقتصاد، فالتزمت فاطمة بالنصيح وتمكن الثلاثة من مغادرة الحي دون ضجيج.

أدارت فاطمة وجهها إلى الخلف متفقدة يسر وسألتها بقلق:

-انتي كويسة يا يسر؟

هزت يسر رأسها بتعب وهي تبحث في حقيبتها عن دوائها:

-اه شوية مغص بس هخد دوا التثبيت وهكون كويسة؟

نظرت إليها حكمت باستغرابٍ صادق وسألت:

-تثبيت ايه؟  انتي مش في الشهر التامن؟

ابتسمت يسر بخفوتٍ وهي تفتح الدواء:

-في اوله لسه، والدكتورة هي اللي مشياني عليه، بس المهم يا ابلة هي ليه البت دي متحركتش ورانا وسابتنا نخرج عادي كده؟

ارتسمت على وجه حكمت ابتسامةٌ ماكرة، ثم قالت وهي تميل نحوها:

-عشان تثبت حالة عند جوزك، وتعزز من موقفها قدامه ويبان انها المظلومة!

اتسعت عينا يسر بقلق واضح، وضربت بيدها على ساقها قائلةً بلهجةٍ مرتجفة:

-يا نهار اسود، كده نوح هيخرب الدنيا فوق راسي.

رفعت حكمت حاجبيها وقالت بنغمةٍ هادئةٍ لكنها حادة كالسكين:

-مش انتي الايام اللي فاتت كنتي بترخي، جه الوقت تشدي عليه لو جه كلمك ووريله العين الحمرا.

أجابت يسر بقلقٍ حقيقي:

-حمرا؟ انتي ماتعرفيش نوح في عصبيته، ربنا يستر.

هزت حكمت رأسها بضجرٍ وهي تتمتم:

-ستات فاشلة مش عارفة تحكم جوزها!!

تنهدت يسر بألمٍ وهي تبتلع دواء التثبيت، متجاهلة الوجع الذي كان يطرق بطنها بين الحين والآخر...والقلق الذي بدأ ينهشها في صمتٍ أشد من كل الصراخ.

                                 ***
في منزل الشعراوي.

غادرت دهب الحديقة مسرعةً بعد أن وبختها سيرا بعنف لم تعهده منها من قبل، لم تنطق بكلمة واحدة واكتفت بانحناءة خفيفة للرأس، تخفي خلفها انكسارًا صغيرًا في ملامحها الطفولية، كانت خطواتها فوق أرض الحديقة أشبه بصدى خافت يتوارى خلفه حقد لم يُقل، أما يزن فظل صامتًا تمامًا يراقب المشهد بعينين تحملان مزيجًا من الغموض والدهشة، لم يُعلق ولم يُعقب بل اكتفى بنظرةٍ طويلةٍ إلى سيرا...نظرةٍ لم تفهم معناها تمامًا لكنها شعرت بأن هناك خطب ما!!

كانت سيرا تحاول أن تُبرر انفعالها أمامه، تُقنع نفسها قبل أن تُقنعه بأن ما فعلته لم يكن قسوة، بل تصرفٌ تربوي تفرضه الضرورة ضد تدخلات دهب الفضولية من وجهة نظرها...فقالت في تبريرٍ مرتبك:

-معلش يا يزون متاخدش على كلامها هي دهب كده فضولية شوية، صغيرة حقك عليا.

لكنها كانت تدرك في أعماقها أن ما رأته في عيني دهب لم يكن فضولًا مراهقًا، بل انجرافًا بريئًا نحو إعجابٍ حقيقي بيزن!!!

زفر يزن بحدة وقد ارتسم على ملامحه ضيق واضح، فكان أكثر ما يكرهه هو التعامل مع تلك الفئة من المراهقين الذين تندفع مشاعرهم بلا وعي، كأنهم أوراق في مهب الريح، ومع ذلك حين وقفت سيرا أمامه، بعينيها المتوسلتين ونظراتها المليئة بالرجاء، شعر بأن كل ما في قلبه من ضيق قد تلاشى كالدخان.

اقترب منها بخطوات بطيئة تملؤها الثقة والدفء، ثم رفع يده يمدها برفق نحو وجهها، ليداعب خديها بحنان ظاهر في كل لمسة ثم همس مبتسمًا بنبرة أقرب إلى العشق:

-انتي حلوة كده ازاي؟

ارتبكت وبدت على وجهها علامات الخجل الجميل، فابتعدت قليلًا وهي تنظر يمينًا ويسارًا لتتأكد من خلو المكان من الأعين المتطفلة، ثم عادت إليه بخطوات حذرة يتقدمها خجل وابتسامة تنضح إعجابًا صادقًا، وهمست بصوتٍ مرتجفٍ:

-حلوة كده عشان بس عرفت اختار صح، وحبيت راجل كل الناس بتحسدني عليه.

لم يتمالك يزن نفسه من الدهشة، إذ لم يجد في ذهنه سوى الجملة الشهيرة لفؤاد المهندس في فيلم عائلة زيزي...."المكنة طلعت قماش" 
فابتسم بعفوية وأشار إلى نفسه بحماقة وهو يقول بدهشة طفولية:

-انتي بتقوليلي أنا الكلام ده؟

هزت رأسها بقوة وهي تتلاعب بأطراف أصابعها خجلًا، كأنها تخفي في حركتها اضطراب مشاعرها، وفي تلك اللحظة جذبها يزن نحوه بخفة، قبل أن تطلق شهقة صغيرة، ليحتضنها برفق يفيض دفئًا، وهمس قرب أذنها بصوت خفيض مليء بالوعود:

-النهاردة أنا محضرلك مفاجأة حلوة اوي بس بعد ما كله ينام.

رفعت رأسها نحوه بفضول صادق، وفي عينيها بريق من اللهفة والدهشة:

-مفاجأة إيه؟

قبل رأسها بحنو وهو يهمس بوعد صادق:

-وهتبقى مفاجأة ازاي؟! بس اوعدك هتفرحي بيها اوي.

لكن اللحظة التي بدت وكأنها تنتمي لزمن خارج العالم، انكسرت على صوت حاد قادم من الأعلى:

-سيرا.

كان صوت سليم يحمل صرامة اعتادتها مؤخرًا، فانتفضت كما لو أنها أمسكت بجرم لا يُغتفر، وابتعدت عن يزن بعنف وهي تهتف بارتباك مرتعد:

-ايوه يا أبيه؟ حاضر اهو جاية!

تراجعت بخطوات سريعة مرتبكة، وفي اندفاعها المفاجئ ارتطم يزن بظهره بالمزهرية الكبيرة خلفه، فسقطت متشققة على الأرض وتناثر التراب على أطراف سترته، فظل يحدق فيها بدهشة بالغة، لا من سقوطه بل من خوفها الزائد من سليم، ذاك الخوف الذي لم يكن مبررًا في نظره.
                            ****
انتهى اليوم أخيرًا بزيارة حكمت وفاطمة ويسر إلى سيرا في منزل الشعراوي، فكانت الجلسة في بدايتها هادئة نسبيًا، لكن سرعان ما تحولت إلى ساحة من التعليقات المتلاحقة والتدخلات اللامتناهية من حكمت، التي لم تدع أحدًا يتنفس دون أن تبدي رأيًا أو ملاحظة، حتى أن سليم الذي اعتاد الصبر والتغاضي، اضطر في نهاية المطاف إلى ترك حراسته لسيرا والصعود إلى الطابق العلوي بعدما استنفدت السماء حلولها مع تلك المرأة، وكأن وجودها كفيل بإشعال الجدال في أي مكان تطأه.

أما يزن فكان يجلس في الركن المقابل متكئًا على الأريكة، يراقب المشهد بعينين لامعتين تفيضان بالمرح الخبيث، فكان يستمتع سرًا بكل لحظة تضايق فيها حكمت أخاه الكبير، ولم يفت عليه أن يضيف بين الحين والآخر تعليقًا ساخرًا يزيد من حدة الموقف، فيزداد سليم ضيقًا وتزداد حكمت ثرثرةً، فيما تحاول سيرا وسعها كبح ذلك الطوفان من الكلمات.

انتهت الزيارة أخيرًا بعد ساعات من الجدل الذي لم يُثمر سوى الصداع، وغادرت يسر المنزل وهي تشعر بإرهاقٍ عجيب يثقل أنفاسها، لم تكن في أحسن حالٍ منذ الصباح، ومع ذلك أجبرت نفسها على التماسك أمام نوح الذي أصر على إيصالها بنفسه من منزل يزن إلى منزل والدها، وقد بدا عليها الارتياح لمرافقته، إذ كان لطيفًا إلى درجةٍ تثير الامتنان، كان يتحدث معها بصوتٍ هادئ، يمازحها أحيانًا ويطمئن عليها كثيرًا، وكأنه يخشى أن يتركها للحظة دون أن يتأكد من كونها بخير.

ابتسمت له يسر بحنو ممتنة لاهتمامه وملاطفته، غير أن الألم الذي بدأ يطرق أسفل بطنها جعل ابتسامتها تتبدد، شعرت بانقباضٍ حاد يجبرها على الانحناء قليلًا، فشدت الغطاء فوق جسدها فور عودتها إلى غرفتها، وعضت على شفتيها تكتم أنينها، تهمس في قلبها دعاءً واحدًا...أن تمر هذه الليلة بسلام، وألا تخسر جنينها الذي صار محور حياتها وسبب خوفها الأكبر.

وفي تلك الأثناء كان نوح يقود سيارته عائدًا إلى منزله، حاول أن يسترخي قليلًا لكن صوت هاتفه الذي عاد إلى الرنين مجددًا أفسد سكينته، نظر إلى الشاشة بتبرم فمط شفتيه عندما رأى اسم "حسناء" يلمع أمامه، لقد كانت تتصل به منذ الصباح عشرات المرات وهو يتجاهلها عمدًا، فلم يكن في مزاجٍ يسمح له بالدخول في نقاشٍ معها، لكن إصرارها المستمر أثار شكوكه فقرر هذه المرة أن يجيب ليعرف ما الذي يدفعها لمطاردته هكذا.

رفع الهاتف ووضعه على أذنه قائلًا بنبرة ضجر واضحة:

-الو في إيه يا حسناء، ما انتي عارفة أنا يوم الاجازة ما بحبش ارد على حد!

لم يصله الرد فورًا بل سمع أولًا صوت بكاءٍ خافت ضعيف النغمة، ثم انساب صوتها المتهدج كطعنة مفاجئة تخترق صمته:

-أنا قولت اكلمك قبل ما اعمل محضر في مدام يسر، أنا عملت للعيش والملح اللي ما بينا الاول.

تجمدت ملامحه وانعقد حاجباه بقلقٍ فوري، ثم أوقف السيارة على جانب الطريق بقوة حتى صرت العجلات صريرًا حادًا، ارتفع صوته متهدجًا وهو يسألها:

-يعني إيه تعملي محضر في يسر؟ 

تنهدت من الجهة الأخرى بصوت مبحوح قبل أن تقول بانفعال متصنع:

-مدام يسر مراتك جابت واحدة بلطجية النهاردة البيت عندي واتعدوا عليا بالضرب وهددتني وشتمتني، أنا كان ممكن انزل اعمل فيها محضر بس كبرتلك الاول.

قبض نوح على المقود بقوةٍ حتى ابيضت أنامله، وصوته حين خرج كان متصلبًا بجمودٍ ممزوج بالغضب:

-انتي واعية بتقولي إيه؟ يسر استحالة تعمل كده؟!

-روح اسألها ومش هتنكر يا دكتور، كتر خيرك مكنش العشم، أنا هنزل حالاً وهتصرف واخد حقي بطريقتي.

انتفض قلب نوح خوفًا من تفاقم الموقف، فسارع لإيقافها بلهجة حاول أن يجعلها حادة لكن متماسكة:

-لا لا... خلاص استني مقصدش على فكرة، أنا هكلمها واشوف عملت كده ليه؟ 

ثم أضاف بصوت أكثر هدوءًا وهو يضغط على نفسه كي يبدو متفهمًا:

-خلاص اهدي وماتعيطيش، اديني وقت اكلمها الاول.

-خد وقتك يا دكتور، أنا أستحالة أكذب عليك في حاجة، ولا عمري سببتلك مشكلة، بس في المقابل أنا بتهان كل مرة من مدام يسر.

ساد الصمت للحظة بينهما ولم يسمع نوح فيها إلا أنفاسه المتلاحقة وصوتها المتقطع من الجهة الأخرى، شعر أن الأرض تميد تحته، فكل خيط من كلامها يزرع في صدره شكًا جديدًا، هل يمكن أن تكون يسر قد فعلت ذلك فعلًا؟ أم أن هناك لعبة أخرى تُحاك في الخفاء؟

أغلق الهاتف أخيرًا لكنه ظل ممسكًا به بين يديه، يحدق في الشاشة وكأنها تحمل الإجابة، داخل صدره اشتعلت نار من الحيرة، وفي رأسه بدأت تتصارع الصور والاحتمالات، فقرر العودة إلى حيث منزل والد يسر ليقطع الشك باليقين.
                              ****

طرق الباب طرقاتٍ خفيفة ثم انتظر برهةً حتى فُتح الباب، فظهرت والدة يسر وهي تنظر إليه بدهشة يكسوها القلق من حضوره المفاجئ، تحامل على نفسه ورسم ابتسامة هادئة تخفي خلفها ضجيجًا داخليًا عارمًا، فقال بأدب متكلف:

-ممكن ادخل جوه ليسر ثواني، أسالها على حاجة؟

رمقته بنظرةٍ حائرة ثم همست بفضول امتزج بالقلق:

-انت كويس يا ابني؟ 

أجابها وهو يزفر تنهيدة ثقيلة:

-اه بس عايزاها في حاجة ضروري.

ترددت قليلًا.ثم تنحت جانبًا لتفسح له المجال، عبر نحو غرفة يسر بخطوات سريعة، وفتح الباب دون أن يطرقه ثم أغلقه خلفه، فوضعت والدتها يدها على صدرها بخوفٍ وهي تتابع دخوله في ارتباك.

في الداخل كانت يسر ممددة على الفراش تتنفس بصعوبة، تمسد فوق بطنها محاولة تهدئة الألم الذي خلفته تلك الاندفاعة التي تلقتها من تلك الحقيرة حسناء، ولكنها انتفضت فور دخول نوح المفاجئ، ونظرت إليه بعينين يملؤهما القلق والاستفهام:

-نوح، انت بتعمل إيه هنا؟

اقترب منها خطوةً والضيق يتكاثف في ملامحه، ثم خرج صوته مشحونًا بالغضب المكبوت:

-انتي روحتي لحسناء النهاردة؟

تحولت ملامحها القلقة إلى ملامح هجومية، واقتربت خطوة أخرى غير عابئة بما يدور في صدره:

-اه، هي قالتلك، أنا قولت بردو مش هتسكت!

اتسعت عيناه بدهشة عميقة وقلص المسافة بينهما ثم قال بشراسة خافتة:

-انتي روحتي ضربتيها؟ وأجرتي بلطجية!! بجد عملتي كده يا يسر؟

دفعت يده عنها بغضبٍ مكتوم، وقالت وهي تضغط على أسنانها بغيرة طاغية أعمتها عن إدراك مشاعره الحقيقية:

-لسه بتخاف عليها ومش قادر تستحمل عليها الهوا!!

قبض على مرفقيها بعنفٍ وهدر صوته مبحوحًا من شدة الانفعال:

-أنا خايف عليكي انتي! هي ماتفرقليش في حاجة يا يسر، انتي اللي تهميني، افهمي بقى.

كان يهزها بعنف والقلق يكسو نظراته التي تفترس ملامحها خوفًا عليها، فأجابته بصوتٍ واهنٍ تتقطعه الدهشة:

-خايف عليا في إيه؟ آآ...آنا....

لم يُمهلها الرد بل جذبها إلى صدره بقوة، يشد ذراعيه حول خصرها بارتجاف ظاهر وهو يقول بلهفة غلبتها الرهبة:

-خايف تأذيكي، حاولت ابعدها عنك، تقومي تروحي برجيلك يا يسر.

ثم ابتعد عنها قليلًا يلامس وجهها بأنامله المرتجفة وملامحه مشتعلة بالعتاب:

-افرض كانت آذتك يا يسر؟ أنا كنت هعمل إيه؟ حرام عليكي اللي بتعمليه فيا ده.

حاولت تهدئته فوضعت كفيها على وجنتيه وهمست بحنو عميق:

-أنا كويسة يا نوح ومحصلش حاجة، وبعدين أنا مأجرتش بلطجية دي أبلة حكمت اخت سيرا، وأنا روحتلها عشان تبعد عنك.

أجابها بعصبيةٍ مفعمة بالصدق:

-تبعد ولا تقرب، قولتلك هي متفرقش معايا أبدًا يا يسر، انتي اللي مهمة، أنتي لو كان حصلك حاجة، أنا كنت دخلت فيها السجن ومترددتش لحظة.

اشتدت آلام بطنها فجأة، فتقلص وجهها من شدة الألم، ورغم محاولتها التركيز في حديثه، إلا أن صوتها خرج متقطعًا وهي تصرخ بانفعالٍ موجع:

-اه مش قادرة..

ثم مالت بجسدها إلى الأمام، تتشبث بقميصه محاولةً تمالك نفسها فيما وقف نوح مذهولًا، يمد يديه نحوها في فزعٍ مكتوم...

                             *****

دخل الجميع غرفهم بعد ليلة طويلة، صعد سليم مع عائلته إلى شقته بعدما اطمأن إلى أن سيرا قد دخلت غرفتها لتنام مع دهب ابنة اختها، أما زيدان ومليكة فقد اختصرا تلك السهرة منذ بدايتها، خصوصًا بعد حضور أبلة حكمت، فوجودها وحده كان كافيًا لانتزاع أي قدر من الصبر أو الهدوء لديه، فلم ينجح مجرم ولا رئيس عصابة من قبل في استفزازه كما تفعل تلك السيدة!

أما في غرفة سيرا كانت تتابع أنفاس دهب المنتظمة وهي تغط في نوم عميق، وما إن اطمأنت إلى نومها حتى نهضت بخفة على أطراف أصابعها، تستعد لتنفيذ ما وعدت به يزن في رسالته الأخيرة.

ارتدت سروالًا أسود ضيقًا وسترة واسعة داكنة اللون يتدلى من خلفها قلنسوة كبيرة، خبأت تحتها حجابها بعناية، بدت كظل متحرك وهي تتسلل خارج الغرفة، تتلفت خلفها تارةً وحولها تارةً أخرى، حتى وصلت أخيرًا إلى الملحق الجانبي للمنزل حيث تترك به السيارات.

لكنها توقفت فجأة وقد عقدت الدهشة حاجبيها؛ إذ وجدت يزن جالسًا داخل سيارة سليم، لا في سيارته المعتادة! اقتربت بقلق وطرقت على الزجاج بخفة، فمال بجسده وفتح الباب، لتقع عيناه عليها وهي في تلك الهيئة الغريبة فضحك ساخرًا وقال بنبرةٍ مازحة:

-إيه ده يا سيرا، انتي عاملة في نفسك كده ليه؟

زفرت بضيق وهي تجلس إلى جواره، تزيح القلنسوة عن رأسها وتهمس بعصبية طفيفة:

-كنت بهرب زي ما قولتلي!

رمقها للحظة وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة مائلة، ثم اقترب منها بوقاحة خفيفة يجذبها نحوه ويغمز بعينيه ليشاكسها قائلًا:

-جاهزة عشان اخطفك.

تراجعت عنه بخجل ظاهر وهمست بارتباك:

-يزن، أنا مش هتحرك من هنا إلا لما تقولي ناوي تعمل إيه؟

هز رأسه بيأس مصطنع وتجاهلها تمامًا، ثم أدار المحرك بثقة غامضة، فقد ساعدته شمس في سرقة مفاتيح السيارة من دون علم سليم، لتكتمل مغامرته الجنونية.

تشبثت سيرا بمقعدها وهي تهمس بقلق حقيقي:

-يزن، بلاش جنان، ارجع البيت عشان محدش يشك فينا.

لكنه لم يُصغِ إليها بل مد يده وأعاد القلنسوة على رأسها حتى غاب وجهها عن الأنظار، ثم ضغط زر تشغيل الموسيقى، لتعلو من السماعات أغنية كايروكي "ساموراي"، فابتسم بصفاءٍ غريب وقال بهدوءٍ يخفي وراءه الكثير:

-تعرفي تستمعي.

رمقته بنظرة مترددة تحمل مزيجًا من الريبة والفضول، بينما كان هو يردد كلمات الأغنية بصوتٍ خافت وراحة غير معهودة، يقود بسرعة جنونية على الطريق، فيما كانت هي تتشبث بالمقعد بكل خوفها… وكل دهشتها.

                              ****

في إحدى المستشفيات الاستثمارية، كانت يسر تبكي بهلع وهي تمسك بطنها بكلتي يديها، يغمرها خوف غريزي على جنينها الصغير، حيث قرر الأطباء إجراء الولادة المبكرة، رغم أن حملها لم يتجاوز أوائل الشهر الثامن.

هزت رأسها رافضةً القرار والدموع تتساقط على وجنتيها وهي تقول بتوسل مرتجف:

-لا ادوني مثبتات، أنا هستحمل، نوح قولهم حاجة.

اقترب منها نوح بخطوات مثقلة بالقلق، وجلس إلى جوارها يربت فوق رأسها بحنان متوجع، وأغمض عينيه محاولًا أن يخفي اضطرابه، ثم همس بصوتٍ مبحوح من شدة الخوف:

-اهدي يا يسر، ده في مصلحتك ومصلحته يا حبيبتي.

نظرت نحوه بعينين غارقتين في الدموع، ثم تحولت بأنظارها إلى والديها برجاءٍ وذعر، وقالت بصوت متقطع يخنقه البكاء:

-أنا هيجرالي حاجة لو جراله حاجة، يا بابا عشان خاطري قولهم حاجة.

فرك والدها وجهه بكفيه في حيرة وحزن، يحاول أن يهدئها بعبارات متعثرة بينما كانت حالتها تتدهور أكثر، ترفض اقتراب الممرضات منها، وتتشبث بغطاء السرير كمَن يتشبث بالأمل الأخير.

فكانت تارة تحدق ببطنها بخوف يشبه الرعب، وتارة ترفع نظرها نحو لينا الصغيرة، التي كانت ترتجف في أحضان جدتها، تبكي بصمتٍ وهي تراقب والدتها المنهارة، وأحيانًا كانت تلتفت نحو نوح بعينين متوسلتين تبحثان عن طمأنينة ما في وجهه الشاحب.

حينها خطرت في ذهنه فكرة مفاجئة، فمال نحوها وقال بابتسامة صغيرة حانية رغم التوتر الذي يملأ وجهه:

-إيه رأيك لو دخلت وحضرت معاكي الولادة؟

ارتجف جسدها وبدت في عينيها حيرة مترددة، ثم أغمضت جفنيها استسلامًا حين أحست بيده تلامس خصلات شعرها بحنو عميق، ثم أشار إلى الممرضات أن يبدأن بتجهيزها، مستغلًا لحظة سكونها تلك، فاقترب من أذنها هامسًا بوعد صادق يختلط فيه الخوف بالحب:

-هدخل معاكي وهطمنك لما يخرجلنا بالسلامة، وبعدها مش هسمحلك تبعدي عني أبدًا، وهترجعي على بيتنا.

شدت قبضتها فوق يده وكأنها تتشبث بالحياة ذاتها، بينما أحاطها بذراعه في صمت يفيض بالعطف والرجاء.

حين رأى والدها استكانتها في أحضان زوجها، أطلق تنهيدة عميقة وخرج من الغرفة بخطواتٍ مثقلة، تتبعه زوجته التي تنفست قليلًا من الراحة، وقد أدركت أن ابنتها أخيرًا قبلت بفكرة الولادة المبكرة… ولو اضطرارًا.

                             *****
توقف يزن فجأة في طريق خال من المارة والسيارات، ثم التفت نحو سيرا التي كانت تجلس بجواره في هدوء تتابع سعادته المفرطة بصمت، دون أن تشاركه في شيء، حدجته بنظرة متسائلة حين قال على نحو مفاجئ:

-يلا انزلي يا حبيبي وتعالي.

رفعت حاجبيها بعدم فهم، تنظر حولها بريبة وقلق:

-أنزل فين؟ انت ناوي على إيه؟!

ثم ضمت سترتها إلى صدرها أكثر، وقالت بنبرةٍ مرتجفة يغلفها تهكم خفيف:

-انت ناوي على إيه بالظبط؟

ابتسم ابتسامة واسعة وأجاب مازحًا:

-ناوي اقتلك، انزلي يا مجنونة واسمعي الكلام وتعالي.

نظرت إليه بذهول ثم فتحت الباب بخوف متردد، وخطت نحوه حتى وقفت بجانب مقعده خلف المقود، وقالت بتوجس وهي تراقب ملامحه:

-ها جيت اهو، عايز إيه بقى؟

ابتسم لها بملامح حمل شيئًا من الحماقة والعفوية، ثم تحرك قليلًا في مقعده ليترك مساحة ضيقة إلى جواره، مشيرًا إليها بالجلوس فنظرت إليه بدهشة:

-نعم؟ مش فاهمة!

ابتسم ثم أردف بخبث طفولي:

-تعالي اقعدي جنبي يلا، عشان اخليكي تسوقي.

حدقت به للحظة ثم انفجرت ضاحكة ساخرة من حديثه الذي بدا كالمزاح الثقيل، لكنه فاجأها حين جذبها نحوه بعنف وأجلسها في المساحة الضيقة جدًا إلى جانبه حتى كادت تقع بين ذراعيه، فقد كان يحتل المقعد كله بجسده العريض، لذا حاولت التملص منه وهي تزجره بعنفٍ خجول:

-اوعي يا يزن، عيب كده، يالهوي بتعمل إيه؟

لكنه طوق جسدها بذراعه، ووضع يدها عنوة فوق المقود، ثم طبع على وجنتها قبلة خاطفة دافئة جعلتها تتجمد في مكانها، وقد اتسعت عيناها بخجل صامت، ولكنه استكمل وهمس قرب أذنها بصوت مبحوح بنبرة أقرب إلى الرجاء منها إلى المزاح:

-عايز افرحك وابسطك، ومفيش أحسن من اللحظات دي، انسى أي حد وأي حاجة وفكري فينا وبس.

التفتت إليه ببطء فصدمت بقرب وجهه من وجهها، وارتجفت شفتاها بخجل، ثم قالت بتلعثم وهي تزيح رأسها عنه قليلًا:

-آآ...أنا مش مرتاحة، اقعد هنا وعلمني زي ما علمتني قبل كده.

أنهت حديثها وهي تشير برأسها نحو المقعد الآخر، ولكنه أشار برأسه نافيًا وقال بنبرة ساخرة متعمدة:

-اولاً ماينفعش عشان دي عربية سليم، أنا واخدها أساسًا عشان هي واسعة واوسع من بتاعتي، وثانيًا انتي قلقانة من إيه، المتعة هتبدأ لما تتجرأي وأنا جنبك.

هزت رأسها رافضة بعناد واضح وهي تبتلع ريقها بخجل:

-بس أنا مش عايزة يا يزن!

ابتسم ابتسامة ماكرة واقترب منها ليقبل وجنتها مرة أخرى، ولكنه أطالها هذه المرة ثم همس ببراءةٍ مفتعلة:

-براحتك يا حبيبي، أنا كنت عايز أفرحك.

تنفست بارتياح حين ظنت أنه اقتنع، لكن دهشتها لم تدم طويلًا إذ أعاد تشغيل السيارة بهدوء، وضمها إلى صدره وهو يقود بيد واحدة:

-بس مش هتنازل عني أني اسوق وانتي جنبي وفي حضني.

شحب وجهها وتسارعت أنفاسها، هل تصرخ الآن؟! لقد وقعت في حب رجل مجنون لا يعرف للقيود معنى! ازدادت سرعته حتى بدأ الهلع يتسلل إلى وجهها، فالتفتت إليه صارخة باستسلام متوتر:

-خلاص...خلاص هسوق أنا.

ثم همست لنفسها بقلق وبقلة حيلة:

-يمكن أخلص من الزنقة دي.

ترك المقود ووضع يدها مكان يده، فقبضت بكلتا يديها عليه بعصبية، تراقب الطريق بتحفز، أما هو فكان يعلمها بهدوء وحب وصبر شديد، يصدر تعليماته بلطف جعلها تسترخي شيئًا فشيئًا، حتى بدأ الخوف يتبدد من قلبها، وسرعان ما انطلقت ضحكاتها الطفولية تملأ السيارة قبل أن تصرخ بسعادةٍ غامرة:

-يزن، أنا مبسوطة اوي.

نظر إليها بدهشة متعجبة من تحولها المفاجئ، ثم شد ذراعه حولها ليحميها، محاولًا تهدئتها وقد لاحظ اندفاعها الطائش نحو السرعة فهتف بنبرةٍ هادئة حازمة:

-عينك على الطريق، والمرايات يا حبيبتي.

لم تُصغِ إليه وضحكت بعفوية صافية:

-شغلنا عنبة ولا عصام صاصا يا يزون.

زفر بانزعاج وقال باشمئزاز طفولي ساخر:

-إيه؟! اشغلك إيه؟ اخرسي أنا مش هشغلك غير أغاني على مزاجي.

ضحكت بخفة وقالت مازحة:

-عندك حاجة للست؟!

لكنها انجرفت بيدها دون وعي بالمقود نحو اليمين، فتمكن يزن بمهارة من تعديل المسار ثم زمجر بقلق:

-كنا هنحصلها دلوقتي، فكك من الاغاني دلوقتي وركزي في اللي بقوله.

إلا أنها وبجنون مفاجئ تركت المقود تمامًا وصرخت بمرح طفولي:

-يزن أنا مبسوطة اوي.

أصابه الهلع لتصرفها الأحمق في ظل ضحكاتها، فـ للحظة  ندم على تلك الفكرة المجنونة، وأدرك أن حماسها الزائد قد يقودهما معًا إلى الهلاك، فاضطر لإيقاف السيارة على جانب الطريق بينما هي تحتج بلهفة طفولية:

-أيه ده، لا متوقفهاش، أنا عايزة اكمل!

فتح الباب لها وقال مبتسمًا بخوف واضح على السيارة:

-كفاية كده يا سيرا، يلا نروح....وبصراحة أنا مضمنش، العربية لازم ترجع سليمة.

تجمد وجهها بخيبة أمل حزينة، فهزت رأسها باستسلام وهمت بالنزول، لكنه فاجأها وهو يغلق الباب مجددًا ويجذبها نحوه بعنف رقيق، يهمس بتهدج صادق:

-تتحرق عربية سليم ولا أنك تزعلي يا روح قلبي، يلا نخربها.

ابتسمت له بعينين تلمعان حبًا، وقد أدركت كم ضعف أمامها، فأرادت أن تعبر عن امتنانها، فقبلت رأسه بخفة ولكنه اندهش حتى ضحك قائلًا بسخرية لاذعة تخفي ارتباكه:

-هو انتي بتبوسي أبوكي يا سيرا، وشي قصر معاكي في حاجة؟!

ضحكت وهي تضربه فوق يده بخجل مصطنع:

-احمد ربنا، ويلا انزل عشان أنت مضيق المكان عليا، وعايزة اسوق براحتي.

رمقها باستنكار ساخر وضغط بجسده عليها أكثر حتى التصقت بالمقود:

-اتنيلي هو انتي عارفة تسوقي وأنا جنبك لما ابعد عنك، وبعدين أنا أساسًا قتيل القعدة واللحظة دي، عاجبك على كده تمام مش عاجبك، هروحك ولا يفرق معايا دمعة ولا زعل منك.

لكن بعد لحظات استسلم لرغبتها، وجلس في المقعد المجاور يراقبها برعب مكتوم، فقد بدا واضحًا أنها متهورة أكثر منه، فأمسك رأسه بيديه وهو يلعن في نفسه ضعف قلبه أمامها، وابتسامتها البريئة التي كانت كفيلة بأن تُسقط أقوى إرادته…

-ابعدي عن الرصيف...ابعدي عن الرصيف.

لكن السيطرة أفلتت من يديها في لحظة خاطفة، إذ لم يتمكن يزن من الإمساك بالمقود في الوقت المناسب، فارتطمت السيارة بحافة الرصيف بعنف صاخبٍ، ارتد صداها في الطريق الخالي، مما أدى إلى اندفعها قليلًا إلى الأمام قبل أن تتوقف تمامًا، فساد الصمت المكان لثوانٍ بدت طويلة كالعمر.

كانت سيرا ترتجف في مقعدها ونظراتها شاردة، ثم ابتعدت ببطءٍ عن المقود، تتحسس جسدها في حيرة طفولية، قبل أن تلتفت إليه بخجل واضح وتهمس بصوت واهن:

-أنا الحمد لله كويسة.

لكنها كعادتها قابلت انفعاله بابتسامة بريئة تذيب غضبه دون أن تدري، ثم فتحت الباب بهدوء كأن شيئًا لم يحدث، وهبطت من السيارة بخفة تتنافى مع الموقف، لتلتف حولها وتتوجه نحوه قائلة ببراءة لا تحتمل:

-يلا يا يزون انزل روحني عشان زهقت.

حدق فيها بدهشة مذهولة بين الغضب والضحك واليأس، ثم أطلق تنهيدة طويلة وهو يتمتم ساخرًا في سره:

-أنا واحد أهبل أساسًا.

                              ****

عاد الاثنان أخيرًا إلى المنزل والصمت يخيم بينهما كاتفاقٍ غير معلن، حيث جلست سيرا طوال الطريق مطرقة الرأس، تتجنب النظر إليه بينما اكتفى يزن بقبض يده على المقود في صمتٍ متوتر.

وحين توقفت السيارة أمام البوابة، همت سيرا بالنزول لكنها توقفت فجأة وقد لاحظت شروده، فالتفتت نحوه وسألته بقلق صادق:

-مالك يا يزن سرحان في إيه؟

تنهد بقلة حيلة وهو يردد ساخرًا:

-بفكر انام فين عشان اللي سليم هيعمله فينا بعد ما يشوف عربيته.

رفعت حاجبيها بدهشة مصطنعة وهي ترد ببرود طفولي ساخر:

-إيه فينا؟ ليه هو أنا مالي!، أنا ماليش دعوة، تصبح على خير.

ثم فتحت الباب وغادرت بخفة متعجلة، تركته يحدق في إثرها بذهول مشوب بالضحك واليأس،
ثم أطلق ضحكة قصيرة يائسة، ولكن جاءه اتصال من قبل نوح يخبره بولادة يسر، فأسرع بالذهاب إليه بعدما استمع إلى صوته المرتجف.
                        ****

قبيل أذان الفجر خيم السكون على أروقة المستشفى، لا يُسمع سوى أزيز الأجهزة ونبض الصغير الذي وُضع في الحضّانة فور ولادته،
فكان نوح يقف بجوار الزجاج الشفاف، شارد النظرات وإلى جواره يزن يتأمل المشهد بصمتٍ خاشعٍ، وكأن أنفاس الطفل الصغيرة تُعيد ترتيب فوضى الأيام في قلبيهما.

ابتسم نوح بخفة حين رأى صدر الصغير يعلو ويهبط بانتظام مطمئن، ثم همس وهو يزفر بارتياح خافت:

-الحمد لله بيتنفس كويس.

تذكر كيف أقنع يسر بصعوبةٍ ودموع كثيرة من قبلها بضرورة وضع الطفل في الحضّانة، وكيف استسلمت أخيرًا بعد إرهاق طويل فغلبها النوم تحت تأثير المهدئات.

فالتفت إلى يزن وسأله بصوتٍ واهن تتخلله لمحة انكسار لم يجد إخفاءها:

-شبهي صح؟

رفع يزن حاجبيه مستغربًا ثم ابتسم بسخرية رقيقة وهو يجيب:

-هو باين له ملامح يا نوح أساسًا

ابتسم نوح ابتسامة واهنة تحمل في طياتها شيئًا من الألم ثم قال بشرودٍ متعب:

-اهو بصبر نفسي بكلام المفروض اسمعه من اللي مني يا يزن، مش هما أهل الاب بيقولوا كده بردو.

لم يُجب يزن بل مط شفتيه بضيق واضح، فكان يعلم كم الآلام التي يسببها له جفاء أهله، الذين لم يأت أحد منهم رغم أنه أخبرهم بنفسه بولادة حفيدهم، فتنهد وقال بهدوء محاولًا التخفيف عنه:

-كويس إن محدش جه منهم، عشان أهل يسر ميضايقوش، وكمان انت شايف يسر تعبانة ازاي!

هز نوح رأسه بتفهم صامت ثم عاد بنظره إلى الحضّانة، يراقب صغيره بشغف، ولكن فجأة اخترق السكون صوت مألوف حمل معه مزيجًا من الدهشة وقليل من الحنان:

-حمد لله على سلامته يا ابني، هو فين؟

استدار نوح بدهشة ليجد والدته واقفة على عكازها، وبجانبها أحد الجيران الذين استعانت بهم لتصل إلى المستشفى بعدما رفض أبناؤها الآخرون المجيء بحجج واهية، تقدم نحوها بسرعة وقبل يدها بعاطفة مترددة وهو يقول مبتسمًا بضعف:

-اهو هناك.

نظرت حيث أشار فرأت المهد الصغير والطفل الغافي فيه، فتبدلت ملامحها إلى الجمود وسألت بهدوء لا يخلو من فضول:

-هتسميه إيه؟!

أجاب نوح بثقة دافئة وهو يبتسم بنعومةٍ تعبر عن امتنان خفي:

-آدم...يسر عايزة تسميه آدم.

انعقدت شفتاها بامتعاض خفيف ولم تُعلق، لكن نظرتها حملت كل ما لم تقله، أما هو فظل يكرر الاسم بحب:

-آدم نوح الشاذلي.

                          ****

في صباح اليوم التالي عاد يزن إلى المنزل بعد ليلةٍ طويلة قضاها برفقة نوح في المشفى، دخل من بوابة البيت بخطوات مرهقة ووجه يحمل ظلال التعب والسهر، إلا أن ما رآه في نهاية الحديقة أيقظ في داخله يقظة مفاجئة، فكان هناك فوق أحد الأدراج الخشبية دهب تجلس في استرخاء وبرود، تعطي ظهرها للحديقة بأكملها بينما تتحدث في الهاتف بنبرة لا تخلو من الحدة، فقالت بغيظ ظاهر:

-معرفش أنا أساسًا مش طايقاها ولا طايقة الكلام معها.

سكتت لحظة تستمع للطرف الآخر، ثم أردفت بصوت أكثر انخفاضًا لكنه ملئ بالحنق:

-بقولك لا مش مديني وش وبيكلمني بقرف، وخالتو عايشة الدور اوي، والله اقدر اقلب ماما وجدو عليها واضايقها اكتر.

تجمد يزن في مكانه وقد انعقد حاجباه بامتعاض واضح حين سمع اسم سيرا يُذكر في حديثها، فازداد وجهه عبوسًا وتقدم خطوة نحوها، لكن صوته خنقه الغضب قبل أن يخرج، بينما هي واصلت حديثها بلهجة متبرمة:

-أنا القعدة هنا بدأت أساسًا تخنقني، ويزن ده أنا مش طايقاه، بيزعقلي عشان خاطرها، والله ولا يستاهل أعجب بواحد زيه أساسًا.

أوشك يزن أن يتدخل ليوبخها، غير أنه توقف حين سمع ضحكتها الخفيفة، تلك الضحكة التي اتخذت منها السخرية لباسًا، فكانت تهز رأسها في لا مبالاة، وهي تقول:

-لا مقدرش ياستي أعمل كده، ما تروحي الفرح من غير دهب، هي عدت مرة والحمد لله عرفت ارجع الشبكة تاني، وبعدين خلاص هي بقت مراته مظنش أنها ممكن تخاف بسبب حاجة زي دي، يزن ده مدلعها على الآخر.

حينها فقط اتضح ليزن أن اختفاء الشبكة كان بفعلٍ أحمق من تلك الفتاة المتهورة، وأنها لم تفعل ذلك إلا بدافع الغيرة الطفولية لكنه بدلاً من الغضب الصريح، اكتفى بابتسامة باردة على شفتيه، وقرر في نفسه ألا يمر الأمر مرور الكرام، وأنه يجب أن  تعرف والدتها ما جنته تربيتها المتساهلة، لتتولى تأديبها بنفسها، فكان في أعماقه غليان مكتوم، ليس لأنها خططت لتفاهة كتلك بل لأنها تجرأت على ذكر سيرا بنبرة تقلل من شأنها.

رفع نظره إلى السماء زفرًا ثم مضى إلى داخل المنزل تاركًا وراءه تلك المراهقة العابثة، باحثًا عن حبيبته التي لم يجد في نقائها مثيلًا، وما إن دخل حتى رآها جالسة في صالة المنزل بجوار شمس، وقد بدت عليها علامات الخوف والارتباك، فيما كانت عيناها تتحركان بخفة نحو سليم الذي وقف أمامه بملامح صارمة وصوتٍ خشن:

-هو انت اخدت عربيتي امبارح؟

ابتلعت سيرا ريقها في توتر، تائهة بين رغبتها في الرد وخوفها من خطأ في الكلام، فحاول يزن التدخل لتبرير الموقف لكن سليم رفع يده مقاطعًا بغضب مكبوت:

-واوعى تكذب أنا شايفك في الكاميرا انت وسيرا ماشيين بيها بليل.

تسارعت أنفاس سيرا واتسعت عيناها رعبًا وهي تنظر إليه غير مصدقة، ثم قالت بحماقة بدت في صوتها المرتجف:

-شوفتني أنا يعني! يمكن مكنتش أنا!، أصل أنا فاكرة أخر حاجة كنت نايمة.

شهقت شمس بصوت مصطنع يعكس دهشة تمثيلية وهي تقول:

-مش معقول طلعتي بتمشي وانتي نايمة يا حرام، معلش معلش فداكوا يا حبيبتي.

ثم نهضت بسرعة وجذبت سيرا من يدها محاولة إنهاء المشهد المحرج، والتفتت نحو سليم قائلة بنبرة تحمل العتاب:

-خلاص يا سليم البنت طلعت بتمشي وهي نايمة، يلا هندخل احنا نجهز الفطار عشان نهى وخالد جايين.

نظر إليها سليم بغيظٍ شديد من تصرفها المستخف، ثم أدار وجهه عنهم وقد احتقن غضبًا، وما إن التفت حتى فوجئ بيزن ينظر إليه بابتسامة خبيثة، تزينها ملامح البراءة المصطنعة:

-شفت على طول ظالمني، وأنا كنت بعمل عمل إنساني في الآخر.

زم سليم شفتيه ورد بعصبية وشك:

-انت كنت مخلياها تسوق عربيتي، أصل مش معقول تكون انت اللي خبطتها، انت مش غشيم كده!!

ضحك يزن باستهتار وهو يربت على كتفه قائلًا:

-فاداها يا سليم، مالك مضايق ليه كده؟ هعوضك وهجبلك عربية زيرو بس متخوفهاش كده تاني، إيه يعني خبطتها الدنيا هتتهد، عادي خبطة والسلام.

اقترب منه سليم بخطوات غاضبة وصوت منخفض لكنه حاد:

-واقسم بالله لو مابعدتش حالاً من وشي، لهتشوف تصرف مش هيعجبك.

اكتفى يزن بابتسامة جانبية ورفع حاجبيه بتحد، ثم دار على عقبيه يسير في فخر مصطنع، كطاووس يتبختر بعد نصر صغير على خصمه، تاركًا خلفه سليم يغلي غيظًا.

                              ****

استفاق فايق مفزوعًا على صوت رنين هاتفه،  فتح عينيه ببطء ورأى على شاشة الهاتف رقمًا غريبًا، تلعثم للحظة قبل أن يفترض أن المتصل قد يكون والدته، فحمل الهاتف إلى أذنه ورد بحذر:

-الو.

رد صوت منهك ومُتعب من الطرف الآخر:

-ايوه يا فايق.

فكان ذلك صوت سامي الواهن يتحدث بصعوبة، تسمر فايق وانتفض من فوق الفراش المتهالك، حيث كان يختبأ في إحدى الغرف الشعبية في منطقة عشوائية في محافظة قريبة من القاهرة.

-انت معايا يا فايق؟

عاد صدى صوت سامي يقذفه إلى الواقع فأجاب بقلق واضح:

-آآ..اه، انت فوقت امتى؟

-فوقت من شوية وعرفت باللي حصل، أنا عايزك تيجيلي بسرعة.

تلعثم فايق مستفسرًا:

-وده ليه ان شاء الله، اجيلك ليه؟

سمع فايق نفس الصوت يرتعش أكثر هذه المرة، وكلمات سامي تنساب بين الاحتضار والتهديد:

-تيجي عشان أنا مش هروح فيها ببلاش يا فايق، أنا اتفقت مع الممرضة والدكتور مايقولش حاجة للشرطة لغاية ما انت تيجي وتجيب معاك ٣٠٠ الف جنية، ٢٠٠ الف ليا، و١٠٠ الف للمرضة والدكتور عشان اضمن سكوتهم.

ارتفعت نبرة فايق فجأة بين السخرية واليأس:

-انت عبيط هو أنا لو حيلتي ٣٠٠ الف كنت اعرف واحد زيك.

صمت سامي لحظة ثم ضبط صوته بما يشبه التسوية:

-خلاص أنا هقولهم على كل حاجة، مع أني كنت ناوي اشيلها لوحدي وابعد أي تهمة عنك.

تردّد فايق لبعض الثواني ثم أجاب محاولًا كسب الوقت وربما تخفيف الصدمة:

-طيب طيب، سيبني بس يومين ادبرلك المبلغ.

-لا...اخرك معايا بكرة، وان مجتش هقول كل حاجة للظابط.

تخطى قلبه صدره من شدة الخوف، وشعر بثقل القرار يسقط عليه كصخرة، أنهى المكالمة وهو يحدق في السقف المتهالك وفمه يأن من فكرة أن حياته قد تنقلب بين لحظة وأخرى بسبب ابتزازٍ جعله يتأرجح بين الخوف والغضب واليأس.

ولكنه ارتمى حيث الخلف وقال بنبرة خافتة وقد
أعماه الشيطان:

-مكنتش ناوي اعملها يا سامي، بس انت اللي هتضطرني!
                              ****
انتفضت حسناء من على مقعدها الخشبي بغيظ بعدما جفاها النوم ليلة أمس، خاصةً بعد توبيخ والدتها لها حين عادت ووجدتها تتألم من شدّة الصفعات والضرب، نظرت في هاتفها بحقد:

-دي خلفت.. كاتب الحمد لله رزقني بآدم؟!

ضحكت والدتها ضحكات متقطعة ساخرة:

-يا فرحة أمك بيكي بجد، اهو سكتي على ضربهم ليكي عشان فاكرة إنك هتاخدي عنده بونطة، اهو اداكي على قفاكي.

ثم نهضت والدتها وهي تشير بإصبعها بلهجة صارمة:

-بت انتي، فكك بقى من الدكتور الغبرة ده، وخلصينا من القرف ده وروحي شوفيلك مكان تاني تشتغلي فيه، أصل الموضوع ده بوخ اوي، والواد ده مش سالك من ناحيتك وبكرة تقولي أمي قالت.

أنهت والدتها كلامها بنظرة حادة، ثم غادرت تاركة حسناء جالسة على المقعد، تغليها الأفكار وتخطط في صدرها طرق الانتقام بعدما بدت خطتها للمرة الألف قاصرة عن تحقيق مبتغاها!
                              ***

ليلاً...

كانت المشفى غارقة في صمت ثقيل، ألقى فايق نظرة حذرة حوله قبل أن يترجل من سيارة الأجرة ويشد معطفه الطويل على جسده، وقد انعكست على وجهه ملامح التوتر الممزوجة بعزيمة خبيئة.

دخل المستشفى بخطوات وئيدة يرافقه ممرض شاب بدا عليه الارتباك، كان قد أغراه فايق بمبلغ مالي كبير مقابل مساعدته في التسلل إلى غرفة سامي دون أن يثير شك أحد من الحرس أو الطاقم، تردد الممرض في بادئ الأمر، لكنه وافق في النهاية.

قاد الممرض فايق عبر ممرات طويلة صامتة، تتعالى فيها أنفاس الأجهزة وتفوح منها رائحة المعقمات الباردة، وما إن وصلا إلى الطابق الذي ترقد فيه غرفة سامي حتى توقف الممرض عند المنعطف وقال بصوت خافت وهو يرمق المكان بقلق:

-أنا هقف لغاية هنا، عشان أنا ممرض في قسم النسا والتوليد، وهيشكوا فيا، ادخل انت ومتكلمش حد عشان العساكر متشكش فيك.

أومأ فايق برأسه بتفهم بارد، ثم شد الكمامة على وجهه تقدم بخطوات ثابتة كأنه طبيب يعرف طريقه عن ظهر قلب، تجاهل نظرات العساكر المرابطين عند الباب، ومد يده ببطء إلى المقبض، ففتح الباب في سكون غامض وانساب إلى الداخل.

كانت الغرفة غارقة في ضوء خافت ينبعث من مصباح صغير عند رأس السرير، فكان سامي مستلقيًا فوق الفراش الأبيض، أخرج من جيبه قطعة قماش مبللة، وبدأ يقترب بخطوات متأنية تشي بنية آثمة كذئب يقترب من فريسته دون أن يُصدر صوتًا.

حين رفع القماشة فوق وجه سامي، انتفض الأخير فجأة وقد أدرك الخطر فحاول إبعادها بكل ما تبقى فيه من قوة، واشتبك الاثنان لحظاتٍ قصيرة، لكن فايق شد قبضته بعنف وأطبقها على فم سامي حتى كاد الأخير يختنق، وفجأة اخترق الصمت صوت بارد من خلفه:

-تحب اساعدك؟

تجمد فايق في مكانه وارتجف جسده للحظة وهو يلتفت ببطءٍ نحو مصدر الصوت فوجد رجل يقف عريض المنكبين يضع يديه في جيبيه وينظر إليه بابتسامة مستفزة تحمل مزيجا من الثقة والتهكم،
فعرفه على الفور إنه زيدان شقيق يزن خطيب سيرا.

سقطت القماشة من يده كأنها جمر أحرق أصابعه، وتراجع خطوة إلى الوراء محاولًا تبرير وجوده بكلمات لم يستطع نطقها.

فاقترب زيدان منه ببطء وثبات لا يخلو من التهديد، وقال بصوت هادئ يحمل في طياته سخرية حادة:

-مكنتش متوقع تيجي بالسرعة دي يا فايق!!

نظر فايق إلى سامي الذي بدأ يسعل بشدة، وقد استعاد وعيه شيئًا فشيئًا، ثم لم يكد يلتقط أنفاسه حتى دوى صوت الأبواب تفتح على مصراعيها، وامتلأت الغرفة فجأة برجال الشرطة والضباط، وفي مقدمتهم كان الممرض ذاته يؤدي التحية العسكرية لزيدان قائلاً بثقة:

-أي أوامر يا باشا، أنا تحت أمر الحكومة.

رفع زيدان يده مشيرًا إليه أن يتراجع، ثم أدار بصره إلى فايق الذي بدت على وجهه ملامح الصدمة والذهول، فكان يحاول أن يستوعب ما جرى...وكيف تحول من صياد إلى فريسة محاصرة؟

 قاطع سامي سعاله بكلمات غاضبة وهو يرمقه بحدة ملتهبة:

-بقى كنت عايز تموتني يا ***، الباشا طلع عنده حق في كل كلمة.

أطلق زيدان ضحكة قصيرة متهكمة، واقترب من فايق حتى صار بينهما شبر واحد، وقال بنبرة صارمة تقطر ازدراء:

-كل حلفاؤك خانوك يا ريتشارد.

أطرق فايق رأسه وقد انطفأ في عينيه بريق الغرور الذي طالما ميزه، فيما تابع زيدان ساخرًا:

-حلو تهمة جديدة تتضاف ليك يا حلو الشروع في قتل زميلك.

ثم التفت نحو العساكر قائلاً بصوت جامد حاسم:

-خدوه.

وما إن أطبقت الأصفاد على معصميه حتى بدا فايق كظل مكسور يساق نحو نهايته، فيما ظل زيدان واقفًا مكانه ينظر إليه بنظرةٍ تجمع بين الانتصار والاشمئزاز، وأخيرًا قد طوى صفحة أرهقت عقل أخيه.
                            ****
 في اليوم التالي...

تألق منزل آل الشعراوي بأنوارٍ مضيئة وأصوات الاغاني التي انطلقت احتفالًا بسليم ابن نهى وخالد، إذ قرر سليم إقامة السبوع على عجل بسبب رغبة خالد الذي أراد العودة سريعًا إلى مرسى مطروح.

اجتمعت العائلتان؛ عائلة سيرا بأكملها وعائلة الشعراوي، في جو من الألفة والبهجة، بدا الاحتفال بسيطًا في مظاهره لكنه غامر بالمحبة والدفء، جلست نهى وسط الجميع تتلقى كلمات التهنئة وعبارات المودة، بينما لا تفارقها ابتسامة الرضا، لقد حظيت باحترام خاص من الجميع، ولا سيما بعدما أطلقت على طفلها اسم سليم، وهو الاسم الذي رن في القلوب قبل الآذان، فكانت الهدايا الفاخرة تتوالى عليها.

وفي الجهة الأخرى من الصالة كان يزن يتحرك بخفة وبهجة غير معتادة، يتابع خطوات سيرا بعينين يملؤهما الحب والفخر، بينما هي كانت أيضًا في أوج سعادتها، خصوصًا بعد أن أبلغهم زيدان بالقبض على فايق، فزالت الغمة التي خيمت طويلًا على حياتهم، وأخيرًا بات بإمكانها أن تلتقط أنفاسها بحرية.

وها هي تستعد للعودة مع عائلتها في مساء اليوم، لذا اقتربت من يزن بخجل محبب، وقالت بابتسامة هادئة تشعل صفاء:

-يزون... بعد ما يخلص السبوع أنا هارجع معاهم.

أومأ يزن بتفهم وهو يحدق في عينيها بحنو صامت، لكنها أسرعت تتابع حديثها وقد احمرت وجنتاها:

-وبكره تيجي تاخدني أنا وفاطمة، نروح نزور يسر شوية، نقعد معاها لغاية ما ابنها يقوم بالسلامة، لازم نخفف عنها بردو.

أشار يزن إلى عينيه مبتسمًا وقال بلطافة محبة:

-من عنيا يا قلبي.

ترددت لحظة ثم تجرأت وأمسكت يده لتقوده إلى زاوية بعيدة عن الضوضاء، نظرت إليه بعينين تملؤهما الامتنان وقالت بخفوت دافئ:

-شكرًا على كل حاجة...وعلى وجودك جنبي.

ارتسمت على وجهه ابتسامة امتزج فيها الحب بالعطف، ثم رفع كفها برفق إلى شفتيه، وقبلها قبلة طويلة خاشعة، وهو يهمس بصوت متهدج من فرط الصدق:

-أنا اللي المفروض أشكرك...من غيرك كنت هفضل تايه زي ما أنا.

كادت سيرا تفلت من شفتيها كلمة طالما خبأتها في صدرها، اعترافًا خجولًا كان يطرق قلبها ليل نهار، لكنها توقفت بغتة حين انفتح الباب الصغير المقابل لهما، وظهرت حورية أمامهما بهدوء لم يخلو من الغموض.

قالت بصوت رزين وهي تبتسم نصف ابتسامة:

-سيرا...إزيك؟ دورت عليكي كتير.

نظرت سيرا إليها بدهشة لا تخفى، فبادرتها حورية بتوضيحٍ لطيف:

-مليكة عزمت شهيرة أختي وعزمتني كمان، فقولت أجي أشوفك وأسلم عليكي... وأباركلك على كتب الكتاب.

تدخل يزن بصوت خشن وهو يحكم قبضته حول يد سيرا في تملك واضح:

-الله يبارك فيكي مكنتيش تتعبي نفسك.

تجاهلته حورية تمامًا ووجهت بصرها نحو سيرا بجدية مفاجئة وقالت:

-كنت عايزة أكلمك في موضوع مهم لوحدنا.

طال صمت سيرا لحظة قبل أن ترفع عينيها نحو يزن في إشارة واضحة أن يترك لهما بعض الخصوصية، ورغم ما يشعر به من ريبة تجاه حورية وتاريخها المليء بالهجوم والغيرة، إلا أنه قرر الانصراف واكتفى بنظرة تحذيرية سريعة ثم خرج بهدوء.

وما إن تجاوز الباب حتى اعترضت طريقه حكمت، شقيقة سيرا، وقد بدا على وجهها عبوس غاضب، وهي تقول بسخطٍ واضح:

-هي مقصوفة الرقبة دي عايزة من أختي إيه؟

فتح يزن فمه ليجيبها لكن عينيه انزلقتا إلى الداخل حيث لمح دهب ابنتها تحدق في خالد زوج نهى بنظرات حالمة مراهقة، رفع حاجبيه في اندهاش مشوب بالضيق مستغربًا من سرعة تقلب مشاعر تلك الفتاة الصغيرة.

زفر ضجرًا وقال لحكمت بنبرة جادة غلفها التوتر:

-سيبك من مقصوفة الرقبة دي...أنا عايزك في موضوع مهم، تعالي معايا الجنينة بره نتكلم براحتنا.

تهلل وجه حكمت بحماسة فضولية، وقالت وهي تلاحقه بخطواتٍ متسارعة:

-آه، طبعًا... أوي أوي!

وصلا إلى الحديقة الصغيرة، فجلست على درج خشبي عريض يطل على الممر، ثم مالت نحوه بعينين لامعتين وسألته بفضول متقد:

-ها؟ الموضوع بخصوص مين؟ سيرا؟

ابتسم يزن ابتسامة خفيفة وقال بجدية مقصودة:

-لا... بخصوص دهب بنتك.

اتسعت عينا حكمت دهشة، وهي تحاول استيعاب ما يقصده، فيما ارتسمت على شفتي يزن ابتسامة متحفظة تخفي وراءها كلامًا لم يُقل بعد..
رفعت حكمت وجهها الذي بدا متراقصًا بين إمارات الصدمة والخذلان، وقد انكمشت ملامحها تحت وطأة الكلمات التي ألقاها يزن عليها كالسهام، كل جملةٍ نطق بها كانت كطعنة تُغرس في صدرها، تذكرها بأن ما ربته بيديها قد بدأ يتفلت من قبضتها، كانت تشعر بأن الأرض تميد تحتها، وأن ثقل الهزيمة يجثم فوق أنفاسها.

فلم تعد تلك المرأة الصلبة التي كانت تبني حول نفسها أسوار الهيبة وتفرض سلطانها بالكلمة والنظرة؛ بل بدت الآن ضعيفة ومتهالكة كمَن انهار داخله حصن قديم.

تنهد يزن طويلاً وهو يتأمل حالها، ثم قال بصوت مائل إلى الهدوء، يختار كلماته بعناية كما اعتاد أن يفعل دائمًا:

-بصي أنا مش عايزك تتصرفي تصرف يبعدها عنك أكتر، دهب محتاجة حد يحتويها ويقرب منها، كل بنت في سنها معرضة لكده، وصدقيني أنا قابلني بنات كتير زيها، أنا لو مش بحبها زي اختي الصغيرة، وانتي ليكي معزة خاصة عندي مكنتش هتكلم أبدًا.

أشارت حكمت إلى نفسها بحركة واهنة، وارتعشت يدها وهي تقول بصوت خافت كأنه يخرج من أعماق انكسارها:

-أنا مقصرتش معاها في حاجة وكل اللي هي بتتمناه عملتولها واللي اتحرمت منه حاولت اعوضها بيه.....

ثم أطبقت شفتيها وصمتت وكأنها تنصت لصوت خفي في داخلها يذكرها بأن الحب لا يُقاس بما يقدم من أشياء بل بما يمنح من دفءٍ وإنصات.

جلس يزن بجانبها وألقى نظرة طويلة على وجهها المتعب ثم قال برزانةٍ وصدق:

-أنا عارف إنك أم عظيمة، بس دي مشكلة جيل ومراهقات، وممكن تكوني موفرلها كل حاجة، بس هي ناقصها اللي يسمعها ويشوف مين صحابها وبيئتهم عاملة إيه، دي حاجة مهمة جدًا.

توقف لحظة ثم أضاف بنبرة هادئة:

-فكري في كلامي كويس وأنا متأكد إنك هتعرفي تحتويها كويس.

رفعت رأسها ببطء كأنها تنتزع نفسها من غرق داخلي ثقيل، وأخذت أنفاسًا طويلة تشق صدرها المتعب، ثم رفعت بصرها إلى السماء، كأنها تستمد منها صبرًا أو إجابة، وهمست بصوت متقطع ممزوج بالحيرة والخذلان:

-تسرق الشبكة! حرامية!

أطرق يزن رأسه بيأس ثم أدار نظره بعيدًا، كأنه يحاول الهرب من مشهد يؤلمه، وذلك بعدما أدرك أن الفتاة الصغيرة على وشك أن تدفع ثمن خطأ لا يليق بعمرها، لكنه شعر ببعض الراحة لأن والدتها بدأت تسمع وظهر بوادر إدراكها، وربما يكون هذا الإدراك هو الحاجز الأخير قبل أن تنزلق دهب نحو هاوية لا قرار لها.

نهض من مكانه وألقى نظرة أخيرة عليها فكانت ما زالت غارقة في دهشتها، ثم مد يده نحوها قائلاً بنبرة حانية تحمل بقايا الأمل:

-تعالي ندخل جوه يلا، لازم اتطمن على سيرا قبل ما حورية تاكلها.

هزت رأسها بالنفي وهي تحاول رسم ابتسامة هزيلة فوق ملامحها الشاحبة، وقالت بصوت مبحوح كأنه يتكئ على بقايا كبريائها:

-روح انت وأنا جاية وراك.

بقيت لحظة بعد رحيله تحدق في الأفق البعيد، بينما كانت دموعها تتردد بين الانسياب والتجمد، شعرت بأن الليل أثقل من أي وقت مضى، وأن قلبها بات يشبه بيتًا قديمًا أُطفئت أنواره فجأة، ولم يبقَ فيه سوى أم تحاول أن تفهم أين أخطأت، وكيف يمكنها أن تبدأ من جديد قبل أن تفقد ابنتها إلى الأبد.

استسلم يزن لصوتها ثم عاد إلى الداخل باحثًا عن سيرا التي اختفت مع حورية، لكنه فوجئ بمليكة تقف عند الباب بابتسامة صافية تحمل في كفها مشروبًا غازيًا مثلجًا، مدته إليه فأخذه واحتسى منه القليل وقد بدى على وجهه شيء من الانضباط الممزوج بالعتاب:

-عزمتي حورية ليه يا مليكة؟

رمشت بأهدابها مرارًا تحاول استيعاب السؤال، ثم تهادت ابتسامتها واختل توازن كلامها كما تفعل دومًا حين تُفاجأ بأسئلة لا تعد لها جوابًا جاهزًا:

-أنا عزمتهم لما سليم قالنا نعزم حبايبنا، فـ....

توقفت لحظة ثم أضافت بارتباك وارتبكت كلماتها:

-انت متضايق ليه؟ 

كانت نظراته جامدة ونبرته تشي ببحة شبة حادة غير التي اعتادتها منه، فأجابها بصراحة قاطعة تبرق فيها مشاعره:

-متضايق عشان مبحبش وجودها جنب سيرا، ولا وجودها في حياتي، هي شخصية فضولية وبتحب تحشر مناخيرها وتنظر على حياة الناس رغم إنها مليانة عيوب، سمعت منك كلمتين عني وخلاص كونت فكرتها عني وأني قد إيه شخص وحش وزفت ومستاهلش اعيش واحب واتجوز، وعايزني افضل في نفس الخانة لمجرد إن وجهة نظرها تطلع صح.

علت الصدمة وجهها فرفعت يدها تجاه نفسها مشيرة بصدق أنها لم تتجاوز حدها، وقالت متلعثمة دفاعا عن نفسها:

-أنا والله عمري ما حكيت معاها عنك في حاجة يا يزن، ولو كنت اتكلمت عنك فكان لشهيرة اختها ودايمًا كنت بقول عنك كل خير، يمكن...يمكن...

توقفت لتلتقط أنفاسها وتحاول صياغة اعتذار يُطفئ غضبًا لم تقصد إشعاله ثم همست:

-أنا أسفة بس والله ما كنت قاصدة ابوظ صورتك، أنا هتكلم معاها وافهمها كويس...

رد عليها بصرامة أدهشتها:

-لا....اوعي هي أساسًا والله متهمنيش، كل اللي يهمني هي سيرا ووجودها في حياتي وبس، انتي لو هتقوليلها حاجة....قوليلها تبعد عن مراتي وتخليها في حياتها.

انخفضت عيناها خجلًا وأمسكت رأسها بخفة؛ ولكن بعد لحظة عادت دعابة يزن الشهيرة تستقر في نبرته:

-أنا همشي بقى، عشان دراكولا بتاعك داخل علينا وشكله هيولع فيا.

ابتسمت هي ابتسامة حائرة وهو يبتعد، حتى وجدت نفسها بين جدار ووجود زيدان الذي ظهر حاملاً سليم الصغير يهزه برفق يناقض ملامح البرود التي غابت عن وجهه عادة:

-يزن ضايقك في حاجة؟

هزت رأسها نافيةً وردت بابتسامة مهتزة:

-لا خالص بالعكس أنا اللي كنت بضايقه وأنا ماعرفش.

تثاقل حاجب زيدان استغرابًا ثم التقط الكلمات بقلقٍ:

-مفهمتش، يعني إيه ضايقتيه؟!

طمأنته وهي تختار ألفاظها بعناية:

-اهدى الموضوع بسيط هحكيلك عليه بعدين، هو بس طلب مني ابعد عنه حورية اخت شهيرة عنه وهو سيرا.

ضحك ضحكة ساخرة مختزلة بشيء من الامتعاض، ثم قال حديثه بغيظ:

-هو الواد ده مابيحسش، مشغلني أنا ومراتي تحت أمره، مش كفاية أنا ماشي عمال احل في مشاكله هو والبرنسيسة بتاعته.

اقتربت منه ومرت يدها على ذراعه محاولةً تلطيف حنقه ثم قالت بلطف وحنان:

-معلش يا زيدان ربنا يخليك ليه وبعدين أنا كنت غلطت في حاجة وضايقته وأنا ماعرفش بس هو لفت انتباهي.

ثم نظرت إلى شهيرة التي كانت مستغرقة في حديثها مع إحدى أخوات سيرا، زاد أنين الحزن في صدرها؛ فتنهد زيدان ثم جذبها إلى أحضانه بيده الأخرى، وقال بثبات خشن ملؤه الحماية:

-ضايقيه براحتك ولا يهمك وتعالي وأنا اللي هعمله لفت انتباه كل يوم، ده نهاره مش معدي عشان يزعلك.

مد يده الأخرى حاملاً الصغير سليم على صدره يهزه بلطف، رغم أنه من طبعه غير صبور، لمعت عينا مليكة بحب لهذا المشهد، إذ رؤيته يهون عن الطفل بهذا الاهتمام البسيط أثبت لها أنه يملك رقة تكفي لسقاية أطفاله حنانًا واسعًا، ابتسمت رغمًا عنها وتذكرت مشاهد الصراع التي وقعت قبل ساعات بينه وبين حكمت حول طقوس سبوع المولود وخصوصًا عادة ضرب الصحن الحديدي قرب أذن الطفل، حينها قال بغضبٍ يشي بابتسامته المشوبة بالتصنع:

-لا كده كتير، أنا مستحمل من الصبح بس كله إلا ودانه، أيه ياعم خالد انت لاقي ابنك في كيس شيبسي ولا إيه؟!

بينما كان سليم جالسًا بكل هيبةٍ وغرور على كرسيه، وقد وضع ابنته قمر فوق ساقه، فتمتم زيدان بتهديدٍ نصف مازح نصف جاد لسليم:

-وديني الولية دي لو مسكتتش لاسجنها حالاً، أنا فاض بيا.

انتفضت مليكة من غفوتها القصيرة، فإذا بصوتٍ حاد يشق سكونها، فما كانت سوى شمس التي قد اقتربت بخطوات سريعة وجهها مشتعل بالضيق، وصوتها يجلجل باللوم:

-انتي هنا يا مليكة وسايباني متبهدلة في المطبخ لوحدي.

تجمدت ملامح مليكة لحظة ثم أسرعت تبتعد عن زيدان كمن أمسك متلبسًا بذنب لا تعرف له اسمًا، لم تجرؤ على النظر في عينيه، فقط أزاحت جسدها بخفة ورحلت نحو المطبخ تُخفي ارتباكها خلف خطواتٍ متسارعة، فظل زيدان واقفًا مكانه، يتابعها بعينين تتقدان غضبًا وشيئًا من الغيرة المكتومة، حتى شعر باندفاع قوي على كتفه، جعله يستدير ليجد حكمت قد دخلت من الباب كعاصفة متجمدة، فكان وجهها قاسيًا وصلبًا، لا يشي إلا بالتحكم والغضب المكموم، وصوتها حين نطقت كان أشبه بانفجار مكتوم:

-وسع من قدامي.

توقف الزمن لحظة وانكمش المكان في عينيه، كأنه لم يعد يرى سواها وهي تمر كإعصارٍ من الجليد، فتح فمه ليُطلق ما كان يغلي في صدره، لم يعد يعبأ بعمرها ولا بمكانتها، ولا بصلة القرابة التي كانت دائمًا تكبله من الرد، لكن يدًا قوية هبطت فوق كتفه وأوقفته في مكانه فما كانت إلا يد سليم، الذي تقدم نحوه بخطوات محسوبة، وعيناه لا تحملان سوى الحزم، قائلاً بصوت منخفض، لكنه يحمل من الصرامة ما يكفي لإخماد نيران أخيه:

-معلش عشان خاطر اخوك.

لكنه كان مشتعلاً بالضيق من تصرف حكمت، فلم يستطع أن يمنع نفسه من التمتمة بانفعال حاد:

-والله اسجنها هي وأخويا انت بتقول إيه؟ إيه الست دي؟!

                                          ***

جلست حورية أمام سيرا في شرفة المنزل بعيدًا عن الضجيج القادم من الداخل، كان صمت سيرا الطويل كفيلاً بإشعال غيظ حورية، حتى أن كلمات الاعتذار التي أعدتها سلفًا تلاشت من ذهنها لتقول بنبرة عتاب لم تكن في محلها:

-انتي لسه زعلانة مني؟!

رفعت سيرا بصرها نحوها متعمدة الرد ببرود ظاهر:

-لا عادي كنتي عايزاني في إيه؟

زفرت حورية أنفاسها الملتهبة محاولة الحفاظ على هدوئها، ثم قالت بنبرة شبه حانقة:

-شوفت على الفيس إنكوا اتجوزتوا مبروك!

تبدلت ملامح سيرا من الوجوم إلى إشراقة حالمة، وقالت بسعادة صادقة:

-اه كتبنا الكتاب، بس لسه الفرح أكيد هعزمك.

نظرت إليها حورية بجدية وقالت بنبرة لا تخلو من القلق:

-واثقة من اللي انتي بتعمليه يا سيرا؟

وقبل أن تهم سيرا بالرد اقتربت منها حورية وخفضت صوتها قائلة بصدق وحرص واضح:

-أنا بس خايفة عليكي، انتي ماتعرفيش إيه مستنيكي؟....

رفعت سيرا حاجبيها باعتراض حاد وأجابت بنبرة غاضبة:

-إيه اللي مستنيني يا حورية؟! مش فاهمة الصراحة انتي عايزة توصلي لأيه؟ في عندك حاجة جديدة عن يزن غير اللي قولتيها، ولا هو هو كلامك لسه ماتغيريش!

نظرت إليها حورية بامتعاض وقالت بنبرة استفزازية:

-وهو اللي أنا قولته زمان مش كفاية إنك كنتي تهربي من الجوازة الشؤم دي!

ضغطت سيرا على أسنانها محاولة كبح انفعالها ثم قالت بغضب مكبوت:

-ومين قالك إنها جوازة شؤوم، يزن اللي مش عاجبك ده، أكتر راجل شوفته في حياتي عارف يعني إيه بنت ناس وبيعرف يصونها ويقدرها، انتي ماتعرفيش هو عملي إيه؟ ولا دافع عني ازاي؟ أنتي ماتعرفيش إيه اللي ما بينا ولا مرينا بإيه ولا هو وقف جنبي ازاي؟ لو سمحتي متجيش 
تديني دروس وتعلميني امشي حياتي ازاي!

نهضت حورية واقفة تنظر إليها بنظرة فيها شيء من التهكم، وعقدت ذراعيها أمام صدرها قائلة باستياء:

-من الواضح إنه عرف كويس يعملك غسيل مخ وعرف ازاي يسيطر عليكي؟

اقتربت سيرا منها غاضبة مشيرة إليها بحدة:

-هو انتي يزن مضايقك في إيه أنا عايزة أعرف بجد؟ أصل مش معقول هجومك عليه يا حورية؟ 

هزت حورية رأسها ساخرًة وقالت بابتسامة ممزوجة بالمرارة:

-كمان شكيتي فيا؟! وده كله عشان خاطره! يا بنتي أنا خايفة عليكي وعايزاكي تتجوزي راجل بجد.

صرخت سيرا بحرقة خرجت من أعماقها:

-ويزن راجل بجد يا حورية، وبعدين انتي مالكيش دعوة بحياتي ولا أنا بعمل إيه ولا هرتبط بمين؟ أنا كبيرة بما فيه الكافية واقدر اميز الشخصية اللي قدامي كويس، يزن ده أنا عمري ما هعرف أعوضه ولا أرد جزء من اللي عمله معايا، وعارفة كويس إنك مضايقة منه لمجرد إنه كمل معايا وأنا مسمعتش كلامك وفضلت معاه.

اقتربت منها خطوة إضافية وقالت بصوت منخفض صارم:

-حورية أنا مش هسمحلك تاني تقللي من يزن، ولا تتكلمي عليه بطريقة ماتعجبنيش، ولو سمحتي متجيش تاني وتتدخلي في حياتي زي ما أنا مبدخلش في حياتك.

نظرت إليها حورية باشمئزاز وقالت باستخفاف:

-بقيتي بجحة زيه، نجح إنه يخليكي نسخة منه.

ابتسمت سيرا بسخرية وأجابت بثقة:

-وليا الشرف يا حورية، سامعة أنا ليا الشرف إني أكون نسخة منه.

ثم تجاوزتها بخطوات حادة ولكنها توقفت عند عتبة باب الشرفة حين رأت شهيرة أخت حورية، تقف هناك تنظر إلى أختها بغيظٍ مكبوت، لكنها وجهت حديثها إلى سيرا بهدوء مصطنع:

-ازيك يا سيرا، الف مبروك يا حبيبتي.

أومأت سيرا برأسها مجيبة بلطف ظاهري:

-الله يبارك فيكي يا أبلة شهيرة.

ثم غادرت متجهة نحو قاعة الاحتفال، تاركةً شهيرة تغلي غضبًا وهي تمسك بذراع أختها وتقول بانفعال مكبوت:

-يلا هنروح والله لقايلة لماما وبابا على عمايلك السودة، عشان أنا مش صغيرة عشان اسمع كلمتين من مليكة وهي بتقولي ابعدي اختك عن يزن وحياته، وتهزقني بالادب عشان نقلت كلام وعملت ليها مشاكل، امشي قدامي دي شبه طردتني بالذوق.
                                        ***

انتهى الاحتفال أخيرًا وعادت عائلة سيرا إلى منزلهم وقد بدت على وجوههم علامات الإرهاق الممزوج بالرضا، إلا أن المفاجأة كانت في انتظارهم عند مدخل البناية،
فقد كانت والدة فايق تجلس على الرصيف أمام البوابة الحديدية شاحبة الوجه، متجهمة الملامح كأنها قضت الليل كله في البكاء والانتظار، وما إن أبصرت سيرا تترجل من السيارة برفقة يزن الذي أصر على إيصالها بنفسه، حتى اندفعت نحوها بخطوات متعثرة وهي تجهش بالبكاء، تمسك بذراعيها برجاء يائس أقرب إلى الجنون، فقالت بصوت مرتعش مبحوح من فرط الانفعال:

-سيرا حقك عليا يا بنتي، ابوس جزمتك طلعي ابني من الحبس.

ارتبكت سيرا وتراجعت بخطوة إلى الوراء محاولة الابتعاد عنها، إلا أن المرأة كانت تتشبث بها بقوة هستيرية، فاضطرت إلى قول بضع كلمات بتوتر ظاهر:

-أنا ماليش دعوة هو....

لكن والدة فايق لم تدعها تُكمل بل قاطعتها وهي تزداد تمسكًا بذراعها وتلوح برأسها يمينًا ويسارًا في يأس وارتباك:

-لا انتي السبب وخطيبك ده السبب، هو فايق اللي قالي كده.

تجمعت عائلة سيرا حولها بسرعة، وشعر يزن بخطر الموقف وبالخوف على سيرا التي ارتجفت من شدة الموقف، فتقدم منها بخطوة حازمة ومد يده ليحاوطها بذراعه، يجذبها خلفه بحماية واضحة ثم واجه المرأة بنظرة صارمة ونبرة حادة قائلاً:

-ابنك يقولك اللي هو عاوزه، هو دلوقتي مقبوض عليه بسبب مصايبه وسيرا مالهاش دعوة بأي حاجة بتحصله.

رفعت والدة فايق وجهها المبلل بالدموع نحوه، وردت بصوت واهن متهدج:

-لا هما سجنوه عشان هو وز واحد على سيرا، بس والله ما كانت نيته يأذيها.

ضرب والد سيرا كفًا بكف وقد بدا الغضب على ملامحه، وقال بحدة ممزوجة بالاستياء:

-يعني معترفة باللي ابنك عمله، بصي يا ست ام فايق احنا طول عمرنا جيران ولا عمرنا حصل بينا مشاكل إلا لما فايق قل بأصله مع بنتي كذا مرة، وأنا عن نفسي مش هنسى اللي عمله معاها ولا قهرة بنتي وخوفها منه كل مرة، فيا ريت تبعدي عننا وببلاش مشاكل حفاظًا على الجيرة.

كانت الأم تهم بالرد من فرط انكسارها، لكن يزن لم يمنحها تلك الفرصة إذ أمسك بذراع سيرا برفق وحزم في آن واحد، وحركها نحو باب البناية مبتعدًا بها عن تلك المواجهة المرهقة، تاركًا وراءه عائلتها تحاول تهدئة الموقف، بينما تصاعدت نبرة الجدال في الأسفل بين أم فايق وأهل سيرا، وارتفع صوت البكاء والتوسل منها حتى تلاشى في ضجيج الشارع.

وفي خضم تلك الفوضى كانت دهب تتابع مغادرتهما بعينين تضطرمان غضبًا مكتومًا، ولم تدرك أن والدتها كانت تراقبها هي الأخرى منذ أن علمت من يزن بكل ما أخفته عنهم، فارتسمت على وجه حكمت نظرة حذرة ممتزجة بالريبة.

صعد يزن وسيرا إلى الشقة في صمتٍ ثقيل والدهشة لا تفارق ملامحها، وقفت عند نهاية الدرج ثم رفعت نظرها إليه متسائلة بصوت خافت تغلفه الحيرة:

-ليه طلعتني فوق؟

اقترب منها يزن وأجاب بنبرة هادئة لكن قاطعة:

-عشان مش عايزك تتأثري بيها وخصوصًا إنها هي وابنها متربوش.

نظرت إليه سيرا بابتسامة رقيقة حاولت بها أن تبعث الطمأنينة في نفسه، وهزت رأسها نافية بلطف:

-لا مكنتش هتأثر متقلقش، أنا مش هبلة اوي كده.

رمقها يزن بنظرة تجمع بين السخرية والعطف، وابتسم بخفة قائلاً بنبرة مازحة:

-والله ما فيه أهبل منك أساسًا.

ضحكت بخفة لكنها فاجأته بخطوة غير معتادة منها؛ إذ أمسكت بياقة قميصه وجذبته نحوها في جرأة هادئة، وقالت بنبرة حازمة خافتة تفيض ثقة وذكاء:

-لا طبعًا أنا فاهمة كويس أوي اللي حواليا، أنا اه ابان عبيطة بس فاهمة اللي بيدور حواليا، زي ما فهمت كده انك أكيد كلمت مليكة في حاجة تخص حورية، خليتهم يمشوا بسرعة ويسيبوا الحفلة.

لم يحاول يزن نفي التهمة بل اقترب منها أكثر حتى كاد أن يلامس أنفاسها، ثم همس بنبرة شغوفة دافئة، امتزج فيها الحنان بالصدق:

-حقي، أنا خوفت تأثر عليكي، وأنا ما صدقت أن دماغك اتعدلت من ناحيتي.

ارتسمت على وجهها ابتسامة ناعمة مشوبة بخجل أنثوي، وقالت بدلال صادق وهي تنظر في عينيه المليئتين بالشغف:

-هي معدولة والله يا يزن ومن أول يوم شوفتك فيه، بس أنا نفسي لما اتجوز استقر ومتطلقش أو أكون اختياري غلط، فكنت بتأنى في قراري بس وبشوف الشخص اللي قدامي هيستحق اتمسك بيه ولا لا؟

مد يزن أصابعه بلطف ليداعب جانب وجهها بحنان عميق، وسألها بصوت خفيض دافئ:

-ها ولقيتيه يستحق ولا لا؟

تنفست سيرا بعمق ثم أمسكت بيده التي لامست وجهها، وقالت بنبرة متألقة بالمشاعر خرجت من عمق قلبها المفعم بالحب:

-طبعًا، انت خلتني اشوف كل الرجالة جنبك ولا حاجة، انت حاجة كبيرة اوي بالنسبالي.

ابتسم يزن اتساعًا ثم أمسك بيدها وقبلها قبلة هادئة تفيض حنوًا، وقال بمزيج من الجد والمزاح:

-يا رب دايمًا افضل في نظرك كده يا حبيبتي  ويبعد عننا ولاد الوارمة اللي عايزين يخربوا علينا.

ضحكت بخفة متلألئة وهي ترد عليه بدلال مرح:

- فعلاً هما كتير اوي.

نظر إليها يزن بعينيه اللتين تلتمعان حبًا وقال بنبرةٍ مازحة رقيقة:

-أنا بقول نسرع في الجوازة دي عشان حالتنا تصعب على الكافر.

ضحكت بقوة وهي تبتعد عنه قليلًا ثم دخلت شقتها بخفة ووقفت خلف الباب تُطل برأسها لتقول بمزاح بريء:

-حالتك انت، لكن أنا زي الفل وفي أكتر لحظات حياتي سعادة.

ابتسم يزن وهو يتأملها بنظرة طويلة محملة بالحب، وقبل أن يرد سمع صوت بابٍ يُغلق في الأسفل بقوة مريبة، فتعجب وأشار إليها مودعًا وهو ينزل الدرج بخطوات متسارعة.
أما سيرا فقد عقدت حاجبيها في حيرة من ذلك الصوت، ثم اندفعت نحو الشرفة بخفة قلقة، لتطل من فوق وتراقب ما يجري في الأسفل...تحاول بعينيها أن تفهم ما الذي انتهى إليه الجدال بين عائلتها ووالدة فايق.

                                    ****

دخلت دهب غرفتها بنفاد صبر واضح، وهي تُلقي حقيبتها أرضًا بضيق ظاهر، ثم اندفعت نحو هاتفها تتلهف لمحادثة صديقتها لتخبرها بما استجد من أمور، لكنها لم تكد تلمس الهاتف حتى فوجئت بصوت الباب يُفتح بعنف شديد، لترى والدتها تدخل كالإعصار تحمل عصاها الخشبية الشهيرة، وتلوح بها بوجه متشنج تفوح منه رائحة الغضب، حتى بدا المشهد كله كأنه بركان هائج، فصرخت حكمت بصوتٍ مدو أرعب ابنتها:

-بقى يا صايعة تسرقي شبكة خالتك، وتطلعي حرامية؟ تربيتي أنا تكون حرامية في الآخر!

تراجعت دهب إلى الخلف بخطوات متعثرة، وجسدها يرتجف من شدة الصدمة، وردت بصوت مبحوح مرتعش:

-آآ...قصدك إيه يا ماما؟ أنتي بتقولي إيه؟

لكن حكمت لم تُمهلها لحظةً واحدة، وهوت بالعصا فوق جسدها بعنف جعل صرخة الألم تخرج من بين شفتي دهب رغمًا عنها، فكانت ضربتها قاسية كمَن يفرغ سنوات من القهر في لحظة، حتى  صاحت بعنفٍ جنوني:

-بقول اللي سمعتيه يا قليلة الرباية، يا سافلة، بتبصي كده ليه على خطيب خالتك يا سافلة.

شهقت دهب بفزع وهي تلوح بيديها نافية بسرعة هستيرية، تكرر كلمات النفي دون أن تجد من يسمعها، لكن حكمت لم تهدأ بل تحركت بخطوات غاضبة نحو الهاتف الملقى على السرير، التقطته بعنف وهي تصرخ بأعلى صوتها:

-افتحي التليفون ده يا بت، افتحيه حالاً.

هزت دهب رأسها رافضة في هستيريا خوف عميق، والدموع تتساقط من عينيها كمَن يستجدي الرحمة، ولكن رفضها لم يُزد حكمت إلا يقينًا بما سمعته، فاشتد جنونها ورفعت العصا مجددًا تهوي بها على جسدها المرتعش وهي تصرخ بأمرٍ لا نقاش فيه:

-بقولك افتحيه حالاً!

ارتجفت دهب وهي تحمل الهاتف بيدين مرتعشتين، أناملها بالكاد تطيعها من شدة الرعب، ثم ضغطت كلمة السر ببطء ووجل، وسلمت الهاتف لوالدتها التي خطفته بسرعة،
بينما حكمت انتقلت بين تطبيقات الهاتف ورسائل الدردشة، وما إن بدأت القراءة حتى انكمش وجهها تدريجيًا من الصدمة إلى الذهول، ثم إلى ملامح قاسية لم تعرفها من قبل، وجدت أمامها فتاة لا تشبه تلك الطفلة التي ربتها ولا الفتاة التي كانت تظنها مطيعةً بريئة، بل وجدت كلمات ورسائل تكشف حياة خفية ومشاعر تافهة، واندفاعات لا تعرفها في ابنتها.

رفعت وجهها ببطءٍ والدموع تسيل من عينيها متخاذلة، بينما الغضب يكاد يخنقها، ثم انتابتها حالة من الهياج غير المسيطر عليه، فراحت تضرب ابنتها بعصاها في كل اتجاه، وهي تصرخ بصوت مبحوح اختلط فيه الألم بالعار:

-يا سافلة....يا قليلة الادب، أنا ربيتك على كده.

كانت دهب تصرخ بألم وهي تحاول الهروب داخل الغرفة، تتقافز من مكان إلى آخر، تحتمي بالجدران والأثاث والعصا تلاحقها كأنها تعرف طريقها إلى جسدها الصغير، وبينما كادت إحدى الضربات أن تُصيبها في رأسها، اندفعت سيرا إلى الغرفة بخطوات سريعة تسبقها شهقة الفزع التي خرجت من صدرها، واحتوت جسد دهب بين ذراعيها، تحميها بجسدها وهي تصرخ لأول مرة في وجه أختها الكبرى:

-بس يا أبلة انتي بتعملي فيها إيه؟!

صرخت دهب في حضن سيرا تبكي بحرقة وتشهق بأنفاس متقطعة، بينما تلقت سيرا ضربة عنيفة دون قصد فوق يدها فارتجفت من الألم لكنها كتمت صرختها بصعوبة، تحاول ألا تترك الصغيرة وحدها في مرمى الغضب.

وقبل أن ترفع حكمت العصا مجددًا، سُمع صوت الباب يُفتح بقوة ثم اندفع صافي إلى الداخل، فقبض على ذراع حكمت بقوة حازمة، وجذبها خلفه إلى غرفتهما، وأغلق الباب بعنف وراءه، وصاح بصوت غاضبٍ متهدج:

-اقعدي خلاص اسكتي!

صرخت حكمت محاولة الإفلات منه وهي تدفع الباب بعصبية:

-سيبني يا صافي، سيبني اربيها الكلبة دي اللي فضحتني.

انتزع العصا من يدها ورماها على الأرض بقوة جعلت صوت ارتطامها يملأ الغرفة ثم التفت إليها بعينين تتقدان غضبًا وقال بصرامة مؤلمة:

-الفضيحة دي انتي السبب فيها يا حكمت، ماتلوميش على بنتك وانتي السبب في كل حاجة!

تراجعت خطوتين إلى الخلف تحدق فيه بدهشة وصدمة، وقالت بصوت مرتجف يختلط فيه الاستنكار بالذهول:

-قصدك إيه بإن أنا السبب؟! هو انا كنت اعرف باللي عملته وبتهببه!

رفع صافي صوته وهو يلوح بيده في وجهها وقد تفجر فيه الغضب الذي كتمه لسنوات:

-عملته نتيجة اهمالك يا حكمت، عملته عشان انتي سبتيها تتربى لوحدها وشغلتي بالك باخواتك وباللي حواليكي، بتتدخلي في كل كبيرة وصغيرة في حياة اخواتك وسايبنا احنا، بتطلعي عيوب في كل الناس وانتي تربيتك في بنتك كلها عيوب، ماخدتيش بالك خالص إنها في فترة مراهقة ومحتجاكي! لكن ازاي تفضلي تحشري مناخيرك في حياة الناس كلها، ومش واخدة بالك مننا، وجاية تلومي على بنتك في الآخر.

كانت كلماته كسكاكين حادة تمزق كبرياءها، فاهتزت شفتاها واغرورقت عيناها بالدموع ثم قالت بصوت مبحوح تكاد الكلمات تتعثر فيه:

-انت بتقولي أنا كده يا صافي؟

اقترب منها بخطواتٍ هادئة بعدما انطفأ بعض الغضب في صوته، وقال بصدق مؤلم ونبرة حازمة:

-اه بوعيكي يا حكمت عشان تفوقي لنفسك ولبنتك ولبيتك، وتسيبك بقى من اخواتك واللي حواليكي، ولو كان هما بيسكتوا ليكي عشان بيحترموكي، بس هيجي الوقت اللي ينفجروا فيكي عشان تبعدي عنهم.

لم تجد حكمت ما تقول فجلست على حافة الفراش وقد خارت قواها تمامًا، والدموع تنهمر على وجنتيها في صمت موجع، فلم تكن تتوقع أن تسمع من زوجها تلك الكلمات، ولا أن ترى نفسها بهذا القبح الذي رسمه في مرآة الحقيقة،
بينما ظل صافي جالسًا إلى جوارها، يربت على كتفها بحنان ثقيل:

-متزعليش مني يا حكمت لو كنت قاسي معاكي في الكلام، بس من حقي أوعيكي، احنا محتاجينك حوالينا وبالذات دهب، عايزة كل  اهتمامك، وانك تراعيها مش بالضرب ولا بالعنف....صاحبيها يا حكمت انتي امها واقربلها مني، شوفي اصحابها مين، شوفي إيه اللي وصل لبنتك كده، بنتك بتدور على الاهتمام برة في الحب عشان احنا فشلناه نديهولها صح.

بينما كانت سيرا في غرفة دهب، ما تزال تحتضنها في صمت مبلل بالدموع، تهدهدها برفق كأنها تحاول أن تمسح عن قلبها خوف الطفلة ووجع الصفعة، وكان عقلها يكاد يجن مما سمعته من صافي قبل دخولها إلى الغرفة، ولكن طيبة قلبها لم تسمح لها بأن تنتقم من دهب، بل كانت لها خير عون وسند.

                                            *****

في اليوم التالي...

دخلت حسناء إلى العيادة بخطوات متثاقلة تفيض بالضيق، وعيناها تجولان في المكان كأنهما تمسحان كل زاوية فيه بكره دفين وحقد مكتوم، بدا وجهها شاحبًا من أثر السهر والتفكير، وارتسمت على محياها ملامح امرأة أنهكها الغضب وأثقلها التردد في الانتقام، زفرت بأنفاس ساخنة تحمل في طياتها ضجرًا عميقًا، ثم وضعت حقيبتها الجلدية الزرقاء فوق المكتب المخصص لها بإهمال ظاهر.

رفعت نظرها نحو الساعة المعلقة أمامها، تتأمل عقاربها التي تتحرك ببطء يثير في داخلها نفاد الصبر، ثم اتجهت بخطوات محسوبة نحو غرفة مكتب نوح، وما إن دفعت باب الغرفة حتى تفاجأت بوجوده جالسًا خلف مكتبه، محني الرأس على أوراق متناثرة، يخط عليها ملاحظات سريعة.

توقفت عند عتبة الباب ثم قالت بنبرة رسمية حاولت أن تخفي وراءها اضطرابها:

-معلش يا دكتور مكنتش اعرف إنك هنا!!

رفع نوح رأسه ببطء وارتسم على وجهه ابتسامة خفيفة لم تفهم معناها، فرد بهدوء وثقة ظاهرة:

-لا عادي يا حسناء، كويس أنك جيتي، عايزك تظبطيلي المواعيد وتشوفي أمور العيادة اليومين دول.

لم تُجبه في الحال بل أخذت نفسًا عميقًا، كأنها تجمع شتات قرار اتخذته بعد صراع طويل مع نفسها، ثم قالت بجمود ظاهر وبنبرة تحمل في طياتها إصرارًا خفيًا، وهي تضع نهاية خطتها التي أعدتها في صمت منذ الليلة السابقة:

-كنت جاية عشان اقولك أنا أسفة مش هقدر اكمل في العيادة بعد اللي حصل، بس متقلقش أنا هجبلك واحدة مكاني.

تبدل وجهه وبدت على ملامحه علامات المفاجأة والرفض في آنٍ واحد، فقال بصوت يختلط فيه التعجب بعدم الرضا:

-إيه القرار المفاجئ ده يا حسناء؟ انتي عارفة كويس أني مقدرش استغنى عنك.

رفعت عينيها إليه بنظرة حادة يملؤها الشك والاستنكار، وكأنها تتساءل في سرها، أهو صادق فيما يقول أم يبتغي تهدئتها فحسب؟ لكنه استكمل كلامه بجدية واضحة:

-أنا عارف أنك زعلانة من اللي يسر عملته، أنا روحت وكلمتها بس هي ولدت، تعدي الظروف دي وأنا هجبلك حقك، تمام؟!

لم تُجبه سوى بإيماءة خفيفة من رأسها، ولكن في داخلها كان الشك يتسلل كأفعى هادئة تلتف حول يقينها، لم تكن عينا نوح صافية كما ادعى، بل كان فيهما غموض لم تطمئن له، ومع ذلك آثرت الصمت وخرجت من الغرفة وهي تحمل في داخلها أفكارًا متشابكة تتنازعها، بين الغضب الذي يشتعل في صدرها والطمع الذي بدأ يمد جذوره في أعماقها، تتهيأ لاقتناص فرصة تجعلها ثرية وسعيدة دون أن تُتهم أو يُشك بأمرها.

لم تمضِ سوى دقائق معدودة حتى خرج نوح من غرفته، وقد بدا مستعدًا للانصراف، فكان يمسك بسترته الجلدية ويهم بالخروج وهو يقول بنبرة هادئة:

-سلام يا حسناء، واعملي اللي قولتلك عليه.

لكنه ما لبث أن توقف عند عتبة الباب، والتفت إليها فجأة وصوته يفيض برجاء غير مألوف:

-عشان خاطري يا حسناء وانتي مروحة ادخلي اوضة الكشف هتلاقي في المكتب في الدرج الأخير شنطة فلوس سودا وفيها جيب صغير سايبلك فيه مفتاح الشقة والباقي طبعًا انتي عارفاه، سلام.

عاد خطوة واحدة إلى الداخل وابتسم لها ابتسامة صغيرة لم تدرِ إن كانت صادقة أم مصطنعة، ثم قال وهو يشير إليها بيده:

-خلي بالك عشان المبلغ المرة دي كبير اوي، وأنا معنديش غيرك اثق فيه.

ثم غادر العيادة بخطوات ثابتة، تاركًا وراءه هواء مثقلاً بالتساؤلات، ظلت حسناء تتابعه بنظرات متسائلة تستقصي ما وراء حديثه المفاجئ، أتراه شعر بالذنب لما فعلته زوجته بها؟ أم أن لابنه الصغير تأثيرًا جعل قلبه يلين؟!

لحظات من التردد مرت، قبل أن تدفعها رغبة غامرة إلى الدخول إلى غرفة الكشف، دفعت الباب بهدوء وتوجهت مباشرة نحو المكتب، فتحت الأدراج واحدًا تلو الآخر بعجلة ظاهرة، إلى أن وصلت إلى الدرج الأخير فوجدت الحقيبة التي وصفها لها، كانت حقيبة جلدية سوداء لامعة الأطراف وثقيلة الوزن.

مدت يدها بتردد، ثم أمسكت بها وفتحتها ببطء حذر، لتتسع عيناها دهشة أمام ما رأت، رزم من الأوراق النقدية مرتبة بعناية، مدت أصابعها تتحسس ملمس الأوراق كأنها تتحسس الحلم الذي طال انتظاره، ثم تمتمت بصوت خاف يقطر حقدًا وسخرية:

-يا ابن المحظوظة الفلوس بتلعب معاك لعب.

ارتفع حاجبها الأيسر وابتسمت ابتسامة جانبية يلوح فيها الطمع، ثم همست كأنها تبرر لنفسها جريمتها القادمة:

-يعني الكام باكو دول لو اخدتهم مش هيعملوا حاجة؟!

أغلقت الحقيبة بخفة وأخرجت رزمتين من داخلها لتخبئه في حقيبتها الخاصة، ثم خرجت من المكان بخطواتٍ ثابتةٍ تحمل بداخلها لهفة خفية، متجهة نحو منزل نوح وهي تبتسم ابتسامة ماكرة تنذر بنهاية خطتها.

                                             ****

دخلت سيرا إلى المعرض بخطوات متأنية يغمرها الترقب، حتى وقعت عيناها عليه، فكان يقف إلى جوار سيارة حديثة الطراز، يلمع هيكلها تحت وهج الشمس، بينما هو منشغل بتدوين ملاحظاته في دفتر صغير يحمله بيده.

وقفت تتأمله بصمت يفيض بالحب والدهشة تكسو ملامحها من شدة اندماجه في عمله، فكان تركيزه الصارم وهيئته الواثقة يليقان به إلى حد يُربك القلب، ظلت تتابعه بعينيها حتى دخل مكتبه وهو لا يزال يسجل ملاحظاته دون أن يلتفت حوله، كأن العالم بأسره قد انحصر في أوراقه تلك.

تحركت خلفه بخفة حتى كادت تصطدم بباب المكتب الذي هم بإغلاقه بقدمه دون أن يلتفت، لكنه توقف فجأة عندما شعر بيد صغيرة تدفع الباب من الخلف، فالتفت بدهشة طفيفة، ليفاجأ بها واقفة خلفه تبتسم له بعفوية محببة، قائلة بنبرة مازحة رقيقة:

-يااااه لدرجادي مش واخد بالك مني؟

ارتسمت على وجهه ابتسامة واسعة، تحمل بين طياتها فرحًا صادقًا، ورد عليها بخفة ظله المعهودة:

-نورتي يا سرسورة. 

اقترب منها بخطوات دافئة وقبل جبينها بحنو شديد، ثم أفسح لها المجال لتدخل المكتب وأغلق الباب خلفها برفق، ولكنه لاحظ الضمادة البيضاء التي تلتف حول يدها المتورمة قليلًا، فتبدل وجهه قلقًا واقترب منها على عجلٍ ممسكًا بيدها بين كفيه يسأل بلهجة خشنة يغمرها القلق:

-مين عمل فيكي كده؟! أنا سايبك سليمة امبارح!

نظر إليها بتمعن يحمل مزيجًا من الغضب والخوف، ولكنها  فاجأته عندما ضحكت بهدوء وهي تتذكر الموقف قائلةً:

-لا دي أبلة حكمت ضربتني بالعصاية وماكنتش تقصد!

عقد حاجبيه في استنكار واضح وهو يقول:

-يعني إيه معلش مكنتش قصدها؟!

لم تشأ أن تُشعل الجدال فاختارت أن تمازحه، وأبدلت ملامحها إلى حزن مصطنع وهي تهمس بعتاب رقيق:

-لا ما انت السبب في ده كله! 

اتسعت عيناه دهشة وهو يشير إلى نفسه مستنكرًا:

-أنا السبب ازاي؟!  أنا هخليها تضربك؟! ده أنا مبستحملش عليكي الهوى!

مطت شفتيها بطفولة متذمرة وهي تقول:

-قولتلها ليه على دهب يا يزن؟ ومجتش قولتلي أنا، دي حاجة زعلتني اوي.

تنهد بعمق وجلس أمامها على الطاولة، وصوته يخرج هادئًا لكنّه يحمل شيئًا من العتاب:

-وانتي لو قولتلك كنتي عملتي إيه؟! كنتي كلمتي دهب ومارضتيش تعرفي اختك صح؟!

هزت رأسها بإيجاب مؤكد وهي تنظر إليه بعينين تتقدان بالعاطفة:

-ايوه كنت هعمل كده عشان معرضش دهب لضرب يا يزن؟ كنت هنصحها مرة واتنين لغاية ما تتعدل.

أطرق رأسه قليلًا ثم قال بحزم مشوب بالحزن:

-أنا مقصدتش أبدًا لما اقول لأبلة حكمت إنها تضربها، أنا كمان نصحتها إنها تحتويها، بس يا حبيبي موضوع دهب مينفعش أبدًا بالنصيحة، البنت واصلة لمرحلة صعبة ولازم رادع في حياتها، وحد يكون رقيب عليها، أنا لو مش خايف عليها مكنتش هتصرف كده، اختك كانت لازم تعرف وتاخد بالها من بنتها شوية!

نظرت إليه بهدوء واستغراب وقالت بنبرة أكثر لينًا:

-ماشي يا يزن بس انت بردوا ماتعرفش أبلة حكمت بتتصرف ازاي، دي ماسكة العصاية للغريب قبل القريب، كنت متخيل هتعمل فيها إيه؟

أجابها بجدية ثابتة:

-في النهاية هي أمها يا سيرا، ولازم تفوق وتهتم معلش ببنتها شوية، البنت لو كانت كملت على نفس الطريق كانت ضاعت.

ابتسمت  نصف ابتسامة وقالت بمكرٍ أنثوي:

-غريبة، أنا حاليًا محتاجة حورية تيجي وتشوفك انت ازاي راجل بتعرف تتصرف صح، وتغير نظرتها عنك.

ضحك بخفة وقال دون اكتراث:

-ميمهمنيش يا سيرا، هي من الأساس متفرقش معايا كلامها، وبعدين اعذريها هي نظرتها محدودة ومينفعش نلومها، يعني هي مقتنعة طالما أنا كنت بتاع بنات يبقى ممكن استغل أي بنت تيجي قدامي حتى لو صغيرة، على أساس أنا كنت بستغل الكبار فقررت اغير نشاط!!

ضحكت بخجل وهي تقول بهدوء صادق:

-عارف موقفك مع دهب طمني إني اختياري صح، واحد مكانك كان استغلها!

رفع حاجبه مازحًا وقال:

-استغل مين!!! مش لما  اعرف استغلك انتي الاول.

ضحكت بخجل وأشارت نحوه بيدها المتورمة قائلةً بتحذير لطيف:

-بس بعد كده لازم أي حاجة تخص اهلي تيجي وتعرفني الاول.

اقترب منها ببطء ووضع كفه على خدها بحنو صادق وهمس بنبرة دافئة تحمل خوفًا حقيقيًا:

-خوفت عليكي.

تطلعت إليه بعينين لامعتين وسألته بخفوت:

-من إيه؟؟

أجاب بصوتٍ يقطر صدقًا:

-يحصلك مشاكل، حد يضايقك، أو مثلاً دهب تستغلك غلط وخصوصًا أنك أهبل منها كتير وهي اوعى وانصح.

انتفضت سيرا بمرح مصطنع وقالت:

-إيه ده انت بتشتمني على فكرة.

ضحك قائلًا:

-مقصدش والله يا روحي أنا كل اللي اقصده مبحبش أدخلك في مشاكل، أنا عايزك على طول رايقة وبعيدة عن وجع القلب، أنا لو سيبتك قريبة من أي مشكلة برجع الاقيكي لبستيها لنفسك كلها.

أطلقت تنهيدة صغيرة وقالت بعتاب ساخر:

-يزن انت مش واخد بالك أنك مابتكملش كلمة حلوة في حقي؟؟

ابتسم بعفوية ورفع حاجبيه بدهشة مصطنعة:

-أنا؟! ازاي بقى؟ امال مين اللي فرحت بوجودها وبخاف عليها وعايزها على طول جنبي ومعايا، ومحستش إن أنا لقيت نفسي واكتفيت من كل اللي كنت فيه إلا بوجودها.

توردت وجنتاها وقالت بخجل طفولي:

-مين دي بقى؟!

أجابها ضاحكًا بخفوت دافئ:

-امممم واحدة اسمها سيرا...تعرفيها؟؟

ضحكت وقالت بخجلٍ:

-يعني اسمع عنها!

-صحيح يا سيرا؟ أنا مسألتكيش قبل كده، مين سماكي سيرا وليه ومعناه إيه؟

أطلقت ضحكة خفيفة وقالت بأسلوب قصصي مشوب بالحنين:

-يااااه دي قصة مأساوية اوي، بص يا سيدي خال بابا كان مدرس عربي ودين الله يرحمه بقى، لما أنا اتولدت بابا كان محتار يسميني إيه وكان مفكر إن كده خلاص أنا أخر اخواتي، فحب يسميني اسم مميز راح لخاله وسأله وكان وقتها خال بابا ده فاتح كتاب السيرة النبوية فقاله خلاص سميها سيرة وبابا عجبه الاسم وحس إنه مميز فراح الصحة يسجلني الراجل اللي بيسجل كان لسه مرجع مراته على ذمته بعد ما كان طلقها وغلط وكتبني بسيرا بالالف يعني، بابا حاول يقوله غيرها الراجل حلف بالطلاق ما هو مغيرها وبقيت سيرا، والناس اتحايلت على بابا يمشيها عشان خاطر مراته.

تأملها يزن لحظة ثم انفجر ضاحكًا بصوت عالٍ:

-يعني عاملة مشاكل من صغرك.

قالت متذمرة وهي تعبس في وجهه:

-ما تتريقش أنا أساسًا مبحبش اسمي، بحسه مش مفهوم واقعد اشرح للناس.

ابتسم بلطف وقال وهو يفتح درج مكتبه:

-بس أنا بحبه...بحبه اوي لدرجة انتي مش متخيالها...شوفتي دي.....

أخرج دفترًا جديدًا ذو غلاف مخملي أسود منقوش عليه اسمها بخط عربي ذهبي أنيق، أمسكته سيرا بين يديها بحنان بالغ، تتلمسه كأنها تحتضن شيئًا منها ثم فتحته لتتفاجأ بتواريخ مرتبة بعناية خلف بعضها، رفعت نظرها نحوه بدهشة فسبقها بالحديث:

-ده اول يوم شوفتك فيه مسجلتوش على طول بس سجلته بعدها لما بدأت أحس إنك اكبر من مجرد واحدة معجب بيها، ودي تواريخ المواعيد اللي كنتي بتديهالي عشان اقابلك ومابتجيش وده تاريخ خطوبتنا وكتب كتابنا...

كان يتحدث بصدق وهدوء، بينما أصابعها تلامس يده برفق وتهمس بصوت متقطع:

-حاسة قلبي هيقف من اللي بسمعه، وأنا اللي كنت مفكرة نفسي بحبك من اول لحظة، طلعت انت كمان معجب ومداري.

ضحك يزن بحب على عفويتها بينما كانت تقلب الصفحات فتتوقفت أمام  تلك العبارات  الانجليزية التي كانت مرفقة مع الصور التي نشرها لهما على مواقع التواصل الاجتماعي، كانت السعادة تملأ وجهها حتى وقعت عينها على عبارة غريبة بخط عربيّ أنيق:

"غَنَاء الروح"

رفعت رأسها تسأله بفضول طفولي صادق:

-يعني إيه؟!

أجابها مبتسمًا:

-يعني اكتفاء...أنا مكتفي بيكي، هو الصراحة مش أنا اللي ألفتها زي دول...

وأشار نحو العبارات الانجليزية الأخرى، مستكملاً بهدوء:

-استعنت بنوح صاحبي عشان اشطر مني في العربي وكنت عايز احطها في دعوة الفرح.

اتسعت عيناها دهشة وهمست بخفوت مرتبك:

-دعوة الفرح؟

-اممم...

نهض من مكانه واتجه إلى مكتبه، ثم عاد يحمل بيده بعض التصميمات الورقية وقال بابتسامة واثقة:

-كنت هقولك عليهم عشان تشوفيهم وتختاري أنهي واحد منهم عاجبك.

تناولت الأوراق بيد مرتجفة تتأمل الدعوات المزخرفة بعناية، وكلها تتقدمها تلك العبارة نفسها مكتوبة بماء الذهب، شعرت بسعادة طاغية تكاد تفيض من ملامحها، وودت لو احتضنته في تلك اللحظة لكنها تماسكت وخفضت نظرها خجلًا، فوجدته يقترب منها بهدوء، ثم انحنى وقبل جبينها قبلة طويلة ناعمة، وهمس برقة مملوءة بالعاطفة:

-هخرج اشوف الناس اللي برة دي عايزين إيه؟ واجيلك تكوني اختارتي الدعوة والميعاد اللي يناسبك بس حاولي متطوليش عليا، عشان مخطفكيش من بيت اهلك بلا فرح بلا حوارات تبعدني عنك.

جلست في صمت والدفتر بين يديها، تتأمل اسمها المذهب على الغلاف وعبارة «غناء الروح» التي صارت تنبض في قلبها كأنها وعد أبدي، رفعت بصرها نحو الباب الذي خرج منه قبل لحظات، وابتسامة خجولة تتسلل إلى شفتيها، فلأول مرة شعرت أن القدر لم يكن قاسيًا كما ظنت، وأن هذا الرجل الذي دخل حياتها صدفة، صار وطنها الذي لا تخشى الرحيل منه أبدًا.
                                            ****

حاولت حسناء إدخال المفتاح في باب شقة نوح مرارًا، ولكن القفل أصر على عدم الانفتاح، زفرت بضيق وهي تتمعن المفتاح بين أصابعها، ثم تغير تعجبها إلى اندهاش، إنه نفس المفتاح الذي كانت تأخذه مرارًا من قبل، إذًا أين المشكلة؟! رفعت هاتفها لتتصل بنوح، ففوجئت به مقفلاً.

 ماذا ستفعل بالحقيبة المليئة بالمال؟ إلى أين تذهب بها؟ بعد تردد قصير اختارت أن تأخذها معها إلى البيت.

نزلت من البناية واستقلت سيارة أجرة واضعة الحقيبة في أحضانها كما لو كانت حملًا ثمينًا يجب حراسته، كان قلبها يخفق بسرعة من الخوف أن تسرق، وما إن وصلت إلى منزلها وفتحت الباب حتى فاجأتها والدتها تمشي في أرجاء المنزل تنثر الملح وتهمس بتعاويذ قديمة، لكن عيني والدتها توقفتا عاجزتين أمام الحقيبة السوداء التي تحتضنها.

فقالت بلهجة حادة ومندهشة:

-إيه دي يا بت؟!

لم تجب حسناء؛ دخلت غرفتها ووضعت الحقيبة على الفراش، شرعت تتخلص من ملابسها محتاجة إلى لحظةٍ من الراحة، لكن توجه والدتها إلى الحقيبة بخطى سريعة أوقفها، وخاصة عندما فتحتها بفضول جارف، فإذا برزم المال أمامها، برزت أعينها دهشة وانطلقت شهقة قوية منها:

-يالهوي سرقتيه يا بت؟

تقدمت حسناء بسرعة وأمسكت بالحقيبة، عيناها تلمعان بالغضب والتبرير معًا فأجابت باستنكار محكم:

-لا طبعًا هو أنا غشيمة ولا إيه؟ دي فلوس ادهالي ارجعهاله البيت بس تقريبا اتلخبط واداني مفتاح غلط وقافل تليفونه، فقولت اجيبهم هنا لغاية ما يرد، بقولك ياما متدخليش حد غريب هنا الشقة لغاية ما الفلوس دي تمشي من البيت

ردت والدتها بنبرة ساخطة لا تخلو من خوف وحذر:

-اللي يشوفك كده يابت يقول خايفة على مصلحته؟!

ابتسمت حسناء ابتسامة مرة وقالت بدلال وغرور:

-اه ومخافش ليه مش هو اعتذرلي وقالي حقك عليا، واتمسك بيا كمان.

هزت الأم رأسها بتحفظ وقالت بلهجة تقطعها القلق والخوف مما هو قادم:

-يا شيخة؟؟ والله شكلك هبلة وهتاخدي على قفاكي في الآخر منه، الدكتور ده استغلالي.

أغلقت حسناء عينها ثم قالت بلهجة متعبة تبحث عن الخصوصية في ظل فرض والدتها الهيمنة عليها:

-بقولك إيه فكك وسيبني انام، مابتزهقيش من كلامك ده!

هزت والدتها رأسها باستياء وغادرت تاركة حسناء تغفو فوق فراشها بهدوء لم تعهده من قبل.

                                          ****

كان نوح يجلس إلى جوار يسر في المستشفى، أمام الحضانة الزجاجية التي يرقد فيها صغيرهما، يراقبان أنفاسه الصغيرة المتقطعة، خيم الصمت على المكان إلا من صوت الأجهزة، فيما كان الحنين يعصف بقلب يسر كعاصفة لا تهدأ.

تنهدت بعمق وبدت في ملامحها لوعة الأم ووجع الفقد المؤقت، ثم همست بصوت مبحوح يغلفه الحزن:

-نفسي يكون في حضني اوي يا نوح.

ربت نوح على كتفها برفق، محاولًا أن يزرع الطمأنينة في قلبها وقال بنبرة هادئة يغلب عليها الأمل:

-كلها أيام يا حبيبتي ويبقى وسطنا وينور بيتنا الجديد.

رفعت نظرها إليه بدهشة ممزوجة بالفضول وسألته:

-بيتنا الجديد؟!

ابتسم ابتسامة واسعة وبدت في عينيه شرارة الفخر، ثم اقترب منها قليلًا وقال بحماس:

-شقة على النيل حلوة وواسعة وأحسن من المنطقة اللي كنا فيها، ومهندس الديكور خلص فرشها وكل حاجة مستنية بس انتي تيجي انتي ولينا والباشا الصغير تنوروها.

حدقت فيه بنظرة غامضة أربكته لوهلة، ثم عقدت ذراعيها على صدرها وقالت بهدوء أقرب إلى التحدي:

-ومين قالك إن أنا هرجعلك؟

ابتسم نصف ابتسامة تحمل في طياتها مزيجًا من الرجاء واليقين ثم قال بثقة:

-ده غصب عنك يا يسر!

رفعت حاجبيها بدهشة وقالت بسخرية ناعمة:

-يا سلام!! هتغصبني ازاي بقى؟!

اقترب منها أكثر وقال بصوت خفيض لكنه مفعم بالعاطفة:

-هخطفك انتي ولينا ومش هخلي ابوكي يعرفلك مكان.

ابتسمت بسخرية حزينة وقالت بنبرة تحمل شيئًا من اللوم:

-اللي بيخطف حد بالطريقة اللي انت بتتكلم بيها بيكون بيحبه وعنده استعداد يعمل أي حاجة عشانه!

قال بسرعة دون تردد وكأنه كان ينتظر تلك الجملة تحديدًا:

-طيب ما أنا بحبك ومعنديش حد اغلى منك انتي وعيالك.

أطرقت قليلًا ثم همست:

-وبالنسبة اللي  عنده استعداد يعمل  أي حاجة عشانه؟! مش واخد بالك منها!

رد عليها بهدوء:

-انتي طلبتي حاجة وأنا معملتهاش، اطلبي بس وطلباتك اوامر.

نظرت إليه بثبات وقالت بصرامة لطيفة:

-اطرد حسناء من عندك.

ابتسم وقال دون تردد:

-حاضر أي حاجة تانية؟!

رفعت حاجبيها بدهشة وقالت باستغراب:

-بالسهولة دي؟! 

قال مبتسمًا وهو يمد يده ليلمس أصابعها المرتجفة:

-اه مشكلتك إنك مش عارفة قيمة نفسك اوي وبتحطي نفسك في مقارنة مع ناس متستاهلش.

تنهّدت بغيظ وقالت بمرارة خفيفة:

-والله؟ مش انت السبب....طيب يا نوح بما إنك انت اللي اتكلمت بقى في النقطة دي، يبقى شرطي الأخير...

نظر إليها بترقب فقالت بوضوح تام:

-هو مفيش جواز عليا أبدًا غير لما أموت....ولما أموت كمان متتجوزش وعيش على ذكرياتي.

أمسك بيدها برفق وهمس بحرارة:

-بعد الشر عنك يا حبيبتي، اللي انتي عايزاه كله هيتعمل بس ارجعي البيت انتي ولينا خلاص مبقتش قادر ابعد عنكم، الفترة اللي فاتت عرفت قيمة نعمة يعني إيه ربنا يكون مديك راحة البال وانت مش عارف تستمتع بيها.

ابتسمت يسر إليه ابتسامة مشرقة وقد تلألأت الدموع في عينيها كأنها خيوط ضوء حائرة بين الحزن والفرح، فكانت أنفاسها ترتجف من شدة الانفعال وصوتها يخرج متهدجًا، يحمل في طياته ذهولًا وسعادة غامرة:

-بجد يا نوح؟ يعني خلاص مفيش....

وقبل أن تكمل كلمتها، مد يده برفق ووضع إصبعه على شفتيها، ليصمتها بصوت يقطر حنانًا وحزمًا في آنٍ واحد، وقال بنبرة واثقة هادئة كالعهد:

-مبقاش في حياتي إلا يسر وبس.

تجمدت الكلمات على شفتيها، وتلاقت نظراتهما في صمت طويل يفيض بما عجز اللسان عن قوله، لقد كانت تلك اللحظة أشبه بوعد صامت بين قلبين أنهكهما الفراق، ووصل بهما الحنين إلى يقينٍ لا رجعة فيه.

فابتسمت بحنو بينما انحنى نوح ناحيتها يهمس لها بصوته الدافئ:

-رجوعك ليا مش بس بداية جديدة... دي حياة كاملة كنت مستنيها من زمان.

                                             *****

دوى الطرق على باب الشقة بعنف متواصل، ارتج له صدى الجدران وأفزع "حسناء" التي كانت نائمة داخل غرفتها، انتفضت بخوف وركضت مسرعة نحو باب غرفتها، وما إن فتحته حتى تجمدت في مكانها وقد رأت رجال الشرطة يملؤون المكان، فيما كانت والدتها تقف باكية أمام أحد الضباط ترجوه بصوت متهدج:

-بالله عليك يا بيه سيبني، ده أنا بعمل اعمال في الخير، هتقبضوا عليا.

رمقها الضابط بنظرة حادة قبل أن يلتفت إلى حسناء التي تقدمت بخطوات مترددة وقد ارتسمت على وجهها علامات الذهول والقلق، فقالت بصوت مبحوح:

-في إيه يا بيه؟

رد الضابط بنبرة رسمية صارمة:

-معانا إذن من النيابة بتفتيش البيت والقبض عليكي.

شهقت حسناء بدهشة وهي تنظر حولها، وكأنها لا تصدق ما تسمعه:

-ليه؟

قال الضابط بثبات:

-في بلاغ ضدك متقدم انك  سرقتي مبلغ مالي كبير من دكتور نوح الشاذلي.

تراجعت خطوة إلى الخلف تفتح فمها محاولة التبرير، لكن أحد العساكر نادى الضابط وهو يرفع حقيبة أنيقة بين يديه:

-الفلوس اهي يا باشا.

اقترب الضابط ليتأكد فابتسم ببرود وهو يقول:

-تمام اقبضوا عليها وهاتوا ورايا.

صرخت حسناء بصوت عالٍ وهي تحاول التملص من أيديهم:

-ليه مش لقيتوا الفلوس؟!

لكن لم يستمع إليها أحد وسُحبت بقوة بين العساكر الذين كبلوها وهي تبكي في هلع، التفتت إلى والدتها التي كانت تُقاد هي الأخرى تصرخ بجزع وهي تقول:

-طيب هي سرقت، أنا مالي يا باشا، أنا بتاعت خير وأعمال بس.

                                          ****

خرجت حسناء من غرفة التحقيقات بخطوات متثاقلة، كأنها تسير فوق جمرٍ مشتعل، كانت الدموع تجف على وجنتيها قبل أن تسقط من جديد، وقد بدت ملامحها منهارة تمامًا، فقد واجهها الضابط ببلاغات متتالية مقدمة من نوح نفسه؛ يتهمها فيها بسرقته أكثر من مرة، وبمحاولة اختطاف ابنته، والتخطيط لإيذاء زوجته، ولم يكن الشاهد سوى خالها الذي لم يتردد في قول الحقيقة حين سُئل.

حاولت الإنكار في البداية، تارةً بالصراخ وتارةً بالتوسل، لكن كثرة الأدلة والضغوطات جعلت جدارها ينهار، فكان الوضع كالتالي بكاء طويل تبعه اعتراف مرتجف؛ روت فيه كل تفاصيل أفعالها، كيف حركها الطمع وكيف أغلقت بصيرتها الرغبة في المال والانتقام حتى نست نفسها وضلت طريقها.

لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، فقد قدم نوح بنفسه أدلة إضافية، مقاطع مصورة تظهر محاولاتها السابقة لسرقته في مبالغ صغيرة، وصولًا إلى آخر مقطعٍ يُثبت بوضوح أنها هي من أخذت الحقيبة من عيادته، كانت جميع الأدلة ضدها، خاصة أن نوح لم يذكر في أقواله أنه هو من أعطاها الحقيبة، متعمدًا أن يبدو الأمر كأنها سرقتها فعلًا.

حينها فقط أدركت حسناء أنها كانت طُعمًا غبيًا في خطته المحكمة، وأنها وقعت في فخه بيديها مثلما تقع الذبابة في خيوط العنكبوت.

وبينما كانت تجلس في ردهة القسم، لمحت نوح يسير في الرواق بثبات واعتداد، رأسه مرفوع كطاووس يخطو فوق رماد معركة انتصر فيها، اقتربت منه بخطوات متعثرة، وجهها شاحب وصوتها مبحوح وهي تقول برجاء يائس:

-ليه كده يا نوح، ده أنا وثقت فيك وانت اللي طلبت مني اوديلك الفلوس الشقة، تلعب عليا وتديني مفتاح غير المفتاح الاصلي عشان الفلوس تفضل معايا وتتهمني بسرقتها.

التفت إليها ببرود وسخرية، وقال بلهجة قاسية لا تعرف الرحمة:

-ده على أساس إنك مش سرقتي منها ومن اللي قبلها واللي قبلها!! 

أطرق رأسه للحظة قصيرة كأنه يستجمع غضبه، ثم رفع عينيه نحوها وقال بنبرة هادئة لكنها حادة كالسكين:

-عديتلك كتير واقول معلش صغيرة وفاكرة إنها ممكن تضحك عليا، جاهلة بس انتي زي التور اللي ماشي في طريقه وحالف ليأذي أي حد، وفكرتي في لينا وافتكرتيني غبي وشربت طعمك ليا ومفهمتش من أول لحظة إنك السبب في ده كله، فاكره إنك انتي اللي استغلتيني بس في المقابل أنا اللي استغليتك للي أنا عايزه، بس لغاية يسر وتقفي عندك.

انهارت حسناء تبكي وتقول بصوت مخنوق:

-اتنازل عن كل البلاغات دي وأنا اوعدك مش هجي جنبك.

لكنّه نظر إليها بعين خالية من الشفقة وقال ببرود قاتل:

-كنتي فين زمان....اديتك فرص كتير بس كل مرة بتصري على طمعك وفاكرني هسيب مراتي عشان خاطرك، ومش عارفة إن في كتير قبلك حاول وبرضوا فشلوا، بس الفرق هما محاولاتهم ساذجة لكن انتي كنتي قادرة على الأذية واللي زيك يستحق اللي انتي فيه.

سكت لحظة ثم أكمل بصوت خافت لكنه موجع كطعنة في قلبها:

-اللعبة خلصت يا حسناء وانتي مكانك هنا.

وبينما كانت تُساق إلى غرفة الاحتجاز، كانت نظراتها تتشبث بوجهه كالغريق الذي يبحث عن طوق نجاة، لكنه لم يعد يرى فيها سوى الغدر الذي صنعته يداها!
تمت بحمدلله

خلصتي؟ الرواية الجاية أقوى وأحلى… تعالي وعيشيها معانا👇

تعليقات